لقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن رب العالمين ومدبر أمور جميع العوالم هو الله، ونفت أن يكون هناك رب سواه أو مدبر غيره، أو أن يكون معه شريك في الربوبية والتدبير، ومما ورد في ذلك قوله عز وجل في الآية (54) من سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، ولأن الرب هو المالك المدبر لأمر ما يملك، افتتحت الآية بالتأكيد على أن الله هو (ربنا) لتثبت أنه تعالى المالك والمدبر لما خلق، وأكدت ذلك بذكرها استواء الله على العرش، الذي هو بمعنى الاستيلاء على عرش التدبير، وذكرت بعض مصاديق هذا التدبير، المتمثل في (غشيان الليل النهار وطلبه حثيثا، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره) لتؤكد بعد ذلك أن الخلق والتدبير كله له تعالى فقالت: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} والخلق متعلق بالإيجاد، والأمر مرتبط بالتدبير، لتحصر بذلك الخلق والتدبير فيه سبحانه، ثم تختم بقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} لتبيّن بركاته العظيمة على مربوبيه من جميع العوالم سواء بخلقهم أو بتدبير أمورهم بما يصلح شأنهم.
كما أثبتت العلوم الحديثة أن هذا العالم في غاية الإتقان والإحكام، وكشفت النقاب عن عظمة ووحدة النظام السائد فيه من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، مما يدل على أن مدبر أموره واحد، إذ لو كان هناك أكثر من مدبر لتعدد التدبير، ولاختل النظام، وفسدت الحياة، كما يقول سبحانه في الآية (22) من سورة الأنبياء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
والخلاصة: إن المدبر لجميع العوالم هو الله، وأما بشأن ما جاء في السؤال عن تفويضه تعالى التدبير إلى ملائكته، فهناك معنيان للتفويض، أحدهما مستحيل لامتناع تحققه من الأصل، والآخر ممكن، وهو المراد والموكل إلى الملائكة.
والتفويض الممتنع هو ما يعتقده الموحدون في (الخالقية) المشركون في (الربوبية) من أن الخالق واحد وهو الله، لكنه بعد أن خلق هذا الكون بما فيه من عوالم اعتزله عز وجل كليا، وفوّض أمر تدبيره إلى بعض خلقه، كالكواكب والجن والملائكة، ليقوموا هم بذلك على نحو الاستقلال.
والقول بالتفويض بهذا المعنى ترد عليه إشكالات كثيرة، منها ما يلي:
أولا- إن التدبير يقوم على الملكية، وقد أشرنا إلى أن الرب هو المالك المدبر لأمر مملوكه، وهنا لابد أن نشير إلى أن هذه الملكية تفيد الاختصاص وقيام المملوك بمالكه قياما يضمن بقائه ويصحح التصرف فيه، فمؤسستي قائمة بي لملكيتي لها، كما أن ملكيتي لها هي المصححة لتصرفي فيها، ولولا تلك الملكية وإلا لما أمكن لتلك المؤسسة أن تقوم، ولما أمكنني التصرف والإدارة، والملائكة لا يملكون هذا الكون ليكون قائما بهم، أو ليتمكنوا من إدارته وتدبيره على نحو الاستقلال، وليس فقط لا يملكون بل هم مملوكون للمالك لكل شيء وهو الله، مما يعني أنهم ليس فقط لا يدبرون، بل هم داخلون تحت تدبيره وإدارته، فهو سبحانه الذي يدبر أمورهم كما يدبر أمور غيرهم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما أشرنا إليه من هذه الملكية إنما هي ملكية وضعية اعتبارية قابلة للزوال والانتقال، فمؤسستي يمكن أن تنتهي وتزول، كما يمكن أن تنتقل لغيري سواء عن طريق الهبة أم البيع أم الوراثة، ولكن هناك ملكية حقيقية يكون وجود المملوك فيها متوقفا على وجود مالكه، واستمرار وجوده متوقفا على استمرار وجوده، كما لا يمكن أن ينفك فيها المملوك عن مالكه وإلا أدى