ايها الاخوة والاخوات لا زلنا في الخطبة الثانية في بيان بعض الظواهر المجتمعية التي تهدد المنظومة الاخلاقية للمجتمع، وسبق ان ذكرنا في الجزء الاول الظاهرة المجتمعية في العنف والآن نتعرض الى بيان ظاهرة مجتمعية اخرى ألا وهي (تقديم وايثار المصالح الخاصة على المصالح العامة).
المصلحة بحسب ما يفهم من معاجم اللغة هو ما يبعث على الصلاح وما يتعاطاه الانسان من الاعمال الباعثة على نفعه وخيره او باعثة على خير ونفع الاخرين، والمشكلة أين تكون ايها الاخوة والاخوات؟ لدينا مصالح خاصة ولدينا مصالح عامة تهم المجتمع، طبعاً تارة نتحدث عن المواطن كفرد في أي موقع كان سواء كان مواطن عادي او طبيب او مهندس او موظف وتارة نتحدث عن كيان.. ومقصودنا الامرين معاً سواء كان كيان عشائري او كيان مذهبي او ديني او قومي كل ذلك هو داخل في هذه المسألة وفي هذه الظاهرة المجتمعية.
طبعاً مسألة المصلحة الخاصة او المصلحة العامة نابعة من غريزة عند الانسان ألا وهي غريزة حب الذات وطبعاً هذه الغريزة ضرورية ولابد من وجودها عند الانسان لأنها هي التي تحركه وتدفعه ان يبحث عن مصالحه ومنافعه فهذا شيء لابد منه بالنسبة الى الانسان ولكن المشكلة حينما تطغى غريزة حب الذات بحيث ان الانسان يغلّب مصالحه ومنافعه على الاخرين ولا يفكّر ولا يهتم الا بمصالح نفسه وذاته، تارة يسعى هذا الانسان ويهتم ويعتني بمصالحه ويحاول ان يحققها ويحرم الاخرين هذه المرتبة ليست صحيحة، الأشد والاخطر منها ان تحقيق المصالح الخاصة اذا استلزم ذلك الاضرار بالاخرين، قد احياناً هذه الغريزة تتغلب على بقية الغرائز ودوافع الخير بحيث تجعل الانسان يبحث ويهتم بتحقيق مصالحه وان استلزم ذلك الاضرار بمصالح الاخرين، هو لا يهمه الاخرون أبداً حتى وان تضرروا من ذلك او يحاول ان يحقق مصالحه وان كان قد اهمل ملاحظة مصالح الاخرين وحرمهم من تحقيق النفع لهم فهذه مرتبة ادنى ولكنها تتنافى مع سيرة العقلاء وما هو مطلوب من الناس المؤمنين والناس الذين يتصفون بروح المواطنة.
ونذكر هنا بعض الامور المتعلقة بتداعيات تقديم المصالح الخاصة فنقول:
ان بعض المجتمعات ومنها مجتمعنا تعاني اليوم من تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة في الكثير من شؤون الحياة ومنها التعدي على الحقوق والاموال العامة والتقصير والاهمال في الاداء المهني والوظيفي وتقديم المصالح الحزبية والقومية الضيقة على المصالح العامة وتغليب التعصب العشائري والقومي والحزبي والديني على الانتماء الوطني وقد أدى ذلك الى ابتلاء الناس بالكثير من الازمات والتخلف وهضم الحقوق وتأخر البلد والمجتمع وتخلفه عن ركب المجتمعات الاخرى.
وسنبين هنا مسألة ان مراعاة المصلحة العامة التي لا تخص شخصاً معيناً او كياناً معيناً في المجتمع بل هي تشمل المواطن العادي والموظف الحكومي والمعلم والمدرس والاستاذ في الجامعة والطبيب والتاجر والفلاح واصحاب المهن والحرف والسياسي واصحاب الاختصاص والفنون وتخص الكيان العشائري والمذهبي والديني والقومي والانتماء الحزبي وغيره من العناوين العامة.
