هذا النصُّ أورده الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتابه كمال الدين وتمام النعمة عن أبي الأديان، وكلُّ مَن أورده بعد ذلك نقله عن هذا الكتاب، ولا بدَّ أولاً من نقل هذا النصِّ بطوله ثم نُبيِّن ما يمنع من صلاحيته لإثبات الدعوى المذكورة:
"قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): وحدَّث أبو الأديان قال: كنتُ أخدمُ الحسن بن عليِّ بن محمد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (ع) وأحملُ كتبه إلى الأمصار، فدخلتُ عليه في علَّته التي تُوفي فيها (صلوات الله عليه) فكتب معي كُتباً وقال: امضِ بها إلى المدائن فإنَّك ستغيبُ خمسة عشر يوماً وتدخلُ إلى سرِّ مَن رأى يوم الخامس عشر وتسمعُ الواعية في داري وتجدُني على المغتسل. قال أبو الأديان: فقلتُ: يا سيِّدي فإذا كان ذلك فمَن؟ قال: مَن طالبك بجوابات كُتبي فهو القائم من بعدي، فقلتُ: زدني، فقال: مَن يصلِّي عليَّ فهو القائمُ بعدي، فقلتُ: زدني، فقال: مَن أخبر بما في الهميان فهو القائمُ بعدي، ثم منعتني هيبتُه أنْ أسأله عمَّا في الهميان. وخرجتُ بالكتب إلى المدائن وأخذتُ جواباتها ودخلتُ سرَّ مَن رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (ع) فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعةُ من حوله يعزُّونه ويهنونه، فقلتُ في نفسي: إنْ يكن هذا الامام فقد بطلت الإمامة، لأنِّي كنتُ أعرفه يشربُ النبيذ ويُقامر في الجوسق ويلعبُ بالطنبور، فتقدَّمتُ فعزَّيتُ وهنيت، فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كُفِّن أخوك، فقم وصلِّ عليه فدخل جعفر بن عليٍّ والشيعة من حوله يقدُمهم السمَّان والحسن بن عليٍّ قتيل المعتصم المعروف بسلمة. فلمَّا صُرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن عليٍّ (صلوات الله عليه) على نعشه مُكفَّناً، فتقدَّم جعفرُ بن عليٍّ ليُصلِّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سُمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليٍّ، وقال: تأخَّر يا عم فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي، فتأخَّر جعفر، وقد أربدَّ وجهُه واصفر. فتقدَّم الصبي وصلَّى عليه، ودُفن إلى جانب قبر أبيه (ع) ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتُها إليه، فقلتُ في نفسي: هذه بينتان بقي الهميان، ثم خرجتُ إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنُقيم الحجَّة عليه؟ فقال: والله ما رأيتُه قط ولا أعرفُه. فنحن جلوس إذ قدم نفرٌ من قم فسألوا عن الحسن بن علي (ع) فعرفوا موته فقالوا: فمَن "نعزِّي"؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلَّموا عليه وعزَّوه وهنوه وقالوا: إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممَّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفضُ أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلمَ الغيب، قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان "وفلان" وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لاخذ ذلك هو الامام، فدخل جعفر بن عليٍّ على المعتمد وكشف له ذلك، فوجَّه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وادَّعت حبلاً بها لتُغطِّي حال الصبي فسُلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موتُ عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشُغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين"(1).
