ما رواه سليم بن قيس الهلاليّ في [كتابه ص249]، عن عبد الله بن عبّاس قال: « توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم توفي، فلم يوضع في حفرته حتّى نكث الناس وارتدّوا وأجمعوا على الخلاف، واشتغل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته، ثمّ أقبل على تأليف القرآن، وشغل عنهم بوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن همّته الملك؛ لما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره عن القوم، فافتتن الناس بالذين افتتنوا به من الرجلين، فلم يبقَ إلا عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير. فقال عمر لأبي بكر: يا هذا، إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته، فأقسم عليه فجلس، ثم قال: يا قنفذ، انطلق فقل له: أجب أبا بكر، فأقل قنفذ فقال: يا علي، أجب أبا بكر، فقال علي (عليه السلام)، إني لفي شغل عنه، وما كنت بالذي أترك وصية خليلي وأخي وأنطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور. فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر، فوثب عمر غضبان، فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً، ثم أقل حتى انتهى إلى باب علي، وفاطمة (عليهما السلام) قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)... إلى آخره ». ومنها: ما رواه الطبريّ الإماميّ في [المسترشد ص381] عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: « لمّا خرج أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) من منزله، خرجت فاطمة (عليه السلام) والهة، فما بقيت امرأة هاشمية إلّا خرجت معها حتى انتهت من القبر، فقالت: خلوا عن ابن عمي، فوالذي بعث محمداً بالحق لئن لم تخلوا عنه، لأنشرن شعري، ولأضعن قميص رسول الله ت الذي كان عليه حين خرجت نفسه ـ على رأسي، ولأصرخن إلى الله، فما صالح بأكرم على الله من ابن عمي، ولا الناقة بأكرم على الله مني، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي ». نعم، انتهز الغاصبون فرصة اشتغال أمير المؤمنين (عليه السلام) بتجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وغصبوا الخلافة وأخذوا البيعة من المسلمين.
وقد جاء في كتاب [الهجوم على بيت فاطمة ص484ـ 485]: « وأمّا ما توهّمه بعض الناس من وقوع الهجوم حين اشتغالهم بتجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فيرد عليه:
أوّلاً: تصريح ما ورد في الهجوم الأوّل بكونه بعد دفن النبيّ (صلى الله عليه وآله) [الاحتجاج ص73].
ثانياً: احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على القوم في الهجوم الأوّل بقوله: « أفكنت أدع رسول الله مسجّى لا أواريه وأخرج أنازع سلطانه؟». [الاحتجاج ص74]
ثالثاً: الروايات الدالة على اشتغاله (عليه السلام) حين الهجوم بجمع القرآن.
رابعاً: التصريح بمضيّ أيام في بعض الروايات. [الاحتجاج ص80] ».
وثانياً: وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدار، وتكليم الزهراء (عليها السلام) العصابة:
إنّ النصوص الواردة في حادثة الهجوم على الدار تدل على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان داخل البيت آنذاك لا خارجه، وأنّ السيدة الزهراء (عليها السلام) كان قاعدة خلف الباب عند مجيء العصابة إلى عند الباب، فلمّا اقبلوا أغلقت الباب في وجوههم، فطلبوا منها فتح الباب لإخراج أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأبَتْ ذلك عليهم وخوّفتهم وأنذرتهم، لكن القوم كانت همّتهم أخذ البيعة ولو بقتل أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وإفناء سلالته الطاهرة، فهجموا على الدار وكسروا الباب، وضربوا البضعة الطاهرة (عليها السلام) وفعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة والفظائع الشنيعة، فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخذ بتلابيب عمر وصرعه وهمّ بقتله، فذكر وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقبل عمر يستغيث.
