الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.
و لكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل، و هو أكثر انسجاما مع موارد استعمال هذه اللفظة، و يمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضا، كما قلنا.
ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لم يدرس، و لم يكتب شيئا، و قد قال القرآن الكريم- أيضا- في الآية (٤٨) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ.
و أساسا كان عدد العارفين بالكتابة و القراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّا، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة علی الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة و القراءة كانوا معروفين بأعيانهم و أشخاصهم، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (١٧) شخصا، و من النساء امرأة واحدة
[فتوح البلدان، للبلاذري، ط مصر، الصفحة ٤٥٩.]
٢.
من المسلّم أن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لو كان قد تعلّم القراءة و الكتابة- في مثل هذه البيئة- لدی أستاذ لشاع ذلك و صار أمرا معروفا للجميع، و علی فرض أنّنا لم نقبل بنبوته، و لكن كيف يمكنه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم أن ينفي- في كتابه- بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس و يقولون: إن دراستك و تعلّمك للقراءة و الكتابة أمر مسلّم معروف لنا، فكيف تنفي ذلك؟
إنّ هذه قرينة واضحة علی أميّة النّبي.
و علی كل حال، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كان تأكيدا علی نبوته حتی ينتفي أي احتمال في ارتباطه إلّا باللّه و بعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته. هذا بالنسبة إلی فترة ما قبل النّبوة، و أمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقی القراءة أو الكتابة من أحد، و علی هذا بقي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم علی أميّته حتی نهاية عمره.
و لكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة و القراءة، و الذين فسّروا «الأمّية» بعدم المعرفة بالكتابة و القراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلی هذا التفاوت.
و لا مانع أبدا من أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كان عارفا بالقراءة و الكتابة بتعليم اللّه، و من دون أن يتتلمذ علی يد أحد من البشر، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإنسانية، و مكملة لمقام النّبوة.
و يشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السّلام
[تفسير البرهان المجلد الخامس، الصفحة ٣٧٣ ذيل آيات سورة الجمعة.]
٣ أن نص الرواية و لكنّه لأجل أن لا يبقی أي مجال لأدنی تشكيك في دعوته لم يكن صلّی اللّه عليه و آله و سلّم يستفيد من هذه المقدرة.
و قول البعض: إنّ القدرة علی الكتابة و القراءة لا تعدّ كمالا، فهما وسيلة للوصول إلی الكمالات العلميّة، و ليسا بحدّ ذاتها علما حقيقيا و لا كمالا واقعيا فإن جوابه كامن في نفسه، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضا.
قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بصراحة تفسير «الأمّي» بعدم القراءة و الكتابة، بل بالمنسوب إلی «أم القری» (مكّة).
و نقول في الردّ: إنّ إحدی هاتين الروايتين «مرفوعة» حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند، و الرواية الأخری منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي» و هو مجهول. و أمّا ما تصوّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ و آيات أخری دليل علی أن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كان يتلو القرآن علی الناس من شيء مكتوب، فهو خطأ بالغ، لأنّ التلاوة تطلق علی التلاوة من مكتوب علی شيء، كما تطلق علی القراءة حفظا و من ظهر القلب، و استعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرءون الأشعار أو الأدعية حفظا و من علی ظهر القلب كثير.
من مجموع ما قلناه نستنتج:
١- أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لم يتلق القراءة و الكتابة من أحد حتما، و بهذا تكون إحدی صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.
٢- أنّنا لا نملك أي دليل معتبر علی أن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم قرأ أو كتب شيئا قبل النبوة، أو بعدها.
٣- إنّ هذا الموضوع لا يتنافی مع تعليم اللّه تعالی القراءة أو الكتابة لنبيّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم.
المصدر: تفسير الأمثل