لقد أولى القرآن هذه المسألة اهتماماً خاصاً وأشار إليها في آيات كثيرة ووضح وبصورة تامة مستقبل البشرية وما يؤول إليه مصير العالم، فإذا ما جمعنا تلك الآيات ودرسناها دراسة شاملة وبإمعان وتأمّل فستتّضح لنا حينئذ النظرية القرآنية في هذا المجال، ولذلك سوف نستعرض هذه الآيات التي تحدّثت عن هذه المسألة في موارد مختلفة والتي يبلغ عددها عشر آيات مباركات، نذكرها تحت العناوين التي أشارت إليها.
1. وراثة الصالحين للأرض
إنّ الرؤية المستقبلية للإنسان واهتمامه بمصيره وبمستقبله يحثّانه على التعرّف على عاقبته ومصيره وما آلت إليه الأقوام والشعوب السابقة، لأنّه ومنذ بزغ فجر التاريخ الإنساني اقترن بالنزاع والخصام بين الحقّ والباطل، وانّ النصر يكون حليف الحق تارة وأُخرى حليف الباطل، أي انّ الحرب كانت بينهما سجالاً وحسب التعبير القرآني:
( ...وتِلكََ الأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاس... ) .( [1])
فبالرغم من أنّ التاريخ البشري منذ ولادة الإنسان وإلى الآن يعيش حالة الصراع والسجال وتبادل النصر والهزيمة، ولكن القرآن الكريم يقطع بأنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت بأنّ العاقبة ومستقبل البشرية سيكون من نصيب الصالحين والمؤمنين الذين سيرثون الأرض وما عليها، وانّهم سيقيمون حكومة العدل والحقّ الإلهي وسيكون زمام الأُمور بأيديهم لا بيد الباطل وأهله، وانّ العالم بأسره سينضوي تحت راية الحق والعدل ولا تقوم للباطل بعد ذلك قائمة، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة:
( وَلََقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُور مِنْ بَعْدِ الذِّكْر أَنَّ الأَرْض يَرِثُها عِبادي الصّالِحُون ) .( [2])
وفي آية أُخرى يقول:
( وَعََدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... ) .( [3])
إنّ الاستخلاف المذكور في الآية ـ سواء قلنا: إنّهم خلفاء اللّه سبحانه، أو قلنا: إنّهم خلفاء لمن سبقهم من الناس ـ يعني القيام بتدبير الأُمور وإقامة العدل الإلهي والقسط في المجتمع، وإعمار الأرض وإصلاحها. وفي آية ثالثة هناك إشارة إلى أنّ العاقبة للمتّقين ( ...وَالعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) .( [4])
2. استقرار رسالة اللّه في الأرض وإشاعة الأمن
لقد وعد القرآن الكريم بأنّ الإسلام سيعمّ المعمورة بأسرها وأنّ النصر النهائي حليف المسلمين، ولكنّ هذا الوعد الإلهي ـ الذي لابدّ أن يقع يوماً ما ـ لم يتحقّق حتّى هذه اللحظة، ولكن الروايات الشريفة تؤكد انّ هذا الوعد الإلهي القطعي سيتحقّق في ظروف خاصة وفي دورة تاريخية أُخرى، وهي التي يمسك فيها زمام الأُمور كلّها آخر وصي من أوصياء الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الا وهو الحجة بن الحسن الإمام المهدي(عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف)، وحينئذ سيملأ الأرض ـ شرقاً وغرباً ـ قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. يقول تعالى مشيراً إلى هذا الوعد الإلهي الحقّ:
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِين الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون ) .( [5])
وفي آية أُخرى إشارة إلى نفس هذا المضمون ولكن بعبارة أُخرى حيث عبّرت الآية عن تلك الحقيقة بأنّ نور اللّه سبحانه لن يطفأ أبداً مهما حاولوا ذلك فقال تعالى:
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّه بِأَفْواهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون ) .( [6])
3. انتصار الأنبياء
لقد بذل الأنبياء والرسل(عليهم السلام) جهوداً حثيثة ومساعي جبارة وجهاداً عظيماً في طريق نشر رسالتهم الإلهية، ولكن وبسبب الكثير من المحاولات المضادة لم يتمكّنوا من بسط تلك الرسالة على جميع أنحاء المعمورة وفي جميع أرجاء العالم، ومن بين تلك الأسباب المانعة هي أنّهم قد واجهوا في كلّ عصر الكثير من المعاندين والمخالفين الذين تصدّوا لهذه الرسالة الإلهية الحقّة فكانوا مانعاً أساسياً في طريق الأنبياء(عليهم السلام) لتحقيق هدفهم المقدّس.
ولكنّ القرآن الكريم يؤكد أنّ هذه المواجهة والمعارضة من قبل أصحاب الباطل ما هي إلاّ مواجهة مؤقتة ستؤول إلى الاندثار والانهزام، وأنّ هذا الجدار الذي بناه الطغاة وأصحاب الباطل سينهار حتماً ـ يوماً ما ـ و أنّ رسالة الأنبياء وأولياء اللّه هي التي ستحكم الأرض وتعمّ العالم بأسره.
ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في آيات متعدّدة منها:
( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوم يَقُومُ الأَشهاد ) .( [7])
وفي آية أُخرى أكّد القرآن الكريم أنّ المشيئة الإلهية قد تعلّقت بأنّ النصر سيكون حليف الأنبياء ورسالتهم، حيث قال سبحانه:
( وَلَقَدْسَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلين * انّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورون * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُون ) .( [8])
وقال سبحانه في آية أُخرى: ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلي... ) .( [9])
4. انتصار الحقّ على الباطل
إنّ آيات الذكر الحكيم كما أنّها تؤكد على أنّ النظام التكويني هو نظام الخير والصلاح وانّ الخير سيتغلب على الشر قطعاً، وكذلك ترى النظام الاجتماعي المبني على الحقّ والتوحيد والعدل هو النظام المستحكم والذي ستكون له الغلبة والانتصار على النظام الباطل المبني على الشرك والجور والطغيان، وانّ العاقبة الحميدة والنصر النهائي سيكون من نصيب الصالحين والصادقين والمؤمنين حيث قال سبحانه:
( بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِق... ) .( [10])
وفي آية أُخرى نرى القرآن الكريم يصف الحق والباطل بأجمل وصف وأدق تعبير حيث يشبّه الحق بـ«الماء» و الباطل بـ«الزبد» وانّه خلال حركة الحقّ ومسيرته الطويلة سيمتطي الباطل ظهر الحق ويعتلي على رقبته فترة وجيزة، ولكن سرعان ما تنجلي الغبرة عن زوال الباطل «الزبد» من الوجود و تنتهي وتزول كلّ آثاره من المجتمع ولم يبق في الساحة إلاّ الحقّ الذي هو كماء الحياة يبقى يسري في العروق ليبعث فيها الدفء والحياة والحركة.
يقول سبحانه:
( ...أَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ الناسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرض... ) .( [11])
5. الإمداد الغيبي لمستقبل البشرية
يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة مهمة وهي أنّ مصير البشرية سيؤول إلى انتصار الحقّ حتماً، وذلك لأنّه سيظهر أفراد في المجتمع يضحّون بكلّ وجودهم ويبذلون الغالي والنفيس في نصر الإسلام والحقّ وإذلال الكفر والباطل، ولذلك يحذر اللّه سبحانه البعض من الناس انّهم في حالة انحرافهم عن الطريق القويم والصراط المستقيم وارتدادهم إلى وادي الجهل والانحراف، فإنّ عملهم هذا لن يضر الإسلام والمسلمين شيئاً وانّهم لم ولن يستطيعوا محو الرسالة الإسلامية الحقّة والقضاء عليها أبداً، وانّ التاريخ البشري يشهد أنّه في كلّ عصر تظهر مجموعة من المؤمنين الذين يحبّهم اللّه ويحبّونه، علاقتهم مع المؤمنين مبنيّة على الحب والتواضع والعزة والاحترام وانّهم أعزّة على الكافرين يدافعون وبكلّ قوّة وثبات من أجل نصر الحقّ وإعلاء كلمته يقول سبحانه:
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوفَ يَأتِي اللّهُ بِقَوم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونهُ أَذِلّة عَلى المُؤْمِنين أَعِزَّة عَلى الكافِرينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَومة لائِم... ) .( [12])
وحينئذ لابدّ من ملاحظة انّ هذه الوعود الإلهية والبشارات السماوية، بحكومة العدل الإلهي وشمول الرسالة للعالم بأسره والتي لم تتحقّق حتّى هذه اللحظة، لنرى متى يتم هذا الوعد وتتحقّق تلك الأُمنية التي طالما حلم بها الأنبياء والمرسلون والصالحون؟
إنّ الروايات الإسلامية الصحيحة هي التي تحلّ لنا هذه العقدة وتكشف لنا حقيقة الأمر وتضع اليد على ذلك المجهول الذي طالما انتظرنا تحقّقه، وذلك في عصر ظهور المهدي المنتظر(عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) .
إنّ الروايات الكثيرة قد تحدّثت وبصورة قطعية عن تطوّر البشرية وتكاملها عقلياً وفكرياً وفي مجال التطور الصناعي والتكنولوجي، كما أنّها قد تحدّثت عن شمول العدل الإلهي لجميع ربوع المعمورة، وانّ رسالة التوحيد هي التي تعم البشرية في نهاية المطاف.
[1] . آل عمران: 140.
[2] . الأنبياء: 105.
[3] . النور: 55.
[4] . طه: 132.
[5] . التوبة:33; والصف: 9.
[6] . الصف: 8.
[7] . غافر: 51.
[8] . الصافات:171ـ 173.
[9] . المجادلة: 21.
[10] . الأنبياء: 18.
[11] . الرعد: 17.
[12] . المائدة: 54.