ما الفائدة من استذكار ظلامة الزهراء (ع) سنويّاً؟ لماذا تثيرون غبار التأريخ؟
إن إثارة غبار التأريخ إذا كان القصد من ورائه رفع الغشاوة وهداية الحيارى إلى حقيقة ما جرى من أحداثٍ مؤلمة يغضب الله تعالى لها ورسوله الأكرم (ص) التي ينبغي بالمسلم الحصيف أنْ يتعامل معها على وفق الآثار المترتّبة عليها، فأهلاً وسهلاً بهذا الغبار يوميّاً لا أسبوعيّاً ولا شهريّاً أو حتّى سنويّاً. فإذا تبيّن ذلك، فاعلم أنّ إثارة موضوع الزهراء (ع) وظلامتها إنّما يراد به بيان حقيقة ما جرى عليها من أحداثٍ حاول الطرف الآخر ولا يزال إخفاؤها عن بقيّة المسلمين، وتمييع قضيّتها ليبقى الواقع على ما هو عليه، غير آبهٍ بمصير مَنْ يتجاهل هذا الأمر الخطير وكأنّه وصيٌّ عليه ومأمور بذلك، متجاهلين أو متناسين قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159]. وقضيّة الزهراء تُعدُّ مفصلاً رئيساً من مفاصل الإسلام التي يجب بيانها ومعرفتها لكافّة المسلمين لما لها من المكانة الساميّة عند الله تعالى وعند رسوله المصطفى (ص) كما سترى بعد قليل. والآن لنعرض باختصار لمكانة الزهراء عليها السلام من الإسلام وبيان فضلها، حتّى نعرف أنّ إثارة موضوعها أيُعَـدُّ من الغبار الضارّ أم النافع؟ فنقول: إنّه من الثابت بين علماء الطائفة المحقّة هو ضرورة معرفة مكانة الصديقة الطاهرة على حقيقتها، وبيان فضلها، وما جرى عليها من أحداثٍ مؤلمة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لِـما يترتّب على ذلك من آثارٍ عقديّة تنفع المسلم في حياته وبعد مماته، فممّا يدلُّ على مكانتها، ومقامِها الشامخِ وعظمتِها الذاتيةِ هو أنّ اللهَ سبحانه وتعالى يغضبُ لغضبِها ويرضى لرضاها كما وردَ عندَ الفريقينِ السُنّةِ والشيعة من أحاديث صحيحة لا يرتاب فيها كلُّ لبيب.
ثُمَّ لا شكَّ في أنّها الكوثرُ وبضعةُ المُصطفى؛ فمن آذاها فقد آذى رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَن آذى رسولَ اللهِ فقد آذى الله (تعالى)، ومن آذى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فعليه لعنةُ اللهِ أبدَ الآبدين..
والآن بعدَ أنْ وقفَنا على بيانِ بعضِ مقامِها الساميّ لابُدّ لنا أنْ نقفَ أيضًا على ظُلامتِها؛ لنعرفَ على مَنْ غضبتْ حين تُوفّيتْ وهي واجدةٌ عليهم.. ولمعرفةِ الظُلمِ الذي جرى عليها، فإنّه في بادئ الأمر سنأخذَ فكرةً عامّةً عن الظلمِ وأسبابِه وعقابه في القرآن والسنّة، لتتوضّح الصورة لدى القارئ أكثر فأكثر.
