إن الإنسان الذي ينفرد في قمة جبل ليتفرغ للعبادة ثم يعبد الله في تلك الحال أكثر من ثمانين سنة وهي ألف شهر؛ لبلغ مقاما شامخا. أليست هذه السنوات الثمانين قد اختصرها سبحانه لنا في ليلة واحدة؟ أكثر من ثمانين سنة من العبادة الخالثة؛ فلا يتخلل هذه السنوات أكل ولا شرب ولا نوم ولا ما شابه ذلك. فلو اغتنم المؤمن هذه الليالي، ألا يصل إلى المقامات العالية؟ وقد يسأل سائل فيقول: أيعقل أن ينال الرجل في ليلة ما يناله العابد في سفح جبل في أكثر من ثمانين سنة؟ وأقول: نعم، يُعقل هذا. لأن الأول يتكل على جهده وصاحب ليلة القدر يتعرض إلى الفضل الإلهي. فالذي يُعطيك بأقل الأعمال جنة عرضها السماوات والأرض، يُعطي العباد مقام ألف شهر في ليلة واحدة.
إن يوم عرفة يشبه ليلة القدر في تفضل الله فيه على العباد. فمن فاتته ليلة القدر أو لم يُحيها كما ينبغي، فعليه أن يغتنم يوم عرفة الذي لم يُرى الشيطان في يوم ذليلا حقيرا كمثله. ولا ينبغي أن يقول قائل: إنني بحمدالله أديت ما علي في ليلة القدر، فتفوته فرصة يوم عرفة. لا نجد مؤمنا لا يدعو الله عز وجل في ليلة القدر ومع ذلك نرى الكثير من المؤمنين يشعرون بأنهم مقصرون وأنهم لم يُعطوا ليالي القدر حقها، ولذلك أعينهم شاخصة نحو هذا اليوم.
كيف نستعد لاغتنام الفرصة في يوم عرفة؟فمن أيقن بعظمة يوم عرفة استعد له قبل مجيئه. إن من يُريد السفر، يشتري التذكرة ويحجز مكانا ويجدول سفره ذهابا وإيابا وإلى آخر ذلك. إننا نتهيئ لاستقبال شهر رمضان المبارك من خلال ما نقوم به من الأعمال في شهري رجب وشعبان ونستعد لليالي القدر في الأيام التي تسبق هذه الليلة من شهر رمضان المبارك. وينبغي أن نتهيأ لهذا اليوم كما هيأ الله موسى (ع) حيث وعده ثلاثين ليلة وهي الليالي الثلاين من شهر ذي العقد وأتممها بعشر وهي الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة كما ذهب إلى ذلك الكثير من المفسرين. وينبغي أن يلتزم المؤمن بصلاة بين المغرب والعشاء في العشرة الأولى من شهر شي الحجة يقرأ فيها بالإضافة إلى سائر التفاصيل التي ذكرتها كتب الدعاء قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)[١].
كان يتحسر على الحج، فقلت له: أين أنت عن زيارة الحسين (ع)؟!
لقد رأيت ذات يوم رجل في مشهد أمير المؤمنين (ع) يتحسر على الحج كثيرا وكان يحاول بشتى الطرق أن يجد للحج سبيلا. فقلت له: لماذا تتألم وباستطاعتك زيارة الحسين (ع)؟ هل الذي يزور الحسين (ع) مغبون أو خاسر؟ إن على المؤمن أن يسعى للحج الواجب بكل ما أوتي من مال وقوة حتى إن اضطر إلى أن يبيع بعض ما يملك إسقاطا للتكليف ولكن إن لم يُوفق لذلك فليكثر من الدعاء الذي نلهج فيه في شهر رمضان والذي نطلب فيه من الله حج بيته الحرام.
لقد كنا في مرات كثيرة في الحج يوم عرفة، وهو يوم تكتظ فيه الخيام ودرجة الحرارة عادة ما تكون مرتفعة ولا يوجد ظل أحيانا يُستظل به، ناهيك عن كثرة الضجيج والإزعجات والتقييد الذي يفرضه الإحرام وإلى آخر ذلك. ولكن الأمر يختلف عند الحسين (ع)؛ حيث الأجواء مهيئة وليس ثمة مزعج، ولا مزاحم، وهناك من يقرأ دعاء عرفة من أوله إلى آخره، وهو ملتصق بضريح الحسين (ع) صاحب الدعاء. فهل تظن أن مقامك هذا مقام هين؟ إن هذا الإنسان جدير بأن يغبطه المؤمنون. فإذا فاتك الحج؛ لا تفتك زيارة الحسين (ع) في يوم عرفة. وقد تعطى عند الحسين (ع) ما لا تعطى عند غيره، لما روي عن الإمام الصادق (ع): (إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْدَأُ بِالنَّظَرِ إِلَى زُوَّارِ قَبْرِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ)[٢].
