فرَب العالمين وهو مالك الرقاب، ومُسبب الأسباب، ولهُ مقاليد السماوات والأرض، وخزائنهُ بينَ الكافِ والنون؛ يقول: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾.. ومن مصاديق هذه الآية: الحيوانات التي تعيش في القطبين الشمالي والجنوبي، رغم برودة الطقس، حيث لا يوجد إلا الجليد.. وأيضاً هناك بعضُ أنواع الطيور المهاجرة من قارةٍ إلى قارة، قد تستغرق رحلاتها عدة أسابيع دون توقف ليل نهار، وبدون أن يتخلل تلك المدّة أية فترة لتناول الطعام؛ أليس رب العالمين هو المتكفل بها؟!.. فإنْ كان الله عز وجل يتكفل بالحيوانات والطيور والحشرات؛ فكيفَ بخليفة الله في الأرض؟ وكيفَ بالفاسق المحتاج؟ وكيف بالمؤمن؟
فإذن، إن القانون الأول هو الاعتقاد برازقية الله عزَ وجل، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (كان فيما وعظ لقمان ابنه أنه قال: يا بني!.. ليعتبر من قصر يقينه، وضعف تعبه في طلب الرزق، أنّ الله تعالى خلقه في ثلاثة أحوالٍ من أمره، وأتاه رزقه، ولم يكن له في واحدةٍ منها كسبٌ ولا حيلةٌ أنّ الله سيرزقه في الحال الرابعة.. أما أول ذلك: فإنه كان في رحم أمه، يرزقه هناك في قرارٍ مكين، حيث لا برد يؤذيه ولا حرّ.. ثم أخرجه من ذلك، وأجرى له من لبن أمه ما يربّيه من غير حولٍ به ولا قوة.. ثم فُطم من ذلك، فأجرى له من كسب أبويه برأفة ورحمة من تلويهما.. حتى إذا كبر وعقل واكتسب لنفسه، ضاق به أمره؛ فظنّ الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله مخافة الفقر).
2. طلب الكفاف: إن هناك قاعدة عامة لمن يتمنى زيادة في الرزق، هذهِ القاعدة هي عبارة عن الحديث النبوي القائل: (إنَّ ما قلَّ وكفى؛ خيرٌ مما كَثُرَ وألهى)!.. فالإنسان المؤمن يسأل ربه أن يرزقه ما يعينه على طاعته؛ لأن هدفه الأساسي هو الوصول إلى ربه، لذا فهو يطلب الرزق بمقدار ما يوصله إلى الهدف.
مثلاً: لو أنَ إنساناً لهُ دابة، ويُريد أن يحمل عليها ثقلاً لينقله من مكان إلى مكان، هذا الإنسان إنْ جعل نصف الحمولة وقوداً والنصف الآخر بضاعة؛ فهو إنسان غير عاقل؛ لأنه يجب أن يعطي الأولوية للبضاعة، فيأخذ من الوقود فقط الكمية التي توصله إلى مقصده!.. المؤمن كذلك؛ يقول: يا رب، أنا عندي بضاعة، وهذه البضاعة هي التقوى، فـ(خيرُ الزاد التقوى)!.. ولكن يا رب أريدُ: طعاماً، وشراباً، ومسكناً، وملبساً، ودابةً؛ فأعطني بمقدار ما يُبلغني للهدف!
ومن هنا فإن العمل الوظيفي خير للمؤمن الذي يحب أن يتفرغ لآخرته من العمل التجاري؛ لأن التجارة قد تذهب برأس مال الإنسان الأخروي.. أما العمل الوظيفي؛ فإن الإنسان يذهب إلى وظيفته صباحاً، ويعود ظهراً قرير العين، وفي نهاية الشهر يستلم راتبه.. وبمجرد خروجه من العمل ينسى الدائرة وما فيها، بخلاف التاجر: وهو في المنزل وفكره في: المستودعات؛ خوفاً من الحريق.. وفي البورصات؛ خوفاً من ارتفاع الأسعار.. وفي المكتب؛ خوفاً من خيانة الموظفين.. وفي الدوائر الحكومية؛ خوفاً من الضرائب.. لذا فهو يعيش حالة القلق دائماً!.. ولكن -معَ الأسف- بعض الموظفين، لا يكسبُ لآخرتهِ شيئاً، بل يمضي وقته في المنزل: بينَ طعامٍ وشرابٍ ومنامٍ وتلفاز.. هذا هو شأنه من رجوعهِ إلى المنزل، وحتى عودته إلى العمل في اليوم التالي، رغم أنه ليسَ هناك ما يشغله! فأينَ الثقافةَ والتعلم والمطالعة الهادفة؟ وأينَ الزاد للآخرة: العبادة، والمسجد، وصلوات الجماعة؟ هذا الإنسان لا عُذرَ له، فهو لديه الكثير من ساعات الفراغ! أما التاجر فقد يكون له عذره؛ لأنه مشغول بتجارته صباحاً ومساءً.
أما إذا كان الإنسان على مستوى الأبطال: واثقاً من نفسه، لا تلهيه الدُنيا، ولا تفتنه، ويعمل بقوله تعالى: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ -علماً أن نوادر البشر فقط هم من مصاديق هذه الآية- فليذهب للتجارة حيث يكون سيد نفسه: ليسَ هناك من رقيب عليه ولا حسيب، وليسَ هناك من شُبهة التهرب من الدوام في الوظيفة، وبإمكانه أن يسافر إلى بلاد الزيارة أينما شاء ومتى شاء، والأفضل من هذا كله أنه يستطيع أن يساعد من يحب!