(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
المحور الأول: الركائز القانونية للحق الإنساني.
هناك أربعة ركائز ذكرها علماء الحقوق:
الركيزة الأولى: الموضوعات.
هي عبارة عن المجالات التي يتمتع الإنسان فيها بالحق، الأمن، الصحة، التعليم، الملكية وتقرير المصير، هذه هي الموضوعات أي المجالات التي يثبت للإنسان حق فيها بمقتضى لائحة الحقوق العالمية.
الركيزة الثانية: الشكل المنطقي.
الحق هو تزاوج بين الحرية والواجب، كل حق إذا قمت بتحليله تراه ينحل إلى ركنين: حرية وواجب، مثلا: عندما نقول للإنسان حق الملكية يعني أن الإنسان له الحرية أن يتملك الثروات بأساليب متعددة ولكن في نفس الوقت كما له الحرية عليه أيضا واجب وهو أن لايتعدى إلى أملاك الآخرين وأن لا يسلبها، أن لا يزاحم بملكه ملك الآخرين، إذن كل حق يتشكل من حرية وواجب وهذا ماورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها عند التناصف لايجري لأحد إلا جرى عليه ولا يجري على أحد إلا جرى له“.
الركيزة الثالثة: العقد الاجتماعي.
هو انتخاب المجتمع، تباني المجتمع الإنساني على هذه الحقوق، العقد الاجتماعي نقل المجتمع البشري من الفوضى والاستقلال إلى المجتمع المدني الذي تسوده لغة القانون فلا يعلو أحد فوق القانونولا يتميز أحد على غيره أمام القانون.
الركيزة الرابعة: السلطة.
دور السلطة حماية الحقوق، حماية الحريات، رفع التزاحم بين المصالح وبين الحقوق إذا حصل تزاحم فيما بينها.
المحور الثاني: المعيار الفلسفي لثبوت حقوق الإنسان.
الحديث في هذا المحور عن المعيار في ثبوت الحق وكيفية تطبيقه على ثروات الأرض، لذلك نذكر هنا ثلاثة ثوابت يعتمد عليها المعيار في ثبوت الحق:
الثابت الأول:
أن هناك فرقا بين العلة الفاعلية والعلة الغائية كما يقول الفلاسفة، الحق يحتاج إلى هذين العاملين، فالعمل علة فاعلية والهدف علة غائية، مثلا: الإنسان عندما يمارس الرياضة لأجل المحافظة على صحته إذن الرياضة علة فاعلية والصحة المطلوبة علة غائية، العمل علة فاعلية والهدف علة غائية، الإنسان يمارس الصلاة ليستحضر ذكر الله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) الصلاة علة فاعلية وذكر الله المطلوب علة غائية، الحقوق تعتمد على هذين الركنين: علة فاعلية وعلة غائية.
مثلا: المرأة تلد بمجرد أن تلد يتكون اللبن في ثديها والغاية أن يصبح غذاء لهذا الطفل الوليد، إذن صارت علة غائية، الغاية والهدف من وجود هذه المادة اللبنية في ثدي المرأة أن توفر الغذاء لهذا الوليد، هذا هو الهدف، هذه هي العلة الغائية، إذن بهذه العلة الغائية ثبت أن للوليد حقا في اللبن، إنما ثبت له حق في لبن أمه لأن الغاية من وجود لبن أمه هو توفير غذاء له، نحن الآن نحتاج إلى علة فاعلية، بمجرد أن يقرب فم الطفل من ثدي أمه بطريقة غريزية يمد فمه ويلتقم اللبن من ثدي أمه، يعني أن هذه العملية تعتبر علة فاعلية من خلالها يستوفي حقه من الغذاء، إذن هذا الحق اعتمد على ركنين: علة غائية أن الهدف من وجود اللبن غذاء الطفل، وعلة فاعلية مايقوم به الطفل من عملية الامتصاص هي عمل يريد به استيفاء حقه في هذا الغذاء، فالحق اعتمد على علة غائية وعلة فاعلية.
الثابت الثاني: هل أن الطبيعة التي نعيش فيها طبيعة هادفة؟
كيف نقول أن للإنسان حق في ثروات الطبيعة، من أين؟ من أين للإنسان حق في طاقات الطبيعة، بترول، غاز، وسائر الطاقات والمعادن، من أين أتى هذا الحق؟ لأن الطبيعة خلقت هادفة، لأن الطبيعة خلقت ذات غايات، وذات أهداف.
بعد الانفجار العظيم مايقرب من أربعمائة مليون سنة الكون كان يعيش ظلام، ثم تولدت نجوم عملاقة وضخمة لم تعمر طويلا، وإنما ولدت وأنتجت عناصر أثقل من العناصر البدائية البسيطة كالهيدروجين والهيليوم، أي انفجرت هذه النجوم العملاقة ونثرت ونفثت هذه العناصر في الفضاء، وبسبب الجاذبية تشكلت كواكب وجسيمات صلبة، فالمجرات الموجودة الآن لم تأتي إلا بعد سبعة مليار سنة من الانفجار، يعني أن هذه المجرات تعتبر الجيل الثالث للنجوم، نجوم تعاقبت وانفجرت إلى أن وصلنا إلى الجيل الثالث، هذه المجرات التي نعيشها، هذه المجرات أيضا جاءت من تلك العناصر الثقيلة، تشكلت بسبب الجاذبية، فالشمس التي نحن نعيش عليها، نحن نعيش على ضوئها ودفئها وحرارتها، هذه الشمس من أين أتت؟ هي نفسها، هذه الشمس التي أتت بعد ثمانية مليار سنة من الانفجار تقريبا هي خليط من تلك العناصر التي نفثتها النجوم العملاقة، تكونت الشمس ببركة الجاذبية وكونت حولها بنات لها، ماهي بناتها؟ عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون... إلخ هذه كلها تكونت حول الشمس من الشمس نفسها، فالأرض بنت الشمس انفصلت عنها وبردت وبعد مئات الملايين من السنين دبت الحياة على الأرض، بدأت تلك الخلية، أول خلية حياة على الأرض من الماء ونوع من الطين، تؤكد الدراسات العلمية الآن أن الخلية الحية تكونت من الماء ونوع معين من الطين (وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) بدأ الإنسان وبدأ خلق الإنسان من طين، الآيات المباركات تؤكد على هذه النقطة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الصلصال هو الماء الممتزج بالطين، وفي آية أخرى: (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ).
