من الأخطاء التي وقعت فيها بعض القراءات الدينية هي تقديمها للدين وكأنه ليس له علاقة بالهموم الحياتية للإنسان، وقد تمظهر ذلك في كثير من الاتجاهات التي حصرت الدين في جانب الاعتقاد الشخصي والطقوس الفردية.
بل تطرفت بعض الاتجاهات التي عارضت أي فهم ديني يسعى لتطوير حياة الإنسان وإعمار دنياه، والسبب في ذلك هو الفهم المشوه الذي صور الدين بوصفه خطاب لآخرة الإنسان ولا علاقة له بدنياه، وهذا خلاف حتى للتقييم الأولي الذي يقودنا للقول إن الدين الذي لا يكون صالحاً في الدنيا لا يكون صالحاً في الآخرة، ومن هنا فإن معيار تقييم الدين وفهمه يجب أن ينطلق من فهم الحياة وفلسفة وجود الإنسان فيها، ولا يمكن تحقيق ذلك في ظل تهميش الإنسان وإبعاده عن مسؤولياته في بناء حضارته القيمية، فمن الأخطاء الفاتحة تصوير التقدم، والتنمية، والكرامة، والرفعة، والعزة، وغيرها من القيم الحضارية على أنها مفاهيم شرقية أو غربية، بل الإسلام وجميع رسالات الله لم تأتِ إلا من أجل الارتقاء بالإنسان إلى مستوى يكون فيه مسؤولاً عن تحقيق هذه القيم.
ومن هنا يمكننا تسجيل ملاحظات على مجمل الخطاب الإسلامي، أو على مستوى الوعي الديني المتاح عند الإنسان المسلم، فالوعي الذي حققه ذلك الخطاب، قد عمل على استبعاد الإنسان كقيمة محورية جاءت من أجلها التشريعات، وكرس الاهتمام بهذه التشريعات بوصفها قيمة في نفسها، مع أن التشريعات لا تكتسب قيمتها بعيداً عن الإنسان، كما أن الإنسان لا يكتسب قيمته إلا من خلال القيم التي تؤكد عليها تلك التشريعات، ومن هنا تنبع خطورة تهميش الخطاب الإسلامي للإنسان كقيمة محورية، وتركيزه على التشريع بوصفها طقوساً مطلوبة لذاتها.
[صلة]
فحقيقة الانتماء للإسلام ضمن الوعي السلفي للدين، لا تتجاوز النظرة القشرية للأحكام والتشريعات، فتحول الإسلام عند بعض التيارات إلي ممارسات ظاهرية تقف عند حدود الشعيرة دون أن تتعداها إلي المضمون والجوهر، فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من العبادات، لا تعدو كونها- ضمن هذا الوعي السطحي- واجبات يثاب عليها الإنسان يوم القيامة، أما على مستوى الحياة الدنيا فليس لها قيمة ملموسة ترتبط بالسلوك الحضاري للإنسان، وقد ساعد في ذلك إهمال البحوث الفقهية التي تبحث عن حِكم الأحكام وقيم التشريعات، مع أن البحث عن ذلك هو الذي ينفتح الباب أمام فهم جديد للفقه يستوعب حاجات الإنسان وطموحاته، وبالتالي فإن الخطاب الإسلامي المتوارث في الجملة، قد عمل على تفريغ الدين من محتواه المتمثل في القيم.
فالإسلام هو الرسالة الخالدة التي جاءت تتويجاً لجهود الأنبياء السابقين، وكون الإسلام خالداً، يدل على شمول الخطاب وتمام التشريع، كما أن الخاتمية تعني قمة ما يريده الخالق للمخلوق، وهذا النوع من التفكير هو الذي يخلق مساحة للتفاعل بين الإنسان ومضامين الدين وحِكم التشريع؛ لأنه نوع من الوعي الباحث عن مراد الله وحِكمته من خلق الإنسان ووجوده، فقيمة الإنسان في ما أراده الشارع للإنسان، وليس في ما أراده من الإنسان، حتى العبادة لا تكون عطاءً من الإنسان بقدر ما هي عطاءٌ للإنسان؛ لأن معناها حقيقةً ليس سلب شيء من الإنسان وإنما تحقيق قيمة له.
والإسلام بهذا المعنى، هو النظام الإلهي الذي يهدف إلى بناء الإنسان وتكامله في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإذا اردنا أن نلخص فلسفة الإسلام يمكننا أن نقول إنه المبدأ الذي يدفع بالإنسان نحو الأمام في كل ميادين الحياة، وانطلاقاً من هذه البصيرة يمكننا تشكيل معيار لمحاكمة ما هو موجود في الساحة من خطابات إسلامية، فالخطاب الذي يكون معبراً عن حقيقة الإسلام هو الخطاب القائم على رؤية تكاملية للإنسان، ابتداءً من تصوره المعرفي والعقائدي ومروراً بسلوكه العبادي وانتهاءً بدوره الحضاري في الحياة.