لماذا تغزو برامج «الفُكاهة» شهر رمضان؟!

محمد علي جواد تقي
زيارات:906
مشاركة
A+ A A-
يسود اعتقادٌ حول الصيام في شهر رمضان المبارك، والإمساك عن الفطرات مثل الطعام والشراب والملذات الجنسية، أنه يخلق نوعاً من الضغط النفسي، الى جانب الضغط البدني بحصول ألم الجوع والعطش الى حدٍ ما الامر الذي يستدعي جملة من الاعمال والنشاطات المخففة عن ذلك الضغط، والباعثة على الانبساط والارتياح بعد ساعات الإمساك والالتزام الشديد في وقت النهار، ومن أسهل هذه الاعمال الجلوس أمام التلفاز ومشاهدة برامج تُعد خصيصاً لهذه الايام تحتوي على مضامين خالية من الجدّية والواقعية، بل تحمل المشاهد الى عالم الفكاهة والنكتة.

وبما أن الهمّ الأول للإعلام المرئي استقطاب أكبر عدد من الجمهور، فانه لم يألوا جهداً طيلة سنوات مديدة في إعداد سلسلة من البرامج التمثيلية الساخرة على شكل حلقات طوال ليالي الشهر الفضيل، وهي تسلط الضوء على ظواهر اجتماعية معينة ترجو منها جذب تفاعل شريحة من المشاهدين، وقد انطلقت محطات فضائية عربية عديدة في عملية تنافس وسباق محموم لمن يقدم أكثر البرامج الفكاهية جذباً للجمهور الصائم.

العلاقة بين الفكاهة التلفزيونية وفترة ما بعد الإفطار

تتبعت أمر هذه العلاقة علمياً بين الزملاء من ذوي الاختصاص في الإعلام وعلم النفس لمعرفة حقيقة تأثير هكذا نوع من البرامج التلفزيونية على الصائم في مرحلة ما بعد الإفطار، فاتضح عدم وجود علاقة بين الاثنين من الناحية العلمية بقدر ما هو نوعاً من الاستغلال لحالة نفسية معينة يمرّ بها الصائم أو بعض الصائمين في اللحظات الاخيرة من الإمساك، ثم ما تتولد لديه من مشاعر بعد الإفطار، فيكون المسعى "لتغيير نمط حياة المسلمين لحرف البوصلة عن الهدف الرئيس لشهر رمضان المبارك، وذلك من خلال أدوات الحرب الناعمة، وقد حققوا نجاحاً كبيراً في ذلك"، يقول الاستاذ والمرشد التربوي، عزيز ملاهذال، ماجستير علم النفس.

ومن الناحية الثقافية فان ثغرة دقيقة حددها الاستاذ في الإعلام الدكتور مسلم عباس، أتاحت الفرصة للقنوات الفضائية، وتحديداً للقائمين على إنتاج المسلسلات والبرامج الفكاهية هذه الايام، وهي استغلال "الحالة المزاجية غير المستقرة للجمهور التلفزيوني الذي يصوم لأسباب اجتماعية أكثر منها دينية، وعلى هذا الاساس تبنى الرسالة الاعلامية في المسلسلات الفكاهية"، وهذا يؤكد عدم وجود حاجة حقيقية في داخل نفس الانسان الصائم تدعوه للانبساط والارتياح من خلال ما يجعله يضحك ملء شدقيه ليخرج من حالة الانقباض والضغط المفروض عليه بسبب أحكام الصيام، فإن كان الصيام عن إيمان وفهم بأن ما يفعله يعود عليه بالمنفعة المادية والمعنوية، لما احتاج الى ما يملأ فراغ نفسه بالضحك واللهو في فترة ما بعد الإفطار.

ولطالما كتب علماء الدين والأخلاق والتهذيب، وتحدثوا وبحثوا في الفوائد الجمّة للصيام في شهر رمضان، وما لهذا الشهر من آثار مباشرة على التماسك الاجتماعي، وعلى تعميق الوعي الديني من خلال انتشار المحافل والمجالس للرجال والنساء في كل مكان، مما أوجد لنا طقساً رمضانياً جميلاً في معظم البلاد الاسلامية، ولاسيما البلاد التي تحظى بوجود المزارات المقدسة، وفي مقدمتها العراق، بيد أن المكمّل لهذا الطقس الظاهري في الشوارع والاماكن العامة، هو الطقس النفسي والروحي إن صحت العبارة الذي يعمّق الحالة الإيمانية لدى الانسان الصائم بأنه يمسك عن المفطرات ليس فقط امتثالاً للأمر الإلهي، ثم اكتساب بعض الفوائد الصحية، وإنما لتحقيق نسبة جيدة من التكامل والتسامي بتجسيد الغاية القصوى للصيام وهي التقوى وفق صريح الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