هذا هو تمام النصِّ الذي أورده الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتابه كمال الدين وتمام النعمة، وقد نقله عن أبي الحسن عليِّ بن محمد بن خشَّاب أو حبَّاب، قال: حدثني أبو الأديان، فعليُّ بن محمد بن خشَّاب معاصرٌ لأبي الأديان بقرينة قوله في النصِّ الذي سبق هذا النص: "حدثني أبو الأديان"، وعليه فإدراك الشيخ الصدوق (رحمه الله) لمحمد بن عليِّ بن خشَّاب غير مُحرَز، وذلك لبُعد الفاصلة الزمنية بينهما، ولو تجاوزنا الإشكال من جهة اتَّصال السند فإنَّ عليَّ بن محمد بن خشَّاب ناقل النص عن أبي الأديان مجهولُ الحال بل هو مهمَلٌ، لم يُذكر أصلاً في شيءٍ من كتب الأصول الرجاليَّة، وكذلك فإنَّ أبا الأديان صاحب النصِّ المذكور مجهول الحال ومهمَل بل هو مجهول الهويَّة أيضاً، فلا يُعرَف له ولا لأبيه أسم، وكونه من خدم الإمام (ع) وانَّه بصري لم يُعرف إلا من دعواه في هذا النص، فالرواية في غاية الضعف من جهة السند، لذلك لا يصحُّ الاستناد إليها والاحتجاج بشيءٍ من مضامينها التي انفرد بها هذا النص. نعم لا مانع من الاستشهاد في مقام التأييد بالمضامين التي ورد ذكرها في رواياتٍ أخرى متعددة، ولذلك أورد الشيخ الصدوق (رحمه الله) هذا النص رغم ضعف سنده.
هذا هو الإشكال من جهة السند، وهو كافٍ لإسقاط الدعوى المذكورة عن الاعتبار نظراً لكونِها ترتكز على هذا النصِّ الفاقد لشرائط الحجيَّة، فبسقوطه تسقط الدعوى من أساسها.
هذا مضافاً إلى اكتناف موضع الشاهد من النصِّ المذكور على عددٍ من المبعِّدات يُفضي مجموعها إلى الاطمئنان بعدم الوقوع، فموضع الشاهد في النص المذكور هو قول أبي الأديان: "وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعةُ من حوله يعزُّونه ويهنونه"، وقوله في موضعٍ آخر من النص: "فتقدمتُ فعزيتُ وهنيت"، وقوله: "فأشار الناس إلى جعفر بن عليٍّ فسلَّموا عليه وعزَّوه وهنوه".
المبعِّد الأول: إنَّ سياق النص صريحٌ في انَّ تهنئة جعفر وقعت عند فناء دار الإمام (ع)، والإمام مازال مسجىً على المغتسل في بيته، والواعية وصراخُ النساء تعجُّ وتضجُّ بها دار الإمام (ع) كما يُستفاد ذلك من قول أبي الأديان: "فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعةُ من حوله يعزُّونه ويهنونه".
فإذا كان هذا هو ظرف التهنئة، فهل يطمئنُ عاقلٌ سويٌّ بصحة دعوى وقوع التهنئة؟! فهل من اللياقة والأدب أن ينبري الشيعة العاشقون لإمامهم المفجوعون بفقده إلى تهنئة أحدٍ في هذا الظرف الكئيب؟!، وكيف يليق ذلك وإمامهم مازال مسجىً على المغتسل لم يفرغوا حتى من تشييعه ومواراته في قبره؟! وكيف يستسيغون ذلك وصراخ النساء وواعيتهن تملأ الفضاء وتُضفي على الأجواء مشاعر الأسى والحزن. إنَّ صدور التهنئة في مثل هذا الظرف لا يقبلُها الأسوياء لوكان الميِّت شيخاً فانياً فكيف تصدرُ أو يتمُّ التصديق بصدورها والميِّت شابٌّ قويُ البنية صحيحُ البدن مات في ظرفٍ غامض -على أقلِّ تقدير- وبعدُ لم يتم الفراغ من تجهيزه!! وفوق كلِّ ذلك هو امامُهم وموئلهم.
المبعِّد الثاني: إنَّ تهنئة الإمام اللاحق عند وفاة الإمام السابق لم يكن مألوفاً بل ولا معهوداً عند الشيعة في مثل الظرف الذي يصوِّره لنا أبو الأديان، فاستقراءُ تاريخ وفيَّات الأئمة (ع) يرسم صورةً مباينة تماماً للمشهد الذي صوَّره لنا أبو الأديان، فالكآبة والحزن والأسى تكون هي البارزة على محيَّا الإمام اللاحق، وقد يخرج إلى الناس حاسر الرأس حافي القدمين، وكذلك هو حال الشيعة في مثل هذا الظرف.
فالمبادرة لتهنئة الإمام اللاحق من قِبَل الشيعة حين وفاة الإمام السابق ليس معهوداً في تاريخ وفيَّات الأئمة (ع) على امتداد أكثر من قرنين من الزمن، وذلك ما يُعزِّز الارتياب في النص المنسوب لأبي الأديان.
