العقلاء متسالمون في الرجوع إلى من يكون من أهل الخبرة في كلّ أمر من الأمور المجهولة، فنرى إن أي شخص يصيبه مرض معين لا يتردد في مراجعة الطبيب لكي يشخص له العلة والدواء، ومن أراد أن يعرف زيف معدن ما من أصالته ـ كالذهب ـ فهو يرجع فيه إلى الصائغ وهكذا.
فالواقع شاهد أن الرجوع إلى أهل الخبرة أمر عقلائي، وهذا الأمر مرتكز في ذهن وفؤاد كلّ إنسان فضلاً عن أن يكون مسلماً، وهذا الحال ليس مقتصراً على العلوم البقية كالطب والهندسة، بل الشـريعة بما تحمله من مساحة علمية واسعة، فلا بد من مختص بعلومها لاستنباط الأحكام منها، فإذا كان البناء على أنّ التقليد ليس بواجب، فهذا معناه أن يسعى كلّ إنسان لتحصيل علوم الشريعة بنفسه واستنباط الأحكام منها للعمل بها، وتحصيل فراغ الذمّة من التكاليف المشغولة بها ذمّته جزماً، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وما شابه، وهذا الأمر متعسر على الأعم الأغلب من الناس ـ أي: بلوغ درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام ـ باعتبار أنه يستدعي جهوداً خاصّة، وتفرّغاً تامّاً للدرس والتحصيل ممّا قد لا يقدر عليه كثير من الناس، بل إنّ أغلب الناس ـ كما هو المشاهد ـ يهمّهم تحصيل معاشهم أكثر ممّا يهمّهم تحصيل العلم واستنباط الأحكام. فلا بدّ إذاً في هذه الحالة من أن يتوفّر ذوو اختصاص في هذا الجانب يقضون حاجة الناس في معرفة أحكام الشريعة ليعملوا بها، كما هو الشأن تماماً في وجوب توفّر ذوي الاختصاص في الطبّ والهندسة والبناء والنجارة والصياغة وما شاكل ذلك ليقضوا حاجة الناس في الاختصاصات المذكورة.
الشارع أقر التقليد
فيتضح مما تقدم إن مسألة التقليد ليست بالأمر المبتدع بل هي مما جرت عليه السيرة والارتكاز في عودة الجاهل إلى العالم بذلك الاختصاص. وهذه السيرة كما تَبين لم يرد النهي عنها في الشرع المقدس، وإذا راجعنا تاريخ المعصومين منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وآله إلى نهاية الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، نراهم يرجعون إلى ذوي الاختصاص في كلّ احتياجات شيعتهم، بل حتى المعصوم عليه السلام كان يطبق هذا الأمر في بعض الأحيان حتى يفهم الناس إن من لم يكن مختصاً لزمه أن يرجع الى المختص، فخذ على سبيل المثال أن أمير المؤمنين عليه السلام أستشار أخاه عقيلاً في خطبة زوجة له كما هو المعروف من السيرة.
وبعبارة علمية: الدليل على جواز التقليد في الفروع هو السيرة العقلائية التي لم يردع الشارع عنها أي إنه أقرها واقرار الشارع حجة للمكلف.
وهناك مسالة مهمة وهي:
العقل حاكم بعد الجزم بثبوت أحكام إلزامية في حقّ المكلّف، وأيضاً بعد العلم بأنّ الإنسان غير مفوّض بأن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء من الأحكام، أو أن يأتي بها كيفما اتّفق، فهو يحكم ـ أي العقل ـ بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية التي اشتغلت بها الذمّة يقيناً، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وغيرها، بالشكل الذي يؤمّن المكلّف من التعرّض للعقوبة في الآخرة. وهذا الخروج منحصر في الاجتهاد والاحتياط والتقليد، ولا يوجد طريق رابع، فإذا تعسّر الأوّلان ـ وهما متعسّران على كثير من الناس فعلاً ـ تعيّن الثالث، أي: وجوب التقليد لتحصيل براءة الذمة والخروج من عهدة التكاليف واقعاً.. وهو المطلوب.
