ما زالت مسألة تطبيق الحدود الشرعية في المجتمعات المدنية تشغل حيزاً كبيراً من ابحاث المختصين بالقانون الجنائي الأمر الذي يدعو لتسليط الضوء على الموانع التي تمنع من إقامة هذه الحدود واستبدالها بعقوبات أخرى، فقد يتصور البعض ان المانع من ذلك اختصاص إقامة الحدود بوجود الإمام المعصوم عليه السلام وأما في غيبته فلا يجوز إقامتها، ولكنه توهم واضح فقد ذهب مشهور علمائنا الى جواز إقامة الحدود في عصر الغيبة، ومن ذلك قول السيد الخوئي (ره): "هذا هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، بل لم ينقل فيه خلاف إلاّ ما حكي عن ظاهر ابني زهرة وإدريس من اختصاص ذلك بالإمام أو بمن نصّبه لذلك، وهو لم يثبت، ويظهر من المحقق في الشرائع والعلاّمة في بعض كتبـه التوقّف (مباني تكملة المنهاج: ج1، ص272).
ثم يذكر أدلة الجواز فيقول: ويدلّ على ما ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ إقامة الحدود إنّما شرّعت للمصلحة العامّة ودفعاً للفساد وانتشار الفجور والطغيان بين الناس، وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون زمان، وليس لحضور الإمام عليه السلام دخل في ذلك قطعاً، فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود تقضي بإقامتها في زمان الغيبة كما تقضي بها زمان الحضور.
الثاني: أنّ أدلّة الحدود ـ كتاباً وسنّةً ـ مطلقة وغير مقيّدة بزمان دون زمان، كقوله سبحانه: »الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُما مائَةَ جَلْدَة« (النور: 2)، وقوله تعالى: »السَّارِق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما« (المائدة: 38). وهذه الأدلّة تدلّ على أ نّه لا بدّ من إقامة الحدود (مباني تكملة المنهاج: ج1، ص273).
وفي نفس السياق يقول صاحب الجواهر (ره): «…وبأنَّ تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم، وانتشار المفاسد، وذلك مطلوب الترك في نظر الشارع؛ وبأن المقتضى لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه قطعاً، فتكون عائدة إلى مستحقّه أو إلى نوع من المكلَّفين، وعلى التقديرين لابدّ من إقامته مطلقاً…» (جواهر الكلام: ج12: ص396).
من يقيم الحدود الشرعية؟
لم يجز الشارع الكريم إقامة الحدود لكل أحد من أفراد المسلمين، فإنّ ذلك يوجب اختلال النظام، فلا يثبت حجر على حجر، بل يستفاد من عدّة روايات أنّه لا يجوز إقامة الحدّ لكلّ أحد: منها: صحيحة داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «إنّ أصحاب رسول الله (ص) قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول الله (ص) فقال: ماذا يا سعد ؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به ؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد، فكيف بالأربعة الشهود ؟ فقال: يا رسول الله بعد رأي عيني وعلم الله أن قد فعل ؟ قال: اي والله بعد رأي عينك وعلم الله أن قد فعل، إنّ الله قد جعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً» (الوسائل 28: 14 / أبواب مقدمات الحدود ب 2 ح 1).
فإذن لا بدّ من الأخذ بالمقدار المتيقّن، والمتيقّن هو من إليه الأمر، وهو الحاكم الشرعي.
وتؤيّد ذلك عدّة روايات:
منها: رواية إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام: «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك ـ إلى أن قال: ـ وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» (الوسائل 27: 140 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 9(. فيرى الشيخ الأنصاري أنَّ المقصود من كلمة «الحوادث» في هذه الرواية هو "مطلق الأمور التي لابدّ من الرجوع فيها عُرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس (المكاسب: ص555). ولذلك فإنها تشمل بيان الأحكام الشرعية، والتحقيق في الشكاوى، والتصدي للأمور الاجتماعية.
ومنها: رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام من يقيم الحدود: السلطان أو القاضي؟ «فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم» (الوسائل 28: 49 / أبواب مقدمات الحدود ب 28، ح1). والمراد من قوله عليه السلام "من له الحكم" الفقيه الجامع لشرائط الفتوى بدليل الروايات المفسرة كمقبولة عمر بن حنظلة قال: قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا، بينهما مُنازعة في دَيْن أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك؟ قال: مَنْ تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سُحتاً، وإن كان حقّاً ثابتاً له؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ (النساء: 60)، قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى مَنْ كان منكم، ممَّنْ قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإني قد جعلته عليكم حاكماً…» (الكافي: ص54).
فمن البديهي إنَّ كلمة (الحاكم) استُعملت هنا بمعنى (القاضي)، وأنّ أحد شؤون القاضي هو إجراء الأحكام الصادرة.
