الرجوع للعلماء وسؤالهم عن الأحكام الشرعية العملية مما جرت عليه سيرة الشيعة وجميع المسلمين من الصدر الأول، وعرف في كل عصر جماعة ممن يتصدى للفتوى.
وقد تضمَّنت النصوص تصدِّي بعض علماء الشيعة لذلك، مثل أبان بن تغلب، الذي قال الشيخ الطوسي في حقه ـ بعد أن مدحه وعظَّمه ـ: «وقال له أبو جعفر الباقر (عليه السلام): اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أُحب أن يُرى في شيعتي، مثلك، فجلس»[1].
ومثل معاذ بن مسلم النحوي فقد روى في حديثه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعولون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك.
قال: فقال ليّ: اصنع كذا، فإني كذا أصنع»[2].
لكن الفقه الشيعي لم يكن متميزاً بنفسه وبفقهائه في الصدر الأول بسبب الفتن والمآسي التي مرَّت على الشيعة، والتي كانت السبب في تركيزهم على الجانب السياسي، واهتمامهم بتسنم أهل البيت (صلوات الله عليهم) السلطة واستلامهم دفة الحكم من دون أن تتضح لهم معالم الخلاف بين أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم في الفقه، وربما كانوا يستفتون العامَّة ويأخذون الأحكام منهم غفلةً عن مخالفتهم لأهل البيت (عليهم السلام) فيها.
وبعد فاجعة الطف حيث قضي على أمل استلام أهل البيت (عليهم السلام) السلطة في الزمن القريب المنظور، وحيث تجلت ظلامة أهل البيت وظهر حقهم، واتضحت معالم الضلال والباطل في الجانب الآخر، اتجه الشيعة لأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) من أجل أخذ دينهم منهم في عقائدهم وفقههم وباينوا غيرهم وأعرضوا عنهم.
ورأى الأئمة (صلوات الله عليهم) الأرضية الصالحة والظرف المناسب لتركيز مفاهيمهم في شيعتهم وبث تعاليمهم لهم في العقائد والفقه ومعايير الحب والبغض والتولي والتبري، وجهدوا في قيام كيان علمي لهم يحمل تلك التعاليم ويبثها فيهم، ليستغنوا به عن غيرهم.
ويبدو اهتمام الإمام الباقر (عليه السلام) بهذا الجانب من وصيته للإمام الصادق (عليه السلام)، ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر، فلا يسأل أحداً»[3].
وقام (صلوات الله عليه) بما وعد، وبدأ الشيعة يقصدون علماءهم ويرجعون إليهم، وتصدَّى جماعة منهم للفتيا، كما أرشد الأئمة (عليهم السلام) إلى جماعة منهم.
ففي صحيح شعيب العقرقوفي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي. يعني أبا بصير»[4].
وفي صحيح عبد الله بن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه. فقال: ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»[5].
وفي حديث علي بن المسيب: «قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا. قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عن ما احتجت إليه»[6].
وفي معتبر عبد العزيز بن المهتدي: «سألت الرضا (عليه السلام): إني لا ألقاك في كل وقت، فعن من آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن»[7].
كما ورد الإرجاع إلى جماعة آخرين، مثل الحارث بن المغيرة، وزرارة بن أعين، والمفضل بن عمر، والعمري وابنه، في أحاديث كثيرة لا يسعنا استقصاؤها[3][8].
الإمام المهدي (عج) يرجع الشيعة للعلماء
كما ورد الارجاع للعلماء عامة من دون تعيين لشخص خاص في نصوص كثيرة منها: التوقيع الشريف المشهور الصادر من الإمام المنتظر صاحب الزمان (عجل الله فرجه) في أواسط عصر الغيبة الصغرى أو أوائلها:
«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»[9]. ومنها ما يأتي عن الإمام الهادي (عليه السلام).
وتكامل للشيعة فقههم واستغنوا عن غيرهم. ففي معتبر محمد بن حكيم: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم من الناس، حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه [إلا] يحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ الله علينا بكم...»[10].
وفي كتاب الإمام الهادي (عليه السلام) لأحمد بن حاتم وأخيه: «فاصمدا في دينكما على كل مُسِنٍّ في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى»[11].
