فلو اخذنا الدول والنظم السياسية كمثال نجد أنها تعتمد في تشريعاتها على اللوائح والقوانين الصادرة عن البرلمان الذي تم تفويضه من قبل الشعب، وبذلك يصبح البرلمان وما يتصل به من دوائر ونظم هو المصدر الوحيد لتشريعات الدولة.
وما هو معلوم بالضرورة لدى المسلمين أن الله تعالى وحده صاحب الحق في التشريع، وما جاء عن طريق الأنبياء والرسل يمثل الطريق الحصري لمعرفة تلك التشريعات، وقد انحصرت تلك التشريعات في الإسلام بوصفه الرسالة الخاتمة.
ومن هنا أجمعت الامة الإسلامية على أن القرآن والسنة هما مصدرا التشريع الإسلامي.
ومع وضوح هذا الأمر نجد أن البعض اجتهد في ادخال مصادر أخرى للتشريع غير القرآن والسنة مثل القياس والاستحسان وبقية الأصول الظنية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، وفي ذلك تجاوز واضح على حق الله في التشريع.
وفي إجابة سابقة حول الاجتهاد الشيعي والاجتهاد السني بينا الفوارق بين مصادر التشريع بين الطرفين، وقد قلنا إن الشيعة لم يحتاجوا إلى إعمال النظر لاستنباط الاحكام الشرعية خارج حدود القرآن والسنة، وبذلك أصبحت مصادر التشريع الأساسية عند الشيعة هي القرآن والسنة.
ولم يثبت عندهم الاجماع كمصدر من مصادر التشريع إلا إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم.
أما العقل وإن جعل مصدراً ثالثاً بعد القرآن والسنة إلا أنهم لم يحتاجوا إليه عملياً في استنباط الاحكام الشرعية، وكل ما هو موجود هو مناقشته أصولياً في باب الملازمات العقلية.
وقد أشار الشهيد الصدر لهذه الحقيقة في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة، حيث قال: (ونرى من الضروري ان نشير أخيرا بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدنا بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة بامتدادها المتمثل في سنة الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم أحد الثقلين الذين امر النبي (ص) بالتمسك بهما ولم نعتمد في شيء من هذه الفتاوى على غير هذين المصدرين.
اما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغا شرعيا للاعتماد عليها تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام.
واما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وان كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به ولكنا لم نجد حكما واحدا يتوقف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة، واما ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنة ولا يعتمد عليه الا من اجل كونه وسيلة اثبات للسنة في بعض الحالات، وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة ونبتهل إلى الله تعالى ان يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) (الفتاوى الواضحة، ج1، ص 15).
والذي يرجع للموسوعات الاستدلالية لفقهاء الشيعة سوف يقف على حضور النصوص في كل بحوثهم الفقهية.
وفي حال عدم وجود النص في المسألة فإن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بينوا الأصول التي يتم الرجوع إليها، وتسمى هذه الأصول بالأصول العملية لأنها تكشف عن الموقف العملي في حال لم يكن في الموضوع نص شرعي، مثل الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، وغيرها، وقد بين الأصوليون الشيعة أن حجية تلك الأصول ليس في كشفها عن الواقع وإنما في نفس طريقيتها المجعولة من قبل الشارع، فينحصر مؤداها في المنجزية والمعذرية.
فاستنباط الأحكام الشرعية يجب أن يقوم على منهجيات يحددها الشرع بنفسه، فليست كل منهجية أبدعتها العقلية البشرية تكون صالحة في ذلك، وبخاصة الطرق ذات المؤدى الظني.
لأن حجية الدليل إما أن تكون ذاتية، فلا تحتاج إلى جعل الجاعل، وهي تختص بخصوص العلم الكاشف عن الواقع، فليس بعد كشفه والتعرف عليه شيء، فتكون الحجية حينئذ من اللوازم العقلية التي لا تنفك عنه.
وإما أن تكون الحجة مجعولة؛ وهي التي لا تنهض بنفسها في مقام الاحتجاج، بل تحتاج إلى من يسندها من دليل عقلي أو شرعي، يقول السيد محمد تقي الحكيم: (وهي إنما تتعلق فيما عدا العلم بالأمارات والأصول إحرازية أو غير إحرازية، أي فيما ثبتت له الطريقية الناقصة التي لا تكشف عن الواقع إلا في حدودٍ ما، أو لم تثبت له لعدم كشفه عنه) (أصول الفقه المقارن ص 32).
ولعدم تمامية هذه الأصول لكشف الواقع لا يمكن أن تصلح طريقاً لمعرفة أحكام الله إلا في حالة وجود سند شرعي أو دليل عقلي قطعي أمر باتباعها، يقول السيد الحكيم: (ومع كون الأمارات أو الأصول لا تملك الحجية الذاتية بداهة، فهي محتاجة إلى الانتهاء إلى ما يملكها، وليس هناك غير القطع، بجعل الحجية لها من قبل من بيده أمر وضعها ورفعها) (أصول الفقه المقارن ص 32).
وبهذا نرفع اليد عن العمل بأي طريق لا يكون حجة بذاته أو اكتسب الحجية بدعم الدليل القطعي بوجوب العمل به، وقد حذر الله سبحانه من العمل بالظن إلا ما أذن به، قال تعالى: ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.
وعليه فإن الضابط في الاجتهاد هو أن يكون قائماً على البحث عن الحكم الشرعي في الكتاب والسنة مستعيناً بالمناهج التي توجب أما القطع بحكم الله وأما الظن المعتمد شرعاً كما دلت عليه النصوص.