المصائب والبلايا في حياة الإنسان من المسائل الشائكة التي شغلت بال المتكلمين والحكماء، فراحوا يبحثون عنها في الأبواب الأربعة التالية:
1. التوحيد في الخالقية.
2. النظام الأحسن.
3. حكمته سبحانه.
4. عدله سبحانه.
زعموا أنَّ وجود البلايا والمصائب تخلُّ بالتوحيد في الخالقيَّة لأنَّه خير محض فكيف صار مصدراً للشر المطلق ؟!، ربما زلّت أقدام بعضهم إلى الثنوية، وزعموا أنّ خالق الخير غير خالق الشر وأنّ هناك خالقين مختلفين.
كما زعموا أنّ المصائب والبلايا تخل بالنظام الأحسن الذي يجب أن يخلو عن كلّ شر.
كما انّها أيضاً لا تلائم حكمته سبحانه فإذا كان حكيماً فما معنى قتل النفوس بالنوازل والحوادث.
وأخيراً انّها تضاد عدله سبحانه.
وعلى كلّ تقدير فبما أنّ هذه المسألة من المسائل العويصة لها صلة بالأبواب الأربعة المذكورة سالفاً، ووقعت محطَّ اهتمام الحكماء الإسلاميين.
إنّ من يظن أنّ البلايا والمصائب تخالف عدله فإنّما ينظر إليها من منظار ضيّق محدود، فلو نظر إليها في إطار النظام الكوني العام، لأذعن انّها خير برمّتها، أو انّها خير يلازم شراً قليلاً، وتكون المسألة كما يصفه الشاعر في البيت التالي:
ما ليس موزوناً لبعض من نغم ففي نظام الكلِّ كل منتظم
إنّ من ينظر إلى هذه الظواهر من منظار خاص ويتجاهل غير نفسه في العالم، ففي نظره تتجلىٰ هذه الحوادث أمامه شرّاً وبليّة، وأمّا إذا نظر إليها من منظار خارج عن إطار الأنانيّة والمصالح الشخصية الضيِّقة، تنقلب هذه الحوادث عنده إلى الخير والصلاح، وتكتسي ثوبَ العدل، ولبيان ذلك نضرب مثالاً:
إنّ الإنسان يرى أنّ الطوفان الجارف يكتسح مزرعته والسيل العارم يهدم منزله، والزلزلة الشديدة تقتلع بنيانه، ولأجل ذلك يصفها بالبلاء، دون أن يرى ما تنطوي عليه هذه الحوادث والظواهر من نتائج إيجابية في مجالات أُخرى من الحياة البشرية.
وما أشبه حال هذا الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر يرى جرَّافة تحفر الأرض وتهدم بناءً وتثير الغبار والتراب في الهواء، فيقضي من فوره بأنّه ضارّ وسيّء، ولكن المسكين لا يدري بأنّ ذلك يتم تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ للمحتاجين للعلاج، وسائل المعالجة والتمريض ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى، ولوصف ذلك التهديم بأنّه خير.
إذا علمت ذلك، فنحن نذكر مثالاً من نفس ما نحن بصدده.
إذا هبّت عاصفة هوجاء على السواحل، فبما أنها تقطع الأشجار وتدمّر المنازل القريبة من الساحل، حينها توصف بالشرِّ والبلية، ولكنّها من جهة أُخرى خير محض حيث توجب حركة السفن الشراعية المتوقفة في عرض البحر بسبب سكون الرياح وبذلك تنقذ حياة المئات من ركّابها اليائسين من النجاة.
إنّ هذه العاصفة وإن كان يُكمن فيها الشر لكنها في نفس الوقت وسيلة فعّالة في عملية تلقيح الأزهار، وإثارة السحب للمطر، وتبيد الأدخنة الضارة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل، إلى غير ذلك من الآثار المفيدة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيئة.
إنّ السبب لوصف بعض الحوادث بالشرور والبلايا هو ضيق علم الإنسان وضآلته ولو وقف على أسرارها التي ربما تظهر بعد سنين لرجع عن قضائه، ويُرتّل قوله سبحانه: ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ).[1]ولأذعن بقوله سبحانه: ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ).[2]
الآثار التربوية للبلايا والمصائب
إنّ للبلايا والمصائب آثاراً تربوية تُضفي على العمل وصفَ الخير الكثير في مقابل الشر القليل، وهذه الآثار عبارة عمّا يلي:
أ: تفجير الطاقات:
إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم ورقي الحياة، فانّ الحضارات لم تزدهر إلّا في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات، ففي مثل هذه الظروف تتفتح القابليات إلى جبران ما فات وتتميم ما نقص. فإذا لم يتعرض الإنسان إلى ضروب من المحن فانّ طاقاته تبقى كامنة، وإنّما تتفتح في خضمِّ المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه: ( فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )[3].
ب: المصائب والبلايا جرس إنذار
كلّ ما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية، وهذه حقيقة يلمسها كلّ إنسان في حياته فلابدّ من انتباه الإنسان من الغفلة، من خلال جرس إنذار يذكّر ويوقظ فطرته وينبّهه من غفلته، وليس هو إلاّ بعض الحوادث التي تقطع وتيرة الحياة الرغيدة، حتى يتخلّى عن غروره ويخفّف من حدّة طغيانه، وإلى هذا الجانب يشير قوله سبحانه: ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ).[4]
وبذلك يعلّل قوله سبحانه نزول الحوادث، ويقول: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ).[5]
إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى أن الهدف من وراء نزول البلايا هو تخلّي الإنسان عن غروره.
ج: تقاعس الإنسان عن تحمل مسؤوليته
إنّ ما يسمّيه الإنسان بالبلايا والشرور لم يكتب عليها الشرُّ على وجه الإطلاق بل تتَّبع الظروف، فالسيل الجارف يُعد شراً في البلاد المتخلِّفة عن ركب الحضارة، وأمّا في البلاد المتقدمة فيعد خيراً، لأنّها تقوم بمشاريع بناء السدود بغية جمع مياه تلك السيول واستثمارها في انتاج الطاقة الكهربائية، ولذلك قلنا إنّه لم يكتب على السيل أنَّه شرٌّ أو خير وانّما هو يتَّبع همة الإنسان وقيامه بمسؤوليته في إعمار البلاد.
وهكذا الزلازل الأرضية فقد تُسبّب أضراراً فادحة في البلاد النائية المتخلّفة وتؤدّي إلى إزهاق أرواح كثيرة، وهذا بخلاف البلاد المتطورة فقد اتخذت التدابير اللازمة للوقاية من دمار الزلازل من خلال تشييد المدن والقرى على دعائم متينة لا تتأثر بالزلازل إلّا القليل.
وبذلك تبيَّن أنّ ما يسميه البشر بالبلايا والمصائب ليس على إطلاقها بلاءً بل لها فوائد وآثار اجتماعية وأخلاقية مهمة.
*مقتطف من كتاب مفاهيم القرآن ج 10
موقع الأئمة الاثني عشر
الهوامش:
[1] آل عمران: 191.
[2] الإسراء: 85.
[3] النساء: 19
[4] العلق: 6 - 7.
[5] الأعراف: 94.