ولولا خشية الإطالة لاستعرضنا ما أفاده الرواة والمؤرخون في توصيف أحوال الأئمة (ع) وشيعتهم في عند وفاة واحدٍ من أئمة أهل البيت (ع)، إلا أنَّه لا يشقُّ على الباحث الوقوف على ذلك في مظانِّه.
المبعِّد الثالث: إنَّ الروايات المتظافرة التي تصدَّت لبيان ما وقع قُبيل وحين وبعد وفاة الإمام العسكري (ع) تتحدَّث عن أنَّ جهاز الدولة العباسية لم يُفارق بيت الإمام (ع) في هذا الظرف، فلم يخلُ بيته حينذاك من القادة والأجناد وأطباء السلطان والقضاة ووجهاء العباسيين، وكذلك فإنَّ دار الإمام ومحيطها في ساعة الوفاة وحين التجهيز لجثمان الإمام (ع) كانت تعجُّ بأخلاط الناس، ولم يكن أكثرهم من الشيعة كما هو المعروف عن مدينة سامراء، وعليه فكانت دواعي التقية في أجلى صورها، فصدق ما زعمه صاحب النص من صدور التهنئة بالإمامة في هذا الظرف من قِبل الشيعة هو في غاية البُعد عن الواقع.
ولتوثيق ما ذكرناه نكتفي بنقل رواية صحيحة الأسناد رواها الشيخ الصدوق في كمال الدين عن أبيه (رحمه الله) وعن شيخه الجليل محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه الله) قالا: "حدَّثنا سعد بن عبد الله -وهو ثقة جليل القدر-قال: حدَّثنا من حضرَ موت الحسن بن عليِّ بن محمد العسكري ودفنه ممَّن لا يُوقف على إحصاء عددهم، ولا يجوز على مثلهم التواطئ بالكذب. وبعد فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وذلك بعد مضي أبي محمد الحسن بن علي العسكري (ع) بثمانية عشر سنة أو أكثر مجلس أحمد بن عبيد الله ابن خاقان، وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم، وكان من أنصب خلق الله وأشدِّهم عداوةً لهم. فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرِّ من رأى، ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد بن عبيد الله: ما رأيتُ ولا عرفتُ بسرِّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن عليِّ بن محمد بن الرضا (ع)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إيَّاه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتَّاب وعوام الناس .. والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليٍّ ما تعجبتُ منه، وما ظننتُ أنَّه يكون. وذلك أنه لما اعتلَّ بعث إلى أبي أنَّ ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم أمير المؤمنين كلُّهم من ثقاته وخاصَّته، فمنهم نحرير وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي وتعرُّف خبره وحاله، وبعث إلى نفرٍ من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه، وتعاهده في صباحٍ ومساء. فلمَّا كان بعد ذلك بيومين جاءه مَن أخبره أنَّه قد ضعف، فركب حتى بكَّر إليه ثم أمر المتطبِّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أنْ يختار من أصحابه عشرة ممَّن يُوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً. فلم يزالوا هناك حتى تُوفي لأيامٍ مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين فصارت سرُّ مَن رأى ضجَّةً واحدة "مات ابن الرضا ".. ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعُطِّلت الأسواق، وركب أبي وبنو هاشم، والقواد والكتُّاب وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرُّ من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة. فلمَّا فرغوا من تهيئته، بعث السلطان إلى أبي عيسى ابن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلمَّا وُضعت الجنازة للصلاة، دنا أبو عيسى منها فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدِّلين، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان. ثم غطَّى وجهه، وقام فصلَّى عليه وكبَّر عليه خمساً وأمر بحمله، وحُمل من وسط داره، ودُفن في البيت الذي دُفن فيه أبوه .."(2).
أورد هذا الخبر -مع اختلافٍ يسير- الشيخ الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عن الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَشْعَرِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وغَيْرُهُمَا وكذلك أورده الشيخ المفيد في الإرشاد عن شيخه أبي القاسم بنفس السند(3).