هذه السلسلة من أول يوم من الانفجار إلى أن تكون الإنسان، إذا قرأها الإنسان العاقل ماذا يفهم منها؟ ماذا يستنتج من هذا التسلسل؟ يستنتج الإنسان المتأمل الباحث من هذا التسلسل عدة نتائج:
النتيجة الأولى:
أن الطبيعة هادفة ولم تأت جزافا، بل تخطيط من مرحلة إلى مرحلة إلى أن تهيأت الحياة على الأرض وجاء هذا الإنسان العملاق الذي سيطر على الطبيعة والفضاء كله بتخطيط وعبر مراحل، إذن الطبيعة هادفة (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) وقال في آية أخرى: (وما خَلَقْنَا السماء وَالأرض وما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) إذن لايوجد لعب ولا يوجد جزاف مسألة هادفة، الطبيعة هادفة، يعني اجتمعت العلة الفاعلية والعلة الغائية، العلة الفاعلية الله بقدرته صنع هذا التسلسل، والعلة الغائية أن هذا التسلسل جاء من أجل ولادة الحياة على الأرض، وولادة الإنسان الحي على الأرض ليقوم بإعمار الكون وإعمار الأرض.
النتيجة الثانية:
أن هذه الأرض أمنا، الأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا ومنها نولد، هذه الأرض ضمت كل عناصر الكون، فالإنسان الذي هو ابن الأرض ضم كل عناصر الكون ”أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر“ هذا الإنسان يختصر الكون كله، يختصر الوجود كله، وهذا المعنى أشارت له الآية القرآنية: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
النتيجة الثالثة:
أن هناك علاقة أسرية بين الإنسان وبين الطبيعة، خلقت الطبيعة له وخلق هو للطبيعة يكمل بعضهما بعضا، لولا الطبيعة ماولد الإنسان، ولولا الإنسان ماولدت الطبيعة، هو لها وهي له، كل منهما يكمل الآخر، إذن هناك علاقة أسرية أشار إليها القرآن الكريم في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وقال: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).
النتيجة الرابعة:
بما أن هناك علة غائية، يعني أن الهدف من وجود الطبيعة خدمة الإنسان، إذ للإنسان حقوق في الطبيعة وثرواتها وكنوزها، ذكر الإمام أمير المؤمنين كيف أن للإنسان حق في هذه الأرض وثرواتها، قال: ”من أحيا أرضا مواتا فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام“، كان هناك رجلان يلحقان طيرا، أحدهما استطاع أن يقبض على الطير والآخر ينظر، فقيل لمن الطير؟ قال : ”للعين مارأت ولليد ماأخذت“ المسألة مسألة جهد، مسألة عمل، من عمل وصل إلى نتيجة عمله وملك نتيجة عمله.
الثابت الثالث: مسألة الملكية.
كيف يعالج الإسلام هذه المسألة، وكيف نظر إليها النهج العلوي للإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ؟ عندما نرجع إلى كتاب «اقتصادنا» للسيد الشهيد السعيد سيد محمد باقر الصدر صفحة 308 عندما يتحدث حول جهاز التوزيع، فثروة الأرض للإنسان، فكيف يتم توزيع هذه الثروة؟ أي ماهي أدوات توزيع الثروة؟ يشير إلى نقطة فيها خلاف بين المذهب الرأسمالي وبين المذهب الإسلامي، كلاهما مذهب اقتصادي، هذا الخلاف حول الحاجة، هل الحاجة أداة إيجابية لاكتساب الثروة أم أنها أداة سلبية؟
المذهب الرأسمالي يقول بأن الحاجة أداة سلبية، عامل سلبي في اكتساب الثروة، فالمذهب الرأسمالي يعتبر الإنسان سلعة تخضع لقانون العرض والطلب في السوق، فيقول كلما زادت الحاجة زادت الأيدي العاملة في السوق، وإذا زادت الأيدي العاملة في السوق وقل طلب الشركات ورؤوس الأموال صار العرض أكثر من الطلب، العمال أكثر من الحاجة، وإذا زاد العرض على الطلب قلت الأجور، صار لكل عامل أجر ضئيل، وكلما زادت الحاجة وزاد عدد العمال قل الأجر إلى أن يصل إلى حد أن العامل لايستطيع أن يوفر قوت يومه، إذن صارت الحاجة عامل سلبي في اكتساب الثروة، لم تصبح الحاجة عاملا إيجابيا في اكتساب الثروة، وهذا هو المنظور الرأسمالي.
أما المنظور بالمذهب الاقتصادي الإسلامي يقول بأن الحاجة عامل إيجابي، فهناك أداتان لاكتساب الثروة:
الأداة الأولى: العمل.
فالإنسان إذا أنتج عملا امتلك نتيجة عمله، سواء كان عمله استخراج المادة كأن يستخرج البترول من الأرض ويقوم بتصفيته ويحوله إلى مادة قابلة للانتفاع والاستهلاك، أو كان عمله تطوير المادة، فالحديد مادة يحوله إلى سيارة، أو إلى جهاز آخر، ورد عن أمير المؤمنين علي : ”من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه“ أنت وعملك وكفاءتك العملية، ”قيمة كل امرء مايحسنه“ كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي ، لذلك عندما نقول أن الإنسان يملك نتيجة عمله فهذا شيء طبيعي في الإنسان، الحق كما يقول علماء القانون منتزع من طبيعة الإنسان، فأقوى غريزة لدى الإنسان هي غريزة حب الذات، من الغرائز المتفرعة على غريزة حب الذات هي غريزة التملك والسيطرة، وبما أن للإنسان غريزة التملك والسيطرة، فالإسلام أعطاه حق التملك بمقدار مايعمل وماينتج تلبية لهذه الحاجة الغريزية الموجودة لدى الإنسان، إذن العمل أداة من أدوات توزيع الثروة، يعطى من الثروة بمقدار ماأنتج.
