جهد مع تذمّر للحصول على الراتب.. لا تجبروا أولادكم على دراسة ’الطب والهندسة’!

 

لا يمكن إلا أن يحس الآباء بفخر عظيم عندما يسأل ضيف أتى لزيارتهم أبناءهم: "ماذا تريد أن تصير مستقبلا؟"، ليجيبه: "طبيب، مهندس أو طيار"، ولطالما أحسسنا جميعا بالفخر سواء كنا آباء أو لم نكن عند رؤيتنا لطفل صغير يضع أذنه على بطن دمية وهو يلعب دور الطبيب للتأكد من حالتها الصحية، أو يسوق عربة صغيرة ويدعي أنها طائرة ستقلع بعد لحظات.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

لحظات مررنا منها جميعا ذات يوم عندما كنا نحلم بالمستقبل وبالمهن التي سنتمناها عندما نصير ناضجين، منا من حقق أحلامه ومنا من لم يصب وما زال يحاول جاهدا، ومنا من حقق حلمه فصار ما أراد له والداه وما أراده هو عندما كان طفلا، لكنه للأسف ليس سعيدا، أي إن العلاقة التي تجمع بينه وبين عمله ليست إلا علاقة واجب يغلب عليها التذمر عندما يخيم الملل وتطول ساعات العمل فيحس الشخص أنه مرغم على بذل الجهد من أجل الحصول على راتب، وتلبية حاجياته وحاجيات الأشخاص الذين يعيلهم، فما إن تنتهي ساعات العمل وتدق الساعة المنتظرة حتى يحلق من مكتبه كالطير الذي كان مقيدا لساعات طويلة داخل قفص لا يحبه البتة.

هكذا تعلمنا عندما كنا صغارا، أن نصير مهندسين أو أطباء أو طيارين وأن نحارب من أجل نقط عالية تخولنا دخول الجامعة كذا أو الكلية كذا، فما إن تقلّ نقطنا عن ذلك المعدل الباهر حتى نغطس في بركة من الاكتئاب والتحسر ولوم النفس لأننا لم نبذل الجهد الكفيل بتحقيق أهدافنا التي رسمها المجتمع في مخيلتنا منذ الصغر، فصارت إرادتنا نسخة لإرادة المجتمع، وصار طموحنا رهينا بمن يحيط بِنا.

إن الطب والهندسة والصيدلة وغيرها هي حقا من أشرف المهن التي يمكن للشخص أن يزاولها، كما أنها "ترفع من قيمة الشخص مجتمعيا" وتضعه في خانة أولئك الكادحين الذين ثابروا خلال سنوات من أجل الحصول على تلك المهنة وحمل ذلك اللقب، لكن ليس علينا جميعا ولا على أبنائنا أن يصبحوا كلهم كذلك، فكل إنسان لديه حيّز من الإبداع يمكن أن يُستثمر ويعطي نتائج جيدة جدا في المجالات كلها من فن وأدب وعلم اجتماع واختراع وإبداع وتجارة ومقاولة وغيرها من المجالات التي صار عصرنا محتاجا إليها أكثر من أي وقت مضى، خصوصا في ظل التغيير السريع الذي فرضته التكنولوجيا.

"كل إنسان عبقري.. ولكننا إذا حكمنا على عبقرية سمكة عن طريق قدرتها على تسلق شجرة، فستظل السمكة طيلة حياتها معتقدة أنها غبية" هكذا قال آينشتاين.

درس معي منذ سنوات شخص عادي جدا، لا يحرك ساكنا داخل القسم، كان متوسط النتائج، كثير الصمت، لطالما وصفه الأصدقاء بالخمول والعبط، كانت ملامحه سهلة النسيان كما أن صوته لم يسمع إلا نادرا، اكتشفت مؤخرا أن ذلك "الشخص العادي" وبعد حصوله على دبلوم في السياحة، أنشأ شركته الخاصة والتي أصبحت تقدم خدمات لشركات في العالم بأسره بعدما مضى على تأسيسها بضع سنوات فقط، سعدت بقدر ما تفاجأت عند علمي بالأمر، وتحسرت على تلك النظرة الدونية التي طالما رمقته بها حين كنت أظن أنه كسول، فالعبرة بالخواتيم فعلا ومن العبط جدا أن نحكم على شخص انطلاقا من فترة صغيرة في حياته دون أن تكون لدينا فكرة عن طموحاته وطريقة تفكيره.

