ومن هنا تنحصر وظيفة الإنسان في خلق توازن بين الحاجتين، فإرادة الإنسان أما أن ترجح كفة على كفة أخرى وأما أن توازن بينهما بحيث تكون كل حاجة مكملة للحاجة الأخرى، وعليه فإن العبادة لا تحقق جانب الكمال الروحي فقط وإنما أيضاً ترسم المسار الذي يحقق التوزان بين حاجات الروح وحاجات الجسد، ومن هنا يجب أن نفهم الدين بوصفه خطاباً يستهدف إرادة الإنسان من أجل تحريكه نحو الحاجات الفطرية والروحية.
ومع أن كلا الحاجتين تشكلان ضرورات حياتيه إلا أن حاجات الجسد أكثر تأثيراً وإلحاحاً، فلا يمكن أن نتصور استمرار الحياة دون تلبية غريزة الطعام والشراب والجنس وغيرها من الغرائز، فمن الممكن أن يعيش الإنسان بدون أي قيم روحية كما يعيش الحيوان، بينما لا يمكنه ذلك دون تلبية حاجاته الجسدية، ومن هنا لا يحتاج الإنسان إلى من يذكره بحاجاته الجسدية في حين أنه في حاجة دائمة إلى من يذكره بحاجاته الروحية.
أما إذا انعكس الأمر وأصبحت الحاجات الروحية في موضع الحاجات الجسدية والحاجات الجسدية في موضع الحاجات الروحية، حينها لا يمكن أن نتصور استمرار الحياة الإنسانية، إذ كيف يمكن أن تسمر حياة الإنسان من دون دافع غريزي للطعام والشراب والزواج؟ فإذا كان الإنسان بطبعة يفتقد الرغبة في الأكل والشرب إلا بإرادة وتصميم فحينها سيكون حاله كحال المريض الذي يموت جوعاً وهو لا يشتهي الأكل، وفي المقابل إذا كانت العبادة غريزية بحيث يندفع إليها الإنسان كما يندفع للطعام فحينها كيف يمكن أن نتصور أنها تحقق كمالاً روحياً للإنسان؟ فالعبادة الغريزية والطاعة المنبعثة عن الحاجات الطبيعة لا تحقق أي مرتبة معنوية، فإذا كان الإنسان لا يكتسب فضلاً بأكله وشربه لكونها حاجات غريزية، كذلك لا يكون له فضل إذا كانت عبادته غريزية وطاعته منبعثة عن الحالة الطبيعية.
أما إذا افترضنا أن حاجاته الروحية والجسدية كليهما حاجات غريزية فحينها سيفقد الإنسان أهم ما يميزه وهي الإرادة، إذ كيف يمكن أن نتصور وجود الإرادة وجميع حاجاته غريزية؟ ومن هنا فإن أي محاولة لاقتراح طبيعة جديدة للإنسان هي في الواقع إعدام للإنسان واقتراح موجود آخر لا يمكن تسميته بإنسان.
وعليه فإن حقيقة الإنسان ضمن الإيمان بالله ترتكز على علاقة المخلوق بالخالق، أي أن الإنسان أوجده الله من عدم وخلقه على الهيئة التي هو عليها، قبضة من طين، ونفخة من روح، فأنتما إلى الأرض من جهة الطينة، وانتمى إلى السماء من جهة تلك النفخة.
والمستفاد من هذا الوصف؛ هو أن الإنسان يمكنه العيش على الأرض وهو يتطلع إلى الله، وبهذا لا يحكم الإنسان ميول أو اتجاه واحد، وإنما ينجذب إلى الأرض كما يندفع الى الأعلى ليتسامى على المادة.
وبذلك يُشارك الإنسان بقية الكائنات في عناصر الطبيعية المشتركة، ويعترف المؤمن بالمادة كحقيقة متأصلة في الإنسان، فيندفع في رحاب الحياة اندفاع المؤمن بضرورة تسخير المادة من أجل الإنسان، فلا يفوته شيء من خيرات الدنيا ونعم الحياة، وفي الوقت نفسه يمتاز عن بقية الكائنات بما منحه الله من أسمائه الحسنى، فيتصل عبرها بالله ويتطلع بها إلى كماله وجماله فيصبح عليماً، قديراً، رحيماً، كريماً، عزيزاً، مهيمناً، ودوداً، حكيماً، مؤمناً.. في سعي دائم للتخلق بأخلاق الله؛ لأن الله هو مطلق العلم، والقدرة، والرحمة، والكرم، والعزة، والهيمنة، والحِكمة، ولو لم يكن موجوداً لما كان هناك معنى للكمال والجمال.