الأداة الثانية: الحاجة.
الناس ثلاث فئات: فئة تملك قدرة عقلية وقدرة فنية وطاقة جبارة تستطيع أن تكتسب ثروات هائلة أكثر من حاجتها السنوية، هذه الفئة تكتسب الثروة بعملها وإنتاجها، والفئة الثانية لديها طاقة لكن لاتمتلك الطاقة الكبرى فلا تستطيع بطاقتها إلا أن تكتسب مقدار قوتها وحاجتها السنوية أو الشهرية أو اليومية، وهناك فئة لاتمتلك طاقة، إما لشلل عقلي، وإما لشلل بدني، فهو لايمتلك طاقة إذن لايمتلك عمل فكيف يكتسب ثروة؟ وماهو طريقه لاكتساب الثروة؟ من هنا كانت الحاجة أداة لاكتساب الثروة كما أن العمل أداة لاكتساب الثروة، هذا الإنسان المشلول له نصيب من ثروات الأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هذا الإنسان المشلول له نصيب من الثروة، وكيف يصل إلى نصيبه؟ عبر الحاجة، عبر الضمان الاجتماعي، يجب أن توفر الدولة ضمانا اجتماعيا يكون طريقا لاكتساب هذا المشلول للثروة، وهذا ماكان يؤكد عليه الإمام أمير المؤمنين ، الإمام علي في البصرة رأى رجلا يتسول ويتكفف الناس، قال: «ماباله يتسول؟» قالوا: هذا نصراني خدم وكبر إلى أن عجز عن العمل فأصبح يتسول، قال: «ويحكم! استخدمتموه حتى إذا كبر وعجز عن العمل تركتموه يتكفف الناس! أعطوه من بيت مال المسلمين». هو نصراني لكن يعطى من الخزينة من بيت المال يعطى من الضمان الاجتماعي لأن الحاجة أداة من أدوات اكتساب الثروة، إذن من هنا نفهم أنه ليس فقط العلة الفاعلية طريق لاكتساب الثروة أي العمل، قد تكون العلة الغائية أيضا طريقا لاكتساب الثروة وهي الحاجة بما انه يحتاج إلى جزء من الثروة والثروة خلقت لإشباع حاجته فله حق في الثروة نفسها.
تحدثنا عن الملكية ببعدها الاقتصادي، لكن عندما نأتي للملكية ببعدها القيمي، ببعدها الأخلاقي فكيف يراها الإمام أمير المؤمنين علي ؟ الملكية ببعدها القيمي والأخلاقي ترجع إلى ماذكره القرآن الكريم هناك آيتان في القرآن إذا تأملنا فيهما وجدنا أن الملكية الشخصية ماهي إلا أداة لخدمة الملكية العامة ليس إلا، القرآن الكريم يقول: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) ثروة السفيه لاتسلم له لأنه مبذر ومسرف إذن هذه الثروة تسلم لمن؟ تسلم للأوعياء العقلاء الذين يستثمرون هذه الثروة وينموها لتكون وسيلة للملكية العامة (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) يعني أموال هؤلاء هي قيام لكم ولاقتصادكم، قيام لثروتكم ومعيشتكم، هذا معناه أن الملكية الشخصية ماهي إلا أداة لخدمة الملكية العامة، لذا لاتظن أنك لو امتلكت عقارات وشركات أنها ملك لك وحدك بل كل ماأعطيت من ملك ماهو إلا أداة لخدمة المصلحة والملكية العامة لتوفير العيش الكريم للمجتمع بأسره لذلك قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) من هذا المنطلق ركز الإمام علي على هذا البعد أن الملكية الفردية أداة للملكية العامة، قال علي : ”ماجاع فقير إلا بما متع به غني“ هذه الثروة ملك للجميع هذا حاز أكبر من حاجته بقي الآخر يحتاج إلى جزء من الثروة ”وماوجدت نعمة موفورة الا والى جانبها حق مضيع“ الإمام علي دقيق عندما يقول: ”إن معايش الخلق خمسة: الأمارة، والعمارة، والتجارة، والإجارة، والصدقات، فأما وجه العمارة فقوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) فأعلمنا سبحانه وتعالى أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون سببا لمعايشهم بما يخرج من الأرض“ وقال : ”اتقوا الله في عباده واعلموا أنكم مسؤولون حتى عن البقاع“ فالأرض أو البقعة التي تسكن عليها أنت مسؤول عن تنبيتها وعن صحتها وسلامتها، أنت مسؤول عن إعمار الأرض وعن سلامة الأرض من الأوبئة والتلوث، أنت مسؤول في معالجة التغير المناخي والاحتباس الحراري، مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، وقال علي : ”لكل ذي رمق قوت“.
المحور الثالث: الشخصية القانونية الحقوقية في نهج الإمام علي ابن أبي طالب .
علي مصدر الحقوق ورؤية علي للكون وللإنسان رؤية حقوقية تتجلى في عدة مجالات، هناك دراسة صادرة من جامعة أهل البيت في مجلة جامعة أهل البيت الحقوق والحريات في منظار علي ابن أبي طالب ، هناك عدة حقول ومجالات لهذه الحقوق التي رسمها الإمام أمير المؤمنين علي :
المجال الأول: المجال الشخصي.
ماهي الحقوق الشخصية؟
الصورة الأولى: حق الإنسان في الحياة.
من القصص الغنية بتراث أمير المؤمنين جيء إلى الخليفة بامرأة زانية والعياذ بالله وهي محصنة وكانت حامل، شهدوا عليها وثبتت عليها جريمة الزنا، أمر الخليفة برجمها، فقام إليه علي ابن أبي طالب وقال له: «إن كان لك سبيل عليها فأي سبيل لك على مافي بطنها؟» قال: فماذا أصنع؟ قال: «دعها حتى تلد ثم ترضع فإذا وجدت لولدها من يكفله رجعت إليك ثم أقم عليها الحد». هكذا المحافظة على حق الحياة هذا الجنين له حق الحياة وبعد الحياة له حق الكفالة.