فالفترة الزمنية ما بين كلام الزهراء (عليها السلام) معهم وبين هجومهم وفعلهم الشنائع لم تكن فترة طويلة، بل وقع الهجوم بعد الكلام مباشرة، كما أنّ مدة الحادثة لم تكن طويلة، بل قصيرة جداً، وسرعان ما خرج الإمام (عليه السلام) ووضع الرداء على الزهراء (عليها السلام)، ولنذكر بعض الروايات الواردة:
منها: ما رواه سليم بن قيس الهلالي في [كتابه ص250] عن عبد الله بن عباس قال: « فوثب عمر غضبان، فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً، فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب عليّ، وفاطمة (عليها السلام) قاعدة خلف الباب قد عصّبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقبل عمر حتى ضرب الباب، ثم نادى: يا ابن أبي طالب، افتح الباب، فقلت فاطمة (عليها السلام): يا عمر، ما لنا ولك، لا تدعنا وما نحن فيه؟ قال: افتحي الباب وإلّا أحرقنا عليكم، فقال: يا عمر، أما تتقي الله عز وجل تدخل على بيتي وتهجم على داري؟ فأبى أن ينصرف، ثم عاد عمر بالنار، فأضرمها في الباب، فأحرق الباب، ثم دفعه عمر، فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وصاحت: يا أبتاه، يا رسول الله، فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت، فرفع السوط فضرب به ذراعها، فصاحت: يا أبتاه، فوثب علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ بتلابيب عمر، ثم هزّه فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهم بقتله، فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصى به من الصبر والطاعة، فقال: والذي أكرم محمداً بالنبوة ـ يا ابن الصهاك ـ لولا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي، فأرسل عمر يستغيث.. إلى آخره ».
ومنها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص82 وما بعده] عن سلمان الفارسي قال: « فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء؟ ثم أمر أناساً حوله بتحصيل الحطب وحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي (عليه السلام) ـ وفيه علي وفاطمة وابناهما ـ، ثم نادى عمر حتى أسمع علياً وفاطمة: والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك النار، فقامت فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: يا عمر، أما تتقي الله تدخل على بيتي؟ فأبى أن ينصرف ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل، فاستقبله فاطمة (عليها السلام) وصاحت: يا أبتاه يا رسول الله، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت: يا أبتاه، فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر، فوثب علي (عليه السلام) فأخذ بتلابيبه فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمّ بقتله، فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصاه به، فقال: والذي كرّم محمداً بالنبوة ـ يا ابن الصهاك ـ، لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلمت أنك لا تدخل بيتي، فأرسل عمر يستغيث، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار.. إلى آخره ».
ومنها: ما رواه العياشي في [التفسير ج2 ص66ـ68]عن أبي المقدام عن أبيه، قال: « .. فقام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وقنفذ وقمت معهم، فلمّا انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة (صلوات الله عليها) أغلقت الباب في وجوههم، وهي لا تشكّ أن لا يُدخَل عليها إلّا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله فكسره، وكان من سعف، ثم دخلوا فأخرجوا علياً (عليه السلام) ملبّباً... إلى آخره ».
أقول: هذه النصوص وغيرها واضحة أنّ الزهراء (عليها السلام) كانت وراء الباب عند مجيء العصابة إلى الدار، وأنّها أغلقت الباب بوجوههم عند مجيئهم، لا أنّها فتحت الباب وخرجت لهم، ولو افترضنا أنّها كانت داخل البيت وجاءت لتكلمهم دون أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهذا هو المناسب؛ إذ إنّ القوم يريدون أن يأخذوا أمير المؤمنين (عليه السلام) لأخذ البيعة منه، فهو طرف في القضية، ومجيء الزهراء (عليها السلام) للكلام معهم إنّما هو للحيلولة دون وقوع ذلك؛ لأنّها ابنة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبضعته ومكانتها لا تخفى على أحد، فكلامها مع القوم يكون أكثر تأثيراً وأقوى حجّةً، وفي رواية متقدمة: (وهي لا تشكّ أن لا يُدخَل عليها إلّا بإذنها)، لعظمة مكانتها في الإسلام، بل حتى أن بعضهم قال لعمر عند إرادته إحراق الباب: (إن في البيت فاطمة)، وذلك لترسّخ مكانتها وحرمتها في وجدان المسلمين، لكن عمر قال: (وإنْ)، استخفافاً منه بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونجد الزهراء (عليها السلام) تصرّ على تنبيههم أنّها ابنة النبيّ، وأنّها بضعته وفلذة كبده، وأنّ حرمتها حرمة رسول الله، ليرتدع القوم ويخافوا ويتّقوا، لكن عميت بصائر القوم وصمّت آذانهم، فهجموا على الباب وكسروه وعصروا البضعة الطاهرة بين الباب والجدار.
