بينّا في مقال تحت عنوان "ما هو التقليد ومنذ متى بدأ؟" ان الأئمة (عليهم السلام) أرجعوا شيعتهم الى بعض الفقهاء في زمانهم (عليهم السلام)، والذي يعد تطبيق حقيقي لمسألة التقليد، وبعد ان اتضح المسار التاريخي للتقليد، وابتداءه من زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ثم امتداده لزمن باقي الأئمة (عليهم السلام)، والذي يمثل سيرة مُقَرّة ومُمْضاة منهم (عليهم السلام)، لابد من ذكر ولو أجمالي لتاريخ الاجتهاد، فقد كانت اللبنة الأولى للاجتهاد تتمثل باعتماد الفقيه بصورة رئيسية على روايات الأئمة (عليهم السلام) والتفريع عليها، وفق فهمه لمداليلها على هدي ما يحمل من ثقافة لغوية عربية وأخرى شرعية اسلامية، متمثلة بتلكم القواعد والضوابط التي أفادها الفقهاء مما ألقاه عليهم الأئمة (عليهم السلام)، فعن الصادق (عليه السلام): "إنما علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا"([1])، وعن الرضا (عليه السلام): "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع"([2]).
وهذه الأصول هي أمثال:
-" من كان على يقين فأصابه شك فليمضِ على يقينه فإن اليقين لا يدفع بالشك"([3]).
- "الناس مسلطون على أموالهم"([4]).
- "كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك"([5]).
- "المسلمون عند شروطهم"([6]).
- "لا ضرر ولا ضرار"([7]).
فكانت تفريعات هؤلاء الفقهاء على الأصول التي كانوا يتلقونها من الأئمة الخطوات الأولى في طريق الاجتهاد الأمامي([8]).
مدرستي "الرأي" و "الحديث"
وفي بداية الغيبة الكبرى نشأت مدرستان في الوسط الفقهي الإمامين تشبهان الى حدٍ ما المدرستين السنيتين في الفقه (مدرسة الرأي) و(مدرسة الحديث)، وهاتان المدرستان الأماميتان، هما:
أولاً: مدرسة الصدوقين:
علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت329).
وابنه: محمد بن علي الصدوق (ت381).
كانت هذه المدرسة تعتمد الحديث الشريف المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهاد فيه، لاستخلاص الحكم الشرعي منه، بأقل كلفة من التفكير، وفي حدود الفهم اللغوي العرفي، وبعيداً عن استخدام المبادئ العقلية المعروفة (بأصول الفقه).
وتمثل هذا واضحاً في كتابين من كتب الصدوقين، هما:
- رسالة الشرائع لعلي بن بابويه (الصدوق الأول):
وهي مجموعة لمتون أحاديث صنفها وفق التبويب الفقهي، أي انها من نوع ما يعرف الآن بالفقه المأثور.
- كتاب من لا يحضره الفقيه، لمحمد بن علي الصدوق (الصدوق الثاني):
وهو مجموع أحاديث اجتهد في اختيارها بمعيار ما يوافق فتواه، من منطلق فهمها فهماً لغوياً عرفياً لم يستخدم فيه القواعد والضوابط العقلية التي تعرف بأصول الفقه.
وكان مقر هذه المدرسة مدينة قم التي عرفت في ذلك الوقت بكثرة الرواة وأهل الحديث فيها، كثرة ملحوظة.
ثانياً: مدرسة القديمين:
الحسن بن ابي عقيل العماني المعاصر للصدوق الأول على بن بابويه.
وتلميذه: احمد بن الجنيد الإسكافي البغدادي (ت381هـ) المعاصر للصدوق الثاني محمد بن بابويه.
كانت هذه المدرسة تعتمد الاجتهاد في فهم النص الشرعي لاستنباط الحكم الشرعي منه وفق القواعد والضوابط العقلية المعروفة بأصول الفقه.
وعرف هذا عنهما مما نقله الفقهاء من كتاب (المتمسك بحبل آل الرسول) لابن ابي عقيل وكتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) لابن الجنيد، ومما قاله علماؤنا في حقهما، فقد قال السيد بحر العلوم في ابن ابي عقيل أنه: أول من هذب الفقه، واستعمل النظر، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى. وقال في ابن الجنيد: وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة والرئاسة وعظم محله قد حكي عنه القول بالقياس([9]).
وكان مقر هذه المدرسة مدينة بغداد التي عرفت آنذاك بأنها ملتقى الفكر العقلاني.
ثم التقت هاتان المدرستان عند الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المتوفي سنة 413هـ) حيث كان أبرز تلامذة الشيخ الصدوق وأبرز تلامذة الشيخ ابن الجنيد.
