تحذير قرآني.. مخاطر التحالف مع "اليهود" و "النصارى"!

آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
زيارات:88
مشاركة
A+ A A-

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصاری‌ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَی الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشی‌ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَی اللَّـهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلی‌ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣).

‏سبب النّزول‌

‏نقل الكثير من المفسّرين أنّ (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إلی النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم بعد غزوة بدر و ذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة و عدد، و أكّد للنبي أنّه يريد البراءة من صداقتهم و من عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب، و قال بأنّه يريد أن يكون حليفا للّه و لنبيه دون سواهما، أمّا عبد اللّه بن أبي فرفض التنصل من عهده مع اليهود، و اعتذر بأنّه يخشی المشاكل و ادعی أنّه يحتاج إلی اليهود. و أظهر النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم خشيته علی عبادة و عبد اللّه من صداقة اليهود مشيرا إلی أنّ خطر صداقة اليهود علی عبد اللّه أكبر من خطرها علی عبادة بن صامت، فقال عبد اللّه بأنّه ما دام الأمر كذلك فإنّه سيتخلی عن صداقته و عهده مع اليهود، فنزلت الآيات الأخيرة و هي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود و النصاری.

التّفسير

‏لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين- بشدّة- من الدخول في أحلاف مع اليهود و النصاری، فالآية الاولی منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود و النصاری أو الاعتماد عليهم (أي أنّ الإيمان باللّه يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض و مصالح مادية) حيث تقول الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصاری‌ أَوْلِياءَ ....

‏و كلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» و هي مشتقة من مصدر «الولاية» و هي بمعنی التقارب الوثيق بين شيئين، و قد وردت بمعنی «الصداقة» و «التحالف» و «الإشراف».

‏لكن بالنظر إلی سبب النّزول و القرائن الأخری الموجودة، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من اقامة أي علاقات تجارية و اجتماعية مع اليهود و النصاری، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

‏و كانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب، و كان يطلق علی ذلك «الولاء».

‏و الملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدی تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين، بل استخدمت كلمتي «اليهود و النّصاری» و ربّما يكون هذا إشارة إلی أنّ اليهود و النصاری لو كانوا يعملون‌ بكتابيهم السماويين، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين، لكنّهم اتّحدوا معا- لا بأمر من كتابيهم- بل لأغراض سياسية و تكتلات عنصرية و أمثال ذلك.

‏بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، و تقول بأن هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء و حلفاء أشباههما من اليهود و النصاری حيث تقول:

‏بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ‌ أي أنّهما يهتمان بمصالحهما و مصالح أصدقائهما فقط، و لا يعيران اهتماما لمصالح المسلمين، و لذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفا مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي و الديني جزءا منهم، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‌.

‏و بديهي أنّ اللّه لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم و إخوانهم و أخواتهم المسلمين و المسلمات، و يعتمدون علی أعداء الإسلام تقول الآية: إِنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‌.

‏و تشير الآية التّالية إلی الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، و اعتمادهم عليهم و تحالفهم معهم، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوما في يد حلفائهم الغرباء، فتقول الآية: فَتَرَی الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشی‌ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ[إنّ كلمة( دائرة) مشتقة من المصدر( دور) أي الشي‌ء الذي يكون في حالة دوران، و بما أن القدرات المادية و الحكومات هي في حالة دوران دائم علی طول التّأريخ، لذلك يقال لها( دائرة) كما تطلق هذه الكلمة- أيضا- علی أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.]١.

‏و يذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة ردا علی تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود و النصاری يوما بزمام القدرة و السلطة يجب أن يحتملوا- أيضا- أن ينصر اللّه‌ المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء علی ما أضمروه في أنفسهم، كما تقول الآية: فَعَسَی اللَّـهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلی‌ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ‌.

‏و يشتمل هذا الجواب القرآني- في الحقيقة علی جانبين:

‏أوّلهما: أنّ أفكارا كهذه إنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم و أصبحوا يسيئون الظن باللّه، و لو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.

‏أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك، إذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود و النصاری يقابله- بالضرورة- احتمال آخر و هو انتصار المسلمين و استلامهم لمقاليد الأمور، و بهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أولئك أو الاعتماد عليهم.

‏و علی أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسی) التي لها مفهوم الاحتمال و الأمل، تبقی في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل اللّه للمسلمين، و هذا ما لا يتلائم و ظاهر كلمة (عسی) البتة.

‏أمّا المراد من جملة أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‌ التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين- في المستقبل- إمّا أن يتغلبوا و ينتصروا علی أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إلی درجة يضطر بعدها الأعداء إلی الخضوع و الاستسلام للمسلمين دون الحاجة إلی الدخول في حرب.