ومن القصص الأخرى أن أبو موسى الأشعري كتب إلى الإمام إن أبي الجسر دخل على امرأته فوجد عليها رجلا فقتله، فماذا نصنع؟ فقال : «إن جاء بأربعة شهود يشهدون على ماقال وإلا دفع برمة الرجل» - أي يدفع دية الرجل الذي قتله -. فليس كل من ادعى هذه الدعاوى يؤخذ بها فحق الحياة حق لايتغاضى عنه ولا يتنازل عنه، لذلك الإمام أمير المؤمنين نص على هذا الحق.
الصورة الثانية: حق الإنسان في سمعته.
في هذه الأيام كل شخص يستخدم وسائل التواصل للتنفيسعن نفسه سباب وقذف الآخرين واستعراض لسمعة الآخرين وحرماتهم بدون حدود وأدب، بدون أي ضوابط قانونية أو شرعية.
الإمام أمير المؤمنين اتخذ قانون في هذا المجال أي إنسان يعتدي على سمعة إنسان آخر يعزر حفاظا على حرمات الناس، وعلى كرامة الإنسان التي قال عنها الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
الصورة الثالثة: حق الإنسان في الثروة.
الإمام علي بمجرد أن استلم الخلافة ساوى بين المسلمين في العطاء، لافرق بين القرشي وغيره، إذا كان مسلم أسود أو أبيض، عربي، موالي لايوجد فرق، ساوى بينهم في العطاء وألغى الامتيازات التي كانت لقريش على غيرها، وللعرب على غيرهم، وللمهاجرين والأنصار على غيرهم، كل هذه الامتيازات ألغاها، صعد وخطب على المنبر في أول يوم، أول خطبة خطبها بعد استلامه الخلافة، قال: «أيها الناس أنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية لافضل لأحد فيه على أحد». جاء رجل من الأنصار ومعه عبد له أعتقه وجاء به إلى المسجد والإمام يوزع بيت المال، يوزع الخراج، أعطاه ثلاثة دراهم وأعطى لعبده ثلاثة دراهم، ساوى بينه وبين عبده، فاعترض على الإمام قال: ياأمير المؤمنين كيف تساوي بيني وبين عبدي، تعطيني ماأعطيته وأنا سيده لم أعتقه إلا قبل يومين! قال : «ياهذا لقد نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا»، وقال: «أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار ولكن الله خول بعضكم بعضا».
المجال الثاني: الحقل السياسي.
ماذا وضع الإمام أمير المؤمنين علي في مجال السياسة من الحقوق؟
أولا: حق التعبير عن الرأي.
أكبر فرقة واجهت الإمام هي فرقة الخوارج، قاتلوا الإمام وحاربوه ومع ذلك الإمام أعطاهم حق التعبير عن الرأي، فالإمام علي خاطب الخوارج عندما ظهروا أمامه وخالفوه وقال: «لكم علينا ثلاث: أن لانمنعكم مساجد الله تذكرون فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم معنا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا»
هناك مجموعة امتنعوا عن مبايعة الإمام علي ومنهم سعد ابن أبي وقاص لم يبايع الإمام علي وجاء الناس به وقالوا له: بايع فقال: لا حتى يبايع الناس، فقال الإمام علي : «خلوا سبيله»، وعبد الله ابن عمر لم يبايع الإمام علي ، جيء به قالوا له: بايع، فقال: لا حتى يبايع الناس، قالوا: ائتنا بكفيل يضمن أنك تبايع إذا بايع الناس، قال: لاأرى لي كفيلا، فقال الإمام علي : «دعوه فأنا كفيله»، لم يرغم أحد على بيعته ترك لهم المجال يعبرون عن رأيهم وإن اختلفوا معه في طريقة الحكم.
من صور الحقل السياسي التي أبدعها علي ابن أبي طالب اليوم لدينا في كل دولة سلطة تشريعية مضافا للسلطة التنفيذية أي أن القانون تطور في المجتمع البشري وفصل بين السلطات، سلطة تشريعية، وسلطة قضائية، وسلطة تنفيذية، السلطة التشريعية هي مجلس الشورى، هي مجلس الأمة، بتعبيرات مختلفة، هذه الفكرة طرحها الأمام أمير المؤمنين علي عندما قال في العهد لمالك الأشتر: ”وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت مايصلح عليه أمر بلادك وإقامة مااستقام به الناس قبلك“
المجال الثالث: الحقل الاقتصادي.
ماهي الحقوق التي وضعها الإمام أمير المؤمنين في المجال الاقتصادي؟
الحق الأول: حق الإنسان في أن يتملك نتيجة عمله ”من أحيا أرضا مواتا فهي له“، ”من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه“.
الحق الثاني: أن الدولة وظيفتها حماية الملكيات والأموال، لذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي في هذا المجال: ”إن لي عليكم حقا ولكم علي حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم“، وقال: ”الناس كلهم عيال على الخراج“ كل إنسان له نصيب من بيت المال.
المجال الرابع: الحقل الاجتماعي.
الإمام علي اهتم كثيرا بموضوع الحاجة الجنسية والعاطفية كحق اجتماعي للأمة وللمجتمع الذي عاش فيه، نذكر هنا بعض الموارد التي تعرفنا بمدى اهتمام الإمام بتغطية هذه الحاجة، جاءت امرأة إليه وهو جالس مع أصحابه وقفت على رأسه وقالت: ماترى أصلحك الله وأثرى لك أهلا في فتاة ذات بعل أصبحت تطلب بعلا بعد إذن من أبيها، أترى في ذاك حلا؟ استغرب من كان معه، قال لهم : «أمسكوا»، فقال لها: «أحضري لي زوجك» فحضر زوجها فطلقها منه وزوجها برجل آخر، فقيل له: كيف؟ قال: «إن زوجها لايقدر على وصالها فشكت منه» فالإمام كان يراعي حاجة هذه المرأة للإشباع سواء كانت حاجة جنسية أو حاجة عاطفية، ربما كان الرجل عننين أوعاجز عن هذا الأمر فاحتاجت المرأة إلى رجل آخر فطلقها من زوجها وزوجها رجلا آخر.
