«حنين» منطقة قريبة من الطائف، و بما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها، و قد عبّر عنها في القرآن ب «يوم حنين» و لها من الأسماء- غزوة أوطاس، و غزوة هوازن أيضا.
أمّا تسميتها بأوطاس، فلأن «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة- و أمّا تسميتها بهوازن، فلأن إحدی القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعی بهوازن.
أمّا كيف حدثت هذه الغزوة، فبناء علی ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف و قال لمن حوله: من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة، فقالوا: من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.
فلما بلغ ذلك النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم أمر المسلمين أن يتوجهوا إلی أرض هوازن
[راجع الكامل لابن الأثير، ج ٢، ص ٢٦١، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.]
٢.
و بالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة و المسائل العامّة فيها، إلّا أنّ في جزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر، و ما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي، بناء علی روايته القائلة: إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلی مالك بن عوف و اجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة، و كانوا قد جاءوا بأموالهم و أبنائهم و أزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة، و هكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.
فعقد النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لواءه، و سلمّه عليّا عليه السلام و أمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلی حنين، و اطّلع النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة، فأرسل النّبي إليه أن أعرنا مائة درع، فقال صفوان: أ تريدونها عارية أم غصبا؟ فقال النّبي: بل عارية نضمنها و نعيدها سالمه إليك، فأعطی صفوان النّبي مائة درع علی أنّها عارية، و تحرك مع النّبي بنفسه إلی حنين.
و كان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة، فأضيف عددهم إلی العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة، و صاروا حوالي اثني عشر ألفا، و تحركوا نحو حنين.
فقال مالك بن عوف- و كان رجلا جريئا شهما- لقبيلته: اكسروا أغماد سيوفكم، و اختبئوا في كهوف الجبال و الوديان و بين الأشجار، و اكمنوا لجيش الإسلام، فإذا جاءوكم الغداة «عتمة» فاحملوا عليهم و أبيدوهم.
ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا: إن محمّدا لم يواجه حتی الآن رجال حرب شجعانا، ليذوق مرارة الهزيمة!! فلما صلّی النّبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلی حنين، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب، و أصبح المسلمون مرمی لسهامهم، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش، فكان أن ذهل المسلمون و اضطروا و فرّ الكثير منهم.
فخلّی اللّه بين جيش المسلمين و جيش العدو، و ترك الجيشين علی حالهما، و لم يحم المسلمين لغرورهم- مؤقتا- حتی ظهرت آثار الهزيمة فيهم.
إلّا أنّ عليّا حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه، و كان النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم في (قلب) الجيش و حوله بنو هاشم، و فيهم عمه العباس، و كانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.
فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة علی النّبي فأمر النّبي عمّه العباس- و كان جهير الصوت- أن يصعد علی تل قريب و ينادي فورا: يا معشر المهاجرين و الأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلی أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم.
فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا و قالوا: لبيّك لبيّك، و لا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين و حملوا علی العدوّ من كل جانب حملة شديدة، و تقدّموا بأذن اللّه و نصره، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة، و المسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مائة شخص من هوازن، و غنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم
[مجمع البيان، ج ٥، ص ١٧- ١٩.]
٣.
و نقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي و أعلنوا إسلامهم، و أبدی لهم النّبي صفحه و حبّه، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته و أسراه، و صيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضا.
و الحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمر- بالإضافة إلی غرورهم لكثرتهم- هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا و كان فيهم جماعة من المنافقين طبعا، و آخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم، و جماعة منهم كانوا بلا هدف، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.
أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم و علي عليه السّلام و جماعة قليلة من الأصحاب، و تذكرهم عهودهم السابقة و إيمانهم باللّه و الركون إلی لطفه الخاص و نصره.
من هم الفارّين؟
ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّب بادئ الأمر من ساحة المعركة، و ما تبقی منهم كانوا عشرة فحسب، و قيل أربعة عشر شخصا، و أقصی ما أوصل عددهم المؤرخون لم يتجاوزوا مائة شخص.
و لما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة، فإنّ بعض المفسّرين سعی لأن يعدّ هذا الفرار أمرا طبيعيا.
يقول صاحب تفسير المنار ما ملخصه: لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة، و فيهم المنافقون و ضعاف الإيمان و الطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعا و تقهقروا إلی الخلف، فاضطرب باقي الجيش طبعا، و حسب العادة- لا خوفا- فقد فرّوا أيضا، و هذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضا- ففرارهم لا يعني ترك النّبي و عدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه، حتی يستحقوا غضب اللّه!!
[راجع تفسير المنار، و إقرار التفصيل فيه، ج ١، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.]
٤ و نحن لا نعلّق علی هذا الكلام، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.
كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة و هي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة و فرار المسلمين ينقل ما يلي:
فإذا عمر بن الخطاب في الناس، و قلت: (الراوي): ما شأن الناس؟ قال: أمر اللّه، ثمّ تراجع الناس إلی رسول اللّه
[المصدر السابق.]
