عاشوراء والأربعين

زيارة الأربعين بين الإرادة الإلهية وإرادة الحكام والملوك

 

ان الله لو أراد أمراً قال له كن فيكون والانسان ما لم يكن تحت تلك الإرادة فلن يكن قادراً على فعل شيء.

وها نحن والأربعين حيث نلاحظ ان فعل الله تعالى غلب فعل المخلوقين، فمنذ ان تسلط بنو أمية واخذوا مأخذ الحكم والتسلط وبمجرد ان ارتقى سدة ملكهم يزيد بن معاوية (لعنه الله) وما فعله بآل النبي (صلى الله عليه وآله) وعيالاته من قتل لسبطه الامام الحسين (عليه السلام) وسبيه لبنات الرسالة، وما دار في تلك الحقبة الى ان عاد الامام زين العابدين (عليه السلام) براس ابيه ورؤوس الأهل والاصحاب من ارض الشام وقد تزامنت تلك العودة مع وصول اول زائر لقبر الامام الحسين (عليه السلام) جابر بن عبد الله الانصاري (رضوان الله تعالى عليه)، وأخذت هذه المسيرة شرعيتها من ذلك اليوم فنهج أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بزيارة الامام (عليهم السلام) في كل عام حتى سقطت دولة بني امية وقامت دولة بني العباس على أكتاف الأخذ بثأر الامام الحسين (عليه السلام) لكن ما ان تحقق لهم المراد ففزعوا الى قبر الامام هادماً ومنعاً من زيارته، فعمد بنو العباس الى محاربة الامام الحسين (عليه السلام) وزوار قبره بشتى أنواع المحاربة من فرض ضريبة مالية لكل من أراد ان يزور القبر الشريف الى قطع الايادي ثم قتل تسعة من كل عشرة أرادوا القصد لقبره الشريف وكل تلك الطرق لم تمنع المحبين من الوصول بل أعطوا وضحوا من اجر الاستمرار على نهجهم مع أهل البيت (عليهم السلام) مستندين بشرعية التضحية لأجل استمرار تلك الزيارة بما ورد عن الأئمة (عليهم السلام).

حيث يأمرون شيعتهم بزيارة الامام الحسين (عليه السلام) حتى مع الخوف فقد روى ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إني أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك فإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح.

فقال: يا ابن بكير، أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً، أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه، وكان محدثه الحسين (عليه السلام) تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقرته(قوته) الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة (1)، كما أن جملة من النصوص تضمنت أن الثواب على قدر شدة الخوف، فكل ما كان الخوف أشد، كان الثواب أعظم وأكثر، ففي حديث لمحمد بن مسلم، قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام): هل تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟ …

قلت: نعم على خوف ووجل.

فقال: ما كان من هذا أشدّ فالثواب على قدر الخوف، ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وانصرف بالمغفرة، وسلمت عليه الملائكة، وزاره النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا له، وانقلب بنعمة الله وفضل لم يمسسه سوء واتبع رضوان الله (2).

وبل تضمنت بعض النصوص أن ترك زيارة قبره (عليه السلام) بسبب الخوف، وعدم الأمان سبب لأن يرى الإنسان في الدنيا الحسرة.

فعن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السلام) لخوف، فإن من ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) (3).

واستمر ذلك حتى سقوط دولتهم المشؤومة على يدي التتار المغولي واستمر الاضطهاد على شيعة آل البيت (عليهم السلام) من ملك الى ملك ومن حاكم الى حاكم حتى أخر عهدهم بالاضطهاد في زمن حكم المقبور صدام حسين حيث حشد جميع طاقة جهازه القمعي لمحاربة الشعائر الحسينية ومن تلك الشعائر التي عمد نظام الطاغية على محاربتها زيارة الأربعين من شهادة الامام الحسين (عليه السلام) فأخذ باعتقال كل من توجه قاصدا الزيارة الى ان وصل بهم قتل الزائرين.

وابرز تلك الحوادث التي اقدم عليها جهاز قمعه قتل زائري الامام الحسين (عليه السلام) في ذكرى زيارة الأربعين عام 1977 للميلاد الموافق 1397 للهجرة واستمر بعد ذلك بقمعه حتى سقوط عرشه عام 2003 للميلاد الموافق 1424 للهجرة ومن ذلك الحين انقلب الامر ببروز الإرادة الإلهية بوضوح حيث نلاحظ هذه الجموع الحسينية وهي تقصد كربلاء المقدسة حاملة في قلبها حب وعشق الوصول الى كعبة الاحرار الامام الحسين (عليه السلام) محيية بذلك زيارة يوم الأربعين.