ثمّ إنّ في بعض الروايات أنّها كانت بلا خمار حينئذٍ؛ لأنّها في بيتها، ومن الطبيعيّ أن لا تتستّر المرأة وهي في بيتها، يقول سليم: « قلت لسلمان: أدخلوا على فاطمة بغير إذن؟ قال: إي والله، وما عليها خمار، فنادت: يا أبتاه، يا رسول الله، فلبئس ما خلّفك أبو بكر وعمر... الخبر »، بل إنّها (عليها السلام) بيّنت للقوم وذكرت لهم أنّها حاسرة، وذلك إعظاماً للأمر عليهم ليرتدعوا ولا يهتكوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد روى إبراهيم الثقفيّ عن زائدة بن قدامة: « وعاد إلى الباب واستأذن، فقالت فاطمة (عليها السلام): عليك بالله إنْ كنت تؤمن بالله أن تدخل بيتي، فإنّي حاسرة، فلم يلتفت إليها مقالها وهجم، فصاحت: يا أبه، ما لقينا بعدك من أبي بكر وعمر.. »، وقد روى ابن طاوس في [الطرف ص19] عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: « ألا إنّ فاطمة بابها بابي، وبيتها بيتي، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ر، قال الراوي: فبكى أبو الحسن [الكاظم] (عليه السلام) طويلاً، وقال: « هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله يا أمّه »، فما أشنع صنيع القوم، يعلمون أنّ بضعة النبيّ حسرى بلا خمار ويهجمون على بابها! فما أجرأهم على الله وعلى رسوله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القوم لم يهجموا على البيت مرة واحدة، بل كان ذلك أكثر من مرة، لكن لم يجسروا على كسر الباب وضرب الزهراء وارتكاب الفظائع إلا في الهجمة الأخيرة، فإنّهم في المرات السابقة عليها كانوا يأتون ويتكلمون ثم يرحلون خائبين، إلى أن جاء رأسهم وجرّأهم على الزهراء (عليها السلام) بكسر الباب وإضرام النار، ففعلوا حينئذٍ ما فعلوا مما هو منقول ومعروف.
ثمّ لمّا كسروا الباب وثب أمير المؤمنين (عليه السلام) كالأسد من داخل البيت، إذ كان دخولهم البيت فجأة وبغتة، فأخذ بتلابيب عمر وهمّ بقتله، لكن ذكر وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فما قتله.
وهنا أظهر الإمام (عليه السلام) مدى انقياده وإطاعته لله ولرسوله بحفظ الوصية والعمل بها، فإنّ التهوّر والتسرّع رذيلة، والفضيلة تكون بالصبر والتحمّل، وقد كانت آثار إيجابيّة عظيمة متوقّفة على صبر الإمام (عليه السلام) وسكوته وتحمّله الأذى وعدم رفعه راية الجهاد على القوم، مع ما في الصبر من المشقة العظيمة.
وقبل بيان بعض هذه الأمور، يجب أن يُعلَمأوّلاً: أنّ الإمام (عليه السلام) معصوم مطهّر، مع أنّه عالم حكيم لا يفعل إلّا ما فيه حكمة وعلّة موجبة له، فلا بدّ أن يكون لفعله وجه راجح، وبدورنا يجب علينا التسليم له وقبول تصرّفاته جميعها؛ إذ المعصوم لا يفعل إلّا الصواب، ولا ينطق إلّا الصدق، وفي أفعاله وسكناته مصالح راجحة، سواء أدركنا وجهها أو لا، هذا هو تكليفنا تجاه تصرّفات المعصوم (عليه السلام).
وثانياً: إنّ لكلّ واحد من الأئمّة (عليهم السلام) تكاليف خاصّة من الله تبارك وتعالى، نزل بها جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وسلّمها لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ سلّمها لابنه الحسن (عليه السلام) وهكذا إلى سائر الأئمّة (عليهم السلام).
