ما غرّك بربك الكريم.. توبيخ وردع للغرور!

الشيخ حبيب الكاظمي
زيارات:171
مشاركة
A+ A A-

يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٦ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ٨ كـَلَّا بَلۡ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ ٩ وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ١٢

اشترك في قناتنا ليصلك كل جديد

التوبيخ للتذكير

إن هذه الآية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ من الآيات التوبيخية الجامعة بين التخويف والمنّة على العباد ، والتذكير بصفات الرأفة والكرم ، فكأن الآية تريد أن تقول : إن مَن كانت هكذا آياته يوم القيامة ، ومَن كان متصفا بالربوبية والكرم ، ومَن خلق الإنسان في أحسن صورة ، لا ينبغي لأحدٍ أن يكفر به أو بنعمه ، أو يَغترّ بكرمه وإمهاله!  . . والآية لم تذكر منشأ لهذا الغرور بالرب الكريم ، بل أُوكل تقديره إلى العبد نفسه ، فقد يجعله البعض :

كرم رب العالمين الذي أوجب للبعض أن يأمن عذابه .

تسويل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء .

جهله بمقام ربه ، فقد ورد عن النبي ‘ عند تلاوته للآية المباركة أنه قال : «غرّه جهله» .

ولا يخفى ما في تغيير لحن الحديث من الغَيبة إلى الخطاب في ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ من التأكيد على توجّه العتاب للإنسان ، بعد أن كان الحديث حول النفس بنحو الحديث عن الغائب .

ومن الملفت أن الله تعالى وجّه الخطاب للإنسان ، ست مرات في الآيات الثلاث، ممّا يدل على اهتمام المولى في إيصال العتاب إلى الوجدان .

أعجب الخلقة

إن من أقرب أعاجيب الوجود إلى الإنسان هي خلقته الظاهرة له ، والمتمثلة بعجائب بدنه ، فذكّره المولى بأصل خلقته وإخراجه من ظلمة العدم ﴿خَلَقَكَ﴾ ثم بالتسوية بجعل كل عضو في وضعه اللائق ﴿فَسَوَّاكَ﴾ به ، ثم بالتعديل وتحقيق التعادل بين الأعضاء ﴿فَعَدَلَكَ﴾ ثم التركيب النهائي الذي به تتم الصورة النهائية للخلق ﴿رَكَّبَكَ﴾ ويجمع ذلك كله قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم‏﴾.

ومن المعلوم أن ذِكر مجموع ذلك ـ  بعد عتاب الاغترار بالرب الكريم ـ أكثر إيجابا للخجل والاستحياء منه!

ردع الغرور

قيل في آية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ إن وصف الرب بالكرم ـ  أثناء العتاب البليغ ـ كأن فيه تلقين للحجة ليقول العبد بعدها : غرني ربي كرمُك!ولكن هذا الوجه غير سائغ ، فإنه منتقم جبار أيضا ، أضف إلى أن هذه الآيات أعقبتها جملة رادعة حيث يقول تعالى ﴿كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ فكأنه يقول : بل أنت ومن حاله حالك ، تكذبون بيوم الدين والجزاء ، وعليه فإن ربوبيته القاهرة وكرمه الظاهر ، موجبان للردع عن الاغترار به .

منازل الحفظ

إن الأعمال محفوظة : أولا عند رب العالمين الذي هو محيط من وراء جميع خلقه ، ومن بعد ذلك الملائكة الحافظة وهم من الكرام الكاتبين ، ومن بعدها العبد الذي يرى عمله رأي العين  . . فالعاصي عليه أن يستحي أولا من ربه ، ومن الملائكة المقربين ثانيا ؛ لأنها موجودات لطيفة تتقذّر من القبائح ، وثالثا من نفسه عندما يرى تنزله من عالم الاستخلاف إلى عالم عبودية الهوى .

فقد سئل الكاظم (عليه السلام) عن الملكين : هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟!  . . فقال (عليه السلام) : «ريح الكنيف ، وريح الطيب سواء»؟!  . . قال : لا ، فقال (عليه السلام) : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة ؛ خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له . . وإذا همّ بالسيئة ؛ خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه».

الحفظة من الملائكة

إن الظاهر من الحفظ في ﴿لَحافِظِينَ﴾ هو حفظ الأعمال بقرينة ﴿كاتِبِينَ﴾ ولكن يحتمل أيضا الإشارة إلى ذلك اللطف الإلهي الشامل لجميع الخلق ، حيث جعل ملائكة حافظة لبني آدم من المهالك ، وذلك كما في قوله تعالى ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير الآية : «هما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان بالنهار» . وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك ، حتى ينتهوا به إلى المقادير ، فيخلون بينه وبين المقادير».

التأسي بالملائكة

إنه لمن اللائق بنا ـ  نحن البشر ـ أن نتأسى بالملائكة الكاتبة ، فهي لا تكتب إلا ما علمت من أفعالنا ، لئلا تكون شاهدة على غير اليقين ﴿يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ فالعبد المطيع لمولاه لا يتفوّه ولا يشهد إلا ما كان معلوما لديه ، فإن الظن لا يغني عن الحق شيئا .

أفعال القلوب

من الممكن أن يقال أن ظاهر ﴿تَفْعَلُونَ﴾ يفيد أن الملائكة لا تكتب إلا أفعال الجوارح ؛ لأن أفعال القلوب غيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولكن من الممكن القول : إن المكتوب بيد الملائكة الكرام يشمل أفعال الجوانح أيضا ، بإعلام الله تعالى للملكين الكاتبين .

ومهما يكن من أمرٍ فإن اطلاع الله تعالى على الجوانح ـ  سواء كان مع إطلاع الملائكة أم عدمه ـ كافٍ لأن يراقب الإنسان هواجسه الباطنية أيضا ، مصداقا لقوله تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾.

 

مواضيع مختارة