هذا السؤال يتطلب بسط الحديث بعد تتبع الأخبار وملاحظة المصادر، ليكون الحديث تاماً بالأدلة، لكنني سأكتفي ها هنا بارتجال تعليقات أربعة:
التعليق الأول: هو أن ترك الدفاع كأي ترك لا يعلم وجهه إلا من التارك نفسه، وما يذكر مجرد احتمالات مالم يرد بيان من نفس التارك، ولك أن تقرب هذه الفكرة بالمثال التالي:
لو ترك زيد الذهاب الى مقر العمل هذا اليوم فهل يتمكن أصدقاؤه وزملاؤه من معرفة سبب عدم ذهابه للعمل هل المرض أو قرار ترك العمل أو المزاحمة بأمر أهم بدون أن يخبرهم زيد نفسه؟ بالطبع لا.
التعليق الثاني: ترك الدفاع عن الزهراء (عليها السلام) نظير ترك الله الدفاع عن أنبيائه ورسله وأوليائه الذين قتلوا وقطعوا وعذب كثير منهم، فهو لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وإنما نحتمل أنها حكمة كذا أو كذا، كحكمة الابتلاء والامتحان أو المزاحمة بأهم يراد الحفاظ عليه.
ألم يترك الله قابيل يقتل هابيل، بل ترك آلاف الناس يقتلون آلاف الناس مع أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا؟ ألم يترك الله طاغون اليهود يقضي على نبي الله يحيى (عليه السلام) وقدم راسه هدية لبغي من بغايا إسرائيل؟
أين الله عن كل ذلك وعن ابليس الذي يتسبب في وقوعها، هل هو غافل عم يفعل الظالمون، هل يعجزه منع ذلك؟ هل هو خائف - تعالى الله عن ذلك - ويقعده الجبن عن ترتب هذه المفاسد؟
بماذا تجيبون عن هذه التساؤلات نجيب في مسالة الزهراء (عليها السلام)، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة الله وهو يقوم ويقعد بأمره تعالى.
التعليق الثالث: ترك الدفاع ليس دائماً موافقاً للجبن والانهزامية!
إن ترك الدفاع قد يكون هو الموافق للشجاعة والحكمة، ولكي يتضح ذلك أذكر مثالاً:
لو فرضنا شخصاً في زمن صدام وتعرض بعثي لزوجته في الشارع بحركة مذلة لا تصدر إلا من الأراذل، وعلم أنه إما أن يسكت وينتهي الأمر بهذا المقدار، وإما أن يظهر البسالة والغيرة ويدافع فيترتب على ذلك قتله واغتصاب زوجته، وأمه وبنته وتصفية الأنفس المحترمة، فأي موقف هو الموافق للشجاعة والحكمة، هل هو العض على الجرح والصبر والسكوت أم إظهار الاعتراض ودفع البعثي والانتقام منه؟
لو فعل هذا الرجل ما يريده الجاهل الذي يتحرك بغريزته السبعية لا بعقله، لكان محط لوم جميع العقلاء.
إن الامير (عليه السلام) هو الذي بنا هذا الدين مع ابن عمه بتضحياته وجهاده وجراحاته حتى قال النبي صلى (الله عليه واله): (ما قام الدين إلا بسيف علي)، وهذا الدين الذي بذل فيه الأمير جميع التضحيات كان يعيش فترة حرجة جدا، لعدة عوامل:
١- كان الدين حديث عهد لم تنعقد عليه قلوب المسلمين بالتسليم التام، فالمسلمون في ذلك اليوم هم الذين فروا من الزحف وتركوا رسول الله (صلى الله عليه واله) واسلموه للقتل في اكثر من موطن لا يدافع عنه إلا بعض أفراد، وهم الذين تثاقلوا عن تنفيذ أوامره في أكثر من مشهد بما في ذلك التقصير في قضية ما بعد الصلح و حج التمتع، بل هم الذين وصفوه بانه يهجر ومنعوه من كتابة ما لا تضل الأمة بعده.
٢- انقسام المسلمين فيما بينهم فقد كشفت احداث السقيفة عن اتهام أعظم فريقين المهاجرين والأنصار لعضهما البعض بحب التسلط على حساب الفرق الآخر.
