كيف تعاملت الأمم والشعوب مع هذه الحركة الإصلاحيّة؟ وما هو السبيل الصحيح والتعامل الصحيح مع هذه الحركة الإصلاحيّة؟ من أجل أن نجني ثمار هذه العمليّة في إصلاح المجتمع وإصلاح أنفسنا والوصول الى النتيجة النهائيّة من سعادة الفرد والمجتمع وكماله.
قد يقول قائل: ما هو الهدف أن نتعرّض الى بيان الحركة الإصلاحيّة للأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) فالأنبياء رحلوا والأئمّة (عليهم السلام) رحلوا، لكنّ الإمام الغائب موجود، الإمام المعصوم حجّة الله في الأرض موجود الى يوم القيامة، ما هو الغرض في الوقت الحاضر؟! نحن نريد أن نربط الماضي مع الحاضر، ونستفيد من تلك التجارب التي مرّت بها الأمم والشعوب في كيفيّة تعاملها مع قادة الحركة الإصلاحيّة الحقيقيّة، وكيف نكون من تلك الفئة التي تعاملت وفق المنهج الإلهي مع تلك الحركة الإصلاحيّة، ولا نكون من أولئك الذين وقفوا ضدّ هذه الحركة الإصلاحيّة أو لم يتعاملوا معها التعامل الصحيح، نبيّن ما هو الوجه في ذلك؟
إنّ حركة الإصلاح في المجتمع هي جوهر ومحور حركة الأنبياء وحركة الأئمّة، تأمّلوا في الآيات القرآنية التي من خلالها بيّن الأنبياء(عليهم السلام) لمجتمعاتهم وأممهم ما هو الغرض من بعثتهم الى تلك الأمم والشعوب، وكذلك الأئمّة(عليهم السلام) ساروا على ذلك المنوال، أذكر آيةً واحدة من الآيات الكثيرة التي بيّن فيها الأنبياء ما هو غرضهم من هذه البعثة، وما هو غرضهم من دعوتهم، كما ورد في سورة هود الآية الثامنة والثمانون: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ...) لاحظوا العبارة، وما هو الغرض وما هو الهدف وما هو المقصد (...إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
هناك صلاحاً وهناك إصلاحاً، فرقٌ بين الأمرين، الصلاح طبعا ينتج من حركة الإصلاح صلاح الفرد لذاته، الإصلاح حركة في المجتمع يُراد منها إصلاح جميع الأحوال وجميع شؤون الحياة للمجتمع، في مختلف المجالات العقائديّة الفكريّة الثقافيّة الاجتماعيّة التربويّة السياسيّة وجميع المجالات التي يحتاج اليها المجتمع، هذه نقطة. النقطة الثانية أنّ المجتمعات في مختلف الأزمنة والأمكنة منذ عهد البشريّة الأولى الى يوم القيامة، هناك فساد هناك انحراف وهناك ضلال هناك باطل هناك رذيلة، في مقابل ذلك هناك حقّ وهناك صلاح وهناك خير وهناك فضيلة لابدّ أن تكون هناك حربٌ طالما هذه الأمور موجودة، وهذا الفساد والانحراف والضلال يقود الى هلاك المجتمع وتعاسته في الدنيا والآخرة، فلابدّ ومن الضروري أن تكون حركة الإصلاح مستمرّة لا تتوقّف ولا تبقى مرهونة بعهد الأنبياء والأئمّة، الله تعالى جعل في كلّ زمان هناك حجّة له في الأرض هو يقود حركة الإصلاح، فإذن نحن مع مرور الأزمنة منذ عهد الأنبياء الى يوم القيامة هناك صراع بين الفساد والصلاح وبين الحقّ والباطل وبين الفضيلة والرذيلة وغير ذلك، هذه الحركة الإصلاحيّة ضروريّة لأنّ سعادتنا ونجاتنا في الدنيا والآخرة تتوقّف عليها، فلابدّ لهذه الحركة أن تستمرّ والمهمّ هو كيف نتعامل معها.
