أيّها الإخوة والأخوات من المعروف والمشهور لكم أنّ من بركات شهر رمضان المبارك وأفضاله، أنّنا نجد المؤمنين يتعاهدون كتاب الله العزيز بالتلاوة والقراءة في آناء اللّيل وساعات النهار، وإنّ هذا الأمر هو أمرٌ حسن ويرجو فيه الصائمون والصائمات أن ينالوا مضاعفة الحسنات، وأن يرتقوا في الجنّة كلّما قرأوا آيةً أو مجموعةً من الآيات أن يرتقوا ويرتفعوا درجةً بعد درجة في الجنّة، لكن يأتي السؤال هنا؟ هل أنّه يكفي أن نردّد ألفاظ القرآن الكريم باللّسان لكي نرتقي فعلاً بمراتب الجنّة ونعلو في منازلها؟ أم أنّه لابُدّ أن نتعلّم ذلك المنهج الذي بيّنه المعصومون (عليهم السلام) في كيفيّة القراءة التي يحبّها الله تعالى ويرضاها ويريدُها منّا، ونحقّق من خلالها هذا الارتقاء والصعود والارتفاع.
كيف نقرأ القرآن؟
هلمّوا معي أيّها الإخوة والأخوات حيث أنّنا في هذا الشهر المبارك تنجذب القلوبُ وتتوجّه النفوسُ لقراءة كتاب الله تعالى المجيد، هلمّوا معي الى روايةٍ عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سأله أحدُ أصحابه وهو أبو بصير، كيف يقرأ القرآن الكريم، وهل أنّه يقرأه ويختمه في ليلةٍ واحدة أو ليلتين أو ثلاث ليالٍ، الإمام (عليه السلام) يعلّمنا كيف كان أصحابُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقرأون القرآن وكيف يتعاملون ويتعاطون مع هذه القراءة، في هذه الرواية كما يرويها أبو بصير وعلي بن حمزة، قال دخل أبو بصير على الإمام الصادق (عليه السلام) قال له: جُعلتُ فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلةٍ واحدة؟ قال: له: لا. قال ففي ليلتين؟ قال: لا. ثمّ قال: في ثلاث ليالٍ؟ فقال له الإمام (عليه السلام): (هاك..) وأشار بيده، و(هاك) اسمُ فعل أمر يعني: خذوا منّي هذا التوجيه كيف تقرأون القرآن الكريم، الإمام (عليه السلام) يقول: (يا أبا محمّد.. إنّ لرمضان حقّاً وحرمةً لا يشبهه شيءٌ من الشهور، وكان أصحاب محمد -صلّى الله عليه وآله- يقرأ أحدُهم القرآن في شهرٍ أو أقلّ...) ثمّ يبيّن أنّهم لماذا يقرأون القرآن في شهرٍ أو أقلّ، هل بإمكانهم أن يختموا القرآن في ليلةٍ واحدة أو ليلتين أو ثلاث؟ نعم.. بإمكانهم، إذن لماذا يقرأونه ويختمونه في شهرٍ أو أقلّ؟ كيف كانت قراءتهم في شهر رمضان الذي له هذا الحقّ والحرمة؟ يبيّن الإمام (عليه السلام) لماذا فيقول: (...إنّ القرآن لا يُقرأ هذرمةً...) الهذرمة هي السرعةُ في القراءة بحيث أنّ الإنسان حينما يُسرع في القراءة لا يفهم ولا يعي معاني العبارات الواردة في القرآن الكريم، ولا يتأثّر بها ولا يتفاعل معها ولا ينجذب قلبُه ولا يحوّل هذه الآيات القرآنيّة الى طاقة عقليّة وفكريّة تحرّك حياته نحو منهج القرآن الكريم، الإمام (عليه السلام) يقول: (إنّ القرآن لا يُقرأ هذرمةً ولكن يُرتّل ترتيلاً) أي القراءة المتأنّية الصحيحة، هذا واحد وهذه مقدّمة.
