وقد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه عليه السلام قال: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ـ إلى أن قال ـ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) : الصافات : ١٠٥.
ومنها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف عليه السلام: «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ»: يوسف : ٤.
ومنها رؤيا صاحبي يوسف في السجن: «قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » : يوسف : ٣٦.
ومنها رؤيا الملك: «وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ»: يوسف: ٤٣.
ومنها رؤيا أم موسى قال تعالى : « إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ » : طه : ٣٩ على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.
ومنها ما ذكر من رؤي رسول الله صلىاللهعليه وآله قال تعالى : « إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ » : الأنفال : ٤٣ ، وقال : « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ » : الفتح : ٢٧ وقال : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ » : الإسراء : ٦٠.
وقد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي صلىاللهعليهوآله وأئمة أهل البيت عليهالسلام تصدق ذلك وتؤيده.
لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة ولا للبحث عن شأنها وارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها ، واحتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق والصدفة ، وهي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك ، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.
٢ ـ وللرؤيا حقيقة. ما منا واحد إلا وقد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى والمنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل ، ولا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق وانتفاء أي رابطة بينها وبين ما ينطبق عليها من التأويل. وخاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.
نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي وللخيال فيها عمل ، والمتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس والسمع ، وربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور والمعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس ويد ورجل وغير ذلك وتركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه وأعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج وربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رءوس.
وبالجملة للأسباب والعوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر والبرد ونحوها والداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض والعاهات وانحرافات المزاج وامتلاء المعدة والتعب وغيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.
فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء والجمد ونزول الثلوج ، وأن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام وبركان الماء ونزول الأمطار ونحو ذلك ، وأن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.
وكذلك الأخلاق والسجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك بتخيله في يقظته ويراه في نومته والضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية ، وكذلك البغض والعداوة والعجب والكبر والطمع ونظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه وتلائمه ، وقل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.
ولذلك كان أغلب الرؤى والمنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجية والداخلية الطبيعية والخلقية ونحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب وأثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.
وهذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.
ومن المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة وهو غير المدعى وهو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة ورؤيا صادقة تكشف عن حقائق ولا سبيل إلى إنكارها ونفي الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجية والأمور المستكشفة كما تقدم.
فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام وهي المسماة بالرؤى لها أصول وأسباب تستدعي وجودها للنفس وظهورها للخيال وهي على اختلافها تحكي وتمثل بأصولها وأسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل وتعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، وتأويل بعضها السبب الخلقي وبعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم وهو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.
وإنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات ، وهي الرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية ، أو مزاجية أو اتفاقية ولا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك ، ولها ارتباط بالحوادث الخارجية. والحقائق الكونية.
٣ ـ المنامات الحقة. المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية وخاصة المستقبلية منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى. ولا معنى للارتباط الوجودي بين موجود ومعدوم ، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا ومن الفضة كذا في وعاء صفته كذا وكذا ثم مضى إليه وحفر كما دل عليه فوجده كما رأى ، ولا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس وبين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.
ولذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة ومن طريق سببها بنفسها.
توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة : عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل.
وثانيها : عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجودا ، وفيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة وإليها تعود ، وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.
وثالثها : عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجودا وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة ، وله نسبة السببية لما في عالم المثال.
والنفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا نام الإنسان وتعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والإمكان.
فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها واستحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية ، وإلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور والأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة ، ونحكي مفهوم العظمة بالجبل ، ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فيها من الأجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب والشجاع بالأسد إلى غير ذلك.
وإن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها من غير أن تتصرف فيها بشيء من التغيير ، ويتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق والصفاء ، وهذه هي المنامات الصريحة.
وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء والتلبس ، والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت ، وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى وانتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت وهكذا ، ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال : إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.
وقد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة ، ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده ، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار ، ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.
ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كان تنتقل مثلا من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود ، وهذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.
وقد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: وهي المنامات الصريحة ولاتعبير لها لعدم الحاجة إليه ، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فيها لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير.
هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا واستقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.
٤ ـ وفي القرآن ما يؤيد ذلك ـ : قال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ » : الأنعام : ٦٠ ، وقال : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى » : الزمر : ٤٢ وظاهره أن النفوس متوفاة ومأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت.
وقد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم عليه السلام ورؤيا أم موسى وبعض رؤي النبي صلى الله عليه وآله ، ومن القسم الثاني ما في قوله تعالى : « قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ » الآية : يوسف : ٤٤ ومن القسم الثالث رؤيا يوسف ومناما صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.