التودد الى الناس
رضا علوي سيد احمد
قال الإمام علي (عليه السلام): (بالتودد تكون المحبة) (1).
وقال (عليه السلام) أيضاً: (أقرب القرب مودّات القلوب) (۲).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (رحم الله عبداً اجتر مودة الناس إلى نفسه فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون) (3).
وقال (عليه السلام) أيضاً: (ثلاث تورث المحبة: الدين، والتواضع، والبذل) (4).
التودد: طلب المودة، واجتلاب الود، والتحبب، فأن يتودد المرء إلى أن يحبب المرء الناس إليه، ويصبح محبوباً بينهم، تلك رغبة وغاية يجدّ في طلبها كل الناس واهتمام من الاهتمامات الأساسية لكل منهم. فما من إنسان إلا ويحب جماً أن يحوز على حب عائلته، وإخوانه، وأصدقائه، وزملائه في العمل، وعموم الناس، لأن (المرء بأخيه)، وببني نوعه.
إن كسب ود الناس وحبهم بعد عظيم من أبعاد النجاح، والسعادة الإنسانية. فهل هناك أعظم سعادة من أن يكون المرء محبوباً، مودوداً، محفوداً محشوداً بين بني البشر؟ وهل هناك أمرّ وأشقى من أن يمسي غير متمتع بحب الناس وودهم، ويعيش بعيداً عنهم وخارج ألبابهم وقلوبهم؟
لقد أعطى الدين للحب اهتماماً عظيماً، إذ أنه القاعدة العريضة والمتينة التي يقوم عليها صرح الاجتماع الحضاري الناجح، وفي سبيل ذلك جاء الدين بمجموعات كثيرة من النصوص التي تهتم بشؤون المحبة والمودة المتبادلة بين الناس، تلك النصوص التي يخلق بالمرء أن ينشئ بنيان معاملة الناس على أساسها وهُداها (وهل الدين إلا الحب)؟
ومن أجل أن يحبب المرء، الناس إليه، جاءت القواعد التالية:
كي يصبح محبوباً إلى الناس، يعني: أن يطلب مودتهم، ويتحبب إليهم، كي يصبح محبوباً من قبلهم، مودوداً بين ظهرانيهم.
إن التودد والتحبب إلى الناس، يقود إلى كسب مودتهم ومحبتهم، وبهذه المحبة يكون قريباً منهم والى قلوبهم. وعليه فمن أبرز ثمار المحبة: القرب، والقرابة من الناس. قد يكون المرء بعيداً عن الناس بالنظر إلى النسب، ولكن المحبة تجعله قريباً منهم، وقد يكون قريباً منهم من جهة النسب، ولكنه لا يتحبب إليهم ولا يحبهم، فيمسي بعيداً عنهم. ومن هنا كانت المودة أقرب الأرحام بالنسبة للإنسان، وأن لا قرابة أقرب من محبات القلوب. بل حتى القرابة هي أحوج إلى الحب والود، من الحب والود إلى القرابة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (القرابة الى المودة أحوج من المودة الى القرابة) (5).
وقد يتساءل المرء: كيف التودد والتحبب إلى الناس لكسب محبتهم ومودتهم؟ بطبيعة الحال أن التودد إلى الناس والتحبب إليهم عملية تفاعل، لا تنتج من لا شيء، وإنما تعتمد على عطاء يقدمه الإنسان إليهم، فهي عطاء يستتبعه أخذ. ويتمثل العطاء في التواضع للناس، وحسن الخلق معهم، والرفق بهم، وحسن البِشر وطلاقة الوجه معهم، وخدمتهم والبذل لهم، والإنصاف في معاشرتهم، والوفاء لهم، وتحديثهم بما يعرفون ويؤمنون به، وترك ما ينكرونه.
وهنا سؤال: هل المطلوب من الإنسان أن يتحبب إلى الناس ويحبهم بصورة مطلقة، أم أن هناك معايير وحدود تنظم هذا الحب؟ لا شك أن الإنسان في حبه للناس ينبغي له أن ينظر إلى مناظرتهم له في الخلقة، ويتعامل معهم على أساس ذلك. وفي الطرف الآخر ينبغي له أن يحفظ المقاييس المبدئية في الحب، فيجعل حبه في الله، وبغضه في الله أيضاً. بمعنى آخر: الحب على أساس حب الله والإيمان والالتزام بمبادئه.
يقول تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) [المجادلة: 22] (6).
ومن هنا فالإنسان حينما يقيم حبه للناس وفق معايير سليمة، يتقوم حبه وبغضه، فيعرف ما ومن يحب، وما ومن يبغض. أما إذا ضاعت المعايير السليمة للحب فيه، اختلطت عليه الأمور، وأصبح الخير والشر عنده سواء، ولم يعد يفرق بين حق وباطل، وخير وشر، وحسن وقبيح، وفضيلة ورذيلة. وعليه، فهل المبطلون، والأشرار، وأتباع الرذيلة، ومن هم على شاكلتهم، جديرون بالحب والود؟
بطبيعة الحال، كلا! بل إن من الحكمة ووضع الشيء في موضعه، أن يضع المرء تودده وتحببه، ومودته ومحبته في موضعها، فيتحبب إلى من هو أهل للتحبب فيحبه، ولا يتحبب إلى من ليس أهلاً لذلك. ومن الجديرين بالتحبب لهم: الأخيار، والأكياس (الفطنين)، العلماء، المؤمنون، المتقون، العقلاء، أولياء الله، الأوفياء. ومن غير الجديرين بالتحبب لهم: أضداد المتقدمين.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من وضع حبه في غير موضعه، فقد تعرض للقطيعة) (7).
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (لا تبذلن ودك إذا لم تجد موضعاً) (8).
ويقول (عليه السلام) ايضا: (إياك أن تحب أعداء الله، أو تصفي ودك لغير أولياء الله، فإن من أحب قوماً حشر معهم) (9).
وبعد أن يعلم المرء وضع الحب في موضعه المناسب، عليه أن يتخلق بالتواضع لمن هم جديرون بالحب والود، إذ التواضع هو العنصر الأساس لنمو الحب فيما بين الناس، والتواضع يحتاج الى التقرب والدنو منهم، اما التكبر والابتعاد فهما يؤديان إلى نفورهم وابتعادهم.
ومما يؤسف له أن بعض الناس يبتعد عن الناس ولا يتقرب إليهم، وينتظر منهم أن يحبوه، بل ربما يفتخر البعض بأن الناس يتقربون إليه ويتوددون، وهو يبتعـد عنهم، وهذا من اللؤم والحماقة. إن المرء خليق به أن يتودد الى الناس، ويغتنم فرصة إقبالهم عليه، ومن يبتعد حين التقرب منه، ليس جديراً بأن يتقرب إليه.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (زهدك في راغب فيك نُقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس) (10).
وهكذا فلكي يكسب المرء ود الناس وحبهم له، جدير به أن يتقرب إليهم ويتودد ويتحبب، مع جعل التحبب والحب وفق المعايير المبدئية.
الهوامش
(1) الغرر والدرر.
(۲) المصدر السابق.
(۳) وسائل الشيعة، ج11، ص471.
(٤) بحار الأنوار، ج78، ص 229.
(5) نهج البلاغة، الحكم.
(6) حاد: عادى وغاضب. يوادون: يحابون، يحبون، يودون.
(۷) بحار الأنوار، ج74، ص183.
(۸) الغرر والدرر.
(9) المصدر السابق.
(۱۰) نهج البلاغة، الحكم.
من كتاب فن التعامل مع الناس