نعيش في زمن تنتصر فيه التكنولوجيا على مشاعر الإنسان، بعد أن باتت الأجهزة الإلكترونية تحل محل الآباء في تربية الأبناء. ومع ذلك، يجرُّني الأمل دائماً إلى أن أقنع محيطي والمقرَّبين مِنِّي بأن يستأنسوا بكلمات النبي والأئمة الأطهار (ع) لفهم احتياجات الأبناء النفسية بحسب المراحل العمرية.
[اشترك]
أنا لا أزعم وجود تفصيلات في هذه الكلمات لكلِّ الموضوعات التي نعيشها خلال هذه الفترة بالتحديد، ولكن ينبغي ألا نغفل عن القواعد والأصول التي تضعها هذه الكلمات أمام أعيننا لنستفيد منها على شكل تفريعات تشمل ما نفهمه من هذه الموضوعات.
سأحاول أن أبتعد عن هذا التعقيد في سرد موضوعي الحالي، ودعوني أحدثكم عما جاء على لسان النبي وآله في تربية الأبناء.
ولكن قبل أن أبدأ، هل تعلم أيها القارئ العزيز أن هناك دراسات حديثة تتحدث عن أرقام صادمة تؤكد عمق الخطر الذي نعيشه في تربية أبنائنا؟
فنحن نتحدث عن أكثر من 70% من أطفالنا في العالم العربي يقضون ما يزيد على 6 ساعات يومياً أمام الشاشات الرقميّة، في حين لا يجد نصف الآباء ساعتين كاملتين للجلوس مع أبنائهم. وتزداد الخطورة والمخاوف أكثر فأكثر عندما نتذكَّر أننا جميعاً كآباء نتصفح هواتفنا الذكية حتى في لحظات تناول الطعام مع عوائلنا. لا يمكننا جميعاً أن ننكر هذا.
المشهد في المجتمعات الغربية أشد خطورة، حيث يقضي الأطفال هناك أوقاتاً أطول على الأجهزة اللوحية والهواتف بحكم التحول الرقمي الواسع في مختلف المجالات، ومنها الدراسة.
هذا الواقع لا يكشف فقط عن حجم الأزمة، بل يؤكد أيضاً أننا بحاجة ملحّة إلى عودة سريعة لمنهج النبي (ص) في التربية قبل أن نفقد جيلاً كاملاً في متاهات العالم الرقمي الذي جاءنا نتيجة اعتمادنا على المنهج الغربي "التجريبي" في تربية الأبناء.
هذا المنهج الذي صيغ بناءً على معايير مادية صرفة تحقق الربح المادي وتتجنّب خسارته حتى لو كان على حساب القيم الأخلاقية.
وجه الحاجة في رجوعنا إلى وصايا الوحي عبر النبي وآله، هو أنها جاءت في فترات عاصر فيها المجتمع الجاهلي ممارسات تربوية قاسية، لا أنها مجرد توجيهات عابرة كما تظن فئة متعصّبة للمنهج الغربي في صياغة تربية الأبناء. لقد كانت توصيات النبي (ص) في هذا المجال بمثابة صرخة مدوية في وجه المجتمع الذي بات يفقد إنسانيته تدريجياً، حتى وصل الحال ببعض الآباء إلى درجة عدم تقبيل أبنائهم، وهو ما دفع النبي (ص) للقول بحق أحدهم: "هذا رجل عندي أنه من أهل النار" لأنه أفصح عن عدم رغبته في تقبيل أولاده.
حقّ الولد على والده
لم يكتفِ النبي (ص) بتوجيه اللوم لهؤلاء الآباء، بل وضع ما يشبه المنظومة التربوية التي تضمن للأبناء حياة كريمة إذا ما طبّقها الآباء، تبدأ من اختيار الاسم الحسن، مروراً بالتعليم والتأديب، وصولاً إلى الزواج. وهو ما نقله أمير المؤمنين علي (ع) عن رسول الله (ص) بقوله: "وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه، ويعلمه القرآن".
إن المطالع لتوصيات النبي والأئمة (ع) في هذا المضمار لا يمكنه تجاوز حالة "التوازن" العجيب في المنهج بين الحزم والرحمة. فبينما نجد النبي (ص) يحث على "المبالغة في تأديب" الأبناء تصل أحياناً إلى الضرب -ضمن شروطه الشرعية المعروفة في الكتب الفقهية- نراه يؤكد في المقابل على ضرورة الرحمة بهم، بل ويجعل من قبلة الأب لابنه طريقاً إلى الجنة حيث يقول: "أكثروا من قبلة أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة مسيرة خمسمائة عام".
وفي موقف يكشف عمق النظرة النبوية للعدل بين الأبناء في الجانب النفسي، يُروى أنه (ص) رأى رجلاً يقبِّل أحد ابنيه ويترك الآخر، فقال له: "فهلا واسيت بينهما"، في إشارة إلى أن العدل المطلوب لا يقتصر على الأمور المادية فحسب، بل يمتد ليشمل العواطف والمشاعر أيضاً.
في عصرنا الحاضر، وبعد أربعة عشر قرناً على هذه التوجيهات النبوية، يبدو أننا أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في أساليب تربيتنا لأبنائنا. فالإمام الصادق (ع) عندما استقبل السكوني المغموم بولادة ابنته، لم يكتفِ بتطييب خاطره بقوله: "على الأرض ثقلها وعلى الله رزقها"، بل أوصاه بعدم سبها أو لعنها أو ضربها، في رسالة واضحة إلى ضرورة احترام الأبناء ذكوراً وإناثاً.
لعل أخطر ما يواجه أبناءنا في هذا العصر هو غياب هذا النموذج التربوي المتوازن. فبين أب مشغول بهاتفه عن أبنائه، وآخر يفرط في القسوة معهم، وثالث يغرقهم بالمال دون تربية، تضيع بوصلة التربية التي رسمها النبي (ص) عندما قال: "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين".
وفي زمن باتت فيه ألعاب الفيديو تحل محل الرماية، والشاشات الإلكترونية تحل محل الكتب، ينبّهنا صوت النبي (ص) مجدداً: "علِّموا بنيكم الرمي، فإنه نكاية العدو"، ليذكرنا بأن التربية الحقيقية تتطلب بناء الجسد والعقل معاً.
وختاماً: قد لا نستطيع تغيير واقع التكنولوجيا المهيمن على حياتنا، لكننا نستطيع استعادة روح التربية النبوية التي تجمع بين الحزم والرحمة، وبين التعليم والتربية، وبين بناء العقل والجسد.