الجواب:
كما أن بدن الإنسان معرض للإصابة بالعلل والأمراض التي تؤثر على الصحة سلباً، وقد تؤدي إلى الموت إن لم يبادر الإنسان إلى علاجه، كذلك النفس تصاب بالمرض وتكون بحاجة إلى العلاج.
ولا يخفى أن مرض النفس أخطر بكثير مـن مـرض البدن، ذلك أن مرض البدن لا يؤذي ولا يؤلم إلاّ صاحبه، وإن وصل الأمر إلى الموت فإن المجتمع لن يخسر إلاّ فرداً واحداً، أما مرض النفـس فإنه يشكل خطراً كبيراً على الفرد والمجتمع معاً، لأن صاحب النفس المريضة يتحوّل إلى مجرم محترف، لا يخشى الله تعالى، ولا يرعى حرمة للدين والقيم الإنسانية الفاضلة، ولا يتورّع عن منكر فعله، فيعيث في الأرض فساداً، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، بل صاحب النفس المريضة قد يؤثر على الآخرين، فيفسد أخلاقهم، ويجرّهم إلى طريقه المنحرف، وسلوكه الإجرامي، مما يهدد أمن المجتمع وسلامته، ويؤدي إلى انتشار الأمراض الأخلاقية والاجتماعية بين أبنائه.
وإذا كان علاج البدن إنما يتمّ عن طريق العقاقير الطبية المناسبة للحالة المرضية، فإن علاج النفس إنما يكون عن طريق الرجوع إلى الله عز وجل بالتوبة والإنابة، وترك الذنوب والمعاصي.
وجوب المبادرة إلى التوبة:
وكما يجب على المصاب بمرض في بدنه المبادرة إلى العلاج قبل أن يستشري الداء، ويستعصي الدواء، وربما أوصله مرضه إلى الموت، كذلك المصاب بمرض في نفسه، عليه المبادرة إلى التوبة، ولرجوع إلى الله عز وجل، لأنه إن لم يبادر إليها فهو على خطرين:
الأول: قد يباغته الموت قبل التوبة، فيكون من الخاسرين، ولن ينفعه طلب الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا فيما ترك، كما يقول عز من قائل في الآيتين (99-100) من سورة المؤمنون: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
الثاني: إن عدم المبادرة إلى التوبة، يجعل الذنوب تتراكم على القلب إلى أن يصدأ وتعلوه الظلمة التي تعمي بصيرة الإنسان عن الخير والصلاح، وتحجبه عن التوبة في الدنيا، وعن رحمة ربه في الآخرة، تماما كما يقول سبحانه في الآيتين (14-15) من سورة المطففين: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.
التوبة عملية غسل وتطهير:
أما عمّا ورد في السؤال، فلا شك أن آثار التوبة الكثيرة، وبركاتها العظيمة لا تقف عند حد غفران الذنوب، ومحو السيئات، بل هي عملية غسل وتطهير وتنقية للنفس الإنسانية مما ران عليها من صدأ الذنوب وأدران المعاصي، فكما أن غسلنا للثوب يزيل الأوساخ وآثارها، وكما أن علاج أمراض البدن يشفي من المرض ويزيل آثاره، كذلك التوبة تغفر الذنوب، وتزيل آثارها، كما دلّت على ذلك الكثير من الأدلة، ومنها:
الدليل الأول-التوبة رجوع من طرفين:
التوبة مصدر تاب، وتعني الرجوع والإنابة، كما يقول سبحانه في الآية (3) من سورة الزمر: {وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}، والمعنى: عودوا إلى ربكم بالتوبة، قبل أن يأتيكم عذاب الآخرة، أو مطلق العذاب الذي لا تقبل معه التوبة (كالتوبة عند البأس، أو عند معاينة الموت) وحينها لن تنفعكم توبة، ولن تدرككم مغفرة.