في الضروريات واليقينيات... هل نحتاج إلى التقليد؟
ومن هنا يتضح مراد الفقهاء عندما يقولون:
أنّه لا حاجة إلى التقليد في الضروريات واليقينيات؛ فالمكلّف العامّي لا حاجة له في الرجوع إلى الفقيه ليخبره بوجوب أصل الصلاة عليه، أو وجوب صوم شهر رمضان، فهذا أمر معلوم مشهور يعرفه الصغار والكبار من المسلمين، ولكنّه يرجع إليه في تفاصيل هذه الوجوبات وشرائطها وأحكامها التي يحتاج العلم بها إلى بحث وتحصيل في العلوم المختلفة للشريعة للوصول إلى الحكم الشرعي، فالمكلّف العامّي يرجع إلى الفقيه في خصوص ما يجهله وما لا يقدر على استنباطه ومعرفة أحكامه بيسر وسهولة.
ومن هنا يتضح أن ما دلت عليه الأدلة النقلية في هذا الجانب ـ وجوب التقليد ـ تعتبر من المؤيدات فلا يضر إذا كان بعض الأخبار الواردة في هذا المجال ضعيفة السند.
اشكال ورد
قد يقال: العقلاء في أغلب تعاملاتهم الحياتية وبالأخص المصيرية منها عندما يدور حالها بين أمرين مهمين كدورانه بين الموت والشفاء عند تشخيص الطبيب لدواء معين لمرض من نوع ما فإنهم لا يلجئون الى التقليد، فإذا كان الحال كذلك فمن باب أولى أن لا يلتجئوا الى التقليد في الأحكام الشرعية التي هي فوق القضايا الحياتية والمصيرية؛ لأنه تتبعها الجنّة والنار!!
والجواب:
إنّ جواز التقليد وعدمه حكم شرعي كباقي الأحكام الشرعية التي تُستنبط من مجموعة أدلة اعتبرها الشارع وقام الدليل القطعي على حجيتها، والتي منها السيرة العقلائية المتقدمة، والتي ليس هنا محل اثبات حجيتها، فإذا ثبت بدليل قطعي جواز التقليد في الأحكام الشرعية فلا يبقى فرق في كون التقليد من الأمور اليسيرة أو الخطيرة.
أضف الى ان رجوع العقلاء الى أهل الاختصاص جارٍ حتى في الأمور الخطيرة بل الأمر فيها أشد، فالإنسان قد يدَّعي العلم في أمور هو جاهل بها، لكن إذا كان الأمر خطيراً ويخاف الخطأ فيه فحينئذ يعترف بجهله ويرجع فيه الى من كان له اللياقة الكافية في معالجة مثل هذه الأمور.
الآيات الكريمة الدالة على جواز التقليد
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([1]).
دلالات الآية المباركة:
وتقريب دلالة الآية الكريمة على وجوب التقليد من جهة دلالتها على الحذر إذا أنذر الفقهاء وهذا الأمر انما يتحقق حين العمل بإنذارهم وفتواهم أي تقليدهم.
فإن الناس بعد أن هداهم الله تعالى الى الإسلام وعلموا بأنهم مكلفون بتكاليف الزامية، وإن السبيل الوحيد للعلم بهذه التكاليف هو المجيء للنبي صلى الله عليه وآله للتفقه على يده الشريفة نبهت الآية الكريمة على عدم وجوب نفر -أي مجيء- جميع المسلمين للتفقه على يد رسول الله، فمما لا شبهة فيه إن مجيء جميع المؤمنين في جميع أقطار الإسلام إلى الرسول لأخذ الأحكام منه بلا واسطة كلما عنت حاجة وعرضت لهم مسألة أمر ليس عملياً من جهات كثيرة، فضلاً عما فيه من مشقة عظيمة لا توصف بل هو مستحيل عادة.