موانع تطبيق الحدود في الدولة المدنية
وبعد ان بينّا عدم المانع من تطبيق الحدود في زمن الغيبة، وأن مشهور العلماء قائلون بالجواز، فما هو المانع إذن من ذلك؟
والجواب ان الكثير من الأصول والأساسات التي بنيت عليها أنظمة الدولة المدنية تتقاطع تماماً والأصول التي بنيت عليها الحدود، منها:
أولاً: اعتقاد المشرع للقوانين المدنية (الوضعية) بأن الدين هو علاقة خاصة بين العبد وربه وليس فيه ما ينظم شؤون الحياة السياسية والاجتماعية ويضبط ايقاع علاقات الإنسان بالمجتمع؛ وهو توهم واضح، فالإسلام كسائر الشرائع قانون أنزل من السماء لرفع غائلة الاختلاف بين أفراد البشر قال تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.. » (البقرة: 113)، فتقرر الآية أن الناس كانوا يعيشون على الفطرة من دون شريعة، وأنها كانت كافية في بيان الحقوق، حتى دب الخلاف بينهم فاحتاجوا الى قانون ينظم الحقوق بينهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فالأصل إذن في إنزال الشرائع هو تنظيم شؤون الحياة ورفع الاختلاف، وهذا ما التفت إليه وأقره أشهر فقهاء القانون الوضعي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري والذي وضع أصول القوانين في أهم الدول العربية آنذاك (العراق وسوريا ومصر) فيرفض تصور الإسلام كالمسيحية وبأنه دين يهتم بعلاقة العبد بربه ويهمل ما عدا ذلك، وإنما هو دين دولة وقانون، فيقول: "أليس من الخير.. . ألا نتكلم عن الإسلام إلا كما نتكلم عن المسيحية: دين سماوي كريم، أنزل من عند الله ليطهر الوجدان، فعرشه في القلوب، وحكمه على الضمير، ولا يعني بشؤون الدنيا، ولا ينظر إلا الى علاقة العبد بمولاه؟
..أم أن الإسلام دولة الى جانب الدين، وملك الى جانب العقيدة وقانون الى جانب الشعائر" (الإسلام والشرق، ملحق جريدة السياسة، في 14 ـ 10 ـ 1932م).
ثانياً: السيادة والولاية لله ام للأمة؟
فقد ذهب واضعو القوانين المدنية الى أن الأمة هي صاحبة الحق في وضع القوانين المنظمة لشؤونها؛ لذا اعتبروا العرف هو المصدر الأول للتشريع وقدموه على الدين، وقد تبعوا بذلك فلاسفة الغرب فقد بنى (جان جاك روسو) نظرية سيادة الأمة على مبدأ العقد الاجتماعي، بينما ذهب فلاسفة آخرون الى أن هذه السيادة ناشئة من أن الغاية من إنشاء الدولة وسلطاتها هي تدارك مصالح الأمة، وعليه فيجب ان تكون الأمة هي مصدر جميع السلطات بما في ذلك التشريع (مبادئ القانون الدستوري: باريس سنة 1869، ص159).
بينما نجد ان التشريع الإسلامي يفترض ان الولاية والسيادة في التشريع هي لله وحده، لا يشركه بها أحد، نعم قد أوكل الأمر للأمة في العديد من الموضوعات التي تسمى فقهياً بمناطق الفراغ، وقد حدها بعض العلماء وهو العلامة محمد مهدي شمس الدين في أمرين:
الأول: المباحات بالمعنى الأعم (المستحبات، المكروهات، المباحات)، بمعنى إمكانية تشريع السلطة التشريعية أحكاماً إلزامية وجوبية أو تحريمية داخل هذا النطاق (المباحات)؛ لاقتضاء المصلحة.
الثاني: وضع قوانين لتنظيم الموضوعات الخارجية الناشئة من حركة المجتمع وتطور العلم واستجابة الإنسان لضرورات الحياة والطبيعة تأثيراً وتأثراً، من قبيل: الأوامر والنواهي التنظيمية في البناء والسير (قانون المرور) والزراعة والتجارة والمياه والطاقة (مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 14 ـ 15، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م).
وتُملأ منطقة الفراغ عند الشهيد محمد باقر الصدر عن طريق الأمّة بالرجوع إلى الفقيه، حيث ينبثق عن الأمة مجلس تشريعي منتخَب يعبِّر عن إرادتها، ويقوم بتعيين سلطة تنفيذية يُشرف على أدائها، إضافة إلى سنّه القوانين المناسبة لملء منطقة الفراغ التشريعي، وتحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة، ليقوم الفقيه ـ المعبِّر الشرعي عن الإسلام ـ آخر الأمر بالبتّ أو التصديق على هذه القوانين المُشرَّعة والأحكام المنتخبة من قبل الأمّة بما هي ممثلة بمجلسها التشريعي (الاسلام يقود الحياة).
ولولا خوف الإطالة لبينّا باقي الفروق المنهجية والأصول الفكرية التي منعت من إقامة الحدود ضمن النظام الجنائي للدول الإسلامية.
والنتيجة فليس المانع من إقامة الحدود هو المنع الشرعي وتقييدها بعصور الحضور، او لعدم صلاحيتها لهذه الأزمنة، وإنما تباني الحكومات على أصول غربية في تقنين العقوبات الجنائية.