والتوبة لا يمكن أن تتحقق إلا بالرجوع من طرفين، أحدهما أدنى، وهو الإنسان، والثاني أعلى، وهو الله، كما يقول سبحانه في الآية (29) من سورة المائدة{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وتكون توبة الإنسان بهجر الذنوب، وترك المعاصي، والرجوع إلى الله بالإنابة والندم والاستغفار، وأما توبة الله فهي رجوع منه سبحانه إلى عبده التائب بالرحمة، وغفران الذنوب، وتطهير نفسه من الشوائب، وتنقية قلبه من أدران الذنوب والمعاصي، ولولا رجوع الله إلى عبده، ولطفه به بالتوبة عليه بعد توبته من ذنوبه، وإلا لما نفعته توبته شيئا، ولكان من الخاسرين.
فالله لطيف ورحيم بعباده، ومن لطفه ورحمته بهم أن هيأ للتائبين الصادقين في توبتهم كل أسباب الهدى والخير والسعادة في الدارين، ومن ذلك أنه تعالى كما قبل توبتهم، أيضا جعلها مطهّرة لهم من ذنوبهم الموبقة، ومن آثارها السيئة، ليساعدهم ذلك على الترقي في مدارج الكمال، ولئلا تكون تلك الآثار مانعة لهم من الثبات على التوبة والصلاح.
الدليل الثاني-الأعمال حسنات وسيئات:
إن المتأمل في النصوص الإسلامية -كتابا وسنة- يكتشف أن أعمال الإنسان ليس فقط يترتب عليها الثواب أو العقاب، بل هي ذاتها حسنات أو سيئات، ولذا فالله عز وجل لم ينهانا عن المعاصي فقط لما يترتب عليها من العقاب، بل لأنها متلبسة بالسوء والقبح، لذلك نحن نصفها بهما فنقول: (أعمال قبيحة)، كما أنه تعالى لم يأمرنا بالطاعات فقط لما يترتب عليها من الثواب، بل لأنها متلبسة بالحسن، لذلك نصفها بأنها (أعمال حسنة) فالحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأعمال، ولذلك تنعكس آثار الأعمال على الإنسان، فإن كانت سيئة لوّثته بسوئها وقبحها، وإن كانت حسنة طهّرته من ذلك السوء والقبح، مما يدل على أن الأعمال الصالحة كما يترتب عليها الأجر والثواب، أيضا هي مطهّرة للإنسان مما لوّث به نفسه من أدران الذنوب، وممارسته للأعمال والأقوال القبيحة.
وهذا ليس مجرّد كلام إنشائي، وإنما هو حقيقة قرآنية عظيمة كشف عنها القرآن الكريم في العديد من آياته البينات، كما في قوله تعالى في الآية (6) من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فلاحظوا كيف تأمرنا هذه الآية الكريمة بما تأمرنا به، ثم تبيّن أن الغاية من ذلك ليس لأن الله يريد أن يجعلنا في حرج ومشقة، بل وليس فقط لأن الالتزام بهذه الأوامر الإلهية يجعلنا نتحصل على الأجر والثواب، وإنما لأن الله يريد أن يطهّرنا ويتمّ نعمته علينا، مما يعني أن تلك الأعمال نعمة إلهية عظيمة، من ثمراتها الكبيرة أنها مطهّرة للإنسان مما لوّث به نفسه من أعمال قبيحة، وحرّي بالإنسان أن يدرك هذه النعمة الجليلة ويعرف قيمتها العظيمة، ويشكر الله عليها.
ويقول عز وجل في الآية _222) من سورة البقرة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، وإخباره تعالى في ختام الآية عن حبه للتوابين وحبه للمتطهرين غير مقيد، بل هو عام، فيشمل كل أنواع التوبة، وكل أنواع التطهّر، فالله يحب كل توبة، كما يحب كل تطهّر، سواء كان تطهّرا من الأمور المادية أم المعنوية، وإنما تكون كل توبة بالرجوع إليه، كما تكون كل طهارة بعبادته، والالتزام بأوامره ونواهيه عز وجل، مما يؤكد لنا أن التكاليف العبادية، والأعمال الصالحة هي طاهرة ومطهّرة.
ويؤيد هذا بل يؤكده قوله سبحانه في الآية (114) من سورة هود: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ}، حيث علّل سبحانه الأمر بإقامة الصلاة بأن {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وهذا يعني أن الصلاة ليس فقط يترتب عليها الحسنات، بل هي ذاتها حسنات، ومن آثارها أنها تذهب سيئات الإنسان وتطهّره من أوساخها وأدرانها.