فالمعلم والمدرس والاستاذ الجامعي الذي يؤثر خدمة العلم والطالب ويقدم ذلك على راحته وما يطلبه من امتيازات مالية او وظيفية حرصاً على تخريج الطالب المتعلم والماهر في اختصاصه والذي سيخدم مجتمعه في مستقبله بتفان واتقان والطبيب الذي يؤثر تطبيب مريضه ويعمل بكل وسعه وطاقته لتحقيق شفاء مريضه وان كان ذلك على حساب الامتيازات المالية والوظيفية له، والموظف الذي يحرص على خدمة مواطنيه واداء مهامه ووظائفه على الوجه الصحيح وان كان ذلك على حساب راحته وما يطلبه من امتيازات مالية ووظيفية، والتاجر الذي يحرص على تقديم افضل السلع لمجتمعه وان كان على حساب ربحه المادي، والسياسي الذي يؤثر مصالح بلده وشعبه على مصالح حزبه وكيانه السياسي ويعتبر ان مصلحة بلده مقدمة على مصلحة كيانه السياسي وان تضررت من ذلك مصالحه السياسية.. كل هؤلاء جديرون بالثقة بوطنيتهم وضميرهم الديني والوطني والغيرة على شعبهم ومن لا يكون كذلك بل آثر مصالحه الشخصية والضيقة ولم يبالِ ولا يكترث بما يلحق بلده وشعبه ومواطنيه من ضرر واذى طالما ان مصالحه الخاصة تنجز وتتحقق فهو بعيد عن شعارات الوطنية والحب لشعبه وقد تحكمت فيه غريزة الانانية حداً جعلته عبداً يسير وفق ما تمليه تلك الغريزة..
وفي مقابل ذلك فإن البحث عن المصالح الخاصة بلا ضوابط او قيود ومبادئ وسلطة تحدّ من ذلك اذا كانت هذه المصالح الخاصة تضر بمصالح الاخرين ستتحول الى قوة تدمير وافساد للمجتمع ومؤسساته وتترك الضعفاء فريسة للاقوياء واصحاب السلطة والقوة والمال وسينعدم الاستقرار والسلم والامانة وتهضم الحقوق، بل تهدّد مستقبل الاجيال القادمة.. فحينما يسود المجتمع ظواهر مثل ان تطالب بالامتيازات بدون حساب ولا مقابل يوازي الامتيازات المالية او المنصبية او الاجتماعية او السياسية وان تنتفع من موقعك الوظيفي اقصى ما يمكن من تحقيق الاهداف الشخصية أو لا تقدم الخدمة الا بمقابل، ومن يعطي أكثر سأكون معه وسأعطيه ومن يقف في وجهي ومصالحي سأبحث له عما يوقفه ويحد من مخططاته أو ربما يقمعه.. أو لا يهمك ان يتضرر وطنك ومدينتك واهلك وعشيرتك طالما ان مصالحك الشخصية متحققة، فعلى هذا سيصبح البلد ومؤسساته سوقاً للمزايدات وساحة للصراعات وسوف لا يكون هناك عمل وتقدم وخدمة..
ايها الاخوة والاخوات ما هي الوسائل والقواعد التي ينبغي مراعاتها للوصول الى هذه الحالة التي ننشدها جميعاً وهي تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة نحتاج الى مجموعة من الامور:
- الاهتمام بالمنظومة الفكرية والاخلاقية وسأبين معنى ذلك:
في الواقع ان مسألة غريزة حب الذات والانانية التي هي تنبع وتؤدي الى هذه النتائج من تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة في مقابلها لابد ان تكون مبادئ وقيم وقواعد اخلاقية توجه هذه الغريزة الوجهة الصحيحة نحو خدمة النفس وخدمة العنوان الخاص وخدمة العنوان العام..
نحن لدينا ايضاً منظومة اخلاقية لابد ان تكون المؤسسات التربوية والتي عليها ان تهتم بتربية الانسان ابتداءً من الاسرة الى المدرسة والى الجامعة والى الدائرة والى المؤسسات الاخرى لابد ان تهتم بالمنظومة الفكرية والعقدية وان دائماً نركّز ونوضح للانسان ان بقية افراد المجتمع هم بشرٌ مثله ايضاً يتمنون حصول الخير والمصلحة والنفع لهم هؤلاء جميعاً وان اختلفوا معك في مسألة الانتماء الديني او القومي او المذهبي انما هم نظراء لك في الخلق او اخوان لك في الدين، هذه النظرة الفكرية لابد ان تتركز لدينا ونعمل على ضوءها.
المنظومة الاخلاقية التي تبين منافع الاهتمام بمصالح الاخرين وقضاء حوائجهم منظومة الايثار والتضحية وقضاء حوائج الناس وحب الخير لهم، لابد ان يكون هناك بيان وتوضيح وتعريف بهذه المنظومة وبيان فوائدها ومنافعها..
اخواني التفتوا انا حينما اكون موظف اذا خدمت الناس الناس سيخدموني، ان لم اخدم الناس وتعاملت معهم بما يحقق لي مصالحي الشخصية الناس سيعاملوني بالمثل فإن كنت اعمل على نفع الناس الناس هم بالملايين سيعملون على خدمتي ونفعي، وان كنت اعمل لصالح نفسي فقط فرداً او كياناً حتى العشيرة او الكيان السياسي او الاجتماعي حينما يعمل بروح الانانية ويريد ان يحرم الاخرين من هذه المنافع الاخرون سيعاملوني بالمثل وبالتالي انا سأحرم من منافع كثيرة..