ذلك إلى انتهائه وزواله، ومالكه هو الذي يتصرف فيه، ولا يمكن أن يفوّض أي أحد في التصرف نيابة عنه، كما هو الحال في ملكيتي لأعضاء بدني، التي وجودها متوقف على وجودي، وهي قائمة بي ولا يمكن أن تنفك عني، وأنا المتصرف فيها دون غيري، وملكية الله لهذا العالم ليست ملكية وضعية اعتبارية لتكون قابلة للزوال، أو الانتقال، أو تفويض التدبير إلى غيره سبحانه، وإنما هي ملكية حقيقية بموجبها تكون جميع العوالم كما هي مفتقرة في وجودها إلى موجدها، كذلك هي مفتقرة في استمرار وجودها إلى استمرار وجوده، وإلى عدم انفكاكها عنه وإلا عادت إلى الفناء والعدم، وما هو على هذه الصفة لا يمكن تفويض أمر تدبيره إلى غير مالكه، فكما أنه لا يمكن لغيري أن يدبر أمر بدني وأعضائي نيابة عني، كذلك لا يمكن لغير الله أن يقوم بتدبير أمر هذه العوالم نيابة عنه، ولهذا نرى القرآن الكريم دائما يؤكد على أن الله هو رب العالمين، وذلك ليؤكد ملكيته لهذه العوالم، وقيامه بتدبير أمورها دون غيره تعالى.
ثانيا: إن تدبير الله لهذا الكون ليس كتدبير الملك لمملكته، والمتمثل في اتخاذ القرارات، وإصدار الأوامر والنواهي، وإعطاء التوجيهات، فهذا النوع من التدبير وإن كان من ضمن التدبير الإلهي في القضايا التشريعية والتكاليف العبادية التي جعلها الله من أجل إصلاح البشر، إلا أن هناك تدبيرا فوق هذا التدبير، هو التدبير بمعنى استمرار إفاضة الخلق، وذلك لوجود الملازمة بين الخلق والتدبير، واستحالة التفكيك بينهما، فمثلا ليس تدبير أمر الإنسان إلا خلقه من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، ثم خلق العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاما، ثم كسو العظام لحما، ثم إنشائه خلقا آخر وجعله بشرا سويا، ثم توفّير كل مستلزمات حياته إلى أن يقضي عليه بالموت، ثم بعثه، ومحاسبته ومجازاته على أعماله، كما أشار إليه القرآن في الآيات (12-22) من سورة المؤمنون، وهذا هو التدبير الذي ليس في مقدور أحد القيام به غير الله تعالى، ولو استقصينا الآيات التي تتحدث عن الخلق والتدبير وتحصرهما في الله لخرجنا بكتاب كبير الحجم كثير الصفحات، مما يؤكد عدم صحة القول بتفويض التدبير إلى غيره تعالى على نحو الاستقلال.
ثالثا: أيضا المدبر لا يصح أن يغيب عمّا يدبره، لأنه متى غاب انقطع تدبيره، أو أصبح تدبيرا خاطئا، لأنه بغيابه عمّا يقوم بتدبيره سيخفى عليه حاله، وسيكون جاهلا بما يحتاجه من التدبير، وهذه هي الحجة التي احتج بها إبراهيم الخليل على الذين يعتقدون ربوية بعض الأجرام السماوية ويعتقدون أنها مدبرة لأمر العالم، كما قصّ القرآن الكريم علينا ذلك في الآيات (76-79) من سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الأفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}، فهؤلاء كانوا يعتقدون ربوبية كوكب الزهرة والقمر والشمس وأنها مدبرة لهذا العالم، فجاراهم إبراهيم في معتقدهم ليكشف لهم بطلانه بإظهار ما في تلك الأرباب المزعومة من نقص، وبيان عجزها عن التدبير لغيابها عن المدبَر، في حين أن رب العالم ومدبر أموره لا يصح أن يطرأ عليه الأفول ولا الغياب عمّا يقوم بتدبيره حتى لا يكون جاهلا بأمره فيفسد بذلك تدبيره، وبما أن الذي لا يطرأ عليه الأفول هو الله، فعليه يكون التدبير منحصرا فيه سبحانه، وهذه حقيقة اعترف بها حتى بعض المشركين، وسجل القرآن اعترافهم في الآيتين (31-32) من سورة يونس: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}.