ويتضح لنا هذا المعنى أكثر متى تدبرنا في قوله تعالى في الآية (41) من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وهنا يجب أن نلاحظ أن الله نسب الطهارة إلى القلوب، مما يدل على أنها طهارة معنوية مكانها القلب والروح، وأمّا عدم إرادته تعالى تطهير قلوبهم، فلأنهم لم يريدوا ذلك، وإلا لما سارعوا إلى ما هو ملوّث ويلوّث القلب من الكفر، وتحريف الكلم من بعد مواضعه.
وإذا كان الكفر والأعمال السيئة يلوّثان القلب، فإن الإيمان والأعمال الصالحة تطهّره وتنقيه، ومما لا شك فيه ولا ريب أن التوبة من الأعمال الصالحة فهي مطهّرة، وإذا كان من لوازم التوبة هجران الذنوب، والندم والاستغفار، والاستقامة على الصراط المستقيم، والمحافظة على العبادة والأعمال الصالحة، تضاعفت الطهارة من خلال التوبة ولوازمها، وعاد الإنسان نقيا من شوائب الذنوب وأدرانها.
الدليل الثالث-تأكيد القرآن على أن التوبة مطهّرة للإنسان:
في القرآن الكريم آيات كثيرة جدا تؤكد على حقيقة أن التوبة سبب لغفران الذنوب من جهة، وتطهير التائب من قاذوراتها من جهة ثانية، ومن ذلك قوله جلّ شأنه في الآيتين (145-146) من سورة النساء: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}، إذ كما توعّد الله المنافقين بالنار، استثنى التائبين من نفاقهم، العاملين بلوازم تلك التوبة، بإصلاح أعمالهم السيئة عن طريق الاعتصام بالله، والتمسك بحبله المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهّرة والاقتداء بهديهما، وكان ذلك منهم بصدق وإخلاص في الدين والإيمان، ثم أكد سبحانه أنه سيجعلهم مع المؤمنين، الذين محضوا الإيمان محضا، والذين سيؤتيهم أجرا عظيما.
وما كان سبحانه وتعالى سيجعلهم مع المؤمنين لولا أنهم -بتوبتهم النصوح- تطهّروا من قاذورات النفاق والأعمال القبيحة، وعادوا إلى النقاء والصفاء، وإنما جعلهم عز وجل مع المؤمنين ولم يعدهم منهم، لأنهم في أول توبتهم واتصافهم بما وصفهم به ربهم، فألحقهم بركب المؤمنين المخلصين، ومتى ثبتوا على توبتهم، وحافظوا على ما جاء في الآية الكريمة من وصفهم، وتلبّسوا بذلك تلبّسا حقيقيا وكاملا فلم يغيّروا ولم يبدّلوا، حينها يترقّون ليكونوا من المؤمنين، وهذا يبيّن لنا أن أثر التوبة فوري في التطهير والتنقية، والثبات عليها يرفع الإنسان من مرتبة إلى أخرى.
كذلك يقول تعالى في الآيات (69-70) من سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، وكما توضّح هذه الآيات أن التوبة والعمل الصالح ينجيان التائب العامل صالحا من العذاب المضاعف الذي سيخلد فيه المشركون العاملون السيئات بكل ذلة وهوان، كذلك تؤكد أن الله سيبدل سيئاتهم حسنات، ومع أن هذا التبديل من الممكن أن يكون عن طريق التفضّل الإلهي على التائبين بتحويل سيئاتهم إلى حسنات، فيمحو تعالى السيئة ويسجل مكانها حسنة، إلا أن المعنى الأدق والأوفق بالآية الكريمة هو ما سبقت الإشارة إليه من أن الأعمال نفسها إما أن تكون سيئة أو حسنة، والسيئات تعلق بالنفس الشريرة الخبيثة، نتيجة ممارسة الإنسان لها، وعكوفه عليها، فإذا تاب الإنسان وآمن وعمل صالحا، تبدّلت حقيقة نفسه لتصبح طيبة، فتتطهّر من الأعمال السيئة وعوالقها، لتكون نفسا طاهرة نقية، مما يعني أن التوبة والعمل الصالح يطهّران الإنسان ويغيّران حقيقة نفسه ليتحوّل من الشقاء إلى السعادة، ومن القذارة إلى الطهارة.