فقد توافد الى كربلاء الحسين محبيه من كل حدب وصوب من بلاد الخليج وايران وشرق اسيا وأوربا وغيرها من الدول التي يقطنها محبو الامام الحسين (عليه السلام) نجد الوافدين قد قطعوا ألاف الكيلو مترات متناسين خطورة الطريق بين راكب وماشي همهم الوحيد الوصول الى نقطة الملتقى الحسيني الثائر لكي يجددوا العهد معه محين شعيرة من شعائر الله تعالى التي أراد الله تعالى لها الاستمرار والبقاء لتبقى راية وعلماً ومنارا للامة وتذكاراً لما حصل لآل البيت (عليهم السلام) يوم الطفوف على يد اعتى طاغية مرى على تاريخ الخليقة ولذلك اشارت سيد البيت الهاشمي الحوراء زينب (عليها السلام) حيث قالت: "ينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء (عليه السلام) لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوا"(4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كامل الزيارات ص 125.

(2) كامل الزيارات ب 45 ح 5.

(3) المصدر السابق ح 3.

(4) بحار الأنوار ج28 ص57.

 

 

2017/11/04
من أين جاء الشيعة بـ "البكاء" على الحسين؟

أول من بكى على مصرع الحسين في كربلاء كان رسول الله، صلى الله عليه وآله. ليس الشيعة وحدهم من يقول ذلك، بل فقهاء ورواة المذاهب الأخرى الذين تحدثوا عن إخبار إلهي لما سوف يجري على الحسين في كربلاء.

وتشير كتبهم إلى أن النبي بعد أن انفرد به الوحي -كعادته- عاد إليهم باكياً يحدثهم عن ولده الذبيح على أرض الطف. هذا كان مضمون ما قالته عائشة، أبرز زوجات النبي التي يعتمد أتباع المذاهب الأخرى مروياتها بما لا يحتمل الشك.

في تفصيل أكثر، يقول أحد أكبر فقهاء الشافعية، وهو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه "اعلام النبوة" والمتاح بنسخ ورقية وإلكترونية.. يقول الماوردي وهو يسند خبره إلى كل من عروة وعائشة التي تقول: "دخل الحسين بن علي، عليه السلام، على رسول الله، صلى الله عليه وآله، و هو يوحى اليه، فبرك عل ظهره و هو منكب و لعب على ظهره. -وهنا كانت تشير إلى الحسين في طفولته-.

فقال جبرئيل: يا محمد، إن أمتك ستفتن بعدك و تقتل ابنك هذا من بعدك، و مدَّ يده فأتاه بتربة بيضاء، و قال: في هذه الأرض يقتل ابنك ـ اسمها الطف ـ.

والطف هي الأرض المعروفة حالياً بكربلاء والتي يقصدها الملايين من المسلمين غالبيتهم من الشيعة لزيارة قبر الحسين وأخيه العباس واستذكار تلك الحادثة الأليمة.

تتابع عائشة، نقل ما جرى وتقول: فلما ذهب جبرئيل خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الى أصحابه و التربة في يده، و فيهم أبو بكر و عمر و علي و حذيفة و عمار و أبو ذر وهو يبكي. فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، و جاءني بهذه التربة، فأخبرني أن فيها مضجعه.

اما "ابن سعد" صاحب كتاب "الطبقات الكبرى"  والذي تتلمذ على يد "الواقدي" أحد أقدم وأهم المؤرخين السُنّة في الإسلام.. ابن سعد هذا ينقل رواية أخرى ينتهي سندها إلى عائشة أيضا، تقول فيها: "بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راقد إذ جاء الحسين يحبو إليه فنحيته عنه ثم قمت لبعض أمري فدنا منه فاستيقظ يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال: إن جبريل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين، فاشتد غضب الله على من يسفك دمه، وبسد يده فإذا فيها قبضة من بطحاء فقال: يا عائشة والذي نفسي بيده إنه ليحزنني، فمن هذا من أمتي يقتل حسيناً بعدي؟.

أما الشيعة، فبعيداً عن ذوبانهم في الوجد على تلك الأحداث التي جرت على أرض كربلاء عام 61 للهجرة، فهم يرون أن في بكائهم على الحسين، عليه السلام، أسوة واقتداءً ببكاء النبي والأئمة من بعده على السبط الشهيد.

ومن النبي إلى الأئمة ينتقل حث البكاء على هذه الفاجعة، فينقل الشيخ الصدوق (918- 992 هـ) في كتابه "الأمالي" رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يقول فيها: "يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش ".

 

 للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على التيلغرام عبر الرابط التالي:

https://telegram.me/TwelveImamsWeb

 

2017/11/04
الحسين (ع).. لا جان بول سارتر!!