المبعِّد الرابع: إنَّ ممَّا هو متسالمٌ عليه بين الإمامية هو انَّ الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين (ع)، وقد وردت في ذلك رواياتٌ كثيرة عن الأئمة الذين سبقوا الإمام العسكري (ع) كالإمام الصادق والإمام الرضا (ع)، فمن ذلك ما رواه الكليني وغيره بسندٍ صحيح عن حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّه قَالَ: "لَا تَجْتَمِعُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ إِنَّمَا هِيَ فِي الأَعْقَابِ وأَعْقَابِ الأَعْقَابِ"(4).
ومنه: ما رواه الكليني وغيره بسندٍ صحيح عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَعُودُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ أَبَداً، إِنَّمَا جَرَتْ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ .. فَلَا تَكُونُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (ع) إِلَّا فِي الأَعْقَابِ وأَعْقَابِ الأَعْقَابِ"(5).
فعدمُ اجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (ع) كان من القضايا المُتسَالم عليها منذ الصدر الأول لتبلور مذهب الإمامية، ولهذا يكون ما ورد في نصِّ أبي الأديان -لو حملناه على المعنى الذي ادعاه صاحب الشبهة- منافياً لما هو ثابتٌ بالضرورة من أصول المذهب ومنافياً للأخبار الكثيرة المقطوع بصدورها في الجملة، ولهذا فهو ساقطٌ عن الاعتبار، إذ لا يصحُّ لدى العقلاء التشبث بنصٍّ شاذ والإعراض عمَّا استفاض نقله بأسانيد صحيحة ومعتبرة ومتسالَمٍ على مضمونها.
المبعِّد الخامس: لم يكن جعفر بن عليٍّ معروفاً بالصلاح والعفاف وحسن السيرة ليُحتمل في مثله الأهليَّة للإمامة من قِبل عوام الشيعة اغتراراً بنسبه بل كان على العكس من ذلك، فقد كان مشتهراً بالاستهتار والمقارفة لبعض كبائر الذنوب كمعاقرة الخمر واللعب بالقمار وحضور مجالس اللهو والطرب، والنصوص في ذلك متظافرة، لا يشقُّ على الباحث الوقوف عليها وعلى استفاضتها، حتى قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب الغيبة: "وما رُوي فيه وله من الافعال والأقوال الشنيعة أكثر من أن تُحصى"(6).
وعليه فمَن كانت هذه حاله لا يشتبهُ على الناس أمرُه فينسبوه إلى منصبٍ هو أجلُّ المناصب بعد النبوة، وإذا كان بعض الشيعة فد اغترَّ بنسب هذا الرجل وجهل بواقعه لبُعد موطنه أو لانصرافه إلى شئوناته الخاصة فتوهَّم لذلك وشبهه أهليَّةَ هذا الرجل للإمامة فإنَّ ما لا يمكن تعقُّله أن تنطلي مثل هذه الشبهة على عموم الشيعة خصوصاً من أهل سامراء الذين يعرف أكثرهم واقع هذا الرجل وما كان عليه من تهتُّكٍ واستهتار، وحينئذٍ كيف يسوغ لنا التصديق بما زعمه أبو الأديان: انَّ الشيعة كانوا حول جعفر يعزُّونه ويهنونه خصوصاً وانَّه ادَّعى انَّ فيهم السمَّانوهو من أعيان الشيعة؟!
ثم إنَّ أبا الأديان قد اقرَّ في هذا النص بأنَّه يعرف جعفراً بمقارفة الذنوب، قال: "لأنِّي كنتُ أعرفه يشربُ النبيذ ويُقامر في الجوسَق ويلعب بالطنبور"، فرغم اقراره بأنَّ تلك هي سيرة جعفر إلا انَّه مع ذلك بادر-بحسب زعمه-إلى تهنئته، وذلك ما يُسوِّغ لنا احتمال أنْ تكون التهنئة التي زعمها غير متَّصلة بالإمامة، لأنَّ الضرورة قائمة على انَّها لا تليق بمَن كانت هذه سيرته، ولهذا فمن المحتمل قويَّاً إنَّ التهنئة التي زعم وقوعها كانت متَّصلة بشأنٍ آخر غير الإمامة كالتهنئة مثلاً بمنصبٍ يقتضيه نسبُه، فلعلَّهم كانوا يُهنئونه بمثل تسنُّمه لنقابة الطالبيين أو الوصاية على أملاك وأوقاف الإمامين الهادي والعسكري (ع) أو شبه ذلك، ولهذا قلنا في بداية الجواب عن الشبهة: انَّ النصَّ المذكور لا ظهور له في أنَّ التهنئة كانت بالإمامة لاستبعاد أنْ يعترف ابو الأديان بمعاقرة جعفر للنبيذ ولعبه بالقمار والطنبور ثم يُبادر لتهنئته بالإمامة.
