ذهب البعض إلى اعتبار عقوبة القصاص في الإسلام ثأراً وانتقاماً من القاتل ولا تناسب الواقع المعاصر ولا الحضارة المعاصرة، والآية الكريمة التي تدعو إلى القصاص من القاتل ـ على حسب رأيهم ـ خاصة بزمان النبوة ولم نعد في حاجة إلى تطبيقها، حتى لا نُتّهم من قبل الغرب بالرجعية ومخالفة مواثيق حقوق الإنسان...
ونحن هنا نتعرض لمفهوم وحكم القصاص من الناحية القرآنية حيث قال الحق في محكم كتابه العزيز: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»[1]:
كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرؤوس وربما أبادت قبيلة أخرى لواحد قتل منها.
وكانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين من الخروج والخامس و الثلاثين من العدد، وقد حكاه القرآن عن توراتهم الأصلية، حيث قال تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»[2]، وكانت النصارى على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية، وسائر الشعوب والأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.
والإسلام سلك في ذلك مسلكاً وسطاً بين الإلغاء والإثبات فأثبت القصاص وألغى تعينه بل أجاز العفو والدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فالحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
وقد اعترض على القصاص مطلقاً وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الدول الراقية لا ترى جوازها وإجراءها بين البشر اليوم.
و قد أجاب القرآن بكلمة واحدة، و هي قوله تعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً»[3].
بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان حتى الوضعية منها بنيت وفق الطبيعة الإنسانية فلا فرق بين المجتمع والإنسان الواحد في ذلك، والنفس مفطورة على حب الوجود، و تطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والإعدام، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به، وهذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعاً عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا تزال بعض الدول تتقدم بالتسليح و آخرون يتجهزون بما يجاوبهم، فما بال هذه الدول المتحضرة تجوز القتل الذريع و الإفناء و الإبادة لحفظ مبدأ من مبادئها كالحرية او الاستقلال، بل حتى مصالحها الاقتصادية ولا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ و ما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل؟ و ما بالها تقضي وعلى طول التاريخ بقانون (من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره) لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما.
ثم أن الإسلام يشرع للدنيا عامة ولكل الأمم لا لقوم خاص او أمة معينة، وهذه المجتمعات المتحضرة إنما حكمت بعدم الحاجة الى القتل والإعدام بعد ما تيقنت ـ من خلال الإحصائيات في مورد الجنايات ـ أن سائر أفراد المجتمع ينفر ويقبح القتل فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ و إذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، و الإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية و أثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.
و يلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ»[4]، فاللسان لسان التربية و إذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
و أما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأصحاب الجريمة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا يصدهم وعظ ونصح، والحياة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى و أسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الجرائم في الإحصاءات يوماً فيوماً فالحكم العام الشامل للفريقين - و الأغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص و جواز العفو فلو رقت الأمة و ربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو و الإسلام لا يألو جهده في التربية فتأمل في قوله تعالى: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ»، ففي التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة و الرأفة و تلويح إلى أن العفو أحب.
- مقتبس من مجلة البلاغ الصادرة عن شعبة البحوث والدراسات – العدد الثاني
المراجع: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ج1
[1] البقرة: 179.
[2] المائدة: 45.
[3] المائدة - 32.
[4] البقرة: 178.