الأولى تتمثل في معاوية بن أبي سفيان وأنصاره من الشاميين والأمويين ومن سار بركبهم من الحاقدين على الإمام والموترين منه.
وتتمثل الثانية في الخوارج الذين فجعهم الإمام بقتلاهم جانب النهر، فهم يثيرون القلق، ويقاطعون الإمام، ويتجرؤون دون مسوغ شرعي أو قانوني، فيجبهون الإمام بشعارهم «لا حكم إلا لله» أو «الحكم لله لا لك يا علي».
وكان زعيم الخوارج صلفاً حينما يخاطب الإمام، وقد رأى من سياسته عدم الإكراه واللجاج، فيقول: «يا علي تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا».
والإمام يجيب «قد أردتكم على هذا فعصيتموني».
ويتمادى حرقوص بن زهير مشيراً إلى التحكيم: «ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه». ويحاججه الإمام في هذا المنطق، ويردّ عليه بلغة الدين، ويعود باللائمة على سواه، فيقول: «ما هو ذنب، ولكنه عجزٌ من الرأي، وضعفٌ من الفعل، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه».
هذا نموذج من لجاج زعيم الخوارج المقتول بالنهروان، وأمثاله وأمثال ذلك كثير.
والجبهة الثالثة جبهة المنافقين والمتربصين الدائرين بالإمام عليهالسلام ممن اعتضدوا بعشائرهم، واهتبلوا الفرص مع معاوية فكاتبهم سراً، وأغدق عليهم بالمال وأغرقهم بالطرف، فشايعوه خفية، وعملوا لحسابه بإمعان، ويمثلهم الأشعث بن قيس الكندي، ويلتفّ حوله رعيل من المتمردين والوصوليين ممن لا ذمام لهم، ولا أمل في صلاحهم، فقد جبلوا على الإنتهازية، ومردوا على النفاق، وحليت الدنيا بأعينهم، وراقهم زبرجها، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم.
هذه الجبهات الثلاث فيما أحسب، قد التقت أهدافها في إرادة التخلص من أمير المؤمنين، وأجمعت أمرها لتدبير قتله أو اغتياله، وقد حدث هذا بالفعل، وتم لهم ما أرادوا فرادى ومجتمعين، وأمير المؤمنين بسبيل العودة إلى صفين، يعدّ لها العدة، ويهيئ لها ما استطاع من قوة.
ولم يكن أمير المؤمنين بمنأى عن أبعاد هذه المؤامرة، ولا ببعيد عن إبرامها، فقد لاحت أشراطها في الأفق القريب، وهو موعود بالقتل اغتيالاً على يد شقيق عاقر ناقة صالح بما أخبره به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وطالما قال اثناء وضوئه مراراً: لتخضبن هذه من هذا، مشيراً إلى كريمته ورأسه الشريف.
وقد ذهب إلى أبعد من هذا، فكان ينشد في رمضان الذي قتل فيه هذه الأبيات :
أشدد حَيازيمكَ للمَوتِ
فإنَّ الموتَ لاقِيكَا
ولا تَجزَع من المَوتِ
إذا حلّ بواديِكَا
كَمَا أضحَكَكَ الدَهرُ
كَذَاكَ الدَهرُ يَبكِيكَا
وكان رعيل من الخوارج يشهدون الموسم في الحج، فتذاكروا ـ بزعمهم ـ شؤون المسلمين، وذكروا أمير المؤمنين، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وائتمروا فيما بينهم، أن يريحوا الناس من هؤلاء الثلاثة، وأن يثأروا من عليّ بخاصة لإخوانهم من الخوارج في النهروان.
وانتدب عبد الرحمن بن ملجم المرادي لقتل أمير المؤمنين، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصريمي لقتل معاوية، وانتدب عمرو بن بكير لقتل عمرو بن العاص، وإتعدوّا لذلك وقتاً معيناً لتنفيذ الاغتيال في اليوم التاسع عشر من رمضان فجراً عند خروجهم لصلاة الفجر من شهر رمضان لعام أربعين من الهجرة.