وفي قصة أخرى، عبدالله ابن أبي بكر زوجته عاتكة بنت زيد ابن نفيل في وصيته قال أعطيك بستانا في الطائف على أن لاتتزوجي بعدي أحدا، فمات زوجها واحتاجت إلى الزواج وزوجها عاهدها قال أعطيك بستانا في الطائف على أن لا تتزوجي بعدي أحدا، فجاءت إلى الخليفة تستفتي ماذا تصنع وهي محتاجة إلى الزواج فاستفتى الإمام أمير المؤمنين علي فقال الإمام: «ترد البستان إلى أهله وتتزوج» ردت البستان إلى ورثة عبد الله ابن أبي بكر وتزوجت.
ووجد شابا يستمني بيده، فضربه على يده وزوجه من بيت مال المسلمين، فكان يعنى بتغطية هذا الأمر، مجتمعنا الآن يعيش مشكلة الزواج فالشاب إلى مابعد الثلاثين من عمره لايستطيع أن يتزوج لثقل تكاليف الزواج، ولا يوجد جهة تتعهد بمساعدته وإعانته، بتوفير بعض تكاليف الزواج له، بالتأخر في الزواج تنتشر الأمراض، تنتشر ألوان الشذوذ وتنتشر العلاقات غير المشروعة.
إذن الإمام علي صورة رائعة للشخصية الحقوقية، صورة جذابة في تاريخ الإنسان للمجتمع الإنساني في كونه شخصية حقوقية نهجا وعملا وسلوكا، الإمام أمير المؤمنين علي قال: ”ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه ألا وإنكم لاتقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“ وقال: ”لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل باليمامة أو الحجاز من لاعهد له بالشبع ولاطمع له بالقرص أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر“.
عندما نتأمل في كلمات الإمام الحسين ومواقفه منذ بداية نهضته المباركة إلى حين استشهاده سلام الله عليه، فإننا نستخلص فوائد كثيرة، سنبين جملة منها في هذا المقال إن شاء الله تعالى.
ومن كلماته سلام الله عليه ما قاله لما دعاه والي المدينة الوليد بن عتبة، فأخبره بموت معاوية واستخلاف يزيد، وطلب منه أن يبايع يزيد.
فقال الإمام الحسين: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة.
وفي هذه الكلمات المباركة بيان لعدة أمور مهمة:
1. بيان مقامات أهل البيت
فإن الإمام الحسين سلام الله عليه أوضح أنه من أهل بيت النبوة، إذ لا خلاف بين أحد من المسلمين إلا من شذ منهم ممن لا يعتنى به أن الإمام الحسين من جملة أهل البيت، الذين هم أحد الثقلين اللذين خلفهما النبي لهذه الأمة، وأمر المسلمين باتباعهما والتمسك بهما، وهم الكتاب وعترته أهل بيته الذين نصَّ الكتاب العزيز على أن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً في قوله تعالى: ( ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) 1.
وقد أوضح الإمام الحسين أن أهل البيت هم معدن الرسالة، ومعدن الشيء هو مستقرّه، ومعدن كل شيء مركزه وقطبه.
فيكون المراد بأن أهل البيت معدن الرسالة هو أن الرسالة وهي النبوة فيهم استقرت؛ لأن النبي هو رأس أهل البيت، والرسالة كانت فيه، أو أن المراد بكونهم معدن الرسالة هو أن أهل البيت هم قطب الرحى للرسالة؛ لأنهم هم الحافظون للشريعة والمبيِّنون لأحكام الله تعالى.
وكلمة الإمام الحسين قد اشتملت على بيان أن أهل البيت هم أيضاً مختلف الملائكة، أي أن بعض ملائكة الله تعالى تختلف إليهم، أي تتردد عليهم، وهذا لا يستلزم القول بنبوّتهم؛ لأنه لا ملازمة بين النبوة وتكليم الملائكة، فليس كل من تردَّدت عليه الملائكة أو كلمته كان نبيًّا، ومن المعلوم أن الملائكة كلمت مريم بنت عمران عليها السلام، كما أخبر بذلك سبحانه حيث قال: ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) 2.
وقال تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) 3. مع أن مريم بنت عمران ليست بنبيّة.
كما أن أهل السنة ذكروا في كتبهم أن بعض الصحابة وهو عمران بن حصين كانت الملائكة تختلف إليه وكان يصافحهم ويصافحونه، فلما اكتوى لم تأت إليه كما روى ذلك مسلم في صحيحه 2/899.
فإذا كان هذا الصحابي تختلف إليه الملائكة، ويصافحهم ويصافحونه، وهو أقل شأناً من أهل البيت، فمن الإجحاف إنكار اختلاف الملائكة على واحد مثل سيد شباب أهل الجنة سلام الله عليه، أو استبعاد حصوله.
وقد بيَّن الإمام الحسين أيضاً في كلمته السابقة أن أهل البيت هم «محل الرحمة»، أي أنهم مظهر رحمة الله تعالى، لأنهم أرحم الناس بهذه الأمة، وقد ضربوا سلام الله عليهم المثل الأعلى في الرحمة حتى رحموا أعداءهم فضلاً عن أوليائهم وشيعتهم.
أو أن المراد هو أنهم سلام الله عليهم بهم يرحم الله تعالى عباده، فقد ورد في الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار أنه لولا الإمام لساخت الأرض بأهلها، وفي بعض آخر: لولا الإمام لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله4.
ثم إن الإمام الحسين سلام الله عليه قال: (بنا فتح الله وبنا ختم)، أي أن الله تعالى فتح الخير على هذه الأمة برسول الله الذي هو رأس أهل البيت، وبه ختم: أي أن الله تعالى جعل نبينا هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
أو أن المراد هو أن الله تعالى فتح الخير على هذه الأمة برسول الله، وسيختم الخير بمهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ويُرجع الإسلام كما كان غضًّا طريًّا.
2. بيان صفات يزيد وأنه ليس صالحاً للخلافة
بعد أن أوضح الإمام الحسين سلام الله عليه مقام أهل البيت ثنى بالكلام حول يزيد بن معاوية، فوصفه بأنه رجل فاسق.
