ولشعورهم بعدم الاحقيّة بالخلافة استمروا على نهج من سبقهم في اتخاذ الارهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز على مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله [1] تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم.
وكان سليمان بن عبدالملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، انه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللاُمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا، وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك[2].
واتّبع ابناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس الى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا[3].
وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد الى اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم الى عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتى أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم[4].
وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الاُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الاصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغى بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وردّ الى أهل البيت (عليهم السلام) بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام.ىولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع الى ما كان عليه.
وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز على ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الاُموي تنافساً على الحكم، كما كثرت الفتن الداخلية في عهدهم، حتى قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان[6].
وقام يزيد بن المهلب في سنة ( 101 هـ ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز اليه يزيد من قتله وقتل أتباعه.
وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتى افتوا له انه ليس على الخلفاء حساب [7].
وهكذا كانت الاُمة الاسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة ( 104 هـ ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور.
وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الارهاب والتنكيل بأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم وسائر المعارضين، حتى اجترأ هشام بن عبدالملك على سجن الإمام الباقر (عليه السلام) وأقدم على اغتياله[8]. وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقر (عليه السلام) إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل[9].
والتجأ الكثير الى العمل السرّي للإطاحة بالحكم الاُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الاقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يعدّ العدّة للثورة على الاُمويين في وقتها المناسب، لأنّ الاُمويين كانوا قد أحصوا انفاس الناس عليهم لكيلا يتطرقوا إلى انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها.
*مقتبس من كتاب أعلام الهداية
الهوامش: [1] الكامل في التاريخ: 4 / 577. [2] الكامل في التاريخ : 3 / 178. [3] البداية والنهاية: 9 / 161. [4] الاحكام السلطانية: 13، الماوردي. [6] تاريخ ابن خلدون: 5 / 151. [7] البداية والنهاية: 9 / 232. [8] مناقب آل أبي طالب: 4 / 206. [9] بحار الانوار: 46 / 283.