و قيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالی: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ
[الحشر، ٢٢.]
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولی بين المؤمنين بالأديان السماوية، و بين منكري الخالق و الوحي و القيامة. و من هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.
المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، و اجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم علی جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي. و هذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية و التقدمية و التطورية! لو قارنّا بين فهم الفريقين و رؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر و أوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، و خالق عالم الوجود غير متناه في العلم و القدرة و الإدراك، و أنّه أزليّ و أبديّ. و أنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. و يعتقدون أنّ الإنسان- بما يحمله من روح إنسانية- يسمو بكثير علی سائر الحيوانات. و أنّ الموت ليس بمعنی العدم و الفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، و نافذة تطل علی عالم أوسع و أكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه و نراه. و أن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. و الإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشی بدنه، و تندمج أجزاؤه مرّة اخری بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، و ليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه و بين سائر الحيوانات
[نقلا عن:« محمّد و القرآن».]
٢! ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون و الحياة! و ما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية و سلوك و نظام! الرؤية الاولی تربّي صاحبها علی أن ينشد الحق و العدل و الخير و مساعدة الآخرين. و الثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر علی ممارسة الأمور اللهم إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم و الإخاء و الطّهر و التعاون، بينما تهيمن علی حياة الماديين روح الاستعمار و الاستغلال و سفك الدماء و النهب و السلب. و لهذا السبب نری القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوی.
يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلی ذات الباري تعالی، أم أنه يشمل- أيضا- الوحي و القيامة و عالم الملائكة و كل ما هو وراء الحس؟ و نحن نعتقد أن الآية أرادت المعنی الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس- كما ذكرنا- أول نقطة افتراق المؤمنين عن الكافرين، إضافة إلی ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنی خاص.
بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام اللّه عليه) و الذي نعتقد بحياته و خفائه عن الأنظار، و هذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنی الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، و سنری في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. و الروايات المذكورة بشأن تفسير معنی الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنی الإيمان بالغيب، ليشمل حتی الإيمان بالمهدي المنتظر عليه السّلام و يمكننا القول أنّ الغيب له معنی واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.
*مقتطف من تفسير الأمثل ج1