بل ربما كان غيرهم يرجع إليهم في معضلات المسائل، لعلمهم بأنهم قد أخذوا أحكامهم من عين صافية لا تنضب. ففي موثق محمد بن مسلم: «إني لنائم ذات ليلة على السطح، إذ طرق الباب طارق... فأشرفت فإذا امرأة، فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلق، فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرك في بطنها، يذهب ويجيء، فما أصنع؟ فقلت: يا أَمة الله سُئل محمّد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال: يشق بطن الميت، ويستخرج الولد، يا أمة الله أفعلي مثل ذلك. أنا ـ يا أمة الله ـ رجل في ستر، من وجّهك إلي؟ قال: قالت لي: رحمك الله، جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال: ما عندي في هذا شيء، ولكن عليك بمحمد بن مسلم الثقفي، فإنه يَخبر، فما أفتاك به من شيء فعودي إلى فأعلمينيه. فقلت لها: امض ِ بسلام. فلما كان الغد خرجت إلى المسجد وأبو حنيفة يسأل عنها أصحابه، فتنحنحت. فقال: اللهم غفراً. دعنا نعيش»[12].
وعن السياري قال: «روي عن ابن أبي ليلى أنه قدم إليه رجل خصماً له، فقال: إن هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً، وزعمت أنه لم يكن لها قط، قال: فقال له ابن أبي ليلى: إن الناس يحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به، فما الذي كرهت؟ قال: أيها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به. قال: اصبر حتى أخرج إليك، فإني أجد أذى في بطني، ثم دخل وخرج من باب آخر، فأتى محمد بن مسلم الثقفي، فقال له: أي شيء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟ فقال محمد بن مسلم: أما هذا نصاً فلا أعرفه، ولكن حدثني أبو جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)
أنه قال: كلما كان في أصل الخلقة، فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى: حسبك. ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب»[13].
الأئمة (ع) يحثون شيعتهم على كتابة العلم
وقد أكد الأئمة (عليهم السلام) على كتابة العلم والحديث من أجل أن يحفظ العلم وينتفع الناس به، خصوصاً في عصر الغيبة، حيث لا مفزع للناس إلاّ كتب الحديث، ففي معتبر أبي بصير: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام): اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»[14].
وفي موثق عبيد بن زرارة: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها»[15].
وفي حديث المفضل بن عمر: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم»[16].
وبدأ فقهاء الشيعة يؤلِّفون الكتب في الأحكام الشرعية لعمل الناس التي هي أشبه بالرسائل العملية، يحضرنا منها كتاب (يوم وليلة) ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الرضا (عليه السلام)، الذي ورد عنهم (عليهم السلام) في نصوص كثيرة الثناء عليه، وإقرار العمل به[17].
وكذا كتاب يوم وليلة المعروف بكتاب (التأديب) لتلميذه أحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانبة، ورسالة علي بن بابويه القمي والد الصدوق المتوفى في عصر الغيبة الصغرى.
وكتاب (المتمسك بحبل آل الرسول) لابن أبي عقيل العماني المعاصر له، وكتاب (المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي) لابن الجنيد المقارب لهما.
وما كتاب (من لا يحضره الفقيه) ـ الذي ألّفه الصدوق في أوائل الغيبة الكبرى ـ إلاّ رسالة عملية يرجع إليها من لا يتيسَّر له سؤال الفقيه، وهي تتضمن فتاوى الصدوق.
ثم تتابعت الرسائل للعلماء طبقة بعد طبقة، كـ(المقنعة) للشيخ المفيد، و(جمل العلم والعمل) للسيد المرتضى، و(النهاية في مجرد الفقه والفتوى) للشيخ الطوسي، (قدس الله أسرارهم الزكية)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
[1] الفهرست: 17.
[2] وسائل الشيعة: 18 / 108.
[3] الكافي : 1 / 306.
[4] اختيار معرفة الرجال: 1 / 400.
[5] وسائل الشيعة: 18 / 105.
[6] وسائل الشيعة: 18 / 106.
[7] وسائل الشيعة: 18 / 107.
[8] اُنظر رجال الكشي: 357، 483، 595. ورجال الشيخ الطوسي: 509. ووسائل الشيعة: 18 / 103ـ111.
[9] وسائل الشيعة: 18 / 101.
[10] وسائل الشيعة: 18 / 61.
[11] وسائل الشيعة : 18 / 110.
[12] رجال الكشي: 146.
[13] وسائل الشيعة: 12 / 410.
[14] وسائل الشيعة : 18 / 56.
[15] وسائل الشيعة: 18 / 56.
[16] وسائل الشيعة: 18 / 56.
[17] وسائل الشيعة: 18 / 71 ـ 72.