هؤلاء يفضلهم الله على زوار بيتهوقد يعجب البعض من هذه الرواية ويعدها مبالغة وليس في الأمر مبالغة. تصور أنك دعوت أنا إلى منزلك ليلة، وهم ضيوفك، وأعزاء عليك، تُكرمهم وتُحسن وفادتهم. ولكن في الأثناء يُصاب ولدك بحادث سير فينزف دما وهو على وشك الهلاك؛ فيأتيه طبيب ويقف عليه ويأخذه إلى المستشفى ويهتم لك بعلاجه، ويرجعه لك حياً. في مثل هذه الحالة؛ هل تستقبل الطبيب أولا وبحرارة بالغة أم تستقبل زوارك؟ بالتأكيد تستقبل الطبيب، لأنه أنقذ ولدك. إن الحسين (ع) هو الذي نقرأ عنه في الزيارة: (اِسْتَنْقَذَ عِبَادَكَ مِنَ اَلْجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ اَلضَّلاَلَةِ)[٣]. لقد خرج الحسين (ع) لطلب الإصلاح في أمة جده (ص)، ولولا الحسين (ع) لما بقي من الإسلام إلا اسمه. كيف لا وهو قد وقف أمام من كان يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
وهناك أعمال كثيرة في ذي الحجة وفي يوم عرفة؛ يجدر بالمؤمن أن يراجع كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس للوقف عليها، بغض النظر عن الأعمال التي وردت في كتب أخرى ككتاب مفاتيح الجنان وضياء الصالحين. إنه كتاب قيم لصاحبه الذي عُرف عنه أنه كان ممن يتشرف بلقاء الإمام المهدي (عج). لو أحصينا في تاريخ الغيبة الكبرى الشخصيات المعدودة التي تشرفت بلقاء إمام زمانها؛ لكان هذا السيد الجليل أحدهم، وكان يُلقب بسيد المراقبين، وجمال السالكين.
ورد في الإقبال؛ أن من يريد يوم عرفة مميز، فلابد وأن يهيأ نفسه من أول النهار. إذا انشغل المؤمن أول النهار بالقيل والقال وبالسوق والعمل؛ كيف يُقبل في دعائه؟ يأخذ الكثير إجازة لأسبوع أو أسبوعين، من أجل الاصطياف في الجبال العالية والوديان السحيقة، والأجدر بهؤلاء أن يُخصصوا بعض هذه الإجازات لأيام العبادة كالعشرة الأولى من شهر ذي الحجة. إن يد الشيطان مغلولة في شهر رمضان المبارك، والمؤمن في ضيافة الله سبحانه، أنفاسه تسبيح ونومه عبادة؛ ولكن الشيطان لا يدعه وهذا المكاسب وإنما يُحاول النتقام منه في أول أسبوع من شهر شوال، فإن فلت منه في تلك الأيام، تربص به في يوم عرفة ليرحمه الدعاء والمناجاة.
يا حذار من العقاب في يوم عرفةألسنا نقرأ في دعاء أبي حمزة: (اَللَّهُمَّ إِنِّي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ وَتَعَبَّأْتُ وَقُمْتُ لِلصَّلاَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَنَاجَيْتُكَ أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعَاساً إِذَا أَنَا صَلَّيْتُ وَسَلَبْتَنِي مُنَاجَاتَكَ إِذَا أَنَا نَاجَيْتُ)[٤]. فقج تفتح في يوم عرفة كتاب المفاتيح؛ فيلقى عليك النعاس، وتبتلى بقسوة القلب. إن رجلا شكا إلى أمير المؤمنين (ع) أنه لا يقوم لصلاة الليل، فقال له (ع): (احدنا يشتري منبهة، ساعة، يوصي أهله ليوقظوه، لا ينفع الجثة الهامدة، الامام ذكر السبب؛ قال: (أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ)[٥]. قد تشتري أفضل المنبهات وتوصي أهلك أن يوقظوك لصلاة الليل مثلا وقد تنام باكرا ومع كل ذلك لا تستيقظ، لأن الله سبحانه يريد أن يعاقبك.
فاحذر العقاب في يوم عرفة أيضا. إنني كنت أرى في بعض الخيام في الحج من الحجاج من جاء إلى الحج، ودفع الأموال، وهو ينتظر لسنوات، وفي يوم عرفة وقت الزوال، يصلي صلاة سريعة؛ لئلا يفوته طعام الغداء…! ثم يكثر من الطعام فيثقل ويستلقي في زاوية الخيمة، ثم يدعو وهو مستلق على الأرض أو يسمع دعاء الآخرين. ثم بعد ذلك يؤذن المؤذن ويذهب إلى مزدلفة. إن هذا الرجل لم يُكرمه الله عز وجل ولم يدعوه إلى بيته وإنما أتى إسقاطا للتكليف. فإذا أردنا ألا نُبتلى بذلك؛ فينبغي لنا الاستعداد ومراقبة القول والنظر فضول الكلام، والهذر، والنظرة المحرمة، وإلى آخر ذلك.
