الأشياء – هذه الليلة - تبدو لناظرها على غير هيأتها، والأمور تجري في غير سمتها، متباعدة عن طبائعها، منافرة لعاداتها..
والأحداث تأبى أن تسير قاطعة آنات الزمان، ولعل في الفَلَك رغبة في التوقف، لولا إرادة الله تعالى القاهرة. حتى الليل، أتمثله وقد غشيه ليل آخر، لا ينقشع عن الناس بصباح..
وفي بيت أمير المؤمنين (ع)، المولى على غير ما اعتاده أبناؤه وأهله، يخرج ساعة بعد ساعة، يقلِّب طَرْفه في السماء، وينظر في الكواكب، ويقول "اللهم بارك لي في الموت". حتى أرقت ابنته أم كلثوم معه.
خائض الأهوال ومضرج الأبطال، هذ الليلة قلق متململ.. ويستعد(ع) للخروج إلى المسجد، لكن في غير الوقت الذي اعتاد أن يخرج فيه..
نزل إلى صحن الدار، وإذا بالإوز خرجن وراءه يصحن في وجهه، وكنَّ قبل تلك الليل لم يصحْنَ. حتى الجمادات - هذه الليلة - لم يكن بها رغبة في أن يطوي الليل نفسه..
وحين همَّ المولى بالخروج، لم تطاوع الباب نفسه دون أن تعلق بمئزره، وكأنه يقول له: لقد اجتزتني أيها المولى مراراً وكراراً راجلاً، أتوسل إليك أن لا تخرج وتعود إليَّ محمولاً..
ويتوجه نحو المسجد في بهيم الليل، ولم يعهد أبو محمد الحسن(ع) خروج أبيه في مثل هذا الوقت. ولم نسمع أن أمير المؤمنين (ع) ردَّ طلبا لابنه السبط الأكبر، ولكن في هذه الليلة، ذهبت محاولات أبي محمد (ع) أدراج الرياح في إقناع أبيه (ع) أن يعود إلى المنزل..
ويدخل المولى المسجد، والقناديل التي وُضِعت لتملأ أجواء المكان ضياء قد خمد ضوؤها. ويمر على ابن ملجم (لعنه الله) فيراه نائما على غير الهيأة التي ينبغي للنائم أن يكون عليها، فهو نائم على وجهه، وقد أخفى تحت ثيابه ما (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)، يُقدِّم له النصح في تغيير هيأة نومه، وهو أعلم بما خبَّأ تحت ثوبه..
ويرتقي المئذنة، ويؤذن للفجر، وليس في جدران الكوفة رغبة أن ترد صدى صوت أمير المؤمنين (ع) كما كانت تفعل قبلُ، بل تود لو تحتضن ترددات صوته المقدس بين آجرها وطينها..
ويقف الإمام (ع) يصلي في محرابه، منقطعا بكُلِّه إلى الله تعالى، وصوت المحراب، الذي تسمعه الأشياء كلها - خلا الإنسان - يرن في أصداء الوجود قائلا: وداعا سيدي أمير المؤمنين..
وينزل السيف على رأس المولى إلى حيث موضع سجوده، وقد اختلطت دموع السيف بدم رأس الإمام (ع) معتذرا قائلا: أعتذر سيدي، فإن الأمر خارج عن إرادتي، فلست إلا آلة بيد أشقى الأشقياء..
ويعلو صوت جبرئيل (ع) على جميع الأصوات معلنا للناس حزن أهل السماء على سيد أهل الأرض: تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قُتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
ويهتك الفجر ستر الظلام ليعلن للعالم يوم حداد بمصاب سيد الوصيين.. ويجتمع على باب دار الإمام (ع) لفيف من الأرامل واليتامى، ولسان حالهم: يا أمير المؤمنين، نقسم عليك بمحمد وفاطمة (صلوات الله عليهما) أن لا تفجعنا بفراقك، فهذه العشر من شهر رمضان أواخره، وقد أزف العيد.
فمن يدخل الفرحة علينا؟
ومن يحنو على ضعيفنا؟
ومن يمسح على رأس صغيرنا؟
ومن يتفقد حالنا؟
ومن يذرف دموعه رحمة لنا؟
مصابنا بك مصابان: الأول بفقدك، والثاني بضيعتنا بعدك.
*نقلاً عن النبأ