تشكل الارادة عنصرا أساسيا في النظرة الإسلامية للإنسان.. الارادة الحرة النابعة من العقل والوجدان اللذين انعم الله بهما على الانسان، فكانا الآلة الفعالة في تمييزه بين الخير والشر، الاسلام يؤمّن للانسان الحرية الكاملة من خلال الارادة الحرة التي لا يعيقها عائق من رغبة أو مطمع أو هوى، الارادة الحرة التي تجعل الانسان سيدا حقيقيا لقراراته وخياراته. بوسع الانسان مع (سارتر) وكل الفلسفات التي تجعل للحرية مفهوما مساوقا للإباحة, أن يفعل كل ما يرغب به, ليكتشف بعد حين أن رغبته تلك باتت مانعا حقيقيا لامتلاكه الارادة الحرة, فبوسعه أن يعاقر الخمرة التي يرغب في تناولها كحرية شخصية, ليكتشف أن الرغبة في تناول الخمرة قد استحكمت ولا إرادة له في تركها حتى وإن تسببت بالأضرار الصحية والاجتماعية له, وبوسع المرأة في الغرب أن تعاشر من تشاء من الرجال كحرية شخصية ولكنها لن تكون ذات ارادة حرة في اختيار الرجل الذي يتجاوز في علاقته بالمرأة حدود الاشباع الجنسي مادامت حرية المعاشرة هي الاساس المعتمد في العلاقة بين المرأة والرجل .

إن الحرية المقننة التي يتيحها الاسلام تنبع من عقل الانسان ووجدانه وهما العنصران اللذان يشكلان الجانب المتسامي منه, فلا يقيدها بعد ذلك خوف او هوى او رغبة, حرية تنبع من ارادة حرة مطلقة, وهذا ما جسّده علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي صنعه الاسلام فكان مثاله الأسمى, حين يعبر عن حرية مطلقة في عبادة الله سبحانه في قوله ( الهي ما عبدتك اذ عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك, ولكني رايتك أهلا للعبادة فعبدتك).

وحيث كانت ثورة الامام الحسين (عليه السلام) هي الثورة التي فعّلت كل مضامين الاسلام ليبقى شعلة وهاجة تضمن للإنسانية نظامها الأصلح, فقد أكدت هذه الثورة على عنصر الحرية في الانسان, لهذا نجد الإمام الحسين (عليه السلام) حين اعلن رفضه الاسطوري لبيعة يزيد, أعلن عن ذلك لأنه في عقله ووجدانه المقدسين قرر الرفض لهذه البيعة فنتجت الشجاعة التاريخية والتحدي الصارخ الذي كان منه يوم عاشوراء عن إرادته المطلقة التي لم تعلق بها عوالق الخوف او الرغبة او المطامع, فقال (عليه السلام): ( والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقرّ لكم اقرار العبيد), وعلى اساس الحرية كان تعامله مع الاخرين في الثورة, حيث نراه يخاطب من كان معه بعد خروجه من مكة من كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبح ان شاء لله تعالى ويخاطبهم عند وصول خبر استشهاد مسلم بن عقيل (عليه السلام) اما بعد, فانه قد اتاني خبر فظيع, قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر, وقد خذلنا شيعتنا, فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج ليس عليه ذمام فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي من اصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انظموا اليه, وأذن (عليه السلام) لأصحابه ليلة العاشر بتركه والانصراف عنه, وخاطب جيش ابن سعد يوم العاشر قائلا إن لم يكن لكم دين فكونوا احرارا في دنياكم , كل ذلك لتكون نصرتهم له عن ارادة حرة تليق بالانسان الحر الذي ينطلق من تكوينه المتسامي.

إننا نجد سلوك الحسين (عليه السلام) في الثورة سلوكا يضيّع عليه كل فرصة للنصر العسكري, فحين قطع عليه الحر الرياحي الطريق وهو ظامئ, كان بوسع الحسين (عليه السلام) ان يتركه وجنوده يعانون الظمأ, فلا يقوون على اخذهم الى كربلاء, ولو فعل الحسين (عليه السلام) ذلك لما كان اكثر من رجل عادي يبحث عن فرصة للنجاة, ولكنه (عليه السلام) سقاه ورجاله وخيله ومكنّهم من اخذه الى المكان الذي سيقتلونه فيه, لأنه بنفسه الانسانية العملاقة لا يمكن ان يرى من يطلب الماء ويمنعه عنه, ولكي يعطي الحر بعد ذلك فرصة الوقوف في ذلك المحك البشري الخالد, بين الخير والشر أو الحق والباطل, وتحت عامل المطامع والخوف, ليقرر ما يختار بإرادة حرة, لقد وقف الحر يوم العاشر يتأمل جانب الحسين (عليه السلام) باسمى دلائل الخير والإنسانية, فماذا بعد أن لم يمنع (عليه السلام) الماء عمَّن قاده الى حتفه, وينظر الى جيش عمر بن سعد الذي يمنع الماء عن الاطفال والنساء, فاختار جانب الحق, لهذا قال له الحسين (عليه السلام) حين مال الى جانبه ( انت حر كما سمتك امك حر).