بعد هذه المقدّمة نبيّن ما هي الأركان والأسس للعمليّة الإصلاحيّة عند الأنبياء وعند الأئمّة وفي الوقت الحاضر، التي لو اجتمعت أمكن أن نحقّق النتائج، أنّه نحن نسعى، نصلح، نحقّق الحياة التي نرجوها، ثلاثة أركان، الشيء الأوّل توفّر النتائج الكاملة للحياة في جميع شؤونها، عقائدية فكرية ثقافية اقتصادية اجتماعية مالية تربوية، جميع شؤون الحياة وجميع احتياجات حياة الإنسان، المنهاج الذي يعالج مشاكل وأزمات الإنسان، المنهاج الذي يتوافق ويتّسق مع فطرة الإنسان، هذا واحد. الشيء الثاني القادة المصلحون قادة الحركة الإصلاحيّة، هؤلاء ليس كلّ من يدّعي، قادة الإصلاح يجب أن تتوفّر فيهم صفات حتّى يتمكّنوا من قيادة الحركة الإصلاحيّة، تبليغ الناس بهذا المنهاج المتكامل للحياة، تطبيق المنهج الإصلاحيّ بتمامه على أنفسهم، توفّر الصفات الفضلى من الورع والتقوى وغيرها ممّا يجعلهم قادة قادرين على حركة الإصلاح، وتوفّر مقوّمات القيادة أن يقودوا المجتمع لحافّة الإصلاح.
الركن الثالث الذي سنركّز عليه، وهو مسألة الاستجابة والوعي والتفهّم والانقياد والطاعة من قبل شرائح المجتمع المراد إصلاحها لقادة الإصلاح، -التفتوا- قادة الإصلاح مَنْ تتوفّر فيهم الصفات التي ذكرناها، وإنّ المجتمع المراد إصلاحه لأنّ فيه الفساد فيه القلق وفي كلّ مجتمع هناك هذه الأمور، هذه الشرائح بأجمعها لابدّ أن تستجيب وأن تبقى تطيع قائد الإصلاح في جميع ما يأمر به وجميع ما يوجّه اليه، الآن ما يهمّنا التركيز عليه هو الركن الثالث من مقوّمات وأسس الإصلاح، لماذا؟ نحن لدينا اطمئنان أنّ الركن الأوّل متوفّر وهو المنهاج المتكامل للحياة، والركن الثاني متوفّر، النبيّ والإمام والعلماء المصلحون الذين جُعلوا حججاً في الأرض، قادة الإصلاح الحقيقيّون موجودون في كلّ زمان، الإمام غائب عن أعيننا وجعل هناك نظاماً، علماءٌ صالحون تتوفّر فيهم صفات القيادة للحركة الإصلاحيّة، ما يهمّنا في الوقت الحاضر هو توفّر الركن الثالث وهو الاستجابة والانقياد والطاعة للمنهاج الذي يضعه القائد -قائد الإصلاح-.
الآن فلنتأمّل الآيات القرآنيّة، حركة التاريخ التي مضت عبر الأزمنة بتمامها، كيف تعامل الناس مع الحركة الإصلاحيّة؟ بيّنت الآيات القرآنية والتاريخ أنّ الناس على ثلاث فئات، فليلتفت أحدكم -والجميع مخاطبون- أن لا يكون أحدٌ من هذه الفئات الثلاثة التي تعاملت بالضدّ مع الحركة الإصلاحيّة، ونذكر هذه الفئات الثلاثة بالتوالي، الأولى وهي الطبقة المتنفّذة في المجتمع بسبب تنفّذها وتسلّطها في المجتمع، إمّا بسبب موقعها السياسيّ أو المالي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الإعلامي والتي بسبب ذلك تسلّطت على مختلف شؤون الحياة للناس، وهذه الطبقة هي الأكثر تمرّداً ورفضاً، وهذا ندرسه من خلال بعض الآيات القرآنيّة وكيف كان التعامل مع الأنبياء في بعض الحركات الإصلاحيّة، هذه الطبقة هي الأكثر تمرّداً ورفضاً للحركة الإصلاحيّة بسبب استكبارها وخشيتها من فوات مصالحها السياسيّة أو مصالحها الدنيويّة، وأنفتها واستعلائها على الحركة الإصلاحيّة، وهي الطبقة الأكثر خطراً على الحركة الإصلاحيّة والأكثر ضرراً بالحركة الإصلاحيّة، حينما يطرح القرآن الكريم قصص الأنبياء في قيادة حركتهم الإصلاحية للمجتمع، كيف كان الناس يتعاملون مع الأنبياء في حركتهم الإصلاحية، الكثير من الآيات القرآنية تذكر صفة وهي قضيّة الاستكبار والاستعلاء والأنفة والرفض لهذه الحركة الإصلاحية، سأذكر آية واحدة وأنتم لو تأمّلتم ستجدون الكثير من الآيات تذكر هذه الصفة، (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ) هذه الطبقة الأولى.