‏و بتعبير آخر: كلمة (الفتح) تشير إلی الإنتصار العسكري للمسلمين، و أنّ جملة أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‌ إشارة إلی الانتصارات الاجتماعية و الاقتصادية و ما شابه ذلك. إنّ بيان هذا الاحتمال من قبل اللّه سبحانه و تعالی، مع كونه- عزّ و جلّ- عالما بجميع ما سيحصل في المستقبل، يدل علی أنّ الآية تشير إلی الانتصارات العسكرية و الاجتماعية و الاقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.

‏و تشير الآية في الختام إلی مصير عمل المنافقين، و تبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين و تنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون- بدهشة-: هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوی و يجلفون بالايمان المغلظة بأنّهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إلی هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية: وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ..[في هذه الآية تكون كلمة« هؤلاء» مبتدأ و خبرها جملة« الذين أقسموا باللّه» أمّا جملة« جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.]٢.

‏إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة، و لهذا فقد أصبحوا من الخاسرين- سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معا- حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ‌.

‏و الجملة الأخيرة تشبه- في الحقيقة- جوابا لسؤال مقدر، و كأن شخصا يسأل: ماذا سيكون مصير هؤلاء؟

‏فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح، و ستطوقهم الخسارة من كل جانب، أي أنّ هؤلاء- حتی لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم بإخلاص و نية صادقة- فهم لا يحصلون علی أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لانحرافهم صوب النفاق و الشّرك بعد ذلك: و قد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (٢١٧) من سورة البقرة.

الاعتماد علی الغرباء:

‏علی الرّغم من أنّ الواقعة- التي ذكرت سببا لنزول الآيات الأخيرة- تحدثت عن شخصين هما «عبادة بن الصامت» و «عبد اللّه بن أبي» إلّا أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إليهما باعتبارهما شخصيتين تاريختين- فحسب- بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين و اجتماعيين. يدعو أحدهما إلی التخلي عن التعاون و التحالف مع الغرباء، و عدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم، و عدم الثقة بتعاونهم.

‏و المذهب الآخر يری أنّ كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل و الأهوال يحتاج إلی من يتكئ و يعتمد عليه، و أن الحاجة تدعو أحيانا إلی انتخاب الدّعم و السند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة و فائدة، و لا بدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام.

‏و قد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة، و حذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع و التورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير، لكن البعض من المسلمين- و مع الأسف- قد نسوا و تجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم، فانتخبوا من بين الغرباء و الأجانب من يعتمدون عليهم، و قد أثبت التّأريخ أن كثيرا من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الاتجاه الخاطئ! و بلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّا و بارزا علی هذا الأمر، و تظهر كيف أن المسلمين بالاعتماد علی قواهم الذاتية- استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهارا في الأندلس- أسبانيا اليوم- لكنّهم نتيجة لاعتمادهم علی قوی غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.

‏و الإمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف، تعتبر دليلا آخر علی هذه الدعوی.

‏كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد علی ما أصاب المسلمين من خسائر و مصائب‌ كبيرة بسبب انحرافهم عن رسالتهم و اعتمادهم في كثير من الأمور علی الأجانب الغرباء، و العجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإسلامي، و لم توقظه بعد الكوارث و النكبات التي أصابته بسبب اعتماده علی القوی الأجنبية.

‏علی أي حال فإن الأجنبي أجنبي، و مهما اشترك معنا في المصالح و تعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة، و كثيرا ما تنالنا منه- أيضا- ضربات مؤثرة.

‏و ما علی المسلمين اليوم إلّا أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضی إلی هذا النداء القرآني و لا يعتمدوا علی أحد سوی اللّه و قواهم الذاتية التي وهبها اللّه لهم.

‏لقد اهتمّ نبيّ الإسلام صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كثيرا بهذا الأمر، حتی أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة «أحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين، فأعادهم النّبي إلی حيث كانوا و لما يصلوا إلی منتصف الطريق، و امتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دورا مؤثرا في واقعة أحد، فلما ذا رفضهم النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم؟

‏لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه و يخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات و أكثرها خطورة أثناء الحرب، و يتحولوا إلی التعاون مع العدوّ و يقضوا علی ما تبقی من جيش المسلمين في ذلك الوقت.

الهوامش:

‏١ إنّ كلمة( دائرة) مشتقة من المصدر( دور) أي الشي‌ء الذي يكون في حالة دوران، و بما أن القدرات المادية و الحكومات هي في حالة دوران دائم علی طول التّأريخ، لذلك يقال لها( دائرة) كما تطلق هذه الكلمة- أيضا- علی أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

‏٢ في هذه الآية تكون كلمة« هؤلاء» مبتدأ و خبرها جملة« الذين أقسموا باللّه» أمّا جملة« جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.

مواضيع مختارة