فنقول: من خِلالِ استقراءِ القرآنِ الكريمِ نجد أنّ أكثرَ الآياتِ القرآنيةِ الواردةِ في كتابِ الله (تعالى) صريحةٌ وواضحةٌ في تحريمِ الظُلمِ سواءٌ أكانَ بذكرِ لفظ الظلمِ بصورةٍ مباشرةٍ أم عن طريقِ نقيضهِ (العدل). والظلمُ عرفاً يعني بخسَ الناسِ أشياءَهم وحقوقَهم، والاعتداءَ عليهم سواء كان قولاً أو عملاً. أمّا شرعاً فهو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه الشرعيّ، وأصلُه الجورُ ومُجاوزةُ الحدّ…، ولأنَّ النفسَ البشريّةَ فيها نوازعُ الخيرِ ونوازعُ الشرِّ ظهرتِ الحاجةُ لتعاليمِ الدينِ الإسلاميّ وتنميةِ النفسِ نحوَ الأخلاقِ والفضائلِ التي هي الميزانُ الذي يُبرِزُ ذلك النوع من البشرِ. والظُلمُ من عواملِ الشرِّ التي تُسيطرُ عليها القوى الغضبيّة ودوافعُها الكراهيّةُ والحسدُ، وهو مرضٌ من أمراضِ النفسِ المُتوغّلةِ بالشرِّ.. ولهذا جاءتِ الكثيرُ من الآياتِ القُرآنيةِ الكريمةِ حاملةً التأكيدَ على هذا الأمرِ المُهمِّ والضروري، وهو حُرمةُ الظُلمِ وعدمُ معونةِ الظالمين. جاء في قوله (تعالى): (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، وكذلك أكّدَ (سبحانه وتعالى) على حقيقةَ أنَّه (تعالى) حرَّمَ الظُلمَ على نفسِه؛ فلا يظلم عبادَه كما وردَ في الحديثِ القُدسيّ: (يا عبادي إنّي حرّمتُ الظُلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم مُحرّماً فلا تظالموا). وحذّرَ من الركونِ إلى الظالمين، وذلك في قوله (تعالى): ""وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ"" ثمّ إنَّ الله (تعالى) يُجزي الظالمين نار جهنم، وعندئذٍ لا يجدون لهم من أنصار، جاء في القرآن الكريم: ""رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ""،
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (الظلم ثلاثة: ظلمٌ يغفرُه اللهُ (تعالى)، وظُلمٌ لا يغفرُه اللهُ (تعالى)، وظُلمٌ لا يدعُه الله، فأمّا الظلمُ الذي لا يغفرُه اللهُ (عز وجل) فالشرك، وأمّا الظُلمُ الذي يغفرُه اللهُ (عزَّ وجل) فظُلمُ الرجلِ نفسَه فيما بينَه وبينَ الله، وأمّا الظلمُ الذي لا يدعه فالمُداينةُ بينَ العباد). وبناءً على هذا الحديث فإنَّ الظلمَ ثلاثةُ أنواعٍ:
*ظلمٌ لا يغفرُه اللهُ (تعالى) أبدًا إلّا بالتوبةِ؛ لأنّه أشدُّ أنواعِ الظلمِ وأخطرها وهو (الشرك)، قال (تعالى): (إنَّ الشركَ لظلمٌ عظيمٌ).
*وظلمٌ يغفرُه اللهُ (تعالى)، وهو ما بينَ العبدِ وربِّه، كالنظرِ المُحرّم وسماعِ الحرام، أو اقترافِ معصيةٍ وتركِ طاعةٍ وغيرِها، وهذا الظلمُ يغفرُه اللهُ (تعالى) إذا أعقبَ الذنبَ استغفارًا قال (تعالى): (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا).
*وأمّا الظلمُ الذي لا يتركُه اللهُ (تعالى) فهو ظُلمُ العبدِ أخاه المسلمَ، وهذا النوعُ من الظُلمِ يقتصُّ اللهُ من الظالم للمظلوم يومَ القيامة بقدرِ ظلمه وإساءته. فعن رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله): (اتقوا الظلمَ؛ فإنّه ظُلُماتٍ يومَ القيامة). فعن أيّ ظُلُماتٍ نبّهنا الرسولُ الكريمُ (صلى الله عليه وآله)؟!
وهل يوجدُ أقسى وأشدّ من ظُلُماتِ يومِ القيامة؟!
فلماذا - إذنْ - لا يتداركُ الإنسانُ ظلمه ويردُّ ما بذمّتِه من حقوقٍ للآخرين لكي يتّقي ظُلُماتِ يومَ القيامة؛ فقد ورد في ثوابِ ردِّ المظالمِ عن رسولِ الله (صلى الله عليه وآله): (درهمٌ يردُّه العبدُ إلى الخُصَماءِ خيرٌ له من عبادةِ ألفِ سنةٍ وخيرٌ له من عِتقِ ألفِ رقبةٍ وخيرٌ له من ألفِ حجةٍ وعمرةٍ)
فإنْ لم يتدارك الظالم ظلمه فإنَّ الله (تعالى) لا يتركُ ظُلامته، وسيقتصُّ من الظالمين حتمًا. فإذا كان الظلمُ ظلماتٍ يوم القيامة كما تقدّم فكيف بظُلمٍ بحجمِ ظُلامةِ الزهراء (عليها السلام) من غصبِ حقِّها من فدك وتهديد بيتها بالحرقِ وبالهجوم على دارها كما ثبت ذلك في روايات صحيحة رواها الحافظ ابن أبي شيبة في مصنّفه والطبريّ في تاريخه وغيرهما؟!
