قد يشعر الآباء بالحيرة في مواجهة وتوجيه هذه الكائنات الصغيرة التي تحمل ذكاء أكبر مما يتصورون، هذه الكائنات ورغم صغر حجمها فإنها تحمل من القدرات ما يجب احترامه ووضعه في الاعتبار قبل التفكير في رسم أي منهج للتعامل معها بشكل صحيح.
قد يبدو الحديث عن أساليب العقاب القاسية كالضرب مثلاً والأضرار التي يتركها على الطفل، خاصة على الصعيد النفسي والرحي لا ضرورة له الآن، خصوصاً في ظل الإدراك العلم بمخاطر هذه الأساليب وآثارها السيئة، إلا أن ما يمكن قوله حول الصراخ والذي قد لا يتصوره الكثير منا هو أنه أسوأ وأخطر أسلوب- على الإطلاق- للتعامل مع الأبناء، وتفوق آثاره السيئة أسلوب الضرب والعقاب القاسي، لذا فمن يقول: "هل نستطيع أن نعبر عن غضبنا بالصراخ؟" لا يدرك خطورة ما يقول لأنه اعتبر الضرب اسوأ من الصراخ أو كأنه يقول مادام الضرب غير مسموح فهل يستطيع أن يعبر عن غضبه بالصراخ؟
تنفيس الغضبإن التعب ومشاكل العمل وتأزم الأحوال اجتماعياً واقتصادياً ووجود العديد من العوامل المقلقة التي تعترض حياة الآباء والأمهات قد تجهلهم بشكل عفوي يتخذون من أبنائهم منفذاً لتنفيس كلّ هذا الغضب، وقد يحاول الأهل السيطرة على عصبيتهم في الظاهر وإن ظلت متحكمة بشكل خفي في سلوكهم، وهو ما يعبر عنه بالملاحظات الجارحة عند كلّ هفوة أو نبرات الصوت التي تنم عن اللوم والعتاب ولو بصوت معتدل ودون صراخ.. وتظل المسالة خارج نطاق التربية وإنما هي وسائل للتعبير عن الغضب، وتقول الخبيرة الفرنسية فرانسواز دولتو: "إن راشداً يتكلم بفظاظة وعدوانية ويتصرف بعنف ويستسلم لانفجارات مزاجية تجاه ولده، عليه ألا يندهش إذا ما رأى هذا الولد يتصرف بالطريقة نفسها مع من هم أضعف منه...".
إذن على الآباء أن لا ينسوا بأنهم يسعون إلى فهم التأثير الحقيقي لبعض الأساليب التربوية وأضرار البعض الآخر منها كالضرب والصراخ وغيرها وكلّ ذلك في إطار عنوان رئيسي هو كيف نوجّه أبنائنا، لا كيف نعبر عن غضبنا حيال تصرفاتهم؛ وهو الغضب الذي يأتي عادة بسبب مشكلات حياتنا حيث يشتد مع اشتداها وينحسر مع انحسارها، "فالأبوة هي أن يتعلم الآباء السعادة من سواهم- وهم الأبناء- حتى آخر المطاف وفي هذا موت للأنانية" وهو ما أكده أحد خبراء التربية الاجتماعية.
إذن فعلينا أن نعالج سؤالاً واحداً بالتحديد وهو "هل للصراخ تأثير سلبي على أولادنا؟"، وليس "هل نستطيع التعبير عن غضبنا بالصراخ؟" لأنه لا مجال للإجابة عن هكذا سؤال.
الصراخ هو الأخطرإن الصراخ يعد أخطر على نفسية الطفل من أي أسلوب عقابي آخر لأنه:
- إهانة للطفل ومس بكرامته.
- تحطيم لمعنويات الطفل.
- تشكيك في قدراته الذاتية.
- سحب للثقة بالنفس.
- تدمير للعلاقة الإنسانية بين الطرفين.
والصراخ يلغي لغة التواصل والتفاهم بين طرفي المعادلة، فالابن يدخل في حالة من الدفاع عن النفس والخوف من الصوت المرتفع، ويركّز اهتمامه على الطرق التي تحميه من ردود أفعال غير منتظرة، ولا يبدي أي اهتمام بسلوكه الذي أثار هذا الصراخ وتسبب فيه، فهو مما يجب اجتنابه لما له من آثار سلبية خطيرة على شخصية الطفل وعلى مستقبله.