من هنا فإن الله تعالى أراد بهذه الفقرة -والله العالم- أن يرفع عنهم هذه الكلفة والمشقة برفع وجوب النفر رحمة بالمؤمنين. وهو لا يعني عدم وجوب تعلم الأحكام الشرعية على كافة المؤمنين، فإن الضرورات تقدر بقدرها. بل يعني لا يجب على كل واحدٍ واحد المجيء للنبي صلى الله عليه وآله والتعلم منه، فلابد من علاج لهذا الأمر اللازم تحقيقه على كل حال وهو التعلم، بتشريع طريقة أخرى للتعلم غير طريقة التعلم من نفس لسان الرسول. وقد بينت بقية الآية هذا العلاج وهذه الطريقة وهو قوله تعالى: (فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
والطريقة هي أن ينفر قسم من كل قوم ليرجعوا إلى قومهم فيبلغونهم الأحكام بعد أن يتفقهوا في الدين ويتعلموا الأحكام على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لتحصيل تلك الغاية وهي التعلم. ثم ان الطائفة المتفقهة هي التي تتولى حينئذ تعليم الباقين من قومهم بل انه لم يكن قد رخصهم فقط بذلك وإنما أوجب عليهم أن ينفر طائفة من كل قوم، ويستفاد الوجوب من (لولا) التحضيضية ([2]) ومن الغاية من النفر وهو التفقه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من العقاب ([3])، مضافاً إلى أن أصل التعلم واجب عقلي كما قرر في محله. كل ذلك شواهد ظاهرة على وجوب تفقه جماعة من كل قوم لأجل تعليم قومهم الحلال والحرام. ويكون ذلك طبعاً وجوباً كفائياً. وإذا استفدنا وجوب تفقه كل طائفة من كل قوم أو تشريع ذلك بالترخيص فيه على الأقل لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم فلابد أن نستفيد من ذلك ايضاً أن نقلهم للأحكام قد جعله الله تعالى حجة على الآخرين فيجب على الآخرين قبول قولهم واتباعهم، وإلاّ لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب أو الترخيص لغواً بلا فائدة بعد إن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن تقليدهم حجة لما بقيت طريقة لتعلم الأحكام تكون معذرة للمكلف وحجة له أو عليه. والحاصل إن رفع وجوب النفر على الجميع والاكتفاء بنفر قسم منهم ليتفقهوا في الدين ويعلموا الآخرين هو بمجموعه دليل واضح على وجوب التقليد، وإلاّ كان هذا التدبير الذي شرعه الله لغواً وبلا فائدة وغير محصل للغرض الذي من أجله كان النفر وتشريعه. وهو في الواقع خير علاج لتحصيل التعليم بل الأمر منحصر فيه. فالآية الكريمة بمجموعها تقرر أمراً عقلياً وهو وجوب المعرفة والتعلم، وإذ تعذرت المعرفة من المعصوم عليه السلام مباشرة فلابد من أخذها من لسان الفقهاء.
وقد روى عبد المؤمن الأنصاري عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: «قول الله عز وجل: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ص فيتعلموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم…»([4]) الحديث.
(([1] التوبة: 122.
([2]) المراد من التحضيض شدة الطلب، فالآية الكريمة تأمر بشدة المجيء للنبي (ص) والتعلم منه والأمر ظاهر في الوجوب كما ثبت في علم الاصول.
(([3] فأن الآية الكريمة جعلت الإنذار غاية للتفقه وقالت: Pوَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ..O فهي تأمر بالإنذار فيجب على الذين اتوا للنبي(9) إنذار قومهم فيجب حينئذ عليهم ان يتفقهوا لأنه مقدمة للإنذار ومقدمة الواجب واجب.
([4]) معاني الأخبار: 157/ باب معنى قوله (7): «اختلاف أمّتي رحمة»/ ح 1؛ وسائل الشيعة 27: 147/ باب 11/ ح 10.