من أهم التهليلات في أيام ذي الحجةوما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام؛ أيام عشرة ذي الحجة، وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي اَلْحِجَّةِ يَقُولُ هَذِهِ اَلْكَلِمَاتِ عَشْرَ مَرَّاتٍ عِنْدَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا: لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ اَللَّيَالِي وَاَلدُّهُورِ لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ أَمْوَاجِ اَلْبُحُورِ لاَ إله إلا اَللَّهُ رَحْمَتُهُ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ اَلشَّوْكِ وَاَلشَّجَرِ لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ اَلشَّعْرِ وَاَلْوَبَرِ لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ اَلْحَجَرِ وَاَلْمَدَرِ لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ لَمْحِ اَلْعُيُونِ لاَ إله إلا اَللَّهُ فِي اَللَّيْلِ إِذٰا عَسْعَسَ، وَفِي اَلصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ، لاَ إله إلا اَللَّهُ عَدَدَ اَلرِّيَاحِ فِي اَلْبَرَارِي وَاَلصُّخُورِ لاَ إله إلا اَللَّهُ)[٦].
وهي تهليلات منعشة لو تأمل فيها الإنسان. وإن البعض ليعجب من الأعداد الهائلة النجومية، وعدد الشعر والوبر، ويقول: كم على الأرض من الدواب؟! وكم من الأمواج؟! وكم هي لمح العيون في كل يوم لمليارات البشر؟ لو جمعت هذه الأعداد لتجاوزت مليارات المليارات، فكيف يُعطي الله سبحانه هذا الأجر على هذه الكلمات البسيطة؟ نعم، يُمكن لرب العالمين في مجلس واحد أن يعطيني هذا الأجر العظيم.
لماذا تستغرب من عطاء الله؟ولا تستغرب من عطاء الله هذا. لقد سبق أن عامل رب العالمين المؤمنين بهذه المعاملة. إن المؤمن يعبد الله ستين سنة ناقصا منها أيام البلوغ، وأيام الجاهلية وساعات الأكل والشرب والنوم؛ فيُعطيه الله سبحانه أبد الآبدين ويبقى في الجنان إلى ما شاء الله. إن الرب الذي يعطيك الخلود بعمر قصير؛ ما المانع من أن يعطيك هذا الأجر العظيم بهذه الكلمات؟ فكما يقول العلماء: لا فرق عند صاحب الإرادة الخلاقة؛ بين الصغير والكبير. قد تتمنى المرأة قطعة من الذهب صغيرة فيشتريها لها زوجها ولكنه إن أرادت صحنا ذهبيا قد لا يُمكنه ذلك. إنك تستطيع أن تقول لها: تخيلي صحنا من ذهب أو فضه وهي تتخيل ذلك؛ فالتخيل سهل ولكن الإرادة والشراء صعب. إلا أن الله سبحانه إرادته واقعية، فإذا أراد شيئا يكون، ولا فرق في ذلك بين الصغير والكبير. إن إرادتك خيالية، وإرادة رب العالمين إرادة واقعية.
إن قوام التسبيحات؛ التهليل، فما هو التهليل؟
لا إله إلا الله تعني: يا رب، لا إله غيرك ولا مؤثر في الوجود إلا أنت. لقد انتهى ذلك الزمن الذي تُعبد فيه اللات والعزى وانتهى زمن الأصنام. وإنما ينبغي ألا يعتقد المؤمن في قرارة نفسه؛ أنه لأحد غير الله تأثير في هذا العالم. اذهب إلى الطبيب، وليقم لك بالعملية المطلوبة؛ ولكن قبل أن تدخل غرفة العمليات، قل: يا رب، أنت الشافي، وأنت الكافي؛ فقد يخون هذا الطبيب العلاج. وتقدم لخطبة من تريد، ولكن قل: يا رب، إن قلوب العباد بيديك، وما علي إلا أن أتقدم؛ فلين قلبها لي. وإذا لم يلن قلبها، فاشكر الله عز وجل على أنه لم يُردها لك زوجة لأنها لا تناسبك. فبعض الشباب يصر على امرأة وهو لا يعلم صلاحه، والأجدر به أن يوكل الأمر إلى من يعلم مصالحه ويأخذ بيده إلى مراشده.
الهوامش: [١] سورة الأعراف: ١٤٢. [٢] كامل الزيارات ج١ ص١٧٠. [٣] المزار الکبير ج١ ص٤١٧. [٤] البلد الأمین ج١ ص٢٠٥. [٥] الکافي ج٣ ص٤٥٠. [٦] إقبال الأعمال ج١ ص٣٢٤.