ظاهر الآية أنَّ الضنك والضيق والشقاء في المعيشة تُصيب المعرض عن ذكر الله في الدنيا بقرينة قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ فإنَّ ظاهر الآية أن المعرض عن ذكر الله يُبتلى بضيق المعيشة في الدنيا ثم يُحشر يوم القيامة أعمى، وهذا بخلاف ما نجده من أنَّ الكثير من المعرضين عن ذكر الله تعالى في رغدٍ وسعة من العيش، وكذلك فإنَّ العديد من الآيات نصَّت على أنَّ الكافرين يُمتعون في الدنيا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾(2).
فكيف نوفِّق بين ما دلَّ على أنَّ الكافر يمتع في الدنيا وبين الآية التي أفادت أنَّ المعرض عن ذكر الله تكون له معيشة ضنكا.
ليس المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ هو الضيق في الرزق أو المرض أو عدم الأمن أو غيرها من أسباب الضيق في المعيشة، فإنَّ ذلك يُصيبُ الكافر ويُصيب المؤمن بل المراد من الآية- ظاهراً- هو أنَّ المُعرِض عن الله والجاحدَ لوجوده والمنكرَ لربوبيته يكون تعلُّقه متمحِّضاً بالدنيا لا يرجو غيرها لذلك يشتدُّ حرصُه على أن يتنعَّم فيها بأقصى ما يُتاح له، فهي الفرصة السانحة التي لا تقبل التكرار بحسب اعتقاده، ولهذا فإنَّه كلَّما حظيَ فيها بنعيمٍ أو لذَّة فإنَّه يحرصُ على أن يحظى بما هو أكثر فيكدح ويشغل قلبَه ويُجهد نفسه لغرض الوصول إلى ما يرغب إليه من المزيد فيشغله حرصه الدائم على المزيد عن الشعور بالهناء والسعادة الكاملة بما في يده، وهذا الحرص هو ما يبعثُ في نفسِه الشعور بالضيق، فلا يكاد يشعرُ بالراحة حتى تُساوره مشاعر الجشع والنهَم وطلبِ المزيد، وذلك ما يُكدِّر صفوه ويُقلق راحته لأنَّه يخشى أن يموت قبل الوصول إلى رغباته ومشتهياته التي لا تنتهي، ولا تقفُ عند حد.
ثم إنَّ الشعور بالهمِّ وضيقِ الصدر لا ينشأ عن طلب المزيد وحسب بل ينشأ كذلك عن الخشية من زوال ما بيدِه من أسباب الراحة، فهو يخشى دائماً أنْ يُصاب بمرضٍ يمنعُه من التلذُّذ بما في يدِه أو يخشى على أموالِه من التلف أو الضياع وعلى تجارته من الخسارة أو يخشى من ذهاب المنصب أو الموقع الذي يتبوأه أو يخشى أن يفقد مَن يُحبُّهم ويألفُهم، ويخشى أنْ يتقدَّم به السنُّ فلا يُتاح له التلذُّذ بما تحت يده، فهو دائماً في غمٍّ وهمِّ واضطرابٍ وقلقٍ وخوف من المجهول. وهذا هو معنى ضنك المعيشة التي يُبتلى بها المُعرِض عن ذكر الله والذي لا يرجو اللهَ واليوم الآخر.
وكذلك فإنَّ الحياة بطبعها محفوفة بالمكاره والمنغِّصات، فإنَّ ذلك لا يخلو منه إنسان، فلا تخلو الحياة من فقدٍ للأحبة أو إخفاق في مسعى أو عارض من مرضٍ أو عداوة أو خصومة وغير ذلك من المكاره والمنغِّصات، فالإنسانُ الذي لا يُؤمن بالله واليوم الآخر يضيقُ صدره بهذه المكاره أشدَّ الضيق لأنَّه يعتقد بأنَّ هذه الحياة غيرُ قابلةٍ للتكرار، فهو يرى أنَّ هذه الكاره وهذه المُعوِّقات تُفوِّتُ عليه فرصته الوحيدة في الاستمتاع والسعادة، لذلك فهو يشعر بالضيق والغيظ والتبرُّم والخشية من أنْ يمضي العمر على هذه الوتيرة.
وعلى خلاف ذلك المؤمنُ بالله حقَّ الإيمان والمعتقِدُ صادقاً أنَّ لهذه الدنيا ما وراءها وأنَّ المكارَه والمصائب معوَّضة بأوفرِ ما يكون العوض، وأنَّ ثمة حياةً بعد هذه الحياة ليس فيها موت، وأنَّ ثمة نعيماً لا يشوبه تنغيص ولا يخطر امتدادُه وسِعتُه على قلب بشر، وأنَّ هذه الدنيا دارُ بلاءٍ وامتحان مَن صبرَ فيها على المكروه وعمل فيها بمرضاتِ الله كان مآله إلى جنَّة يحظى فيها بعطاءٍ وافرٍ غير مجذوذٍ ولا مقطوع، مثلُ هذا يتلقَّى مكاره الدنيا بقلبٍ مطمئنٍ واثقٍ بوعد الله الصادق: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(3) وإذا أصاب من هذه الدنيا خيراً شعر بالقناعة والامتنان لربِّه ولم تذهبْ نفسُه حسراتٍ على ما يفوته من نعيمِ هذه الدنيا، لأنَّه ينتظرُ نعيماً واسعاً ليس له انقطاع فذلك هو ما يبعثُ في نفسه الشعور بالقناعة والرضا بما قُدِّر له في هذه الدنيا ، وهذه القناعة هي التي تمنحُه الراحة والاستقرار.
وخلاصة القول: إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ هو أنَّ المعرِض عن ذكر الله تعالى يكون حظُّه من هذه الحياة ضيقَ الصدر واضطراب البال والحرص الشديد على الاستكثار من الملذَّات والخشية من فوات ما في يدِه منها ، وهو ما يسلب منه الشعور بالراحة والاستقرار، فلا يكادُ يشعر بالسعادة حتى تُساوره مشاعر القلق والخوف من المجهول فتُحيل غبطته بما صار في يده إلى توجُّسٍ واكتئاب.
الهوامش: 1- سورة طه / 124. 2- سورة لقمان / 23-24. 3- سورة الزمر / 10.