-التفتوا إخواني- نحن نؤكّد دائماً أنّ مسألة القراءة الصحيحة وتعلّم أحكام القراءة الصحيحة مهمّة ومطلوبة، وكذلك حفظ القرآن الكريم، حفظه في الذاكرة وحفظه بصورةٍ مستمرّة مطلوبة جدّاً ومهمّة، ولكن كلّ ذلك مقدّمة للوصول الى الهدف الأساسيّ الذي بيّنه الإمام (عليه السلام) وبيّنته الآيات القرآنيّة فيقول: (ولكن يُرتّل ترتيلاً) أي قراءةً متأنّية، ثمّ النقطة المهمّة التي أرادها الإمام (عليه السلام) يقول: (فإذا مررتَ بآيةٍ فيها ذكرُ الجنّة فقفْ عندها واسأل الله الجنّة، وإذا مررتَ بآيةٍ فيها ذكرُ النار فقفْ عندها وتعوّذ بالله من النار)، الإمام يذكر مثالاً وسنذكر نحن أمثلةً لنوضّح هذا المعنى، الإمام يقول: (قفْ عندها) ما معنى الوقوف عند هذه الآيات القرآنيّة؟ طبعاً الإمام (عليه السلام) يريد أن يبيّن أنّ الوقوف يعني التأمّل والتدبّر وفهم هذا المعنى وتأثّر القلب والعقل بهذه الآيات، الإمام (عليه السلام) يذكر الجنّة كمثال ويذكر النار كمثال، ما معنى الوقوف حينما يقف الإنسان عند آيةٍ فيها النار وفيها العذاب وفيها الحساب؟ هنا يرجع الى نفسه هل أنا لديّ من الذنوب والمعاصي والآثام ما أعرّض به نفسي الى النار؟ فأستعيذ بالله ليس باللسان بل بتغيير منهج الحياة، وإذا ذكرت وتلوت آيةً فيها ذكرُ الجنّة أقف عندها وأتأمّل كأنّ الجنّة بين يديّ، الآن أعيش أحوال الجنّة، والنار كأنّي بالقرب منها أعيش زفيرها وشهيقها وأتحسّس عذابها، كما ورد في وصف أمير المؤمنين لحالات المتّقين فيقول (عليه السلام): (أمّا الليلُ فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن الكريم) من صفات المتّقين أنّهم في الليل يصفّون أقدامهم للعبادة، ويتلون أجزاء القرآن الكريم، كيف يتلونها؟ هذه هي النقطة المهمّة، (يرتّلونها ترتيلاً ويُحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآيةٍ فيها تشويق ركنوا اليها طمعاً وتطلّعت نفوسهم اليها شوقاً وظنّوا أنّها نصب أعينهم)، أي كأنّ الجنّة بنعيمها ولذائذها بين أيديهم يرونها بأعينهم وليست هي في عالم الغيب عن حواسّهم، (وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويفٌ أصغوا اليها مسامعَ قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم) يسمعون صوت الشهيق والزفير لنار جهنّم، قد البعض منّا لا يصل الى هذه المرتبة يعيش بحواسّه وكأنّ الجنّة والنار نصب عينيه، لكن عندنا مشاهد في الدنيا هذه البراكين -من باب المثال-، هذا الجبل الذي فيه فوّهة بركان وهذه النار ولهيبها وصخور النيران تخرج منها، حينما تشاهدها تصوّرْ أنّ النار أمامك وأنّك الآن عُرِضت معاصيك وذنوبك يوم القيامة، وقيل لك إنّك قد اقتربت من نار جهنّم وسيُسقطونك فيها، هكذا عشْ مثل هذه اللحظات.
وإذا رأيت جمالَ الطبيعة وانبهرت بها فتصوّر الجنّة وعشْ حالة الشوق والانجذاب الى الجنّة، وحثّ نفسك على العمل الصالح، هكذا كان وصف المتّقين، الآن هذا من باب المثال وأعطي أمثلةً أخرى.
إخواني الصائمين والصائمات في بقيّة الأشهر حينما تقرأون آيات القرآن الكريم هناك آيات تدلّ على عظمة خلق الله تعالى، وقد دعانا الله تعالى في كثيرٍ من الآيات القرآنيّة أن نستخدم عقولنا ونفكّر بعقولنا بعظيم القدرة الإلهيّة، فإذا تفكّرنا هكذا ازداد إيمانُنا ويقينُنا بالله تعالى وازدادت معرفتُنا بالله تعالى، مثلاً في واحدةٍ من هذه الآيات التي تدعو الى ذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) الآن مثلاً تقرأ في العلوم الفلكيّة أنّ بعض المجرّات تبعد كذا مليار سنة ضوئيّة، أصلاً هذا رقمٌ لا تتخيّله، هذا المُكتَشَف ولا ندري بعد سنين ماذا سيُكتَشَف، هذه القدرة العجيبة تتفكّر فيها ومنها تصل الى عظمة الله تعالى وجبروته وسلطانه، واختلاف اللّيل والنهار في نفس الكرة الأرضيّة تجد نهاراً ثمان ساعات وليلاً ستّ عشرة ساعة، وتجد في بعض أجزاء الكرة الأرضيّة النهار (22) ساعة، وفي مناطق أخرى هكذا، فتصل من خلال هذا التفكّر الى عظمة قدرة الله تعالى، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وهكذا تصريف الرياح وغير ذلك من الأمور (...إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهكذا من خلال هذه الآيات تصل الى قوّة الإيمان بالله تعالى، من خلال التفكّر والتدبّر والفهم لمعاني هذه الآيات.
