من الامور التي تُعَدُّ حالة عاديةً بحسب ظاهرها، هي حالتا النوم واليقظة اللتان استند اليهما القرآن الكريم على وجه الخصوص.
1 ـ قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَسْمَعُوْنَ)[1]
2 ـ وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِباساً والنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)[2]
3 ـ وقال تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنا اللَّيْلَ لِباساً)[3]
4 ـ وقال تعالى : (إذْ يُغَشِّيْكُمُ النُّعاسُ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنْزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)[4]
جمع الآيات وتفسيرها:
اَنَّ نومكم من آيات الله: في الآية الاولى من البحث يَعُدُّ القرآن الكريمُ نومَ الانسان في الليل والنهار أحدَ البراهين على علمِ وقدرةِ الله تعالى فيقول: (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ). وهو في نهاية الآية يؤكد هذا البرهان (إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَسْمَعُوْنَ). ومما لا شك فيه انَّ الكائنات الحيّة كافة تحتاجُ الى الراحةِ لتجديد قواها، واكتساب الطاقة اللازمة لاستمرار نشاطاتها الحياتية، الراحةُ التي تلاحقهم تلقائياً، وتجبُرُ حتى الحريصين على التمتع بها. فايُّ عامل افضلُ من النومِ يمكنُ ان نفكر به من اجل تحقيق هذا الهدف حيث يلاحق الانسانَ بشكل اجباريٍّ ويضطره لإيقاف جميع نشاطاته الجسمية، بل حتى بعض من نشاطاته الفكرية الاساسية، وفي النتيجة يغطُّ في راحة عميقة، وخلال هذه الفترة تقوم أجهزة الجسم باعادة البناء والاستعداد للسعي والحركة من جديد.
ومما لا شك فيه ان الانسانَ لولا النوم، فانه يذبُلُ ويتْلَفُ، ويُصيبُهُ العَجَزُ والانكسار بسرعة، لذلك فقد قالوا: إنَّ النومَ المعتدل والاستقرار سرُّ السلامةِ وطولِ العمر وحيوية الشباب.
واللطيفُ اَنَّ الآيةَ التي نبحثها وضعت (النوم)، و (ابْتِغاء فَضْلِ اللهِ) في مقابل بعضهما، وحسب قول بعض المفسرين انَّ الأولَ هو علامة الموت والثاني علامة القيامة.
انَّ تعبير (اِبْتغاءَ فَضْلِ اللهِ) اشارةٌ الى مسألة لطيفة، تهتُم بسعي وجدِّ الانسانِ في حياته، وبفضل الله ايضاً، أي انَّ مزجهما مع بعضهما يُفيدُ الانسان من هبات العالم.
وفي الآية الثانية بعد أن يُصرِّحَ (هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) يشيرُ الى مسألة النوم حيث يقول تعالى (وَالنَّوْمَ سُباتاً). ومن الممكن ان يكون تعبير (هو الذي) اشارة الى الجانب التوحيدي لهذه الامور، فكلٌ منها دليلٌ على الذات المقدسة، أو جانبِ الاَنعامِ كي يعرفَ الانسانُ وليَّ نعمتِهِ، ومن المسلَّم به ان معرفة وليَّ النعمة ستكون مقدمةً لمعرفته ايضاً.
واللطيف اَنّه يقول بعد ذلك: (وَجَعَلَ النَّهارَ نَشُوراً)[5] .أجَلْ.. ففي وضح النهار تنتشر الروحُ ويستيقظ الانسانُ بشكل كامل، اَذ لا يخلو من شَبَه بنشورِ يوم القيامة والحياة ما بعد الموت. وهذا الاحتمالُ ممكن ايضاً، حيث يشير الى انتشار الناس في ميدان الحياة.
توضيحات:
ظاهرة النوم الخفيّة: مع انَّ «النوم» و «الرؤيا» تعتبر بالنسبة لنا أمراً عادياً، إلاّ انَّ العلماء لم يتوصلوا الى عمق هاتين الظاهرتين المهمتين بالرغم مما بذلوه من مساع وجهود. فايُّ فِعْل وانفعالات تطرأُ على الانسان ليتوقف فجأة القسم الاعظم من نشاطاته الجسمية والروحية؟! ويحصلُ هذا التغيير في جميع اجزاء جسمه وروحهِ كذلك، فلا يفهمُ شيئاً ولا يبدي أىَّ حركة ويستلقي جانباً كالميت، ولو غرقت الدنيا بأكملها فهو نائمٌ لا يدري.
