ورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم: «تهادوا تحابوا، فإن الهدية تذهب بالضغائن»[1].
إذ إن الذي يقدم الهدية، هو الذي يحب من أخذ الهدية، ولعله لأن المعطي إنما يبذل له ما حصله بجهده وعرقه، أو ببذل ماء وجهه، أي: أن جزءاً من كيانه، ووجوده قد تجسد بهذا النتاج.
والإنسان يحب نفسه، وكل متعلقاتها, ويتعامل مع كل ما يعود إليها، أو يرتبط بها، بصورة أكثر حميمية، وانجذاباً، من تعامله مع الأغيار.
وهذا يشير إلى أنه حين أمرنا الله تعالى بالبذل للآخرين، فإنما أراد منا أن ننظر إليهم، وأن نتعامل معهم على أنهم جزء من كياننا ومن وجودنا، وما ذلك إلا لأن تعاملنا هذا سيغيِّر الكثير الكثير من طبيعة حياتنا، وعلاقاتنا ومواقفنا من بعضنا البعض.
أما من يأخذ الهدية، فقد يكون في حرج وضيق، حين يفكر بأن المعطي قد يمنَّ عليه بما أعطاه، ويذكِّره به حتى بالسلام، وفي البسمة واللفتة، والنظرة، وقد تذهب به أفكاره وخيالاته كل مذهب، ليصل إلى حد أن يفكر بأن يبعده عنه، ويتخلص منه، ولو بالأسلوب السيء والمهين. وقد شاع وذاع القول: «إتق شر من أحسنت إليه».
وشاهد آخر على ذلك، هو أن الله سبحانه يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[2].
فإن الله سبحانه حين شرع أحكام الزواج، لم يذكر واجبات وأحكاماً إلزامية خاصة بهذا الواقع الجديد، ســوى عدد يسير، ربما لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة.. واكتفى فيما عدا ذلك بالأحكام العامة, الشاملة لكل مسلم..
مع أن الاحتكاك في الحياة الزوجية فيما بين الزوجين، يفوق ما يكون في أية حالة أخرى.. والأجواء في داخل البيت الزوجي، مهيأة للتدخل في كل شيء يمكن تصوره في مجال تعاطي إنسان مع إنسان آخر..
وذلك من أعظم الدلائل على أن هذا الدين هو من عند الله تعالى.. وهو من مظاهر الإعجاز التشريعي، الدال على أن واضعه هو الله العالم بالسرائر.. حيث إن هذا التشريع يبين: أنه تعالى لا يريد بناء الحياة الزوجية على أساس مصلحي، أو تجاري، أو سياسي، أو على أساس الخضوع والانقياد لظروف اجتماعية، أو غيرها.. لأن المتوقع في هذه الحال هو أن تنتهي العلاقة بمجرد فقدان تلك المصلحة، أو انتهاء ذلك الظرف السياسي، أو الاجتماعي، أو غيره.. أو إذا وجد أي من الشريكين مورداً آخر أكثر ربحاً، وأعظم فائدة ونفعاً.
كما أنه لا يريد أن يقيم العلاقة على أساس اقتضاء الغريزة والحب الشهواني، فإن تأثيره سيتضاءل أيضاً إلى حد التلاشي التام، حينما تفقد الغريزة فاعليتها ونشاطها، أو حينما تخبو جذوة الشهوة، لأي سبب كان..
بل يريد أن يقيمها على أساس أقوى من ذلك كله، يستطيع أن يكون هوالحاكم، والمؤثر، في مختلف الظروف والأحوال، ألا وهو الحب الإنساني، والنظرة الإيمانية..
فكان أن سعى إلى إثارة المشاعر الإنسانية، في كلا الطرفين، تجاه الطرف الآخر، وهيأ المناخ لتمازج تلك المشاعر، لتنتج من ثم حباً إنسانياً صافياً وخالصاً، يحمل في داخله معنى القيمة، ومعنى الإخلاص، ويتنامى في ظل الرعاية الإلهية ليلتقي بالوجدان، فيهبه حياة، ويقظة دائمة، ويتأصل، ويتجذر، ويتعمق بالإيمان، والتقوى.. ويصان ويحفظ في ظل الإحساس بالرقابة الإلهية والوجدانية.