القرآن منهج حياة
ثمّ الأمر الثاني -إخواني- وهو أن نعرض واقع حياتنا على منهج القرآن الكريم، ولاحظوا إخواني نحن نتعامل مع كتب الحياة الدنيا تعاملَيْن، تارةً أتعامل مع كتابٍ مدرسيّ همّي أن أقرأ الكتاب وأنجح في الامتحان، ثمّ إذا انتهيت وفرغت من الامتحان نسيتُ مضامين هذا الكتاب وأهملتها، وتارةً أمامي كتاب أرى فيه منهجَ اقتصادٍ ومنهج مالٍ ومنهج إدارة ومنهج تربيةٍ فأحاول أن أفهمه وأحرص على تطبيقه، القرآن الكريم منهجُ حياة، فعليّ أن أعرض واقعي على منهج القرآن الكريم حتّى يكون ربيعاً للقلوب، ولاحظوا إخواني نحن في كلّ يومٍ نعرض صورنا وأجسادنا وظاهرنا على المرآة، لنرى فيها إن كانت هناك عيوب نصلحها، وإن كانت هناك قبائح نحاول أن نصلح ذلك وإن كان هناك حسنٌ نحاول أن نحافظ عليه، كذلك في آياتنا القرآنيّة.
الآن أعرض أمثلةً أيّها الإخوة والأخوات، كلّنا الآن وكلّ واحدٍ منّا يقرأ الآية القرآنيّة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) كثيرٌ من الذين يقرأون هذه الآية القرآنيّة يعطّرون أفواههم ويرطّبون ألسنتهم بهذه الآية، ولكن بعد دقائق بنفس هذا اللّسان الذي يتلو هذه الآية القرآنيّة التي تنهى هذا اللّسان نفسه وبقيّة الصائمين عن الغيبة، لكن هذا اللّسان بعد دقائق يغتاب إخوته الآخرين، هل هذه القراءة هي التي أرادها الأئمّة (عليهم السلام)؟ أبداً.. هي نفس الآيات القرآنيّة كما يقرأ في وصيّة لقمان لابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا)، وإذا هو بعد دقائق لما له من مالٍ وسلطةٍ ومن جاهٍ ومكانة يتكبّر ويصعّر خدّه للآخرين ويترفّع عليهم ويستصغر الآخرين، هل هذه هي القراءة التي أمرنا بها الله تعالى؟ في نفس الآيات القرآنيّة هو يقرأ وببصره ينظر الى هذه الآية (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وإذا بعد دقائق بهذه العين التي قرأ بها هذه الآية القرآنيّة (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ...) وهو من المؤمنين (...يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بهذه العين التي أبصر بها هذه الآيات القرآنيّة ينظر الى محرّم، فهل هذه هي القراءة التي أرادها الله تعالى؟!
أيضاً في آياتٍ أخرى قد تنهاه عن الرّبا أو أن يتعامل مع الآخرين بالعفو والصفح، ولكنّه في نفس الوقت يتعامل بالإيذاء ويتعامل بالتعالي مع الآخرين ويتعامل بالقسوة، فهل يُمكن أن نقول إنّ هذه القراءة هي التي أرادها الله تعالى في شهر رمضان المبارك، وانظروا الى الحديث الشريف (تعلّموا القرآن فإنّه ربيعُ القلوب)، ودقّقوا في الأحاديث الشريفة تجدوا أنّ أكثرها ورَدَ فيه لفظ: تعلّمْ، ادرسْ، حملة القرآن، (أشرافُ أمّتي حَمَلةُ القرآن وأصحاب الليل)، أيضاً ورد في بعض الأحاديث الأخرى: (إذا أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والهدى يوم الضلال، فادرسوا القرآن فإنّه كلامُ الرحمن وحرزٌ من الشيطان)، كذلك ورد في أحاديث أخرى (من تعلّم القرآن وعلّمه وعمل به فأنا سائقٌ له الى الجنة)، لذلك إخواني حينما تقرأون القرآن الكريم حتّى يكون ربيع القلوب، والحديث يقول: (تعلّموا القرآن فإنّه ربيعُ القلوب).
إخواني أختم هذه الخطبة فأقول: أنْ تقرأ آيةً واحدة تتدبّر فيها وتفهمها وتتحوّل الى طاقةٍ عقليّة وفكريّة وعاطفيّة وسلوكيّة لديك تحرّكك نحو الارتقاء والإصلاح، أفضل من أن تختم القرآن وهذه القراءة لا تهزّ وجدانك ولا تغذّي عقلك ولا تحرّك قلبك ولا تُحيي ضميرك، آيةٌ واحدةٌ تفعل هذا الفعل أفضل من أن تقرأ القرآن وتختمه وهو لا يفعل هذا التأثير فيك، فإنّ الحديث الشريف لم يقل فقط اقرأوا القرآن بل تعلّموا القرآن فإنّه ربيع القلوب، الربيع هو الأجواء التي توفّر الحياة، لذلك تعلّموا القرآن بتدبّره وفهمه وتحويله الى منهج حياة هو الذي يجعل منه ربيعاً لهذه القلوب والنفوس.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا أن نكون من أولئك الذين تعلّموا القرآن وعلّموه وعملوا به، فحوّلوه الى منهاج حياةٍ وربيعٍ للقلوب، وأن تكون قراءتنا كما أراد الله تعالى ولا نجعل على قلوبنا أقفالاً لا نتمكّن من خلالها أن نحوّل القرآن الى ربيعٍ للقلوبٍ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
*النص الكامل للخطبة الأولى من صلاة الجمعة التي ألقاها ممثل المرجعية العليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي بتاريخ 19 رمضان 1440 هـ الموافق 24/05/2019 م