٥.
غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة، و التفتنا إلی القرآن الكريم، وجدناه لا يذم جماعة بعينها، بل يذم جميع الفارين.
و لا ندري ما الفرق بين قوله تعالی ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث، و بين عبارة أخری وردت في الآية (١٦) من سورة الأنفال إذ تقول وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلی فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّـهِ؟! فبناء علی ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إلی بعض لعرفنا أنّ المسلمين ارتكبوا خطأ كبيرا يومئذ إلّا القليل منهم، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ و رجعوا.
الإيمان و السكينة
السكينة في الأصل مأخوذة من السكون، و تعني نوعا من الهدوء أو الاطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك و الخوف و القلق و الاستيحاش عن الإنسان، و يجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة و الملتوية. و السكينة لها علاقة قربی بالإيمان، أي أنّ السكينة وليدة الإيمان، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة اللّه التي لا غاية لها، و يتصورون لطفه و رحمته يملأ قلوبهم موج الأمل و يغمرهم الرجاء.
و ما نراه من تفسير السكينة بالإيمان في بعض الرّوايات
[تفسير البرهان، ج ٢، ص ١١٤.]
٦، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان
[تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ٢٠١.]
٧ كل ذلك ناظر إلی هذا المعنی.
و نقرأ في القرآن في الآية (٤) من سورة الفتح قوله تعالی: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ.
و علی كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة، و موهبة إلهية بحيث يستطيع الإنسان أن يهضم الحوادث الصعبة، و أن يحس في نفسه عالما من الدعة و الاطمئنان برغم كلّ ما يراه.
و ممّا يسترعي النظر أن القرآن- في الآيات محل البحث- لا يقول: ثمّ أنزل اللّه سكينته علی رسوله و عليكم، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي علی ضمير الخطاب (كم)، بل تقول الآية عَلی رَسُولِهِ وَ عَلَی الْمُؤْمِنِينَ و هي إشارة إلی أن المنافقين و أهل الدنيا و الذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهما من السكينة و الاطمئنان، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.
و نقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء اللّه و رسله، فلذلك كانوا- في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها- أصحاب عزم راسخ و سكينة و اطمئنان، و إرادة حديدية لا تقبل التزلزل.
و كان نزول السكينة علی النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم في معركة حنين- كما ذكرنا آنفا- لرفع الاضطراب الناشئ من فرار أصحابه من المعركة، و إلّا فهو كالجبل الشامخ الركين، و كذلك ابن عمّه علي عليه السلام و قلة من أصحابه (المسلمين).
٤- في الآيات محل البحث إشارة إلی أنّ اللّه نصر المسلمين في مواطن كثيرة! هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي و حروبه، التي أسهم فيها صلّی اللّه عليه و آله و سلّم شخصيّا، و قاتل الأعداء، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم و لم يكن الرّسول حاضرا في المعركة.
إلّا أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت عليهم السّلام أنّها تبلغ الثمانين غزوة.
و قد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيرا إن هو عوفي من مرضه «و يقال أنّه قد سمّ»، فلما عوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإيفاء نذره، فلم يعرفوا للمسألة جوابا. و أخيرا سأل الخليفة العباسي الإمام التاسع محمّد بن علي الجواد عليه السلام
فقال: «الكثير ثمانون».
فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإمام بالآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ثمّ قال: عددنا حروب النّبي التي انتصر فيها المسلمون علی أعدائهم فكانت ثمانين
[تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ١٩٧.]
٨.
٥- إن ما ينبغي علی المسلمين أن يعتبروا به و يلزمهم أن يأخذوا منه درسا بليغا، هو أن ينظروا إلی الحوادث التي هي علی شاكلة حادثة حنين، فلا يغتروا بكثرة العدد أو العدد، فالكثرة وحدها لا تغني شيئا، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان، ذوي الإرادة و التصميم، حتی لو كانوا قلة.
كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إلی انتصار علی العدو و كانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة، لأنّها لم تنصهر بالإيمان تماما.
فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة و تضحية، لتكون قلوبهم مركزا للسكينة الإلهية، و ليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.
*مقتطف من تفسير الأمثل
الهوامش:
١ لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير الآيات ٩- ١٢ من هذا الجزء نفسه.
٢ راجع الكامل لابن الأثير، ج ٢، ص ٢٦١، نقلنا القصة بشيء من الاختصار.
٣ مجمع البيان، ج ٥، ص ١٧- ١٩.
٤ راجع تفسير المنار، و إقرار التفصيل فيه، ج ١، الصفحات ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥.
٥ المصدر السابق.
٦ تفسير البرهان، ج ٢، ص ١١٤.
٧ تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ٢٠١.
٨ تفسير نور الثقلين، ج ٢، ص ١٩٧.