٣- وجود المنافقين في مجتمع المدينة وحولها، وكانوا بنحو من القوة والكثرة اقتضى أن لا يكتفي القران في مقام الحديث عن تواجدهم وخطرهم بآية او آيتين، بل تعرض لهم بسورة كاملة كاملة وفي آيات متفرقة في عدة سور.
٤- وجود الطلقاء والعتقاء الذي لم ينفكوا عن قتال رسول الله (صلى الله عليه واله) والكيد بالإسلام والمسلمين ظاهراً إلا بعد كسر شوكتهم وغلبة الإسلام، ومن الطبيعي ان يتحين هؤلاء الفرضة للوثبة على الإسلام وأهله وإعادة مكانتهم ومصالحهم التي ذهبت بقوة الاسلام أدراج الرياح.
٥- وجود دولتين كافرتين قويتين لهما نفوذ ومصالح في جزيرة العرب، وبين المسلمين وبين إحداهما جبهة مفتوحة، فحرب مؤتة بعد لم تبرأ جراحاتها من أجساد المقاتلين، وهذا جيش أسامة قد أعده رسول الله (صلى الله عليه واله) وفيه انتدب كبار الصحابة، وهو على وشك أن يزحف نحو أطراف دولة الروم.
في ظل هذه الظروف اقبل القوم بالحطب والنار ينادي مناديهم: (أخرج يا علي وإلا احرقنا الدار ومن فيها) حتى كبسوا دار فاطمة (عليها السلام) ودخلوها عنوة الأمر الذي لم ينكره حتى ابن تيمة.
إن هذه الكلمة تبين مقدار الثمن الذي كان القوم مستعدين أن يدفعوه في سبيل تحقيق أهدافهم، فإذا كانوا جاهزين لحرق بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) وبضعته، وطفليها ريحانتي أبيها وأباهما نفس الرسول واخاه والولي بنص الغدير من أجل تحقيق غايتهم وأهدافهم، فهل هنالك شيء أكثر شناعة يمكن أن ينتهون عنه فيتنازلون عن مقاصدهم فيما إذا توقف تحقيقها على انتهاكه!
إن الامير (عليه السلام) كان - أو ربما كان - بين أن يشهر السيف ويدافع عن زوجته وحقه الشرعي، فيترتب على ذلك تمزق الواقع الإسلامي وخروج المسلمين من الإسلام وتوثب أعدائه عليه، وتصفية الطليعة المؤمنة، وبالتالي ذهاب تضحياته وجهوده وجود النبي من قبله لأكثر من عقدين من الزمان سداً بسبب حرب داخلية تعصف بالدين الإلهي، وبين أن يصبر ويسالم ما سلمت أمور المسلمين، فيعمل مع الطليعة الرسالية والخلاصة المنتقاة من أجل حفظ الإسلام ومذهب الحق في سفينة الإمامة التي تصارعها أمواج وأعاصير السلطات من ذلك اليوم وإلى يوم الناس هذا.
وقد اختار الامام (عليه السلام) بشجاعة وحكمة الخيار العقلائي والإلهي، فهذا الموقف الحكيم هو وصية النبي (صلى الله عليه واله) كما في بعض الاخبار.
التعليق الرابع: التشكيك في إمامة علي (ع)
هذا التساؤل تارة يطرح للتشكيك في ظلامة الزهراء (عليها السلام) و أخرى يطرح للتشكيك في إمامة امير المؤمنين (عليه السلام) بالقول بأن الإمام (عليه السلام) لو كان إماماً حقاً لما سكت عن حقه لأنه شجاع، وكل ذلك اتضح جوابه مما تقدم.
ثم إنه لا يتوقف دفع هذه الشبهات على ثبوت ما تقدم كواقع تاريخي، بل يكفي أن يكون محتملاً وعلى أساسه يمكن الجمع بين أدلة ظلامة الزهراء (عليها السلام) أو أدلة إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فما دام احتمال الجمع بين شجاعة الامام (عليه السلام) وبين سكوته قائماً فهذه الشبهة باطلة ولا تقف أمام ما دل على ظلامة الصديقة و إمامة الإمام علي (عليهما السلام).