واشتهرت الرواية عن عُثمان بن المغيرة، قال: كان عليٌّ عليه السلام لمَّا دخل رمضان يتعشَّى ليلةً عند الحسن، وليلةً عن الحسين، وليلةً عند عبد الله بن جعفر، زوج زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام، وكان لا يزيد على ثلاث لُقم، فقيل له في ليلةٍ من تلك الليالي في ذلك، فقال: «يأتيني أمر الله وأنا خميصٌ، إنَّما هي ليلةٌ أو ليلتان». فلم تمضِ ليلة حتّى قُتل (۳).
سبب قتله: (٤)
وكان سبب قتله أنَّ نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكَّة، فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم، ثُمَّ ذكروا أهل النهر فترحَّموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمّة الضلالة وأرحنا منهم البلاد!
وقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ: أنا أكفيكم عليَّاً، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله التميمي الصُريمي: أنا أكفيكم معاوية. أمَّا عمرو بن بكر التميمي، فقال: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا على ذلك وأخذوا سيوفهم فسمُّوها، واتَّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كلٌّ منهم الجهة التي يريد.
فأتى ابن مُلجم الكوفة كاتماً أمره، فبينما هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب، فصادف عندهُ قطام بنت الأخضر التيميَّة .. وكان أمير المؤمنين عليه السلام قتل أباها وأخاها بالنهروان، فلمَّا رآها أخذت قلبه فخطبها، فأجابته إلى ذلك على أن يُصدِقها: ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً، وقتل عليٍّ!!
فقال لها: والله، ما جاء بي الّا قتل عليٍّ، فلكِ ما سألتِ!
قالت: سأطلب لك من يشدُّ ظهرك ويساعدك، وبعثت إلى رجلٍ من قومها اسمه: وردان وكلَّمته فأجابها..
وروي أنَّ الإمام عليه السلام سهر في تلك الليلة التي قُتل فيها، وكان يكثر الخروج والنظر إلى السماء، وهو يقول: «والله ما كذبتُ ولا كُذبت، وإنَّها الليلة التي وُعدتُ بها» ثُمَّ يعاود مضجعه، فلمَّا طلع الفجر شدَّ إزاره وخرج وهو يقول:
«أُشدد حيازيمك للموت
فإنَّ الموت آتيك
ولا تجزع من الموت
إذا حلَّ بواديك» (٥)
وأخذ ابن ملجم سيفه ومعه شبيب بن بَجَرة ووردان، وجلسوا مقابل السدَّة التي يخرج منها عليٌّ عليه السلام للصلاة.. فضربه ابن ملجم أشقى الآخرين لعنه الله، ليلة تسعة عشر من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، في المسجد الأعظم بالكوفة، ضربه بالسيف المسموم على أُمِّ رأسه.
فمكث عليه السلام يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها، وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من الليل ثُمَّ قضى نحبه شهيداً محتسباً صابراً وقد مُلئ قلبه غيضاً..
بتلك الضربة الشرسة التي ارتجَّ لها المسجد الأعظم، دوى صوت الإمام المظلوم بنداء: «فزت وربِّ الكعبة» لم يتلكَّأ ولم يتلعثم في تلك اللحظات التي امتُحن قلبه، وهو القائل «والله لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» هذا الإمام العظيم الذي طوى صفحات ماضيه القاسية بدمائه الزكيّة الطاهرة، أدرك في لحظاته الأخيرة أنَّه أنهى خطَّ الجهاد والمحنة، وكان أسعد المخلوقين في هذه اللحظات الأخيرة، حيث سيغادر الكفر والنفاق والغشَّ والتعسُّف.. سيترك الدنيا لمن يطلبها؛ ليلحق بأخيه وابن عمِّه ورفيق دربه في الجهاد في سبيل الله صابراً مظلوماً، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون..
اللَّهمَ احشرنا معهم واجعلنا من أتباعهم والمتوسِّمين خطاهم.. آمين.
وقيل: كان عمره يوم استشهد ثلاثاً وستِّين سنةً، وتولَّى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين بأمره، وحملاه إلى الغريَّين من نجف الكوفة، ودفناه هناك ليلاً، وعمَّيا موضع قبره بوصيّته إليهما في ذلك، لما كان يعلم من دولة بني أُميَّة من بعده، وإنَّهم لا ينتهون عمَّا يقدرون عليه من قبيح الأفعال ولئيم الخلال، فلم يزل قبره مخفيَّاً حتّى دلَّ عليه الصادق عليه السلام في الدولة العبَّاسية، وزاره عند وروده إلى أبي جعفر وهو بالحيرة (٦).
الهوامش: ۱. إعلام الورى ١: ٣١٢، إرشاد المفيد ١: ١٠، وانظر الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٨. ۲. المستدرك ٣: ١٣٩، إعلام الورى ١: ٣١٠، الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤ باختلافٍ يسير. ۳. الإرشاد ١: ١٣، وانظر الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤. ٤. الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤، الإرشاد ١: ١٤ ـ ١٧، إعلام الورى ١: ٣٠٩، أُسد الغابة ٤: ٣٥. ٥. أنظر قصَّة قتله عليه السلام في سير أعلام النبلاء ٢: ٢٨٤ وما بعدها، الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤ ـ ٢٥٨، إعلام الورى ١: ٣٨٩ وما بعدها، إرشاد المفيد ١: ٩، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم. ٦. إعلام الورى ١: ٣١١. مقتبس من كتاب : الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ / الصفحة : ۲۲۰ ـ ۲۲۳