أرجو قراءة هذه السطور كاملةً لكي تكون الصورة واضحة تماماً، وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نذكر مقدمات.
الأمر الأول:هناك نوعان من الغلو، منه الكفر، ومنه لا يعد كفراً، لكن الأئمة صلوات الله عليهم حذروا منه. أما الغلو الذي يكون كفراً فهو الاعتقاد بألوهية الأئمة عليهم السلام، وهذا والحمد لله لم نسمع أحداً من المعاصرين من يقول به، لأنه كفر واضح بالله عز وجل.
وأما النوع الثاني فهو الغلو بأن تثبت للإمام عليه السلام ما لم يثبت له بطرق صحيح، كأن ينسب لهم عليهم السلام شيئاً عادياً أو كبيراً.
الأمر الثاني:توجد أمور خارجة عن محل الغلو، كمن ينتقص من قدرات الأئمة عليهم السلام، وهذا أيضاً باطل ولا يجوز، فمثلاً لايوجد من بين العلماء من يقول بأن الأئمة عليهم السلام لا يقدرون على أحياء الموتى بإذن الله، لا أحد يقول هذا الكلام. فالله سبحانه وتعالى نسب إحياء الموتى لعيسى صلوات الله عليه، والأئمة (عليهم السلام) أفضل من عيسى صلوات الله عليهم أجمعين.
فالأئمة عليهم السلام قادرون بإذن الله تعالى على إحياء الموتى، والآية المباركة التي في عيسى (عليه السلام) ذكرت: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ)(1).
هذه الآية ناظرة الى أن عيسى (عليه السلام)، أحضر طين وصنعه على شكل طير ثم نفخ فيه فأحيا الموتى نعم وهذا خلق لم يحي الموتى، ولا أحد من العلماء ينكر أن الأمام صلوات الله عليه بإذن الله سبحانه وتعالى يستطيع إرجاع الروح إلى الأنسان، والقرآن الكريم في عدة آيات نسب هذا للأنبياء صلوات الله عليهم، في أكثر من آية أما أنبياء أوغير أنبياء حدثت معهم مثل هذه الحادثة، أنه ترجع الحياة أو يخلق، ولكن الخلق الذي صار فيه كلام عند العلماء هو الإِيجاد من العدم.
لقد استقرأت مئة كتاب تقريباً في مسألة الغلو، ولم أجد عند أكثر علمائنا عبارة صريحة وواضحة أن الأئمة (عليهم السلام) يخلقون من العدم، والذي يعتقد بهذه العقيدة مطلوب منه إحضار دليل يثبت هذا وبدون الدليل لاينفع.
نحن ملتزمون بكلام الأئمة صلوات الله عليهم، ما حق الله على خلقه في الرواية المعتبرة عن الكافي عن الصادق عليه السلام قال (أَنْ يَقُولُوا مَا يَعْلَمُونَ وَيَقِفُوا عِنْدَ مَا لَا يَعْلَمُونَ) (2)، اذا شيء ثبت بطريق صحيح نعتقد به، واذا بدون دليل كيف نعتقد به؟
جل العلماء من الصدوق رحمة الله عليه الى المعاصرين لا يقولون بأن الأئمة عليهم السلام وهذا لا ينقصهم صلوات الله عليهم (الائمة عليهم السلام لا يمكن وصفهم حق وصفهم صلوات الله عليهم) كما في الرواية المعتبرة والصحيحة التي في الكافي عن الباقر (عليه السلام) (أن النبي صلى الله عليه وآلة لا يوصف) لا أحد يصف النبي (صلى الله عليه وآلة ) ولا حق وصفه، لكن هذا شيء ونثبت أن المقامات شيء وهذه المسألة الجزئية شيء أخر، هذه يوجد عليها دليل نؤمن بها، والآية المباركة ليست دليلاً لأن الآية المباركة تتكلم عن أن عيسى (عليه السلام) أحضر طير وصنعه ثم نفخ فيه، هذا ثابت للأئمة (عليهم السلام)، ومسألة الإمام الكاظم أو الهادي (صلوات الله عليهم) الذي أشار إلى الصورة، الرواية هذه معتبرة السند، هذا ليس خلق من العدم هذه صورة موجودة فعلاً، نحن كلامنا خلق من العدم، والزهراء (صلوات الله عليها) في خطبتها المعروفة ابتدع الأشياء لا من شيء والآيات المباركة يظهر منها أن هذا شيء خاص بالله سبحانه وتعالى.