فلو كانت المادة هي الأصيلة ولا موجود غيرها في عالم الوجود، هل يجوز حينها أن نقول في حق المادة بأنها: العالمة، القادرة، الرحيمة، الحكيمة، السميعة، البصيرة ..؟ وإن كان لا يمكن وهو حتماً غير ممكن فمن اين عرف الإنسان تلك المعاني والصفات؟
ويكفينا هنا القول بان الإيمان بالله هو إيمان بمطلق الكمال والجمال، وتعلق الإنسان بالله هو تعلق بتلك المعاني، يقول البروفيسور هوستن سميث، أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب كتاب (أديان العالم) في كتابه (لماذا الدين ضرورة حتمية): "فلسفة الحياة كانت أمامي واضحة وبسيطة ... تتلخص فيما يلي :
أولاً: لا يمكن للوجود الدنيوي (الأرضي) بسبب محدوديته وتناهيه، أن يشبع قلب الإنسان بشكل كامل، هناك في فطرة الإنسان توقع وتطلع نحو ""الأكثر"". ولا يمكن لعالم الممارسات الحياتية اليومية أن يشبع هذا التطلع. هذا التطلع إلى ما هو أبعد مما يتيحه العالم الدنيوي، يوحي، بقوة، بوجود شيء تحاول الحياة أن تصل إليه، تماما مثلما تشير أجنحة العصافير لحقيقة وجود الهواء، تنحني أزهار عباد الشمس نحو الضياء لأن الضياء موجود، ويبحث الناس عن الطعام لأن الطعام موجود، قد يجوع بعض الأفراد، ولكن أجسامهم لم تكن لتمر بإحساس الجوع لو لم يكن في الوجود طعام يلبي هذا الإحساس.
إن الحقيقة التي تهيج شوق الإنسان إليها وتشبع روحه تملؤها هي: الله، أياً كان اسمه الذي تسميه به، ولما كان عقل الإنسان لا يستطيع حتى خلال سنين ضوئية! أن يدرك طبيعة الله، فإننا نحسن صنعا بإتباعنا لاقتراح ""رينر ماريا ريلكه "" .
أن نتفكر بالله بوصفه (اتجاها) أكثر من تفكيرنا به ككائن، هذا الاتجاه هو دائما نحو أفضل ما يمكننا أن ندركه، على النحو الذي يؤكده المبدأ اللاهوتي للإسناد الوصفي الذي ينص على أنه: عندما نستخدم أفكارا أو أشياء من عالمنا الدنيوي لنصف بها الله، فإن أول خطوة هي إثبات ما هو إيجابي فيها لله، والخطوة الثانية نفي ما هو محدد متناه في تلك الأوصاف عن الله، والخطوة الثالثة هي الصعود بالمعاني الإيجابية لتلك الأوصاف إلى الدرجة الفائقة (أي إلى أعلى نقطة يمكن لتصورنا أن يبلغها) بهذا التمييز التام والجذري بين الله والعالم تنتهي أشياء أخرى إلى مواضعها المناسبة"" (لماذا الدين ضرورة حتمية، هوستن سميث، ترجمة سعد رستم، دار الجسور الثقافية، ص 11)
وفي المحصلة إن الحاجات الروحية والكمال المعنوي حقيقة مغروسة في فطرة الإنسان إلا أن الشهوات هي التي تحجبها وتعمل على تغطيتها، ومن هنا لا يمكن أن يستغني الإنسان عن تذكيره بها وتنبيهه إليها، والعبادة بوصفها المحصلة النهائية للأديان هي التي تحقق وظيفة التذكير والتنبية، وقد لخص أمير المؤمنين وظيفة الأنبياء بقوله: (فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويُذكِّروهم مَنسِيَّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول ويُرُوهم آيات المقدرة).