الطبقة الثانية وهي الطبقة الجاهلة أو غير الواعية، التي ليس لديها الوعي الكافي أو النضج الكافي بالحركة الإصلاحيّة وبالأجواء التي تُحيط بها، وهؤلاء الذين ينساقون ويسيرون وينعقون خلف كلّ ناعق، خصوصاً مع وجود الوسائل الإعلاميّة القادرة على التضليل والتجهيل، هؤلاء بسبب قلّة وعيهم وعدم نضجهم وعدم دراستهم لحقائق الأمور يسيرون خلف كلّ جهة، خصوصاً تلك الجهات التي تملك التأثير الإعلاميّ الواسع وتنهج نهج التضليل والتجهيل، وهؤلاء هم الذين يقفون ضدّ الحركة الإصلاحيّة، أمّا الطبقة الثالثة هي الطبقة التي تتحكّم بها الأهواء والشهوات والأمزجة الشخصيّة، وهذه الطبقة أحياناً تسير خلف نزعاتها القوميّة أو العشائرية، أو تلك الطبقة التي تكون أسيرةً لفكرها في الماضي ولا تقبل أيّ نقاش في هذا الإرث الفكري الماضي لها، هذه الثلاث طبقات التي يكون موقفها سلبيّاً تجاه الحركة الإصلاحيّة، هؤلاء جميعاً يقعون في العمى القلبي والنفسي الذي يجعلهم يرفضون دعوة الإصلاح، ويكون موقفهم سلبيّاً تجاه حركة الإصلاح ويمنعهم بالتالي هذا العمى القلبيّ الناتج من هذه الأمور يمنعهم من رؤية الحقّ واتّباعه.
أشير الى نقطة مهمّة، كما ورد في الكثير من الآيات القرآنيّة، وهي كيف أنّ تلك الطبقة المتنفّذة في المجتمع والمتسلّطة على شؤون المجتمع، كانت تحاول أن تثني الناس عن الأنبياء والانقياد اليهم، باتّهام الأنبياء بمختلف الاتّهامات، تارةً هذا النبيّ على ضلال، وتارةً يضلّل الناس، وتارةً يتّهمونه بالسحر والكهانة والكذب والافتراء، وتارةً يحاولون تسقيط شخصيّته الاعتباريّة والاجتماعية من أجل أن يُبعدوا الناس عن القائد -قائد الحركة الإصلاحية- ولا يتّبعوه، إنّ هذه الطبقة لا تعتمد نفس العناوين التي كانت توجّهها الى الأنبياء والمصلحين، وإنّما تختار عناوين بحسب الأمكنة والأزمنة، ففي كلّ زمان ومكان يختارون عنواناً يستطيعون من خلاله النفوذ الى عقول وعواطف وقلوب البسطاء من الناس، لكي يحرفوهم ويمنعوهم عن اتّباع قائد الحركة الإصلاحيّة واتّباع منهجه، وأقول هنا: وهذا يجري حتى في هذه الأزمنة، فإذا تصدّى العالم الدينيّ لإصلاح جانب ممّا فسد من أمور المسلمين، فتارةً تشكّك في أهليّته في التصدّي للإصلاح، وتارةً تحاول إبعاده عن قلوب الناس بمختلف الشبهات والتشكيكات لتحطّ من مكانته الاجتماعيّة ليقلّ تأثير كلامه في المجتمع، ولكن في مقابل ذلك -نأمل ونسأل الله تعالى أن تكونوا من هذه الطبقة التي سنذكرها الآن-، واحذروا أن لا يكون الواحد منكم من تلك الفئات الثلاث والخطاب للجميع، بل يكون الواحد منكم من هذه الفئة، وفي مقابل ذلك نجد الطبقة المؤمنة والواعية تلتزم بالتوجيه الإلهيّ لتقويم وتسيير العمليّة الإصلاحيّة في المجتمع لتأخذ دورها الحيويّ، وقد بيّنت الآيات القرآنيّة الموقف الصحيح للتعامل مع أيّ حركة إصلاحيّة وهو الاتّباع والانقياد، ما دامت القيادة صالحة لذلك.