وربما يقوي هذا المعنى ويؤيده ما مرّ علينا من قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، الدال على أن الحسنات هن يذهبن السيئات، لا أن الله يقوم بمحو السيئة ويسجل مكانها الحسنة، كما يؤيده أيضا ما في القرآن الكريم من آيات عديدة تصف الفاسقين والظالمين والمكذبين بالدين وحقائقه، بالذين في قلوبهم مرض، كما في قوله سبحانه في الآية (12) من سورة الأحزاب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، الدال على أن قولهم هذا إنما هو نتاج نفاقهم ومرض قلوبهم، وكذا قوله تعالى في الآية (62) من سورة الأحزاب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}، حيث أمرت بعدم الخضوع في القول، محذّرة من الذين في قلوبهم مرض دون غيرهم، وهذا يدل على أمرين:
الأول: إن أصحاب النفوس الخبيثة والقلوب المريضة هم الذين ينساقون وراء ما يناسب طبيعة أنفسهم من الأعمال القبيحة التي تعلق آثارها في قلوبهم فتزيدها ظلمة، أما أصحاب القلوب السليمة فلا ينساقون وراء تلك الأعمال، بل ينفرون منها، ويواظبون على ما يوافق طبيعتهم من الأعمال الصالحة فتعلق آثارها الطيبة في نفوسهم وقلوبهم.
الثاني: إن أصحاب النفوس الخبيثة والقلوب المريضة يمكنهم إصلاح نفوسهم، ومداواة قلوبهم عن طريق التوبة والعمل الصالح، وبذلك يتطهرون مما هم متلوّثون به من الذنوب وقذاراتها.
الدليل الرابع-الأحاديث تؤكد حقيقة التطهير بالتوبة:
أيضا هناك عدة أحاديث تؤكد حقيقة أن التوبة تتجاوز مرحلة غفران الذنوب إلى التطهير منها، ويكفينا في ذلك الحديث المروي عن إمامنا الرضا عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما في ج6ص21 من بحار الأنوار: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وكما نعلم: فالذي لا ذنب له طاهر لعدم تلوّثه بالذنوب وأوساخها، ولولا أن التوبة تطهّر التائب من الذنوب والأوساخ، وتعيده سليم القلب، نقي الروح، زكي النفس، وإلا لما صح جعل التائب بمنزلة من لا ذنب له.
وفي أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، ج2ص277، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا)، وفي ص287 من المصدر نفسه: عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا، وهو قول الله عز وجل: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وفي الحديثين من وضوح المعنى ما يغنينا عن الشرح والبيان، وملخّص القول في ذلك: إن للأعمال حسنة كانت أو سيئة آثارها التي آثار تنعكس على صفحات قلب، ومرآة نفس من يمارسها، فإن كانت أعمالا حسنة أضاءت القلب وأنارته، وإن كانت سيئة جعلت القلب أسودا مظلما، والأعمال التي يكثر منها الإنسان ستؤثر في نفسه أكثر، وستكون آثارها طاردة لآثار الأعمال الأخرى، فإن أكثر الإنسان من الأعمال الصالحة اتسعت دائرة النور في قلبه إلى أن تشفي ما فيه من مرض، وتزيل ما به من ظلمة، وتجعل روحه معلّقة بعز قدسه وحلاله عز وجل، وإن غلبت الأعمال السيئة، تراكمت الظلمات في القلب بعضها فوق بعض، حتى لم يعد لنور الأعمال الصالحة مكان، فيشكل ذلك حجابا بين الإنسان وبين ربه، فيخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وبما أن التوبة من الأعمال الصالحة أصبح من آثارها وبركاتها أنها تجلو ظلمة الذنوب عن القلب، وتعيد إليه الضياء والنور، وتطهّر صاحبه من أدران المعاصي التي رانت على قلبه حتى حجبته عن رحمة ربه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.