والفاسق هو كل مكلف فعل محرماً أو ترك واجباً من غير عذر، ولم تحصل منه توبة عن ذلك.
ولكن ربما يُتساءل فيقال: إن يزيد بما أنه نصب العداء لأهل البيت فقد يقال بكفره، فإنه قتل الإمام الحسين، وهدم الكعبة واستباح المدينة، وكل واحد من هذه الأمور كاف للحكم بكفر فاعله.
ولعل السبب في وصفه بالفسق مع كفره هو أن الكافر يصح أن يوصف بأنه فاسق؛ لأنه يرتكب المحرمات ويترك الواجبات، وقد وصف الله تعالى المنافقين الذين هم كفار في الحقيقة بأنهم فاسقون، فقال سبحانه: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) 5.
أو لعل يزيد في ذلك الوقت لم يصدر منه بعدُ شيء من تلك الأمور العظيمة المستوجبة للكفر، فلهذا لم يصفه الإمام الحسين بالكفر، وإنما وصفه بالفسق لارتكابه أموراً كثيرة مفسقة، مثل شرب الخمر، وقتل النفس المحرَّمة.
وكلام الإمام الحسين يشعر بأن يزيد بن معاوية كان قد اشتهر عنه في زمان معاوية الفسق والمجون والاستخفاف بأحكام الله تعالى؛ فإنه لم يكن يتستر بأفعاله تلك أو يتكتم بها، ولهذا وصفه بأنه معلن بالفسق.
ومن الكلام السابق الذي قاله الإمام الحسين سلام الله عليه يتبين أنه عقد مقارنة بينه وبين يزيد بن معاوية، وأوضح بتلك المقارنة أنه هو الأولى بالخلافة والأحق بها.
3. بيان أن إمام الحق لا يبايع إمام الضلال
ذكر الإمام الحسين في كلمته التي استفتحنا بها البحث قاعدتين مهمتين مرتبطتين بالخلافة:
القاعدة الأولى: أن إمام الحق لا يبايع إمام الضلال
وهذه القاعدة أوضحها بقوله: (ومثلي لا يبايع مثله)، فإنه لم يقل: (وأنا لا أبايع يزيد)، وإنما أوضح أن من كان مثل الإمام الحسين من أئمة الهدى، لا يصح له أن يبايع إماماً مثل يزيد؛ لأن البيعة هي المعاقدة والمعاهدة على السمع والطاعة والاتباع، وإمام الضلال لا يجوز اتباعه، ولا طاعته؛ لأنه لا يأمر إلا بالظلم والجور، ولا يدعو إلا إلى الباطل والضلال.
وبهذا نفهم أن كل أئمة أهل البيت لو كانوا في زمان الإمام الحسين لما بايعوا يزيد بن معاوية، ولم يثبت صحيحاً أن إماماً من أئمة الهدى بايع واحداً من خلفاء زمانه، ومن بايع واحداً منهم فإنما بايع مكرها لا مختاراً كما ورد في بعض الروايات.
وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإن بعض الأحاديث دلت على أنه لم يبايع في بداية الأمثر، ثم بايع أبا بكر مكرهاً بعد الحوادث العظيمة التي جرت في بدايات الأمر.
مع أن من اطلع على التاريخ يجد أن أمير المؤمنين لم يكن يتبع أبا بكر وعمر وعثمان، وإنما كان أبو بكر وعمر وعثمان يستشيرون أمير المؤمنين ويأخذون بقوله، ويتبعون رأيه، حتى قال عمر بن الخطاب فيما اشتهر عنه في أكثر من سبعين موضعاً كما قيل: «لولا علي لهلك عمر»، وقال: «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن».
فإذا كان الأمر كذلك فإن السمع والطاعة والاتباع لم تتحقق من أمير المؤمنين للخلفاء السابقين له، فلم تتحقق منه بيعة حقيقية، وإن حصلت بيعة صورية بالإكراه.
القاعدة الثانية: وجوب بيعة الفاضل دون المفضول
وهذه القاعدة أوضحها الإمام الحسين بقوله: (ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة).
وهي قاعدة عقلية، فإنه لا يصح من الحكيم جلَّ وعلا أن يقدّم المفضول على الفاضل؛ لأن ذلك قبيح عقلاً ونقلاً.
وقد ورد في بعض الأخبار المروية عن رسول الله) أنه قال: ما ولت أمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا6.
ولهذا فإن الأمة لما تركت اختيار الأفضل انحدرت في مهاوي التخلف والجهل والانحطاط إلى يومنا هذا.
والغريب أن الناس بايعوا يزيد بن معاوية، وتركوا من أمروا ببيعته واتباعه وهو سيد شباب أهل الجنة، بل إن الناس نصروا يزيد بن معاوية المتجاهر بالفسق والفجور، وحاربوا الإمام الحسين الذي لم يكن يدانيه في عصره رجل في فضل ولا منزلة.
الهوامش:
1. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 33، الصفحة: 422.
2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 42 و 43، الصفحة: 55.
3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 45، الصفحة: 55.
4. الكافي 1/179.
5. القران الكريم: سورة المنافقون (63)، الآية: 6، الصفحة: 555.
6. أمالي الشيخ الطوسي: 560.
تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»
إليكم ما يردده فئة من البسطاء من الناس: "عليمن اللطم والطبخ والمجالس وشعائر الحسين إذا بيناتكم ما متراحمين عبادتكم مدري شلونهه جهل وتخلف بكل جوانب الحياة والظالم يحكمكم. الف وتلثميه وفوك من السنين جا وينكم من أهداف الحسين عليه السلام".
أحببت ان اصور الإشكال باللغة البسيطة، لأني اشعر ان الشيطان يقف خلفه، وان ردده البسطاء أو مدعي الثقافة جهلا منهم بواقع الهجمة على أهل البيت عليهم السلام.
وها أنا ذا أضع الجواب الآن بيد يديّ القارئ الكريم:
اولاً: لا ننكر ان اهم أهداف النهضة الحسينية هو الوصول الى مرحلة الكمال الفردي ونشر الفضيلة وبالتالي يسود الأمن والأمان والرقي وفي شتى الميادين ، ولكن هناك فرق بين شرط الكمال وشرط القبول والصحة.