وقد عقد الشيخ الكلينيّ لهذا باباً في كتابه [الكافي ج1 ص279] بعنوان (باب أنّ الأئمّة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً إلّا بعهد من الله عزّ وجلّ وأمر منه لا يتجاوزونه) ونقل فيه عدّة روايات..
منها: ما رواه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « إنّ الله (عز وجل) أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله) كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمد، هذه وصيتك إلى النجبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل؟ فقال: علي بن أبي طالب وولده (عليهم السلام)، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأمره أن يفك خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففك أمير المؤمنين (عليه السلام) خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، ففك خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام)، ففك خاتماً فوجد فيه: أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلا معك واشر نفسك لله (عز وجل)، ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ففك خاتماً فوجد فيه: أن أطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمّد بن علي... إلى آخره ».
ومنها: ما رواه عن عيسى بن المستفاد الضرير، عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، عن أبيه الصادق (عليه السلام) قال: « نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلاً، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصيك، ليقبضها منا وتشهدنا بدفعك إياها إليه ضامنا لها - يعني علياً (عليه السلام) -، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإخراج من كان في البيت ما خلا عليا (عليه السلام)، وفاطمة فيما بين الستر والباب، فقال جبرئيل: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي ـ يا محمد ـ شهيداً، قال: فارتعدت مفاصل النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا جبرئيل ربي هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام، صدق عز وجل وبر، هات الكتاب، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: أقرأه، فقرأه حرفاً حرفاً، فقال: يا علي، هذا عهد ربي تبارك وتعالى إليّ شرطه علي وأمانته وقد بلغت ونصحت وأديت، فقال علي (عليه السلام): وأنا أشهد لك ـ بأبي وأمي أنت ـ بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلت ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي، فقال جبرئيل (عليه السلام): وأنا لكما على ذلك من الشاهدين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، أخذت وصيتي وعرفتها وضمنت لله ولي الوفاء بما فيها، فقال علي (عليه السلام): نعم ـ بأبي أنت وأمي ـ علي ضمانها وعلي الله عوني وتوفيقي على أدائها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي إني أريد أن أشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة، فقال علي (عليه السلام): نعم أشهد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم عليك، فقال: نعم، ليشهدوا وأنا - بأبي أنت وأمي - أشهدهم، فأشهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان فيما اشترط عليه النبي بأمر جبرئيل (عليه السلام) فيما أمر الله عز وجل أن قال له: يا علي، تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم على الصبر منك وعلى كظم الغيظ وعلى ذهاب حقك وغصب خمسك وانتهاك حرمتك؟ فقال: نعم يا رسول الله، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد سمعت جبرئيل (عليه السلام) يقول للنبي: يا محمد عرفه أنه ينتهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي، وقلت: نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومزق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط صابراً محتسباً أبداً حتى أقدم عليك، ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة والحسن والحسين وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين، فقالوا مثل قوله فختمت الوصية بخواتيم من ذهب، لم تمسه النار، ودفعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): بأبي أنت وأمي، ألا تذكر ما كان في الوصية؟ فقال: سنن الله وسنن رسوله، فقلت : أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقال: نعم والله شيئاً شيئاً، وحرفاً حرفاً، أما سمعت قول الله عز وجل: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}؟ والله لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام): أليس قد فهمتما ما تقدمت به إليكما وقبلتماه؟ فقالا: بلى، وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا »، انتهى.
إذن: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ إضافة إلى علمه وعصمته ـ مأموراً مكلّفاً بتكاليف خاصّة من الله تبارك وتعالى، بلزوم الصبر على المشاق وتحمّل الأذى ولو على انتهاك الحرمة.