ويُؤكِّد استبعاد أنْ يكون المراد من التهنئة هي التهنئة بالإمامة ما ورد في ذات النص أنَّ وفد القميين الذين قدموا بعد وفاة الإمام (ع) بادروا إلى تعزية وتهنئة جعفر لكنَّهم في ذات الوقت رفضوا تسليمه للكتب والأموال التي يحملونها وطلبوا منه اخبارهم أولاً بأسماء أصحاب الكتب التي يحملونها ومقدار المال الذي يحملونه وقالوا: "إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممَّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفضُ أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلم الغيب"(7).
فلو كان مراد القميين من تهنئتهم له هي التهنئة بالإمامة فإنَّه لا معنى بعد ذلك لرفضهم تسليمه للأمانات التي بأيديهم، ولا معنى لامتحانه بعد أنْ أقرَّوا بإمامته فإنَّ ذلك يؤكِّد انَّ تهنئتهم له لم تكن بالإمامة وإنَّما هي تهنئةٌ بمنصبٍ لعلَّه قد ثبت له من جهة النسب وإنْ كان جعفر قد طمع لخفَّة عقله أن تكون التهنئة بما هي أوسع.
هذه مبعِّداتٌ خمسة يُشرف المتأمل فيها يسيراً على القطع بكذب ما ورد في نصِّ أبي الأديان من دعوى تهنئة الشيعة لجعفر بن علي بالإمامة، نعم لو كانت التهنئة المزعومة على أمرٍ آخر غير الإمامة لأمكن احتمالها دون الجزم بوقوعها وبسقوط النصِّ المذكور عن الاعتبار والحجيَّة تسقط دعوى انَّ الشيعة بادرت إلى تهنئة جعفر بالإمامة من أساسها، لأنَّه ليس في البين ما يصلح لأثبات هذه الدعوى سوى هذا النص الضعيف من جهة السند والشاذ من جهة المتن.
اشتباه بعض الشيعة لا يعبِّر عن عدم وضوح العقيدة المهدويَّة:وأما أنَّ بعض الشيعة قد لُبِّس عليهم في بدايات الغيبة الصغرى فتوهَّموا إمامة جعفر بن علي -إما لبُعدهم عن أجواء الأئمة (ع) وأصحابهم أو لتضليل المضلِّين أو لمصالح شخصية أو ما أشبه ذلك- فهذا صحيح لكنَّه لا يُعبِّر عن عدم وضوح العقيدة المهدوية عند جمهور الشيعة، فإنَّ وقوع بعض الشيعة في شبهةٍ تصرفهم عمَّا عليه الضروري من أصول المذهب أمرٌ غير مستغرَبٍ ولا هو مستوحَش كما هو الشأن في سائر الملل والمذاهب، فلا يصحُّ لعاقلٍ يحترمُ عقله أن يتشبَّث بوقوع بعض المنتسبين لمذهبٍ في شبهةٍ لإثبات انَّ مورد تلك الشبهة لم يكن أمراً بيِّناً وواضحاً عند جمهور ذلك المذهب، فإنَّ مبرِّرات وقوع بعض المنتسبين لمذهبٍ في الاشتباه أو الانحراف عن مذهبهم ليست معدومة، فلا يصحُّ عند العقلاء الاستدلال بذلك على أنَّ مورد اشتباههم كان أمراً غامضاً عند الجمهور، فالذي يصلح لإثبات الغموض لقضيةٍ في مذهبٍ هو اشتباه جمهور ذلك المذهب من علمائه والسواد الأعظم لمنتسبيه، على أنَّ التضخيم لما وقع في بدايات الغيبة الصغرى من توهُّم بعض الشيعة لإمامة جعفر هي محاولة تفضحُ وهنَها وزيفَها حقائقُ التأريخ التي تؤكِّد أنَّ ما عليه جمهور الشيعة في مختلف الحواضر الإسلامية هو الاعتقاد بإمامة الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) وأنَّ عدد مَن اعتقد بامامة جعفر كان محدوداً جداً ثم ما لبث أكثرهم أنْ تراجعوا بعد أن تبيَّن لهم فسادُ ما كانوا قد وقعوا فيه، ومَن بقي منهم على ضلاله لم يتمكَّن من تمريره حتى على عقِبه وذوي قرابته، فلم يبقَ في الجيل الذي تلا هؤلاء المضلِّين أحدٌ يقبل بمعتقدهم.