فقد ورد عن الصديقة فاطمة عليها السلام إنها قالت: "وجعل الصلاة تنزيها لكم عن الكبر والزكاة تزكية للنفس، والصيام تثبيتا للإخلاص...".
فهذه الاهداف من العبادات لا يتوقف عليها قبول العمل بل تكشف عن كماله. وإلا لو جعلت شروطا في صحة العمل ومقبوليته فعلى الإسلام السلام.
وهكذا شعائر الحسين عليه السلام، يتحقق كمالها بكمال الفرد المؤدي للسلوك المستحب وهو الشعيرة. وهذا لا يعني عدم المقبولية ان لم يتصف ببعض أوصاف الصالحين، فان قلت تلك واجبات والشعائر مستحبة - التفصيل في محله-.
قلت ان الميزان واحد اذ يشتركان في حيثية العبادة.
ثانياً: الشعائر بنفسها مطلوبة.. حضور المأتم والمواساة لأهل البيت عليهم السلام بنفسه مطلوب وهذا ظاهر من روايات كثيرة.
منها: معتبرة الفضيل بن يسارعن الصادق عليه السلام: يا فضيل أتجلسون وتتحدثون، قلت بلى سيدي، قال إني احب تلك المجالس، فأحيوا فيها امرنا، من جلس مجلساً يحيي فيه امرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
وهذه الروايات وغيرها لم تشترط ترتب الأثر.
ثالثاً: ان المعترض حصر الشعائر بهدف واحد، وهو كمال الفرد أولا وبالذات والحال ان لها أهداف ترجع الى رسالة السماء والدين الحق، فان نفس الممارسة العملية التي تكون موصولة بزمان ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف تكون ممهدة للهدف من دولته سلام الله عليه. فان شعار الدولة ورمزها يتلخص في راية تلك الدولة، يا لثارات الحسين، وما يريده الحسين سلام الله عليه هو ديمومة الرسالة التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وآله.
وهذا من شأنه ان يعود بالنفع على الفرد والمجتمع ثانيا وبالعرض.
إذا نظرنا إلى الأحداث التي وقعت في كربلاء في سنة 61هـ، وما سبقها من حوادث وما أعقبها من مصائب، فإننا نستخلص فوائد وعبراً نستفيد منها في حياتنا الحاضرة.
وإني كنت أتأمل في مواقف القوم الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام، وأجيل النظر في مسؤولية أولئك الناس الذين عايشوا حادثة الطف، وعاصروا الأحداث التي أثرت سلبا في مجريات التاريخ الإسلامي إلى هذا اليوم، وأتساءل: لماذا حدث كل ذلك؟ وماذا ينبغي أن يحدث؟
لا شك في أن الإمام الحسين عليه السلام كان يمثل دولة الحق والعدل، ويجسد كل القيم الإنسانية والمبادئ الإلهية، وأما الجيش المناوئ له فكان يجسد الظلم والكفر والخسة والدناءة والجشع والتكالب على الدنيا على حساب القيم والمبادئ الحقة.
لقد كان أنصار الإمام الحسين عليه السلام ـ وهم أنصار الحق ـ فئة قليلة، وكان أعداؤه ـ وهم أنصار الباطل ـ ألوفا مؤلفة، فلم يكن هناك أي وجه للمقايسة بين كثرة هذا الجيش وقلة ذلك العدد، ومن الطبيعي حينئذ أن تكون الغلبة الميدانية بحسب الموازين العسكرية لجيش عمر بن سعد.
إلا أنه كان بالإمكان أن تتبدل موازين النصر، فتترجح كفة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه ميدانياً لو وقف الناس الآخرون في ذلك الوقت إلى جانبه عليه السلام، ولو حدث هذا لترتب على هذا النصر تغيير جذري في حياة المسلمين منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، إلا أن أكثر الناس آثروا السلامة والعافية بحسب تصورهم الخاطئ، فوقفوا موقف المتفرج المتألم من تلك الأحداث الدامية الأليمة، وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، وكأنه لا يجب عليهم تجاه تلك الأحداث أي شيء آخر أكثر من إبداء الألم وإظهار الأسى لما يحدث، ولذلك لم يقف هؤلاء الموقف الصحيح تجاه تلك الأحداث، ولم يقوموا بما يجب عليهم من النصرة التي يتوقف عليها مصير الإسلام والمسلمين في ذلك العصر وفيما بعده من العصور.
ومن الواضح أن واقعة الطف كانت واحدة من المصائب التي حدثت في زمان إمرة يزيد بن معاوية، التي كانت واحدة من إفرازات تخاذل الناس عن نصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، واستماتة أتباع معاوية في نصرته، إذ لولا ذلك لما آلت أمور المسلمين إلى معاوية، ولما انتهت الخلافة إلى يزيد بن معاوية الفاسق الفاجر.
ومن تأمل كل الوقائع الماضية والحاضرة يجد أن الحق (لم) و(لا) و(لن) ينتصر إلا بقوة أعوانه، كما أن الباطل (لم) و(لا) و(لن) تكون له غلبة إلا بكثرة أتباعه، ولأجل ذلك يتحمل مسؤولية تقهقر الحق وتضعضعه إمام قوى الشر والكفر في هذا العصر وفي العصور الماضية، كل من خذل الحق، ولم يقم بنصرته بما يجب عليه، كما يتحمل مسؤولية انتشار الفساد والشر في المجتمع كل من يرى باطلا أو ضلالاً أو منكراً وهو قادر على رده وقلعه، فيتوانى عن وظيفته الشرعية.