وأقام هؤلاء بمكة يتذاكرون الموعد، ويحبكون الخطة، مصممين على التنفيذ، حتى إعتمروا في رجب وتفرقوا لأداء المهمّة.
أما صاحب معاوية، فأقدم عليه ولم يبلغ منه شيئاً، ولا أصاب منه مقتلاً، فقبض عليه وقتل.
وأما صاحب ابن العاص، فأقدم عليه ولم يصبه، وكان قد مرض أو تمارض، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي، فقتل واجتمع عمرو بن العاص بالقاتل، فقال: إنما أردت عمراً، فقال عمرو: ولكن الله أراد خارجة. وقتله.
وأما عبد الرحمن بن ملجم، فذهب إلى الكوفة، وأقام بها يوثق الصلات بأعداء أمير المؤمنين، فكان يجتمع بالأشعث بن قيس تارة، ويتعد مع اثنين من الخوارج هما شبيب بن بحران ووردان بن مجالد تارة أخرى، وكان الأشعث متحمساً للفتك بأمير المؤمنين، وعبد الرحمن بن ملجم في ضيافته، يتعهده بالألطاف، ويبرّه في المأكل والمشرب.
ويروي أبو الفرج الأصبهاني أن الأشعث كلم الإمام في أمر، فأغلظ له الإمام وانتهره، فعرض له الأشعث أنه سيفتك به، وفهم الإمام تعريضه فقال :
«أبالموت تخوفني وتهددني، فوالله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ». وكان الإمام يستصغر قدر الأشعث، ويحتقر ذكره.
وحانت ساعة الاغتيال، فالتفت الأشعث إلى ابن ملجم وقال: النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح. مما يعني أن الأشعث كان ظالعاً بالمؤامرة مع الخوارج وسواهم دون شك، في إيوائه لابن ملجم، وفي تهديده للإمام، وفي علمه بالتوقيت، وفي إعجاله لابن ملجم على تنفيذ الاغتيال.
وأحسب أن الأشعث هذا، وأمثال الأشعث ممن لم يذكر التأريخ أسماءهم، كانوا يدبرون لهذا الاغتيال، بالاتفاق مع معاوية، ومعاوية يبذل لهم الأموال الطائلة يشتري بذلك دينهم وولاءهم وضمائرهم إن كانت لهم ضمائر، حتى أن قلها وزن يذهب: أن قتل الإمام علي قد تم على عدة بين ابن ملجم ومعاوية ونسبه إلى الطبري. ولا مانع لدى معاوية أن يستعين بابن ملجم والأشعث وسواهما لقتل الإمام.
وهناك نص أدبي يرويه أغلب المؤرخين، وهو عبارة عن أبيات لأبي الأسود الدؤلي صاحب الإمام، قد وجهها إلى معاوية، ينسب فيها قتل الإمام لمعاوية وأنصاره، يقول:
ألا أبلغ معاوية بن حـرب
فلا قرّت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا
بخير الناس طراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا
وذللها، ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها
ومن قرأ المثاني والمئينا
ومما يتقدم يبدو أن المؤامرة قد أشرف على تنفيذها هذا الثلاثي الذي شكّل الجبهات الثلاث المعادية لأمير المؤمنين، وأن الخوارج لم يستقلّوا بذلك وحدهم، وإن كان لهم أمر التنفيذ.
ومهما يكن من أمر، فقد خرج الإمام لصلاة الصبح وهو ينادي بالمسلمين: الصلاة الصلاة، بما رواه أبو الفرج عن أبي مخنف عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصّلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره، إذ نظرتُ إلى رجال يصّلون قريباً من السدّة، قياماً وركوعاً لا يسأمون إذ خرج عليهم: علي بن أبي طالب عند الفجر، فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة، وبعدها رأيت بريق السيف، وسمعت قائلاً يقول: الحكم لله لا لك ياعلي. ثم رأيت بريق سيف آخر، وسمعت قائلاً يقول: لا يفوتنكم الرجل، وكان الأشعث بن قيس قال لابن ملجم: النجاء لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر.