إن انصار الحسين عليه لم يعينوه في وقوفهم معه في العاشر من محرم, بل هو الذي اعانهم في التمكن من الوصول الى المرتقى العالي من القدرة على اتخاذ القرار بحرية لا تؤثر بها رغبة او خوف.

لقد ثار الحسين (عليه السلام) واستشهد لا من أجل تغيير نظام حكم أو دفاع عن بلد أو دفع جيش غازِ, بل ليؤكد هذه الحقيقة الخالدة, إن الانسان كائن متسام وهبه الله العقل والضمير والوجدان, فعليه أن يكون سيد قراراته واختياراته, فلا تقيده رغبة او خوف او مطمع. استشهد لكي تبقى الاجيال البشرية على مدى التاريخ تتأمل قصة الطف فلا تجد غير رجل فوّت على نفسه كل فرصة للنجاة كي يخلّد مبدأ الانسان المتسامي بإرادته الحرة.

 

2017/11/02
هل قرأت من قبل هذا الموقف؟ الإمام الحسين وأخته زينب (ع) وحرارة الشمس!!
إن روابط المحبة، والعلاقات الودية بين الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة بين اثنين، فيقال: كأنهما أخوان، أو كأنهما أخ وأخت. ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب (عليهما السلام) كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا، لا نبالغ إذا قلنا، أنه لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب (سلام الله عليهما). فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة، والعلاقات القلبية. وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا من شجرة واحدة؟! ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة، وجلالة القدر وعظم الشأن. فالسيدة زينب (عليها السلام) تعرف أخاها بأنه: سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كآية المباهلة، وآية المودة، وآية التطهير، وسورة «هل أتى»، وغيرها من الآيات والسور. بالإضافة إلى أنها عاشت سنوات مع أخيها في بيت واحد، وشاهدت ما كان يتمتع به أخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسمو الدرجة عند الله عز وجل. وتعلم انه إمام منصوب من عند الله تعالى، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله). مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه، كالعصمة، والعلم بجميع أنواع العلوم، وغير ذلك. وهكذا يعرف الإمام الحسين (عليه السلام) أخته السيدة زينب (عليها السلام) حق المعرفة، ويعلم فصائلها وخصائصها. ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته المكرمة (سلام الله عليهما). وقد جاء في التاريخ: أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيدة زينب (عليها السلام)، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده، كل ذلك احتراماً لها. بل أكثر من ذلك فقد نُقل إن الإمام الحسين (عليه السلام) زائر أخته الحوراء زينب (عليها السلام) في دارها فوجدها نائمة وقد نشرت الشمس أشعتها  على الحوراء الانسية، فما كان من الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يأبى أن يرى أخته العقيلة تتأذى من حرارة الشمس، إلا أن يقف إلى جانبها ويرفع ردائه ليظلل لها عن حرارة الشمس، فبقي هذا الموقف مسجلاً في ذاكرة الحوراء تنتظر الحين بعد الآخر لتعيد ذلك المعروف إلى صاحبه، لكن شتان ما بين الموقفين، نعم لقد وقفت العقيلة (عليها السلام) على جسد أخيها وظللت له عن حرارة الشمس، لكن حينما كان ملقىً على رمضاء كربلاء.. فواحدة تحنو عليه تضمه وأخرى عليه بالرداء تظلل وأخرى بفيض النحر تصبغ شعرها   وأخرى لما قد نالها ليس تعقل وقفت وهي بتلك الحال تشاهد من تبقى من أهل بيتها وقد أحاط به العتاة والأجلاف من كل جانب، كل يريد القصاص لما حل بعسكر أبي سفيان يوم بدر، وما كان منها إلا أن تقف ذات الموقف الذي وقفه أبوها (عليه السلام) في عظيم صبره، ولقد ضارعت الأنبياء في رباطة جأشها وتجلدها ولشدة إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه: (اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان)( ). إنّ الإنسانية تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها. لقد تضرعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فأيّ إيمان يماثل هذا الإيمان؟! وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟! لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للأمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا. ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله. لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان، فقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أبناء الرسول (صلى الله عليه واله) وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة وهن يعجن بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهن من الأسر والعذاب إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تؤدي صلاة الشكر لله على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها. تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه. --------- مقتطف من كتاب سفيرة الحسين (ع) - عن شعبة البحوث والدراسات
2017/11/02