يقول الشيخ أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، وهو من أعلام القرن الثالث الهجري وكانت وفاته بين 300ه و310ه أي أنَّ نشاطه العلمي كان في بدايات الغيبة الصغرى التي بدأت سنة 260ه وانتهت سنة 329 فوفاة الرجل وقعت قبل انقضاء الغيبة الصغرى بعقدين أو أكثر من الزمن، يقول (رحمه الله) في كتابه فرق الشيعة: -كما حكى عنه ذلك الشيخ المفيد في الفصول المختارة-: فقال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر (ع) وأثبتوا ولادته وصحَّحوا النصَّ عليه، وقالوا هو سميُّ رسول الله (ص) ومهديُّ الأنام، واعتقدوا أنَّ له غيبتين إحداهما أطول من الأخرى، والأولى منهما هي القصرى، وله فيها الأبواب والسفراء، ورووا عن جماعة من شيوخهم وثقاتهم أنَّ أبا محمد الحسن (عليه السلام) أظهره لهم وأراهم شخصه .."(8).
فهذا هو مذهب جمهور الشيعة منذ بدايات الغيبة الصغرى، وأمَّا الآراء الشاذة التي نشأت نتيجة بُعد بعض أبناء الشيعة عن أجواء الائمة (ع) وأصحابهم أو نتيجة الظروف السياسية أو تضليل المضلِّين فهي آراء ما لبثتْ أنْ تبخَّرت وعفى عليها الدهرُ، وتخلَّى عنها معتنقوها أو ماتت بموتهم فلا تجد لهم من باقية، لأنَّها كانت فاقدة لأبسط مقوِّمات البقاء.
يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) في الفصول المختارة بعد استعراضه وتفنيده للآراء الشاذَّة التي تبنَّى كلٍّ منها فريقٌ من المنتسبين للشيعة بعد وفاة الإمام العسكري (ع) قال (رحمه الله): وليس مِن هؤلاء الفرق التي ذكرناها فرقةٌ موجودة في زماننا هذا، وهو من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلا الإماميَّة الاثنا عشرية القائلة بإمامة ابن الحسن المسمَّى باسم رسول الله (ص) القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت قيامه بالسيف، حسبما شرحناه فيما تقدَّم عنهم، وهم أكثر فرق الشيعة عدداً وعلماء ومتكلِّمين ونظَّاراً وصالحين وعبَّاداً ومتفقِّهة، وأصحاب حديث، وأُدباء وشعراء، وهم وجه الإماميَّة ورؤساء جماعتهم والمعتمَد عليهم في الديانة. ومَن سواهم منقرضون .."(9).
*المقال رداً على سؤال: أحدُهم ادَّعى انَّه بعد وفاة الإمام العسكري (ع) اتَّجه الشيعة إلى جعفر ابن الإمام الهادي المعروف بالكذَّاب فعزَّوه بوفاة أخيه وهنئوه بالإمامة ثم بعد ذلك انقلبوا عليه واعتقدوا بالإمام الثاني عشر المهدي (ع). فإذا صحَّت هذه الدعوى ألا تُعبِّر تهنئتُهم لجعفر بالإمامة عن عدم وضوح العقيدة بالمهدي عند الشيعة؟ الهوامش: 1- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص475. 2- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص40. 3- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص505، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص324. 4- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص286. 5- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص285. 6- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص227. 7- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص476. 8- الفصول المختارة -الشيخ المفيد- ص318. 9- الفصول المختارة -الشيخ المفيد- ص321.