ومن هنا نجد: أن التشريع الإلهي لم يقم نظام الحياة الزوجية، على أساس الحق والعدل. وقهر الطرف الآخر به، وفرضه عليه.. إذ إنه لم يشرع واجبات كثيرة يمكن المطالبة بها لأي منهما، وذلك الذي شرعه وفرضه فعلاً، لن يحقق لهما الراحة، والسعادة، والهناء، إلا بقدر ما يحجزهما عن العدوان والتظالم فيما بينهما، حين تبلغ بهما الأمور إلى الخطوط الحمراء، حيث يكمن الخطر، وتتعمق الهاوية السـحيقة.
ولسـوف يدركان من خلال التجربة العملية: أن هذا ليس هو طريق نيل السعادة، بل إن لنيلها وسائل وطرقاً أخرى لا بد من البحث عنها..
ولن يطول بهما المقام، إذ سيدركان: أنه لا بد لهما من العودة إلى ما يريد الله لهما أن يعودا إليه، ألا وهو التوادّ، والتراحم، حسبما أشارت إليه، الآية الكريمة: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[3] إن المنقذ والملاذ هو الحب الإنساني، لا الحب الغريزي والشهواني، الذي يضج في داخل ذاته، وليس هو في الحقيقة إلا تعبيراً آخر عن الأنا الطاغي، والمتمرد، الذي يضج في داخل ذاته، ويريد أن يستأثر باللذة، وأن يسعد بها، بأية قيمة وبأي ثمن.
والحب الإنساني والإيماني: لا يرضى بديلاً عن أن يصبح كل من الزوجين جزءاً من شخصية الطرف الآخر، ومتمماً لكيانه، ووجوده: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}.
ولكن الله سبحانه لا يريد أن يوجد هذا الحب بصورة إعجازية، وبجبرية قاهرة.. وإنما يريد لهما أن يقوما معاً بتهيئة أسباب وجوده، وموجبات نشوئه. وأن ينتجاه بصورة طبيعية، وأن يتنامى في داخل ذاتهما ليصبح جزءاً من التكوين الحقيقي لشخصيتهما الإنسانية.
وقد اعتمد من أجل تحقيق ذلك عنصر التضحية المتبادلة، والتي تكون عن إرادة واختيار، ومن منطلق المعرفة، والوعي، والإدراك لحقيقة حاجاتهما الحياتية، في مختلف المجالات..
فحين يشعر كل من الزوجين بضعف الطرف الآخر، وبحاجته للمساعدة والرعاية، فستتحرك مشاعر الرحمة فيه، وسيدعوه ذلك لمد يد العون له. حتى إذا تكرر هذا العون، والتعاهد له مرة بعد أخرى، فإن ذلك سيجعله يتعلق به، لأن جزءاً من جهده، ومن عرقه، قد تجسد فيه، وسيزداد هذا التعلق على مر الأيام تبعاً لتكرر ذلك بسبب اقتضاء الطبيعة الإنسانية له..
ولعل هذا يفسر لنا سرَّ شدة تعلق الأم بطفلها، فإن سببه هو مدى ما تبذله من جهد في مساعدته، وهي ترى ضعفه وحاجته، فتسهر عليه، وتتحمل الكثير من المشاق في سبيله.
أما الأب فإن ما يبذله من جهد وتضحيات مباشرة في سبيل الطفل؛ لا يصل إلى حد ما تبذله أمه، فلذا كان من الطبيعي أن يزيد تعلقها العاطفي بالولد، عن مستوى التعلق العاطفي لأبيه به..
وبذلك يتضح ما يشير إليه قوله تعالى: {َجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإن المودة ـ كما قالوا[4] ـ هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل..
غير أن علينا أن لا ننسى أن هذا الحب قد يفقد بعض توهجه، بسبب ضعف أو فقد بعض موجباته، التي تسللت إلى عناصر الإلزام في قرار الزواج، مما له صفة غرائزية، أو ذوقية، نشأت عن ملاحظة حالة جمالية معينة، فيكون ضعف تلك الموجبات سبباً في بعض الخفوت، وضعف التأثير في الحركة العملية، والسلوكية، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تدخل العنصر الثاني، وهو الرحمة، التي هي انفعال نفساني، قوامه رقي في الإدراك الإنساني، وشفافية، وصفاء، وتألق، في روح الإنسان ونفسه..
نعم تأتي هذه الرحمة الإنسانية لتكون هي الضمانة الحقيقية لبقاء هذه العلاقة الرحيمة، والحميمة، والصادقة، محتفظة بقوتها، وبحيويتها..
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين.
==============
الهوامش
[1] بحار الأنوار ج72 ص44.
[2] سورة الروم الآية21.
[3] سورة الروم الآية21.
[4] عن كنز الفوائد للكراجكي.