والخلاصة: إن القول بتفويض التدبير إلى الملائكة على نحو الاستقلال غير صحيح، وترد عليه الكثير من الإشكالات.
وأما المعنى الثاني للتفويض والذي قلنا: إنه ممكن وهو المراد، فهو بمعنى جعل الملائكة وسائط في التدبير، وذلك أن الله جعل النظام الكوني قائما على الأسباب والمسببات، فلابدّ لكل معلول من علّة يقوم بها ويزول بزوالها، وقانون العلّية هذا، إنما هو من وضع خالق الطبيعة وموجدها، إذ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ}، {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ}، وكما أن من تدبير الله للنظام الكوني أن جعله قائما على الأسباب الطبيعية، كذلك فوّض التدبير إلى ملائكته، ولكن ليس بمعنى أنه تعالى اعتزل العالم وفوّض إليهم تدبيره على نحو الاستقلال، وإنما بمعنى أنه عز وجل جعلهم وسائط في التدبير، وأسبابا في الحوادث فوق المادية، كحملهم لوحيه وتبليغه إلى رسله، وتسديدهم للرسل والأنبياء، وتأييدهم للمؤمنين، وقبضهم للأرواح، إضافة إلى ما هم مكلفون به في الآخرة من تعذيب الكافرين وتنعيم المؤمنين، وإلى غير ذلك مما فوضهم الله فيه سواء في عالم الدنيا أم في عالم الآخرة، وهم في ذلك غير مستقلين عن الله، بل هم خاضعون لإرادته، مستجيبون لمشيئته، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، فما هم إلا جنود من جنوده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}.
إذن فقانون السبيبة ما هو إلاّ من وضع الله وصنعه، كونه عز وجل أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، فجعل لكل شيء سبباً، وهو سبحانه سبب الأسباب، إذ أن جميع الأسباب منتهية إليه، عاملة بأمره، غير مستقلّة في التأثير عنه لا في عالم المادة والطبيعة ولا فيما ورائها، ولذا نجد القرآن الكريم كما يسند الحوادث إلى أسبابها أيضا يسندها إلى الله، كما في قوله في الآية (22) من سورة الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، فالرياح سبب طبيعي في التلقيح لكنه سبب مجعول من الله وإليه ينتهي، وكذا في قوله في الآية (32) من سورة إبراهيم: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}، إذ جعل الماء سببا في إخراج الثمرات وإن كان هو المخرج سبحانه وتعالى، وكذلك الحال فيما فوّض فيه أمر التدبير إلى الملائكة، فهو ليس بأكثر من جعلهم أسبابا ووسائط في التدبير، لذلك تراه عز وجل كما ينسب الأمر إليهم كذلك ينسبه إلى نفسه، ومن ذلك أنه في الآية (42) من سورة الزمر نسب توفي الأنفس إلى ذاته المقدسة فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وفي الآية (61) من سورة الأنعام نسبه إليهم فقال: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}، وكذلك الحال في كتابة الأعمال، إذ يقول في الآية (81) من سورة النساء ناسبا ذلك إلى ذاته المقدسة: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}، وفي الآية (80) من سورة الزخرف نسبه إليهم فقال: {بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، وكل هذا مما يؤكد لنا أن الملائكة في التدبير إنما هم علل ووسائط وأسباب وأما المدبر الحقيقي فهو الله عز وجل.
ولا بأس أن نختم بالإشارة إلى أن تفويض التدبير إلى الملائكة إنما هو من تدبير الله لهم وإدارته لشؤونهم، فكما أن من تدبير الله للإنسان وإدارته لشؤونه أن أعطاه التفضيل والتكريم على كثير ممن خلق تفضيلا، وجعله خليفته في أرضه، ووجّه إليه الأمر والنهي، وكلفه بتكاليف عبادية، وجعل له حقوقا وفرض عليه واجبات، كذلك من تدبير الله لملائكته أن أوكل إليهم بعض المهام، وفوّض إليهم التدبير، ليكون من تدبيره لهم وإدارته شؤونهم تفويض التدبير إليهم، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.