فكيف سيقتصُّ اللهُ (تعالى) من ظالميها، وهي التي يرضى (سبحانه) لرضاها ويغضب لغضبها؟!
وهذا ما أشارتْ إليه (عليها السلام) في خُطبتِها في مسجد أبيها حيثُ قالت: (والجُرحُ لمّا يندمل، والرسولُ لمّا يُقبَرْ، ابتدارًا زعمتم خوفَ الفتنةِ ألا في الفتنةِ سقطوا وإنّ جهنمَ لمحيطةٌ بالكافرين).
أي أنَّ جُرْحَ فَقْدِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لم يندملْ بعدُ، ولم يُدفنْ (صلوات الله عليه وآله)، وبادرتم إلى ظلمنا، فادّعيتم وأظهرتم للناس كذباً وخداعاً أنّكم اجتمعتم في السقيفة دفعاً للفتنة، مع أنَّ الغرضَ الحقيقيَ هو غصبُ الخلافةِ عن أهلِها وهو عينُ الفتنة.
فقد عصفت بعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطيبة بعد وفاته الأحداثُ المؤلمةُ والظروفُ العصيبةُ في أقلِّ من أُسبوعٍ.
أمّا عن غصبِ حقّها من فدكَ فما ذكرَه المُحدّثون في تفسيرِ قوله (تعالى): (وآتِ ذا القربى حقَّه) أنّ المقصودَ في القُربى هم أقرباءُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله)، وهم عليٌ وفاطمةُ وحسنٌ وحسينٌ (عليهم السلام) وأنّ النبيَّ (صلوات الله عليه وآله) أعطى فاطمةَ فدكَاً وكانتْ فدكُ خالصةً لرسولِ الله (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّه لم يوجفْ عليها بخيلٍ ولا ركابٍ فمنحَها إيّاها وتصرّفتْ فيها، وأخذتْ حاصلَها فكانتْ تُنفقها على المساكين.. ولكن بعدَ وفاةِ الرسولِ الكريمِ أرسلَ أبو بكرٍ جماعةً فأخرجوا عُمّالَ فاطمةَ من فدكَ وغصبوها وتصرّفوا فيها؛ بذريعةِ أنَّ أبا بكرٍ سمعَ من النبي (صلوات الله عليه وآله) قوله: (نحنُ معاشرُ الأنبياءِ لا نورِّثُ وما تركناه صدقة)، مع أنّ فاطمةَ الزهراء (عليها السلام) احتجّتْ على أبي بكرٍ وردّته وردّت حديثَه بالاستنادِ إلى القرآن الحكيم؛ فإنّه أقوى حُجةً وأعلى دليلًا وأكبر برهانًا، وأثبتتْ أيضًا في خُطبِها وكلامِها وبإقامةِ الشهودِ أنّ فدكَاً لها وليست فيئاً للمسلمين، وأنّها نحلةٌ من رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قالت: (يا ابن أبي قحافة! أفي كتابِ اللهِ أنْ ترثَ أنتَ أباكَ ولا أرثُ أبي؟! لقد جئتَ شيئًا فريًّا)؟
واستدلّتْ (سلام الله عليها) بالقرآن الكريم حيثُ ذكرت قولَ اللهِ (تعالى): (وورثَ سليمانُ داوودَ) وفي قوله (تعالى): (فهبْ لي من لدنك وليًا يرثني ويرثُ من آلِ يعقوب واجعله ربِّ رضيًا) وفي قوله (تعالى): (يوصيكمُ اللهُ في أولدكم للذكرِ مثلُ حظِّ الانثيين..