لذلك ورد في بعض الاحاديث بهذا المعنى ان منع الانسان يده من الناس وحرمهم من هذه اليد حرمه الناس من أيادٍ كثيرة.. فإن انا عملت على منفعة نفسي فقط سأُحرم من منفعة الاخرين.. لذلك الانسان الذي يعمل على نفع الاخرين سيحظى بنفع هذا العدد الكبير وان اقتصر على نفسه حُرمَ من نفع الاخرين..
هذه المنظومة الاخلاقية كما نهتم اخواني بالمؤسسات التربوية والمؤسسات بصورة عامة وكما نهتم بالمسائل العلمية التخصصية الاكاديمية علينا ان نهتم بالمنظومة التربوية والاخلاقية ونبين المضار الكبيرة لتقديم المصالح الخاصة الضيقة على المصالح العامة وفي نفس الوقت نعرّف كيف ان الانسان الذي يسعى لخير الاخرين هو كيف سينتفع ايضاً..
المسألة الاخرى ايضاً هو توفر البيئة الصالحة، ما المقصود بالبيئة الصالحة؟ هو توفر القدوة، الحاكم الذي بيده مقاليد الامور الذينَ سُلمت بأيديهم مقاليد الامور للناس لابد ان يكونوا هم القدوة للاخرين..
المدرس قدوة للآخرين وللطلبة والمعلم والجامعي والطبيب والمهندس والموظف قدوة للاخرين.. هذه البيئة الصالحة هي التي تصنع الانسان الذي يسعى للخدمة ونفع الاخرين..
النقطة الاخرى المهمة هو ان تعتني المؤسسات التشريعية والتنفيذية بحماية المصالح العامة، احياناً التربية لوحدها لا تكفي، كثير من الناس يقولون لنا تكلموا في خطبة الجمعة عن كذا وكذا.. نعم نتكلم ولكن الموعظة والنصيحة قد تنفع في بعض الاحيان وهذه النصيحة والموعظة ان لم يكن معها مؤسسات تشريعية تسنّ القوانين التي تحفظ هذه المصالح العامة تحفظ الحقوق العامة تحفظ الخدمات العامة وايضاً تمنع أي شخص بعنوان الفرد او بعنوان الكيان ان يضر بالاخرين، تشرّع القوانين سلطة تنفيذية تطبّق هذه القوانين التي تحمي الاموال العامة وتحمي الخدمات العامة وتحمي الحقوق وتمنع أي عنوان شخصي او عنوان أعم من الإضرار بالاخرين، ان لم تتوفر مثل هذه الامور لا يمكن للنصيحة والموعظة ان تؤتي ثمارها لذلك لابد ان توفّر مثل هذه العوامل حتى نصل الى هذه النتيجة..
لذلك اخواني المواطنون بصورة عامة مخاطبون اولا ً والموظفون مخاطبون والمهندسون مخاطبون والاطباء مخاطبون والسياسيون مخاطبون.. جميعاً هؤلاء مراعاة المصالح العامة سينعكس بانبساط الخير والنفع والمصلحة على الجميع..
كل عنوان شخص او عنوان ضيق او عنوان عشيرة او انتماء مذهبي او قومي ان اعتنى بمصالحه فقط وقدّم مصالحه على الاخرين وكان لا يبالي ولا يهتم ان تتضرر مصالح الاخرين ولكن المهم هو ان تعود المصلحة والنفع فقط لنفسه وعنوانه الخاص حينئذ الضرر سينبسط على الجميع ويتقوض العمل الجمعي وسيؤدي الى تشتيت الطاقات والجهود والامكانات..
انا حينما اشاهد انسان او كيان يتعاون معي انا سأتعاون معه واعمل على نفعه، ان اجد هذا الانسان او الكيان لا يحاول ان ينفعني ولا يحاول ان يخدمني او يحاول ان يخدم نفسه ويضرني انا ايضاً سأنقطع عنه وسوف لا اتعاون معه وبالتالي هذا سيؤدي الى تشتيت الجهود والطاقات والامكانات وتفرقتها وعدم انضمام بعضها الى بعض آخر لكي يتحقق النفع العام..
لذلك اخواني علينا ان نلاحظ هذا المبدأ المهم وهو مبدأ اسلامي وعقلائي ان الانسان كما يحرص على مصالح نفسه ان يحرص على نفع وخير ومصالح الاخرين فحينئذ الخير سيعم الجميع، حرمان الاخرين من تحقيق المصلحة والنفع لهم هذا الحرمان سيعمّ الجميع.
النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 13/ربيع الآخر/1440هـ الموافق 21 /12 /2018م
حيدر عدنان