النهضة الأوربية والنهضة العربية.. وهم التقليد الأعمى!

الشيخ صلاح الخاقاني
زيارات:232
مشاركة
A+ A A-

المنجز النهضوي الأوربي الذي نقل أوروبا من عصر الظلمات إلى سيادة العالم, تقوّم بشكل أساس على مسألة فصل الدين عن الدولة وحجب السلطة الدينية عن أنشطة ‏الإنسان على صعيد المعرفة والسلوك وإبدالها بالدولة العلمانية الحديثة.

اشترك في قناتنا ليصلك كل جديد

وهذا ما حدا بالنهضويين العرب, ومنذ الاحتكاك الأول للدول العربية, المنغلقة على إسلامها وماجرته عليها الامبراطورية العثمانية من حالة تخلف هائل, بالحضارة الغربية, وأعني بذلك دخول نابليون إلى  مصر.

سعى هؤلاء النهضويون بصنفيهم, الداعي إلى إدخال الحداثة على الدين الإسلامي بدءا بمحمد عبده والكواكبي ووصولا إلى نصر ابو زيد والجابري وغيرهم أو إلغاء الوجود الديني برمته كما هو الحال عند صادق جلال العظم وغيره, ومن خلف هؤلاء المنظرين تأتي الحشود المتبرمة من واقعنا الراهن والمغرمة بالتجربة الأوروبية وعلمانيتها ليصطفوا جميعا وبكل ثقة خلف فكرة يؤكدون صلاحيتها وهي أن النهضة العربية رهن بتطبيق الحداثة الأوروبية والعلمانية.

لهؤلاء جميعا أقول:

أولاً: من المحال للفكر المجرد أن يتجاوز العوامل المادية التاريخية للمجتمع ويكون مؤثرا فيه, بل أن الفكر المجرد الذي ينتجه المجتمع ناشئ عن العوامل المادية, فأوروبا احتاجت إلى ألف عام كي تجتمعفيها العوامل التالية:

اـ وصول الطغيان الكنسي إلى ذروته وفقدان الكنيسة سلطتها الروحية, جراء فضائحها, فينفوس الجماهير المسيحية المؤمنة, ومن ثم فقدانهم الثقة بمقرراتها المعرفية وهذا ما حتّم النهوض العلمي والفكري وفي هذه المرحلة دون غيرها, فغاليلو بفكرة دوران الأرض وعدم مركزيتها لم يكن من الممكن أن يظهر بمنجزه العلمي في القرن الثامن مثلا حيث كانت الكنيسة آنذاك تتمتع بمصداقية عند الشعوب الأوروبية ويثقون بأن ماتقوله هو الحقيقة , بمعنى أن غاليلو لو لم يفقد الثقة بالكنيسة لم يبحث عن الحقيقة في المجال العلمي.

ب ـ رغبة الملوك الأوربيين بالتخلص من سلطة الكنيسة القاهرة, إضافة إلى مامدتهم به الحركة العلمية من دعم وقوة فحركة الملاحة والاستكشافات إضافة إلى تطور الآلة بما فيها السلاح الفتاك كل هذا دفع الملوك إلى دعم الحركة العلمية والفكرية المتملصة من سلطة الكنيسة

ج ـ التطور الاقتصادي والازدهار الذي عاشته أوروبا من جراء تطور الملاحة حيث ازدهرت التجارة إضافة إلى المستكشفات الجغرافية مثل قارة أمريكا, فالأوروبي حين كان يعيش مزارعا فقيرا اندفع نحو الحلم الوردي الذي ترسمه الكنيسة فيما بعد الموت, أما حين انتقل للعمل في الموانئ البحرية وتحسن مستواه صار يصغي إلى مقررات العلم التي منشأنها تطور آلية العمل التي بدورها تحسن من مستواه

ومع مقارنة واقعنا العربي المعاصر فيما بعد سقوط الدولة العثمانية مع أوروبا ضمن هذه العوامل نجد:

اـ  أن المراكز الدينية الإسلامية متمثلة ـ مثلاً ـ بالأزهر الشريف لدى السنة والحوزة العلمية في النجف لدى الشيعة لم تمارس سلطة دنيوية تتغلغل بكل تفاصيل الحياة اليومية للمسلم ولم تمثل وجودا سياسيا محميا بفيالق من الفرسان ولم يتعهدوا للناس بحقائق معرفية على كل الأصعدة ولم يمارسوا تعسفا كالذي مارسته الكنيسة في التكيل والتعذيب البشع في محاكم التفتيش أو منعها للطب وأن على الإنسان أن يعالج نفسه بالإيمان.. وبهذا فإن العالم والمكتشف العربي لم تكن مشكلته مع السلطة الدينية بل معجهة سياسية.

ب ـ الحكام العرب لم يكونوا سوى بيادق مكنتهم القوى الاستعمارية من تولي مناصب الحكم, فكانت علاقة الحكام بالمراكز الدينية إما على أساس التعايش السلمي أو تسخيرها لدعم سلطته.

ج ـ الاستقلال الذي حصلت عليه الدول العربية من الاستعمار كان استقلالا شكليا وبالتالي فالنمو والتطور على أي صعيد كان شكليا, فطالما كانت حصة بريطانيا من نفط العراق والخليج خطا أحمر لايمكن المساس به إضافة إلى ما يجعله الحاكم العربي ملكا له من ثروات البلاد, وبالتالي فان مستوى الفرد على الصعيد الاقتصادي كان محدودا بحدود ماهو مرسوم لدولته, سواء دعم الاتجاه العلمي وانسلخ عن الدين أو لم يفعل.