ومع كل هذه التوضيحات والآراء والفرضيات التي قيلت في هذا المجال، فقد حافظ النوم على صورته المدهشة! والاكثر عجباً من ذلك مسألةُ (الرؤيا) التي تُعَدُّ من الالغاز العظيمة كروح الانسان.
وطبعاً ان الحديث المفصَّلَ بصدد حقيقة واسرار هاتين الظاهرتين خارجٌ عن موضوع بحثنا، لأنَّ الغايةَ من بحث الآيات المذكورة هي بيان المنافع الكثيرة، والفوائد التي لا تُحصى للنوم من جانب ومن جانب آخر كونه نعمة من نعم الله. فالنوم المعتدل دائماً يعتبر دليلا على سلامةِ روح واعصاب الانسان، لذلك فان اهمُ اسئلةِ الاطباء لمرضى النفس تدور حول كيفية نومهم.
لا تتوقف الاجهزة الاساسية في جسم الانسان كالقلب والرئة اثناء النوم، لكنها تعملُ بهدوء اكثر، ويصبحُ دوران الدَّم في الاعضاء اكثرُ تناسقاً، ويتوقفُ نشاطُ الدَّماغ تقريباً، وتستقر جميعُ العضلات ايضاً، فتؤدي كلُّ هذه الامور الى حصول هذه الاعضاء على فرصة لِتجديد بناء ذاتها. وخلالَ النومِ تُزالُ سمومُ الجسم، وتُعالجُ كثير من الامراض.
لقد اورد «روخلين» في كتابه (الرؤيا في نظر بافلوف) بحثاً تحت عنوان (العلاج بالنوم العميق) قائلا: «بناءً على فرضية «بافلوف» فانَّ النومَ عبارةٌ عن ظاهرةِ توقُف من اجل الصيانة وتجديد القوى، وعليه فيمكن استغلالهُ كعامل للعلاج من الامراض المختلفة، وتؤيدُ التجاربُ اليومية دور النوم في ذلك ايضاً»
ثم يضيف: «انَّ النومَ العميق الطويل مؤثر على تحسُن صحة المريض، لانَّ المرضى ينامون اكثر من المعهود بعد مرض طويل من اجلِ استعادةِ قواهم وسلامتهم».
ويقول: «لقد واجه العلاجُ عن طريق النوم رواجاً واسعاً في الاتحاد السوفيتي، وقد استخدمت هذه الطريقةُ لأولِ مرة لمعالجة (جنون الشباب) «الشيزوفرينيا» الذي يعتبر من الامراض النفسية الشائعة».
ويقول في جانب آخر من حديثه: «تم الحصول على نتيجة مُرضيَة لعلاج المصابين بارتفاع ضغط الدم عن طريق النوم العميق... فالنوم الطويل الذي هو حالة من الراحةِ الكاملة للمخ، يُجدد قدرةَ الجهاز العصبي ويوازن تنظيم نشاط الاعضاء الداخلية، ويترك اثراً ايجابياً مساعداً للوضع العام للانسان ([6]).
أَجَل فالذي خلق الانسان سالماً من اجل السعي والنشاط، وضع جميع وسائل ذلك تحت تصرفهِ، وأحدُها نظام النوم واليقظة، النظام الذي تبرز فيه بكل وضوح براهينُ حكمةِ الباري عز وجل.[7]
*مقتطف من تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل لآية الله ناصر مكارم الشيرازي
[1] الروم الآية: 23.
[2] الفرقان الآية: 47.
[3] النبأ الآية: 9 و 10.
[4] الانفال الآية: 11 .
[5] تأملوا جيداً انَّ «النشور» معنى لمصدر، و «السُبات» معنى لمصدر ايضاً أو اسمٌ مصدريٌ، واطلاقهما على الليل والنهار يفيد المبالغة والتأكيد.
[6] النوم في نظر بافلوف ص 112 ـ 116 (مع الاختصار).
[7] نفحات القران: ج2 ص141