فمن يرنو الى الأعالي من التكامل في الفهم والمعرفة والإيمان، لن يقبل لنفسه تضييع لحظة واحدة بالتطلع نحو الاسفل، وما فيه من اسفاف في منحدرات التفاهة، بل العكس فهو يبحث عن الكلمة المسؤولة في البرنامج المفيد ذو المحتوى العميق الذي يتمم عليه فرحته بعد الإفطار بالاستزادة من فوائد الصيام بمعارف جديدة من خلال برامج رمضانية على الشاشة الصغيرة، الى جانب أعماله العبادية المنصوص عليها في كتب الأدعية، وقراءة القرآن الكريم والتدبّر في آياته، يقول الحديث النبوي الشريف: "للمؤمن فرحتان: الاولى عند الإفطار، والثانية عند لقاء ربه"، فالفرحة على مائدة الإفطار يتحسسها من بذل جهده للتسامي طيلة ساعات الصيام، فيشعر أنه قبض مكافأته عند لحظة غروب الشمس وحلول موعد الإفطار وانتهاء يوم من أيام الصيام.

طرائق الحكمة أم طرائق الاستهزاء

الصائم في شهر رمضان المبارك ليس محكوماً عليه بالعبوسيّة ليلاً ونهاراً بدعوى التعبّد والتقرّب الى الله تعالى إنما بامكانه توفير كل اسباب الراحة والانبساط النفسي، سواءً في شهر الصيام وفي سائر الشهور، باستحضار الحِكَم والمفاكهة والملاطفة بين الاخوان بما يعزز الأواصر ويطيّب النفوس، لا أن تكون علاجاً لمشاكل وأزمات نفسية كما ذهب اليه علماء النفس في الغرب عندما وجدوا في الفكاهة والضحك طوق نجاة من الغرق في الهموم والشجون والكآبة.

فهذا عالم النفس البريطاني وليام ماكدوغال يعد "الوظيفة الاساسية للضحك هي وقايتنا من الألم"! ويستشهد بمثال انزلاق سيدة على الأرض، فإن الشعور بالألم هي الحالة الأولى، لكنها تضحك بعدها بلحظات "حتى لاتنفجر بالبكاء"!

نفس الأمر يذهب اليه عالم النفس النمساوي الشهير: سيغموند فرويد بقوله "إن الفكاهة عامل سمو أخلاقي لإنكار الواقع أو تقبله والاستسلام اليه لاستبعاد الألم"، ولعله بهذه النظرية ومعه سائر علماء النفس في الغرب يقدومون حلولاً لمشاكل نفسية متفشية في المجتعات الغربية طيلة القرن الماضي، فهو يعد الضحك والفكاهة ابتكاراً جيداً لمواجهة الخيارات السيئة الاخرى المتمثلة بالسُكر، والعصبية والانطوائية.

وهذا يعني أن الفكاهة، وبالتحديد الانتاج الكوميدي في السينما والتلفزيون في بلادنا الاسلامية بشكل عام لا يمثل حاجة ماسّة كما هو الحال في البلاد الغربية، وغياب هذه الحقيقة هو الذي جعل الكوميديا تتسرب الى الشاشة الرمضانية على حين غفلة، إذ ليس من واقع مأساوي بمعنى الكلمة نعيشه حتى نكون بحاجة الى ما يمحو مشاعر الحزن والألم والقلق كالتي تعيشه الشعوب الغربية بسبب نمط الحياة الاقتصادية المعقدة طيلة القرن الماضي، ثم أضيفت اليها حربين عالميتين حصدت أرواح الملايين ومزقت المجتمعات، وأفسدت المشاعر الانسانية، لاسيما لدى الشعوب الاوربية تحديداً التي وجدت نفسها وحيدة على رماد الحروب ثم على مائدة النظام الرأسمالي القاسي دون غطاء معنوي من القيم الدينية الواضحة والهادية الى سواء السببيل.

نعم يعيش الشعب العراق مثلاً مشاكل اقتصادية وأزمة في الخدمات وفساد إداري ليس وحده المسؤول عنها إنما هي من فعل النظام السياسي الحاكم بالدرجة الاولى، فهو لا يحتاج للهرب من واقعه او الاستهزاء به وتجاهله، بقدر ما يحتاج لتقويمه وإصلاحه بروحية شفافة ونفس قوية ملؤها الثقة والإرادة، وهذه النفس والقلب بدوره يحتاج الى بعض الترطيب والتطييب من وسائل الاعلام، لاسيما المرئية منها ليستعيد نشاطه كما يستعيد القلب العضلي نشاطه بتمارين رياضية، وذلك بما ينفع ويضيف معلومة او معرفة للمشاهد كما جاء في الحديث المأثور عن أمير المؤمنين: "إن هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم".

مواضيع مختارة