لو أن العلماء وجدوا دليلاً عن الخلق من العدم، لكانوا أول من آمن بهذه الفكرة.
من خلق الكون الله أم الأئمة (ع)؟!ظاهر الآيات والروايات الله سبحانه وتعالى وهذا ليس معناه أن الأئمة (عليهم السلام) عاجزين والعياذ بالله هم بإذن الله يستطيعون فعل كل الأشياء تقريباً مجمل الأشياء يقومون بها بإذن الله.
كلامنا ليس في وجود مانع عقلي بإن الأئمة بامكانهم يخلقون ام لا؟ الكلام الدليل ماذا يقول، نحن نحتاج دليل نقلي، قرآني، روائي يثبت من خلق الكون؟
ظاهر الآيات المباركة الذي خلق الأكوان هو الله سبحانه وتعالى والروايات كذلك، وفي روايات ترد أن الأئمة خلقوا الكون، لاتكون هناك مزايدة في المسألة، اذا وجدت قرائن وروايات تورث القطع واليقين نؤمن بهذا الشي لكنها غير موجودة، وكل علمائنا تقريباً على هذا الرأي، ليس من المعقول كل هؤلاء لايفهمون، العلامة المجلسي رحمة الله عليه ماذا نقول فيه، وهو من كبار المحدثين الذي يؤمن بالنصوص بشكل أكبر من غيره، وهو نص أنه الأئمة لم يخلقوا الكون، أذن المسألة ليست مسألة مزايدة، مسألة دليل يوجد دليل على هذا الشي أو لا، وهذا لا ينقص من الأئمة صلوات الله عليهم شيئا، أنما المشكلة أن ينسبوا للأئمة شيء لم يقولوه أو يفعلوه وهذه هي المشكلة.
هل يجوز طلب الرزق من الأئمة (ع)؟!هل بامكاننا الذهاب الى الأئمة (عليهم السلام) وطلب العطاء والرزق؟ الجواب نعم لاتوجد مشكلة في ذلك، وهذا يحصل عند البشر يتهادون ويتعاطون فيما بينهم، وفي القرآن الكريم نسب الله سبحانه وتعالى الرزق لعدة طوائف وللنبي صلى الله وآله.
الآية المباركة (وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُم مِّنْهُ)(3)، المقصود اذا حضر القسمة اثناء توزيع الميراث مجموعة من الناس منهم اليتامى المساكين، الله سبحانة وتعالى يقول فارزقوهم، اعطوهم، الله اطلق الرزق على الناس وكذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن الكريم، (أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)(4)، الكلام هو في تقدير الارزاق وليس في اصل الرزق، لا نتحدث عن أصل العطية، لأن الأمام يعطي باذن الله سبحانه، كلامنا تقدير كل الارزاق البشرية بيد من، بيد الله سبحانه وتعالى.
الله سبحانه وتعالى لم يعتزل وأوكل المسألة للأئمة (عليهم السلام)، الله موجود وهو الذي يّقسم الأرزاق ويّقسمها بوسائط هذا لانلغيه. لكن تقدير الارزاق بيد الله سبحانه وتعالى هذا ظاهر الآيات وظاهر الروايات التي نصها يقول أن الرزق عند الله سبحانه والخلق عند الله وليس عند الأئمة (عليهم السلام).
لايمكن مخالفة كلمات الأئمة، نحن نتعبد بكلماتهم (صلوات الله عليهم)، لايكون شعار (القول مني في جميع الأشياء قول آل محمد)(5)، وقت التطبيق لانجده، العلامة المجلسي والعلماء الاخرين مجتمعين على هذا الكلام.
البعض يستعين ببعض الآيات لأثبات ذلك، نحن مطلعين على هذه الآيات ومرت على العلماء ونفهمها ونعرف مصادرها ومن رواتها، ونعتقد بما ذكر في الزيارة الجليلة التي صححها الكثير من العلماء (إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِلَيْكُمْ وَتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ)(6)، وماورد في الزيارة الجامعة (بكم فتح الله وبكم يختم وبكم يمسك السماء ان تقع على الارض)(7)، وان الأئمة (عليهم السلام) يرزقون بإذن الله تعالى، وإن الله سبحانة وتعالى هو مقسم الأرزاق ومقدرها لهذا وذاك، فلا يكون هناك خلط بين ماذكر وبين صفة الرازقية، ولاخلاف لدينا في أن الأئمة يسألون الله فيعطيهم فهذا خارج محل نزاعنا.