وهنا أشير الى دور المرجعيّة الدينيّة العُليا الإصلاحيّ، فقد عملت على مراقبة حركة المجتمع في جميع مجالاته، وكانت تلاحق تحوّلاته وتطوّراته، وتضع دائماً ومع كلّ ما تشعر أنّه سيهدّد المجتمع تضع برنامجاً سواءً كان من خلال الفتاوى أو البيانات أو خطب الجمعة، لإرشاده الى ما فيه صلاحه واستقامته، وحينما حصلت التحوّلات السياسيّة في عام (2003م) وكان العراق في وقتها يمرّ بمنعطفٍ تاريخيّ خطير، فقد أخذت بنظر الاعتبار وضع المنهاج الشامل الذي يرسم ملامح النظام السياسيّ للعراق، مراعيةً تركيبته الدينيّة والمذهبيةّ والاجتماعيّة والمعطيات التأريخية الماضية والقريبة لهذا العصر، وتأثيرات الأوضاع الخارجية وغيرها، وفي نفس الوقت لم تترك مراقبة ومتابعة وملاحقة مسار العمليّة السياسية وما شابها من أخطاء وتعثّرات، أثّرت بشكل كبير على الأوضاع في العراق، فكانت تنصح وترشد بلغة مناسبة وتبيّن مكامن الخطأ ومواضعه وكيفيّة تصحيحه، كما لاحظت بدقّة التركيبة المذهبيّة للمجتمع العراقي وحرصت في جميع مواقفها على الحفاظ على التعايش السلمي بين مكوّنات الشعب العراقيّ، وصبرت على كلّ ما جرى من أعمال إرهابيّة استهدفت المدنيّين بالسيارات المفخّخة ونحوها، كلّفت العراق دماء عزيزة، ولكن كانت ثمرة الصبر والتحمّل أغلى وأهمّ وهي الحفاظ على وحدة العراق، ولا ننسى ذلك المنعطف التاريخي الخطير ليس على العراق وحسب بل على المنطقة بأسرها، حينما تهاوت كافة الدفاعات أمام عصابات داعش وسيطرت على ثلث العراق، وكان الناس في ذهول وحيرة حتّى بلغت القلوبُ الحناجر وجاءت فتوى الدفاع المقدّس مدويّةً، فهبّ مئات الآلاف من العراقيّين للدفاع عن بلدهم الى أن تحقّق النصر المؤزّر على الدواعش ولم تبقَ إلّا فلولهم هنا وهناك، والغرض أنّ المرجعيّة الدينيّة العُليا لم تترك المنعطفات الخطيرة والحسّاسة التي مرّ بها العراق وشعبه إلّا ووضعت له منهجاً صالحاً وتوجيهات مناسبة، ولكن عمليّة الإصلاح ترتبط بعوامل كثيرة وقد تتعثّر لأسباب هي خارج إرادة المصلحين، وربّما تحتاج الى فترة زمنيّة طويلة، وهذه هي السنن التاريخية لدى الشعوب في عمليّة الإصلاح، ولابُدّ من شعور الجميع بالمسؤولية في إجراء التغيير وتحمّلهم لوضع المسار على السكّة الصحيحة والصبر والجلادة في مسيرة الإصلاح.
*مقتطف من خطبة الجمعة الأولى في 17 شعبان 1439هـ الموافق 4 /5 / 2018 م