ولنذكر الآن بعض الآثار المترتبة على سكوت الإمام (عليه السلام) وصبره وتحمّله على ما حصل:الأمر الأوّل: حفظ الدين وحفظ الإسلام وحفظ عقائد الإنسان وإبقاؤهم على ظاهر الإسلام، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمره بالسكوت ونهاه عن القيام مع عدم المعين لئلّا ينهدم الدين برأسه ويخرب البنيان من أسّه فلا يبقى منه شيء، وقد صرّحت بذلك جملة من الروايات:
منها: ما رواه الشيخ الكلينيّ في [الكافي ج8 ص295] بالإسناد عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: « إنّ الناس لمّا صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر، لم يمنع أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن يدعو إلى نفسه إلّا نظراً للناس وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الإسلام، فيعبدوا الأوثان، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وكان الأحبّ إليه أن يقرّهم على ما صنعوا من أن يرتدّوا عن الإسلام ».
ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في [علل الشرائع ج1 ص149] عن علي بن حاتم بإسناده عن زرارة قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما منع أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يدعو الناس إلى نفسه؟ قال: خوفاً من أن يرتدّوا » قال علي بن حاتم: وأحسب في الحديث: « ولا يشهدوا أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) رسول الله ».
ومنها: ما رواه الصدوق أيضاً في [علل الشرائع ج1 ص150] بالإسناد عن بعض أصحابنا، قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لِمَ كفّ عليّ (عليه السلام) عن القوم؟ قال: مخافة أن يرجعوا كفّاراً ».
ومنها: ما نقله سليم بن قيس في [كتابه ص305] عن أمير المؤمنين (عليه السلام): « .. ثم قال (صلى الله عليه وآله): .. واعلم أنك إن لم تكف يدك وتحقن دمك إذا لم تجد أعوانا أتخوف عليك أن يرجع الناس إلى عبادة الأصنام والجحود بأني رسول الله ، فاستظهر الحجة عليهم وادعهم ليهلك الناصبون لك والباغون عليك ويسلم العامة والخاصة . فإذا وجدت يوما أعوانا على إقامة الكتاب والسنة فقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.. ».
ومنها: ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزليّ في [شرح نهج البلاغة ج20 ص326]: « لامته فاطمة (عليها السلام) على قعوده وأطالت تعنيفه، وهو ساكت حتى أذن المؤذن، فلما بلغ إلى قوله: (أشهد أن محمدا رسول الله)، قال لها: أتحبين أن تزول هذه الدعوة من الدنيا؟ قالت: لا، قال: فهو ما أقول لك ».
أقول: لا يخفى على المؤمنين أنّ كلام السيّدة الزهراء (عليها السلام) ليس لوماً حقيقياً؛ إذ إنّها (عليها السلام) تعلم يقيناً أنّ تكليف الإمام (عليه السلام) هو السكوت والقعود مع قلّة الأعوان والأنصار، وإنّما هو لوم صوريّ ظاهريّ، ليُعلم وجه سكوت مولانا (عليه السلام)، ومن باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو تحريض وملامة للأمّة حقيقة لا للإمام (عليه السلام)، كما جاءت آيات قرآنيّة ظاهرها أنّها تلوم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بينما اللوم حقيقة للأمّة لا له (صلى الله عليه وآله).
الأمر الثاني: حفظ الأمة من التفرقة: فإنّ قيامَ الإمام (عليه السلام) بالسيف مع قلّة الأنصار سيتسبّب في إيجاد التفرقة بين المسلمين واختلال أمورهم بحيث يطمع الكفّار والمشركون فيهم، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلماته:
منها: ما ذكره في كتاب له (عليه السلام) في جواب معاوية: « وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني في الوقت الذي بايع الناس فيه أبا بكر، فقال لي: أنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك، وأنا يدك على من خالفك، وإنْ شئت لأملأنّ المدينة خيلاً ورجلاً على ابن أبي قحافة... فلم أقبل ذلك، والله يعلم أنّ أباك قد فعل ذلك فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام » [بحار الأنوار ج29 ص632].
منها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص215] عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال ـ في جواب سؤال الأشعث بن قيس ـ: « .. وأخبرني (صلى الله عليه وآله) أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له موسى: {يا هارون، ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}، وقال: {يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}، وإنما يعني: إن موسى أمر هارون - حين استخلفه عليهم - إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم، وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمَ فرّقت بين الأمة ولم ترقب قولي، وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك؟ ».