وبسبب ما كان يتمتع به الشيخ المفيد من شخصية علمية عالية، ومنزلة قيادية مرموقة، واهتمام كبير بأمر التشيع، وعناية فائقة بحركة الفكر التشريعي الإسلامي، في إطار مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والعمل باحتياط واعٍ، على تهيئة الجو العلمي النظيف الذي يوفر له اصالته وجديته، ويفتح الطريق أمامه لعطاء مثمر مفيد.
وبسبب ما رآه من بوادر لانشقاق الصف الشيعي العلمي الى هذين الاتجاهين بما يحمل أولهما من جمود يعوق مسيرة التطور الفكري التشريعي، وما يحمل ثانيهما من انطلاق تجاوز حدود الدائرة المذهبية.
لهذا وذاك رأى ان يسلك طريق البين بين، فلا جمود ولا انطلاق، ولكن أمر بين الأمرين، يحفظ للتشريع أصالته، ويعطيه المجال للتطور داخل إطار تلكم الأصالة.
فجمع أمره وحشد كل ما يملك من طاقات فكرية وقيادية للقيام بالمهمة.
وتجسد عمله بالتالي:
- ألف رسالته الفتوائية المعروفة بـ (المقنعة) في أصول الدين وفروعه، ولم يلتزم في كتابتها وعرضها متون الأحاديث.
وأقام فتواه فيها على ما ذكره من مصادر للتشريع في كتابه (أصول الفقه)، وهي: الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، فيكون بهذا قد رفض القياس، ولم يجمد على حرفية التعبير بمتون الأحاديث([10]).
وضع الشيخ المفيد العقل موضعه حيث اعتبره الدليل على حجية القرآن وحجية ظهورات الألفاظ.
كما وضع اللغة في موضعها حيث اعتبرها الطريق لمعرفة معاني الكلام أو قل: مرادات المتكلمين.
واعتبر الأخبار الطريق لاستقاء الأصول (القواعد) من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة (عليهم السلام)([11]).
ورسالته في أصول الفقه تضمنت ـ على صغر حجمها ـ منهجه في الاجتهاد كاملاً وواضحاً.
وقد تعاهد كبار تلامذته علماً وزعامة مدرسته بالعناية والرعاية فكملت جميع متطلباتها على يديها، وهما الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وزملاؤهم وطلابهم.
إلا أن الشريف المرتضى ربّع مصادر التشريع، فعدها وسلسلها في أحد أجوبته، بالكتاب والسنة والأجماع والعقل.
وألف كتابه (الذريعة الى أصول الشريعة) وفي الوقت نفسه ألف الشيخ الطوسي كتابه (العدة في أصول الفقه) منهجاً للبحث الفقهي = الاجتهاد.
ومشى الوضع الاجتهادي على هذا حتى أخريات القرن العاشر الهجري وبدايات القرن الحادي عشر حيث ألف الميرزا محمد أمين الاستربادي كتابه الموسوم بـ (الفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد) وحدد فيه مصادر الحكم الشرعي ومنهج البحث عن الحكم الشرعي.
ومن حينه انقسمت المدرسة التي أرسى أسسها الشيخ المفيد الى مدرستين:
- المدرسة الأصولية:
وهي التي التزمت خط مدرسة الشيخ المفيد فاعتمدت أصول الفقه العقلي المستقاة أصوله من مبادئ العقل ومعطياته.
- المدرسة الأخبارية:
وهي التي اعتمدت أصول الفقه النقلي المستقاة أصوله من أقوال أهل البيت (8) والمأثور عنهم.
ومشت في موقفها من رصيفتها المدرسة الأصولية تقترب حيناً، وحيناً تبتعد، حتى ضاقت الفروق بينها وانحصرت في التالي:
- مصادر التشريع: فهي اربعة عند الاصوليين: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، واثنان عند الاخباريين: الكتاب والسنة.
- الشبهة الحكمية التحريمية: حيث يرجع فيها الأخباريون الى قاعدة الاحتياط، ويرجع فيها الأصوليون الى قاعدة البراءة([12]).
([1]) الوسائل، الباب 6 من ابواب صفات القاضي، ح 52.
([2]) الوسائل: ج27، ص63.
([3]) الوسائل: ج20، ص274.
([4]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج 4، ص: 356.
([5]) الوسائل: ج17: ص89.
([6]) الوسائل: ج18، ص16.
([7]) الوسائل: ج18، ص32.
([8]) دروس في فقه الأمامية: ص197.
([9]) انظر: كتاب تاريخ التشريع الاسلامي: عبد الهادي الفضلي - عهد ابتداء الغيبة الكبرى.
([10]) أنظر: تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الهادي الفضلي – عهد ابتداء الغيبة الكبرى.
([11]) م. ن.
([12]) نقلاً عن كتاب التقليد والاجتهاد، للعلامة المرحوم عبد الهادي الفضلي.