ثانياً: التنظير الحداثوي العربي ـ بغض النظر عن صوابه أو خطله أو قدرته الحقيقة على استنقاذ الوضع العربي ـ ولكن تبقى عملية التبشير بأن خطوات الإصلاح تتم عن طريق الضخ الإعلامي والتثقيفي بضرورة الأخذ به هي عملية بعيدة عن الواقع, فمثلا ما نظّر به لوك وفولتير وكانت وغيرهم ماكان له أن يؤثر بالمجتمع لولا العوامل التاريخية التي تحكمت بأوروبا في القرون 17 إلى 19, وعليه فان المجتمع العربي بحاجة إلى تراكم تاريخي مماثل يصل بنا إلى الأخذ بماتطرحه مدارس الحداثة, وكمثال آخر فإن عملية تكفير الأزهر في مصر للمفكر نصر حامد أبو زيد وبالتالي هجرته إلى هولندا لاتحمل في طياتها سمات التخلف أو غيرذلك,  بقدر ماهي مماثلة اللحظة التاريخية لعلمية التكفير من حيث العوامل التاريخية للحظة تكفير الكنيسة لغاليلو وبالتالي رجوعه عما قاله. وعليه فإن المجتمع العربي يحتاج إلى سيرورة مماثلة لما تم في أوروبا منذ محاكمة غاليلو حتى ترسيخ العلمانية بشكل نهائي, كي يتم الأخذ بما قاله نصر أبو زيد, وهذا ما لن يتم لاختلاف العوامل المادية التاريخية كما بينّت.

ثالثاً: هيمنة القوى العالمية على الدول العربية وهذا يقودنا إلى الحديث بأمرين

الاول مايسمى بنظرية المؤامرة التي يطيب للكثيرين تفنيدها, وإني وإن كنت لا أحبذ استخدام هذه العبارة بقدر الاعتماد على الواقع الملوس الخارج عن أي تنظير, فحين أجد حربا استمرت لثماني سنوات وأدّت إلى تدمير العراق بشكل كبير وأجد أمريكا مسؤولة عن إشعال هذه الحرب وديمومتها فهل عليّ أن أغمض عيني وأردد أن نظرية المؤامرة باطلة؟!! ثم فليقرأ من يريد أن يقرا كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بركنز وأمريكا طليعة الانحطاط لغارودي وعشرات من الكتب المماثلة وله بعد ذلك أن يردد مايشاء ولي أن أؤمن بما جاء فيها.

الثاني هو التسليم بشرور الغرب ومن ثم تقديم نظرية مفادها أن تحكّم القوي بالضعيف هو قانون الحياة فعلى مجتمعاتنا أن تنهض إلى مستوى يجعلها عصية على هيمنة القوى العظمى وليس أن نجعل قوة الغرب شماعة نعلق عليها تكاسلنا وهنا نكون أمام أمرين:

الأول: العلماني لم يقدم غير التنظير وذم الطرف الآخر دون أية خطوة ملموسة في هذا المضمار وإذا اعتذر بعدم امتلاكه الوسيلة التي تمكنه فإن لايطرف آخر التعذر بنفس العذر.

الثاني: أعود إلى قضية العوامل المادية التاريخية وحتميتها, فكي تجعل العراق دولة قادرة على مناهضة أمريكا عليك أن تهبه تاريخا كتاريخ الولايات الامريكية بدءا بهجرة الانكليز إليها بارضها البكر ومناجمها الغنية ومن ثم إفناء 150مليون هنديا حمر إلى إنهاء الحرب العالمية الثانية عن طريق القنبلة النووية وخروج أمريكا من الحرب وهي الدولة الوحيدة التي لم تفقد قواها الاقتصادية والعسكرية.

رابعاً: لست ضد الدعوة للإصلاح والنهوض ولكني ضد:

اـ اعتماد التنظير الفلسفي وغض النظر على حتمية العوامل المادية وأن عملية النهوض هي معركة شرسة مع قوى تهدف إلى التحكم بالعالم وباستغلال خيراته أكثر مما هي إشكالية مع الدين وأن العقل العربي يعتمد على مقررات من القرن الرابع وأن النص الديني داخل أو خارج عن التاريخ

ب ـ التصور الخاطئ بان النموذج الأوروبي هو المقتدى الصالح حيث أن النموذج الأوروبي يعاني من خلل كبير على الصعيدين الفكري والسياسي فعلى صعيد الفكر كان من ثمار العلمانية ازدهار الفكر الإلحادي المادي للطبيعة والأخلاق نتج عن ذلك فكرة التفوق العرقي التي كانت ركيزة أساس في خلق النازية التي أحرقت أوروبا. وعلى صعيد السياسة فما أن تلقفت الدول الغربية تطورها في عصر النهضة حتى ساحت جيوشها في الأرض تنذر شعوبها بالويل والثبور, وحتى يومنا هذا فإن الغرب يدين برفاهيته وتقدمه إلى استغلال الأمم المغلوبة على أمرها.

ج ـ أن يكون الفكر العلماني أو الحداثة الغربية هي بالضرورة المبضع الذي يستأصل من مجتمعاتنا واقعها المزري أو أن الدين هو العائق, فدول أمريكا الجنوبية لادينية ومتخلفة, ودول الخليج العربي لم تجر أن تغيير في ثقافتها الدينية حين شهد تتطورات حضارية كبيرة.

خامساً: على صعيد التنظير في الساحة العربية والإسلامية إلى جنب التنظير العلماني تطالعنا جهود ناضجة ومهمة في التنظير لحداثة معزولة عن حداثة الغرب وتستمد تنظيراتها من وحي الإسلام كما هو الحال عند الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أو إدريس هاني.

مواضيع مختارة