معظم الذين عرفتهم خلال الفترة الجامعية والذين أصبحوا اليوم مهندسين وأطباء وأطرا عالية في إدارات مرموقة وشركات عالمية يعبرون اليوم عن أسفهم لاختيارهم، ويؤكدون أنهم لم يجدوا بعد العمل الذي يتناسب مع طموحاتهم ويشعرهم بالرضى حتى وإن اشتغلوا لساعات متأخرة من الليل، قلما وجدت شخصا راضيا عن نفسه وعن العمل الذي يقوم به.

وهذا يعزى بالأساس إلى المنظومة التربوية في مجتمعاتنا وعجزها عن توجيه ملايين التلاميذ كانوا بحاجة ماسة إلى شخص يوجههم، لكنهم لم يجدوا إلا أشخاصا يمجدون مهنة الهندسة والطب، ويحثونهم على دراستها وكأن العالم بأسره يجب أن يصبح مهندسا أو طبيبا ولا شيء دون ذلك، لكن الله خلق الناس وخلق بينهم تباينا في الفهم والإدراك والفطنة والذكاء، لذلك لا يمكن أن نفصل قوالب للناس على أذواقنا وندفعهم لامتهان مهن في حين أنه يمكن أن يبدعوا في غيرها.

تحدثت مع الكثير من الأشخاص الذين يعتقدون جازمين أن توجيههم الدراسي كان فاشلا وأنهم يزاولون مهنا لا يشعرون بالشغف اتجاهها مطلقا، معظمهم يتمنى تغيير مهنته ودراسته وتوجهه، لكن الخوف من التغيير أقوى من الرغبة في التغيير، خصوصا وأن الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية تبجل الاستقرار وتذم التغيير، فغالبا ما تحبط الكثير من المبادرات الداعية إلى تغيير فكرة أو نمط عيش أو أسلوب ما لأن أغلبنا يجد راحته في الاستقرار، بعيدا عن روح المبادرة والمقاولة وما يصطحبها من ترقب ومغامرة ومخاطرة. والاستقرار في وعينا الجماعي غالبا ما يكون مهنة مع الحكومة أو شركة، منصب مرموق، بدلة أنيقة وراء مكتب لامع، إضافة إلى راتب جيد، لكن من لم يخاطر بشيء فلن يحصل على شيء مطلقا، خصوصا إن كان ذلك الشيء مهنة تبعث فينا الشغف.

لا ترغموا أبناءكم على أن يصيروا أطباء ومهندسين مستقبلا، دعوهم يختارون ذلك إن أرادوا هم ذلك، حاولوا أن تتداركوا أخطاء الماضي، أن تعلموهم الكثير من الأشياء، أن يقرؤوا الكتب ويتعلموا اللغات ويجيدوا فن التواصل مع غيرهم دون عراقيل، علموهم الثقة في النفس والقدرة على الإقناع، اجعلوهم يتذوقون الفن والعلوم والأدب على حد سواء، حاولوا أن تبثوا فيهم روح المبادرة وحب الاكتشاف ليفتح لهم العالم بابه على مصراعيه وتكون لديهم فكرة شاملة عن الكثير من الأشياء ليختاروا طواعية بعدها المجال الذي سيبدعون فيه، وأن يتحلوا بالشجاعة ويتداركوا الموقف في حال لم يصيبوا الاختيار، لأن الوقت دائما مناسب لعمل الصواب، شجعوهم على اختيار مهن يحبونها ولن يحسوا أبدا بمشقة وملل العمل.