وبعدَ كُلِّ ما تبيّنَ ينقدحُ في الذهن سؤالٌ: ما السببُ وراءَ غصبِ فدكَ؟
وما السببُ في استهدافِ الزهراءِ (عليها السلام) ومطالبتها بفدك؟
والجوابُ: أنَّ مطالبتَها بفدكَ ليسَ من أجلِ هدفٍ ماديٍّ كما يعتقدُ البعضُ؛ لأنّ الجميعَ يعلمُ ما كانتْ تتمتّعُ به السيّدةُ الزهراءُ (عليها السلام) من علوِّ النفس وسموِّ المقام والزهدِ، لكنّ هذا لا يمنعُ من أنْ تُطالبَ بحقِّها؛ وذلك لفسحِ المجالِ أمامَها للمطالبةِ بحقِّ زوجِها أميرِ المؤمنين (عليه السلام).
والواقعُ أنّ فدكَاً صارتْ تتماشى مع الخلافةِ جنبًا إلى جنبٍ؛ فلم تبقَ فدكُ قرية زراعية محدودة، بل صار معناها الخلافةَ والرقعةَ الإسلاميةَ بأكملِها وممّا يدلُّ على هذا تحديد الأئمّةِ عليهم السلام لفدك، فقد حدَّها الإمامُ علي (عليه السلام) في زمانِه بقولِه: (حدٌّ منها جبلُ أُحُدٍ، وحدٌّ منها عريشُ مصرٍ، وحدٌّ منها دومةُ الجندلِ).
وهذه الحدودُ التقريبيةُ للعالمِ الإسلاميّ آنذاك؛ ولذلك كانَ هدفُ الخليفةِ الأول في غصبِ فدكَ إضعافَ الجانبِ المادي لأهلِ البيت (عليهم السلام)، لأنّهم كانوا يعلمونَ أنّ عليًا (عليه السلام) غنيٌ بالمعنوياتِ وكفّتُه راجحةٌ في الدينِ والإيمانِ والعلمِ والفضائلِ وما إلى ذلك، فلو ملكَ الجانبَ المادي بالإضافةِ إلى الجانب المعنوي التفَّ الناسُ حولَه ولم يرضوا بغيرِه، فذلك كانَ السببُ الرئيسي وراءَ غصبِ فدك..
وبعدَ كُلِّ ما ذُكِرَ عن ظلامتها، رحلت السيدة الزهراء عن الدنيا في جوٍّ من الكتمان ليكون تشييع جنازتها سرّاً تعبيراً عن سخطها على السلطة وعلى كل من أيّدها وتعاون معها ليبيّن لنا مدى تألّمها من ذلك المجتمع ومدى تذمّرها من الجفاة القساة، وليكون اسمها رمزاً للمظلوميّة والحرمان، كما روى ذلك البخاريّ في صحيحه وكذلك مسلم، وفي خبرهما التصريح الواضح بأنّها وجدت على أبي بكرٍ، أي غضبت عليه، ولم تكلّمه حتّى ماتت ودفنت سرّاً بالليل.
هذا وليعلم أنّ الزهراء عليها السلام تُعدُّ سيّدة نساء العالمين وسيّدة نساء أهل الجنّة كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة، فهي – إذنْ – ليست كبقيّة النساء حتّى أمرّ على ظلامتها مرَّ الكرام وأهوّن من أمرها وأجعل الحقّ مع أبي بكر في منعها فدكاً، كما صنع ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية حين تعرّض لقضيّتها، وهو ممّا جعل بعض الوهابيّة يتطاول أكثر من ذلك، كابن عثيمين الذي بدأ يطلب لها المغفرة من الله تعالى لأنّها حسب زعمه خالفت أبا بكر ولم ترضّ بما قاله لها، كما في شرحه للحديث في صحيح مسلم، فقلب المسألة رأساً على عقب، فصار المظلوم ظالماً. فتأمّل!!
فإذا كنتم تقبلون بهذه التخاريف التي تصدر من المتعالمين الذين هيمنوا على كثير من أجواء المسلمين بإعلامهم المضلّل ولا يزالون ليبقى الواقع على ما هو عليه، فهذا شأنكم وشأن كلُّ من يطلب الدنيا وحطامها، وأمّا نحن فسنبقى نصدح بقضيّة الزهراء عليها وبظلامتها ليلاً ونهاراً حتّى يحقّ الحق ويُدمغ الباطل ولو بعد حين. لأنّ الحقّ مهما طال الزمن يعلو ولا يعلو عليه شيء.