أما عن الضرب فهو ما لم نقل بشأنه: "لا ضرب" على إطلاقها، بل إن الضرب من الوسائل التي لها اعتبار ووجود في التعزير والعقاب، ولكن بشروط وأسباب وفي أحيان معينة وقواعد محددة، فالضرب هو وسيلة للفت حواس الطفل، ألا تستخدم يديك- مثلاً- لهزّ كيف شخص تناديه مراراً دون أن يسمعك.. فتحاول لفت انتباهه باستخدام حاسة أخرى وهي اللمس؟ وعلى هذا النحو ينبغي أن تكون فكرة استخدام الضرب كوسيلة للفت الحواس والتأكيد على معنى معين تعذرت السبل في إيصاله، وليس كوسيلة للتعذيب والانتقام والإيلام والتهديد والترهيب والتنفيس عن الغضب في كائنات ضعيفة ليس لها بنا قوة ولا مأوى تأوي إليه، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها تجاه هذا العدوان عليها سوى بأن تتعمد ألا تشعر أو تحس لكي تنتقم ممن يؤذيها ويحاول إيلامها بألا تتألم.
أين المشكلة؟إن ما نتمناه نحن كآباء هو أن تصبح حياتنا مع أطفالنا سهلة لينة ينفذون نصائحنا بمجرد أن يسمعوها بوداعة النسيم.. وكثيراً ما يكون ارتطامنا بالواقع المغاير مغضباً لنا ومحيراً، والمشكلة في أمنيتنا وليست في الأبناء.
والآباء غير مطالبين في الواقع بكبت مشاعرهم وتصنع الهدوء أو ترك الحبل على الغارب في التعامل مع الولد والامتناع عن توجيهه أو تصحيح أخطائه ونصحه، وليس المطلوب أن يقف الآباء مكتوفي الأيدي أبداً، إنما عليهم أن يبحثوا عن البدائل الممكنة للتعامل مع الأبناء دون الحاجة للصراخ أو العقاب البدني مع تمرير النصائح والتوجيهات في بيئة ملائمة لتنفيذها، وهو ما يمكن أن ينفذه كلّ الآباء وسيلمسون تأثيره السحري.
وما يقوي العلاقة بين الآباء والأولاد هو التقبيل المستمر، والممازحة، واللعب، وتناول الطعام سوياً، والحوارات، والنزهات، والذهاب سوياً لشراء الحاجيات، والذهاب سوياً للمساجد والمشاركة في الشعائر الدينية، والمدح والثناء لأي تفوق، والاستماع لآراء الابن واعتراضاته وتوجيهاته أحياناً.
وعلى الآباء أن يصطحبوا أبناءهم إلى الأسواق، ويجعلونهم يمارسون البيع والشراء، ويساهمون في وضع ميزانية مصروفات الشهر وغيرها مما يشعرهم بذواتهم وينمي ثقتهم بنفسهم.
على الآباء أن يختاروا الوقت المناسب لتوجيه الطفل بشكل غير مباشر من خلال قصة أو موقف مفتعل أو أن يشرحوا رأيهم بابن زميلهم الذي فعل كذا مما لا يليق وكان ينبغي أن يفعل كذا كذا، ومن هذه الأوقات المناسبة وقت الطعام أو المشي معاً.
على الآباء أن يستخدموا القصص في توصيل المعاني التي يريدوها، ويمكنهم إهداؤه مجموعة من القصص، ثم يتناقشوا معهم كلّ ليله حول ما استفادة من قراءة كلّ منها، ومن خلال المناقشة يمكنهم توظيفها للتأكيد على معانٍ معينة وأخلاق يريدون له التزامها، وهكذا... على الآباء أن يجعلوا عقابهم للأبناء الخصام، وإن نجحوا في أن يكونوا له صديقاً حقيقياً حميماً تحقق صداقتهم له السعادة والاستفادة، سيكون فقدة لصداقتهم عقاباً لا يسمح أبداً لنفسه التعرض له.
على الاباء أن يجدوا المبرر المنطقي والتفسير المحتمل للتصرف الخاطئ الذي فعله ولدهم- ويمكنهم سؤاله ومناقشه في ذلك- وذلك للتغلب على غضبهم تجاه فعله، ولكي يمكنهم توجيهه بهدوء.
*كتاب في تربية الطفل لـ "السيد أحمد باقر القزويني"