بعد كل هذه المقدمات التي ذكرناها نستطيع فهم استفتاء السيد السيستاني دام ظله وكل استفتاءات العلماء وكلماتهم تقريبا حسب التتبع جميعهم يقولون هذا الكلام الا في أختلافات جذرية، الأئمة يحيون بإِذن الله، يعطون ويرزقون بالمعنى الذي ذكرنا، وجملة من العلماء نص على هذا الكلام، الشيخ لطف الله الصافي والشيخ اللنكراني (رحمة الله عليهم) الذي يعتبر الاعتقاد بالائمة بالصورة التي ذكرت من كمال التوحيد.
ورواية (نحن صنائع الله والخلق صنائعنا) (8) ليس معناها ان الأئمة هم خلقوا الكون والناس، وأن الإمام لايمتلك مقام عظيم عند الله سبحانه وتعالى ويستطيع فعل الكثير من الأمور، مثال عند زيارتك للإمام الحسين (عليه السلام) والطلب منه، ما المانع من ذلك، فانت في ذهابك للدكتور وشرح حالتك تطلب منه العلاج فكيف بذهابك للإمام.
الكلام كله يتركز حول هذه النقاط البسيطة:- أن الأئمة هل يخلقون من العدم أو لا؟ الجواب، ظاهر الآيات والروايات وكلمات العلماء لا.
- هل أنهم خلقوا الكون؟ الجواب، نصوص الروايات لا.
وهذا لا يدل أبداً على وجود نقص بهم صلوات الله عليهم، فلا يكون هناك اتهام من الطرفين.
هذه رسالة نوجهها للطرفين، طرف يقول للثاني أنت مقصر والطرف الثاني يقول أنت مغالٍ، دعنا ندرس المسألة دراسة علمية، فمع عدم توفر الدليل عليه فماذا نعمل؟
ووجود رواية فهو لايعتبر دليلاً بل يجب استقصاء جميع النصوص، مثلاً هناك رواية في أمالي الطوسي رحمة الله عليه، تروى عن النبي صلى الله عليه واله (كذب من زعم انه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة) (9)، هل دلالة الرواية أن كل مغتاب هو ابن حرام؟! وهل نحتاج الاطلاع على بقية الروايات ومن يؤيد ومن يعارض بالطبع لا، وذلك لوجود آلية للتصحيح وقبول الأخبار ولا يمكننا الأخذ بأي خبر.
مثال آخر في الكافي عشرات النصوص نتركها كلها ونأخذ رواية موجودة مثلاً في كتاب مشارق أنوار اليقين للبرسي، ونترك كتب الصدوق؟! الأمر لايكون هكذا، فيجب جمع النصوص وإخراج النتيجة بعد الفحص والتمحيص.
إن المسألة أبسط من أن نتناحر عليها، ونسقط بعضنا الآخر وهي واضحة، والاستفتاء الذي صدر وبقية الاستفتاءات لا تنقص من الأئمة عليهم السلام شيء، فقط في هاتين الجزئيتين خلق الكون، وظاهر الروايات لدينا تقول إن الأئمة لم يخلقوا وهذا الجواب يؤكده الإمام بنفسه، ومسألة الإيجاد من العدم فظاهر الآيات والروايات تنفي ذلك.
أدناه نص الاستفتاء: *دوّنها: ميرفت أمين عبد الحسين الهوامش: (1) سورة آل عمران – الآية 49. (2) الكافي - الجزء: 1- الصفحة : 43. (3) سورة النساء – الآية 8. (4) سورة التوبة – الآية 74. (5) الأمام الصادق (ع)، الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٣٩١. (6) الزيارةِ المطلقةِ الأولى من زياراتِ سَيِّد الشهداء المرويّةُ عن إمامنا الصَّادق صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه. (7) الزيارة الجامعة الواردة عن الأمام الهادي (عليه السلام). (8) مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج ٦ - الصفحة ٣٨٠. (9) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٤ - الصفحة ٣٨٣.