هذه رواية شاهد عيان للحادثة، وغير هذه الرواية يتفق معها.
وقد عقب أبو الفرج على الرواية بقوله: «فأما بريق السيف الأول فإنه كان سيف شبيب بن بحران، وقد ضرب الإمام فأخطأه، ووقعت ضربته في الطاق، وأما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه على رأسه، فأثبت الضربة في وسط رأسه».
وكان ابن ملجم قد أمهل الإمام في صلاته الركعة الأولى، وقام الإمام الى الثانية، وأهوى الإمام إلى السجود، وحينما رفع جبهته من السجدة الثانية، أهوى عليه بالسيف، فعممه على رأسه، وبلغت ضربته الدماغ، وهو يقول: «الحكم لله يا علي لا لك» والإمام فيما يروي المؤرخون يقول: «فزت ورب الكعبة».
وكذلك يروون أن آخر كلام سمع منه قبل أن يموت هو تلاوته لقوله تعالى: ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١).
واضطرب الناس في مسجد الكوفة عند سماع أمير المؤمنين يقول: لا يفوتنكم الرجل، فشدوا على ابن ملجم من كل مكان فقبض عليه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وصرعه وأخذ السيف منه، وأدخل على أمير المؤمنين فقال: «النفس بالنفس» إن أنا متُ فاقتلوه، وإن سلمت رأيت فيه رأيي».
فقال ابن ملجم: لقد اشتريت سيفي بألف، وسممته بألف، فإن خانني فأبعده الله، وأحدق الناس بابن ملجم يريدون قتله، وهم يقولون: يا عدو الله ماذا صنعت، لقد أهلكت أمة محمد، وقتلت خير الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ساكت لا يتكلم.
واستدعى أهل الكوفة الأطباء للنظر في جرح الإمام، وفي طليعتهم الجراح العربي المعروف أثير بن عمرو بن هاني، وكان يداوي الجراحات الصعبة، فلما نظر في جرح الإمام بكى وقال :
اعهد عهدك يا أمير المؤمنين فإن ضربة اللعين قد وصلت أم رأسك.
فأستقبل الإمام النبأ باليقين والصبر الجميل، وكان الإمام في هذه اللحظات الحرجة متيقظاً تماماً فلم ينسَ النصح لأمة محمد، والتفت إلى أبنائه قائلاً من وصيته عند الموت:
«الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، الله الله فيما ملكت أيمانكم فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في آخر ما أوصى به قال: أوصيكم بالضعيفين مما ملكت أيمانكم».
ومضى عليه السلام يقول: قولوا للناس حسناً كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم، وتدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواضع والتباذل، وإياكم والتقاطع والتفرق، وتهاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان».
وأوصاهم بأداء الصلاة وتلاوة القرآن.
وجمع إليه بنيه وأوصاهم بإطاعة الحسن والحسين لأنهما إمامان قاما أو قعدا، ونصّ على إمامة ولده الحسن عليه السلام.
وظل الإمام يعاني من ضربته تلك حتى قضى نحبه صابراً شهيداً محتسباً ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين من الهجرة.
ومضى علي عليه السلام شهيد عظمته، وقتيل مبادئه الصارمة، لم يخلف بيضاء ولا صفراء.
وجلل الحزن الجزيرة العربية والأقاليم الإسلامية، وتجاوب صدى الفاجعة في آفاق الدنيا، فبكاه القريب والبعيد، وحمل نعشه ليلاً الحسن والحسين وخلص أصحابه إلى النجف الأشرف من ظهر الكوفة، ودفن بين الذكوات البيض حيث مرقده الشريف وحيث ضريحه المقدس اليوم.
وبلغت وفاته عائشة فقالت:
فَألقَت عَصاها وإستقرَّ بها النَوى
كَمَا قرّ عَينَاً بالأيابِ المُسافِرُ
ولست أعلم أكانت أم المؤمنين شامتة أم مؤبنّة.
مقتطف من كتاب: الإمام علي عليه السلام سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي