كما هو معروف بأنَّ الإنسان إذا أراد من خطابه أن يكون ذا أثرٍ في النفوس والقلوب فإن يستخدم المفردات التي يتأثر منها الطرف المقابل ويبتعد عن أسلوب الغضب والتهديد والقوة.
فما غاية الإمام (ع) من قوله هذا الذي يحمل في ظاهره نوعا من الشدة وبالذات بأن الخطاب موجَّه لأصحابه وليس لعوام الناس ونحن نقرأ في سيرتهم المباركة مدى حرصهم على الرفق والمداراة مع الجميع وبالأخص الأصحاب.
الجواب من سماحة الشيخ محمد الصنقور:
أولًا: ليس المراد من أصحابه في الرواية هم خصوص تلامذته وخواصِّه والملازمين له المعروفين بالحرص على التفقُّه في الدين وتحرِّي العلم بالحلال والحرام بل المراد من عنوان أصحابه هم عامَّة شيعته، فإنَّ هذا العنوان يُستعمل في الروايات ويُراد منه الشيعة الجعفرية المنتسبين لمذهب أهل البيت (ع)، ويتَّضح ذلك من ملاحظة مثل صحيحة زيد الشحَّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: "يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم، صلُّوا في مساجدهم، وعُودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإنْ استطعتم أنْ تكونوا الأئمة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنَّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفريَّة، رحم اللهُ جعفرًا ما كان أحسن ما يؤدِّبُ أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفريَّة، فعل اللهُ بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدِّب أصحابَه"([2]).
فالخطاب موجَّه لعموم الشيعة الجعفريَّة وقد وصفَهم (ع) بأصحابه.
ثانيًا: ليس المقصودُ من الرواية الشريفة التهديد والوعيد بإيقاع العذاب بالسياط على مَن لم يتفقَّه في الحلال والحرام وإنَّما هو اسلوبٌ يُراد منه التعبير عن شدَّة أهميَّة التفقُّه في الدين، فكأنَّ الإمام (ع) أراد القول إنَّ التفقُّه في الحلال والحرام من الأهميَّة بحيث لو دُفع الشيعة إليه بالضرب بالسياط لكان مبرَّرًا، فهذه الغاية وهي التفقُّه تستحقُّ الدفع إليها ولو من طريق الشدَّة نظرًا لأهميتها القصوى.
فمفادُ الرواية هو مفاد قولنا ليتني أشقى ليسعد أبنائي أو ليتني أخسرُ صحَّتي وشبابي في سبيل أنْ يَنعَمَ أولادي، فمفادُ هذا القول هو أنَّ السعيَ لإسعاد الأولاد يستحقُّ التضحية من الأب بصحَّته وشبابه. فهو يُريد بهذا القول التعبير عن شدَّة اهتمامه بسعادة أولاده. كذلك الإمام (ع) أراد من قوله المذكور التعبيرَ عن شدَّة اهتمامه بتفقه شيعته في الحلال والحرام وأنَّه حريص على الوصول إلى هذه الغاية.
ثالثا: لو سلَّمنا أنَّ الرواية اعتمدت أسلوب الشدَّة في الحثِّ على التفقُّه في الدين فإنَّه يكون من التنويع في أساليب التأديب والتربية، فقد يكون التشديد هو المناسب لبعض الحالات ولبعض الأصناف من الناس، ويكون التحفيز هو المناسب لبعض الحالات ولبعض الأصناف من الناس، ولذلك نجدُ القرآن الكريم قد اعتمد كلا الاسلوبين، فتارةً يُخاطبُ المؤمنين بالتوبيخ والوعيد كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([3]).
وتارةً يُخاطبُ المؤمنين بالتحفيز والوعد بالرحمة والبصيرة والمغفرة كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([4]).
كذلك هو الشأنُ فيما يعتمدُه أهل البيت (ع) في مقام التأديب والتربية لشيعتهم ففي الوقت الذي يُخاطب الإمام (ع) شيعته بقوله: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقَّهوا في الحلال والحرام"([5]).
يُخاطبهم في موضعٍ آخر بقوله: "سارعوا في طلب العلم فو الذي نفسي بيده، لحديثٌ واحد في حلالٍ وحرام تأخذُه عن صادقٍ خيرٌ من الدنيا وما حملتْ من ذهبٍ وفضة"([6]).
وقوله (عليه السلام): "والله لحديث تعيه من صادقٍ في حلالٍ وحرام خيرٌ لك ممّا طلعتْ عليه شمس إلى أنْ تغرب"([7]).
فالتنويعُ في الأساليب من قِبَل المربِّي والمزاوجة بين الشدَّة واللِّين والتوبيخ والتحفيز والوعد والوعيد -بحسب مقتضيات الأحوال وتفاوت الناس في المزاج والاستعداد الذهنيِّ والنفسي- هي الوسيلة الناجعة والمفضية إلى التكامل المنشود.
الهوامش: [1]- المحاسن -البرقي- ج1 / ص229. [2]- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج1 / ص383. [3]- سورة التوبة / 38-39. [4]- سورة الحديد / 28. [5]- المحاسن -البرقي- ج1 / 229. [6]- مستطرفات السرائر -ابن ادريس الحلِّي- ص284. [7]- مستطرفات السرائر -ابن ادريس الحلِّي- ص284.