إنّ الشريعة الإسلامية تولي اهتماماً مناسباً لشخصية المراهق حيث ارتفعت به إلى مستوى مسؤولية الراشدين، وهذا يعين المراهق على الشعور بالمسؤولية الفردية كما يساعده على تقبل دوره الاجتماعي المناسب لنموه.
إنّ مفهوم استقلال المراهق في المنهج الإسلامي يختلف تماماً عن مفهوم الحاجة إلى الاستقلال عند الغالبية العظمى من علماء النفس، فهو في الأوّل استقلال مسؤول، وفي الثاني استقلال فوضوي، فالمنهج الإسلامي يقرر مسؤولية المراهق الشرعية والقضائية والاجتماعية في جميع أنماط السلوك الصادرة عنه، وأما الاستقلال في نظر علم النفس فهو الانطلاق الفوضوي فلا يستجيب المراهق لأمر ولا يذعن لنهي.
ومن أبرز مظاهر الحياة النفسية في فترة المراهقة رغبة المراهق في الاستقلال عن الأسرة وميله نحو الاعتماد على النفس، نتيجة للتغيرات الجسمية التي تطرأ على المراهق ويشعر أنه لم يعد طفلاً قاصراً، كما أنه لا يجب أن يحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة، أو أن يخضع سلوكه لرقابة الأسرة ووصايتها، فهو لا يحب أن يعامل كطفل ولكنه من الناحية الأخرى ما زال يعتمد على الأسرة في قضاء حاجاته الاقتصادية وفي توفير الأمن والطمأنينة له، فالأسرة تُريد أن تمارس رقابتها وإشرافها عليه بهدف توفير الحماية، ولكنه لا يقر سياسة الأوامر والنواهي، ولذلك ينبغي أن يشجع على الاستقلال التدريجي والاعتماد على نفسه مع ضرورة الاستفادة من خبرات الأسرة الطويلة فهو في هذه المرحلة يريد أن يعتنق القيم والمبادئ التي يقنع بها هو لا تلك التي لقنتها له الأسرة تلقيناً، بل إنّه يتناول ما سبق أن قبله عن طيب خاطر، من مبادئ وقيم، بالنقد والفحص، فيعيد النظر في المبادئ الدينية والاجتماعية التي سبق أن تلقاها من الوالدين على وجه الخصوص ومن الكبار على وجه العموم.
عظمة التشريع هنا أن يأتي بالمسؤولية مع تطور واقع الإنسان، يحس فيه الفرد بالنمو فيشعر الناشئ أنه لم يعد طفلاً صغيراً، ويشعر فيه بالرغبة الشديدة في تحقيق ذاته ويحس بنمو شخصيته واستقلالها، ويضيق ذرعاً بكل ما من شأنه أن ينال من هذا النمو وهذا الاستقلال، فلا يقبل التوجيهات أو الوصايا من الكبار، لأنّه يحس داخل نفسه أنه أصبح واحداً لا يقل شيئاً عن هؤلاء الذين يقومون بتوجيهه والوصاية عليه.
من قال إنّ المسؤولية التي تقررها الشريعة الإسلامية إبّان البلوغ والمراهقة واكتمال النضج العقلي تسمح للمراهق بأن ينفرد بنفسه ويظن أن ليس لوالديه سلطان عليه، وأن من حقه أن يفعل ما يشاء متى شاء، إنّ هذا فهم معكوس للمسؤولية الفردية في التشريع الإسلامي. إننا لا ننكر تفكير المراهق في الخروج على نظام الأسرة وعدم تقبله للأمر والنهي ومحاولاته المتكررة للتغلب على القيود التي تفرضها، ولذلك فهو يخفي كثيراً من أنواع السلوك الذي لا تراه، كما يصادق أفراداً لا ترضى عنهم، ويذهب إلى أماكن يبغضونها ويخشون عليه منها. إنّ هذه المظاهر النفسية والسلوكية لا تقع من شخصية سوية ناضجة مدركة، لذا فإنّ المراهق المسلم يجب عليه مدافعة هوى النفس المنحرف الذي يغريه بالخروج عن طاعة والديه، فإنّهما أحرص الناس على ابنهما المراهق وأشدهم حبّاً لنضجه البدني والنفسي والعقلي، ولذلك لا يرضون له السلوك المنحرف الضال، وهذه قضية يعلمها المراهق جيِّداً، لما يراه من سرور بالغ يملأ عليهم حياتهم إذا ما أثنى عليه أفراد المجتمع لحسن سلوكه وتصرفه، ولما يراه من كآبة غم وحزن إذا ما كان مبغوضاً في المجتمع لانحراف سلوكه وضعف تعقله، إن واجب أساتذة التربية وعلم النفس أن لا يقروا المراهق على الاتجاهات النفسية غير السوية، وأن يؤكدوا له بأنّ الشخصية السوية الناضجة تتقبل الأمر والنهي وتنظره بمنظار العقل الناضج فإن بان صلاحه وعلمت فوائده أطاعت واستجابت، وإن ظهر فساده وانعدمت فوائده فلا تستجيب وتدعو إلى الذي هو خير في أدب، وهذا أرقى مظهر للاستقلال النفسي في المراهقة وغيرها من مراحل النمو.
إنّ إبراهيم (ع) يمثل شخصية الفتى الناضج فكره وعقله الذي يرفض الشرك والوثنية ويدعو قومه إلى عبادة الله سبحانه في أدب وبر. قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم/ 42-47)، هكذا يقول إبراهيم (ع) في برٍ وإشفاق، ولنا وللمراهقين والشباب وغيرهم فيه (ص) أسوة حسنة نقتدي به في علاقتنا بآبائنا وأُمّهاتنا، نستجيب لأمرهم ولنهيهم في أدب وتواضع جم ما دام أمرهم ليس فيه معصية لله ولرسوله (ص) وإن فعلوا ذلك خالفناهم وصاحبناهم في الدنيا معروفاً، والغالب أن تكون أوامر الآباء الأُمّهات للمراهقين وغيرهم متعلقة بصالح حياتهم ومستقبلهم، حتى إن بعض الآباء الذين لا يلتزمون بأداء العبادات والفرائض الدينية يروق له أن يروا أبناءهم يحافظون على أداء العبادات والفرائض والتزام الخلق الإسلامي الصحيح، وهذه ظاهرة سلوكية وإن شئت قل عادة سلوكية اجتماعية نلاحظها في مجتمع المدينة والريف، وهذا لا يمنع أن تكون ندرة من الآباء قل حياؤهم وضعف تعقلهم وفسدت أخلاقهم وانحرف سلوكهم يأمرون أولادهم بالمنكر أو يتغاضون عنه وهم نسبة قليلة بحمد الله تعالى لا يعتد بها في المجموع، والمراهق الواعي في هذه الحالة هو من يستقل بتفكيره وينظر أمره ليرى فيه رأيه ثمّ يختار الذي هو خير.
ينبغي أن يُعرف أن لا تلازم بين الطاعة والإذعان وبين عدم الاستقلال، إذ ليس كلّ رافض لأمر والديه مستقلاً راشداً، وأن ليس كلّ مطيع غير راشد لم يصب حظه من الفطام النفسي، بل إنّ المستقل الناضج من ينظر الأمر ويتفهمه حتى يعقله ثمّ بعد ذلك يقبله أو يرفضه.
*من كتاب تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس: د. محمد السيد محمد