الأمر الثالث: حفظ الودائع المؤمنة في الأصلاب الكافرة، فإنّ الله تعالى قدّر أن يولد بعض المؤمنين من أصلاب الكافرين، والإمام (عليه السلام) يلاحظ هذه القضية عند إرادته الإجهاز على شخص ما، وقد جاءت جملة من الروايات تبيّن أنّ هذه القضية كانت من الأمور التي منعت أمير المؤمنين (عليه السلام) من عدم رفع السيف على القوم الظالمين..
منها: ما رواه الشيخ الصدوق في [علل الشرائع ج1 ص147] بالإسناد عن محمد بن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « قلت له: ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل فلاناً وفلاناً وفلاناً؟ قال: لآية في كتاب الله عز وجل: {لو تزيلوا لعذابنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عليه السلام) لن يظهر أبداً حتى تخرج ودائع الله تعالى، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله فقتلهم ».
ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في [علل الشرائع ج1 ص147] بالإسناد عن إبراهيم الكرخي قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ـ أو قال له رجل ـ: أصلحك الله، ألم يكن علي (عليه السلام) قوياً في دين الله عز وجل؟ قال: بلى، قال: فكيف ظهر عليه القوم؟ وكيف لم يدفعهم؟ وما منعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل منعته، قال: قلت: وأي آية؟ قال: قوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} إنه كان لله عز وجل ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن علي (عليه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرج الودائع ظهر عليّ على من ظهر فقاتله، وكذلك قائماً أهل البيت لن يظهر ابدا حتى تظهر ودائع الله عز وجل فإذا ظهرت ظهر على من ظهر فقتله ».
الأمر الرابع: حفظ نفس الإمام، وحفظ سلالة النبي (صلى الله عليه وآله)؛ إذ من الواضح أنّ الإمام (عليه السلام) لو أراد أن يواجه القوم ويحاربهم ـ مع قلّة الناصر ـ لقتلوه وقتلوا معه أنصاره وأهل بيته (عليهم السلام)، وهذا غاية آمال الخليفة وأعوانه، فيضيع بذلك جميع ما تحمّله النبي (صلى الله عليه وآله) في إقامة الدين.
والروايات الواردة في وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله) بلزوم حفظ نفسه كثيرة قد مرّ ذكر بعضها، ومنها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص215] عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال ـ في جواب سؤال الأشعث بن قيس ـ: « .. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمَ فرّقت بين الأمة ولم ترقب قولي، وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك؟ ».
ومنها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص134] عن سلمان المحمديّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: « قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل؟ فقال لك: إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً فبايع واحقن دمك، فقال علي (عليه السلام) [وخطابه موجه لأبي بكر وعمر وأعوانهما]: أما والله، لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله، ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة ».
ولو قلتَ: لماذا لم يصدر من أمير المؤمنين (عليه السلام) آنذاك أمراً إعجازياً خارقاً للعادة، فيقاتلهم بما له من قدرة تكوينيّة ولو مع قلّة الأنصار؟
قلت: الإمام (عليه السلام) كالنبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يستعمل الأمور الخارقة للعادة إلّا بموارد محدودة معيّنة، فالمعصومون (عليهم السلام) لم يكونوا مأمورين بالإعجاز في جميع أمورهم، بل فيما أذن الله لهم، وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يصبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ويتجرّع مرارة ما جرى، كما شاء أن يستشهد سيّد الشهداء (عليه السلام) بكربلاء دون أن يستعمل ولايته التكوينيّة، كما شاء أن يستشهد كثير من الأنبياء ويذوقوا مرارة العذاب والقتل دون أن يستعملوا ولايتهم التكوينيّة، مع ملاحظة أنّ مرارة التحمل والصبر تزداد فيما لو كان الإنسان قادراً على ردّ الاعتداء ولو بطريق إعجازيّ، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية إلى صعوبة الحال عليه بقوله: « .. فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى.. »، وقال (عليه السلام): « فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمرّ من طعم العلقم »، فسلام الله عليه ما أعظم صبره.
نكتفي بهذا المقدار، والكلام في ذلك طويل الذيل لا يمكننا قضاء الوطر منه في هذا المقام.
والحمد لله رب العالمين.