تتضح الإجابة على هذا السؤال إذا تمكنا من بيان مفهومي الخير والشر، فمن خلال ضبط مفهوميهما يمكن الوقوف على المعايير الدقيقة لوصف الشيء بالخيرية أو الشرية.
فالشر في أصله اللغوي يدل على الانتشار والتطاير ومنه الشرر وهو تطاير النار، فمصدر الشر كما في لسان العرب هو الشرارة، يقول ابن منظور: (الشَّرُّ: السُّوءُ والفعل للرجل الشِّرِّيرِ، والمصدر الشَّرَارَةُ، والفعل شَرَّ يَشِرُّ... ثم يقل: والشَّرَرُ: ما تطاير من النار. وفي التنزيل العزيز: إِنها ترمي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ؛ واحدته شَرَرَةٌ وهو الشَّرَارُ واحدته شَرَارَةٌ... ويقول في موضع آخر: وشَرَّ شيئاً يَشُرُّه إِذا بسطه ليجف) ويبدو أن المصائب والمفاسد والرذائل سميت شراً لأنها تنتشر لتصيب الاخرين، وعليه فإن الشر هو السوء والفساد سواء كان في نفسه أو لغيره، وهو بذلك عكس الخير؛ لأن الخير ما كان حسن في ذاته ونافع لغيره، ومن هنا فإن أصحاب العقول السليمة والفطرة المستقيمة يرغبون في الخير وينفرون من الشر.
وللوصل لتعريف صحيح للخير والشر لابد من التمييز بين المفهوم المطلق والمفهوم النسبي لكليهما، فعلى المستوى الأول فإن الخير المطلق لا يكون إلا للوجود المطلق، وهو حق خاص بالله تعالى ولا يشاركه غيره، فهو سبحانه وتعالى المنفرد بالوجود المطلق، وكل من ينسب الخير المطلق لسواه فهو مشرك بلا شك ولا شبه، فالله وحده من له حق الألوهية وهو وحده من له حق الربوبية، وعليه فإن الخير حقيقة يتصف بها الوجود، فإن كان وجوداً مطلقاً فهو خير مطلق لا يتعدد ولا يقبل التجزئة؛ لأن الوجود المطلق واحد لا يقبل التعدد، ومن هنا إذا كان الخير لازم وتابع للوجود فحينها لا يمكن أن نتصور وجود شر مطلق، فالعدم المطلق ليس شيئاً غير العدم، والموصوف لابد أن يكون موجوداً حتى يقع عليه الوصف، ومن هنا لا وجود للشر المطلق بخلاف ما تحاول تتصوره الفلسفات العدمية التشاؤمية.
أما الخير والشر في مستوى المفاهيم المحدودة والنسبية.. فبناءً على مبدأ أن الخير لازم للوجود، فإن الخير حينها يكون وصفاً للمخلوق بمقدار أتساقه مع الوجود المطلق، فيكون بذلك خيراً طالما لم يتناقض مع الوجود المطلق، وفي مقابل ذلك يكون الشر هو تناقض المخلوق مع وجود خالقه، وعليه يكون الشر حالة طارئة محدودة.
وإذا اتضح ذلك يمكن تقسيم الشر بحسب مصدر وجوده، فإما أن يكون مصدر الشر موجود غيبي وأما أن يكون مصدره موجود طبيعي، فالأول مثل الشيطان الذي يزين فعل الشر من خلال الوسوسة، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا)، والشيطان بذلك ليس شراً مطلقاً كما هو مذهب الثنوية كالمجوسية وعباد الشيطان؛ لأن ذلك يترتب عليه اعتبار الشيطان ذو وجود مطلق، وهذا شرك بالله تعالى، وقد أكد النص القرآني على محدودية شر الشيطان عندما جعل له بداية في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) كما جعل له نهاية وهي قوله تعالى: (قَالَ رَبّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ)، وقال تعالى: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، وكذلك لا يتعدى تأثير الشيطان الوسوسة القلبية، قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم)، وهو تأثير ليس حتمي ويمكن التخلص منه، قال تعالى: (انَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ).
أما المصدر الطبيعي للشر فهو المجودات الطبيعية وهو شر محدود أيضاً وسببه التأثير السلبي على الوجود الإنساني، فالشر لا ينسب للموجودات الطبيعية من حيث ذواتها؛ لأنها من حيث ذاتها وجود والوجود خير كما أكدنا، فهي بذاتها تؤدي وظائفها التي خلقت من أجلها، فالزلازل والبراكين مثلاً ليست شراً في ذاتها، وإنما تكون شراً بالنسبة للأضرار التي تسببها للإنسان.
وكذلك الحال في الشر الذي يكون سببه الإنسان، فهو ليس شراً من حيث كونه كائن مخلوق وموجود، وإنما هو شر من حيث تناقضه مع وجود الخالق، فالإنسان يمتاز وجوده بالعقل والإرادة، وبالتالي هو حر في أن يسير في اتجاه الخالق أو أن يسير في الاتجاه المعاكس، فالغاية من وجود الإنسان هو الخير طبقاً لشرطي العقل والإرادة، والشر عرض زائد بسبب تمرده على إرادة الخالق، فصلاح الإنسان في اتساقه مع وجود الخالق، قال تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
وعليه فإن ابليس ليس شراً من حيث كونه مخلوق له وجود، وإنما أصبح شراً عندما أراد أن يجعل وجوده متعارضاً مع وجود الخالق.