إن أراذل الناس وسفلتهم ممن يملكون الجرأة على مخالفة أحكام الله تعالى، ومخالفة القيم الإنسانية والمبادئ الإلهية وقوانين الحكومات الإسلامية، يسعون جاهدين لنشر الفساد والرذيلة والمعصية في مجتمعنا وفي غيره من المجتمعات الإسلامية، وهؤلاء يجب التصدي لهم بحزم وقوة، ولا ينبغي التساهل في ردعهم عن باطلهم، والتواني في الوقوف في وجوههم، لمنعهم من عمل الشر ونشر الفساد في المجتمع، لأن قلع المفاسد الاجتماعية هو مسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع، لا مسؤولية العلماء فقط، وليس هو من وظائف الدولة ومن مهام رجال الأمن والشرطة التي لا يحق لأحد التدخل فيها، فإن هذا فهم خاطئ مغلوط، منشؤه حب الدعة والراحة، والرغبة في التنصل عن كل مسؤولية ينبغي أن يتحملها جميع أبناء هذا البلد.
ولأجل تبني كثير من الناس هذا النحو من التفكير تجاه المفاسد الاجتماعية، والوقوف منها موقف اللامبالاة، أو موقف المتألم المستنكر فيما بينه وبين نفسه فقط، فإن تلك المفاسد قد أخذت حظها من التفشي والانتشار، لأنها لم تجد من يحاربها أو يحد من اتساعها وانتشارها
ولا ينقضي العجب ممن يبرر تلك المفاسد، ويعطيها الشرعية بنحو من الأنحاء، فيجعل فعل الناس لها دليلا على حليتها على الأقل، أو كاشفا عن رجحانها في بعض الأحيان، ولذلك عندما تنكر على من يفعلها تجد من يعترض عليك قائلا: كل الناس يصنعون ذلك، فهل كلهم مخطئ، وأنت المصيب وحدك؟
إذا وصل هؤلاء إلى هذه الحال، وصاروا لا يميزون بين الحلال والحرام، وبين الحسن والقبيح، وبين الضار والنافع، إلا من خلال هذه الموازين الخاطئة، فإن ذلك مؤشر خطر يدل على وجود حالة من الاغتشاش الفكري والوهن الديني، ناشئة من ترك الأخذ بأقوال العلماء، وفتاوى الفقهاء، والتخبط ذات اليمين وذات الشمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يدركنا برحمة منه واسعة، إنه أرحم الراحمين.
لقد دأب الأئمة الأطهار عليهم السلام على إقامة المآتم الحسينية وحث شيعتهم على إقامتها كلما جاء شهر محرم الحرام، أو سنحت للإمام عليه السلام فرصة لبعث هذه القضية من جديد في نفوس الشيعة الذين كانوا يختلفون على الإمام عليه السلام، فيغتنم الإمام عليه السلام دخول بعض شعراء الشيعة عليه، ليأمره بإنشاد ما قاله في رثاء الحسين عليه السلام، بعد أن يضرب الإمام عليه السلام ستراً، ويدعو النساء العلويات لحضور هذا المجلس الحسيني المصغر الذي لم يكن يتاح للإمام عليه السلام أن يقيم سواه، حتى يبكي الإمام عليه السلام ويعلو صياح النساء من خلف الستر.
ولا ريب في أن من تعظيم شعائر الله إقامة المجالس الحسينية التي بها يتحقق إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام والدعوة لهم، فإن الإمام الصادق عليه السلام سأل الفضيل قائلاً: تجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم، جعلت فداك. فقال عليه السلام: تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا يا فضيل، من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر.
ولكي تتحقق الأهداف المرجوة من إقامة المجالس الحسينية ينبغي بذل المزيد من العناية لرعاية تلك المجالس ودعمها ماديا ومعنوياً وبالوسائل المختلفة، كالمساهمة المادية الفاعلة فيها، والمشاركة في تنظيمها، وتهيئة الموارد اللازمة لإنجاحها، وأقل ما يقوم به المؤمن لإحياء هذه المجالس هو المداومة على حضورها، وحث إخوانه المؤمنين على ارتيادها، فإن ذلك إحياء لها بالدرجة الأساس، مع ما في ذلك من تحميس المؤمنين الآخرين على حضورها والاهتمام بها، وتحفيز القائمين عليها لبذل المزيد في جهتها، وتشجيع الخطيب على مزيد العناية بالمادة العلمية التي يلقيها على مسامع الحضور.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحيون أمرهم، وينشرون دعوتهم، ويكونون دعاة لهم في السر والعلانية، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»
إعتاد الشيعة في العراق وفي سائر البلدان على استقبال شهر الأحزان بمظاهر عاشورائية متنوعة، قد تختلف في طبيعتها وفي حجمها من بلد إلى آخر بحسب الظروف المحيطة بأبناء الطائفة في هذه البلدان، وقد شهد العراق- وهو البلد الذي وقعت على أرضه فاجعة الطف فاحتضنت كربلاء تلك الأجساد الطاهرة والأرواح التي حلت بفناء السبط الشهيد عليه السلام- أزمنة تفاوتت فيها المظاهر العاشورائية من حيث الظهور بالشكل المراد لها ان تكون عليه لتناسب حجم المصيبة التي حلت بالأسلام وأهله، ولطالما تعلق هذا الأمر بمدى تحرر هؤلاء الشيعة من ضغوطات وممارسات الأنظمة الحاكمة المخالفة لما عليه اعتقاد الشيعة الإمامية بأنها من جملة شعائر الله التي ينبغي تعظيمها والتعبد بإحياءها بقصد القربة المطلقة في سلوك طريق مودة القربى، وهذا أمر لا يوافق هوى الكثير ممن كان لهم سهم الخلافة المزيفة والسطوة والنفوذ أوالملك والرئاسة.
وليس ببعيد عنا عبث البعث وحربه على هذه الشعائر عموما وعلى المظاهر العاشورائية كرايات الحزن واللافتات ونشر السواد وهي مظاهر كانت تشكل إيذانا ببدء موسم الحزن والمواساة، فكانت الممارسات القمعية تطال كل من رفع راية حسينية على سطح داره أو ارتدى ثوبا أسودا أو كتب لافتة أو فعل أي شيء من شأنه أن يجعل من شهر محرم شهرا مميزا عن غيره من الشهور، وكم من إنسان فقد حياته بأحكام جائرة وعلق على أعواد المشانق بسبب نشره لهذه المظاهر، فمرت العقود ثقيلة على الشيعة وهم ينظرون إلى شعائرهم وهي تعدم معهم وتسجن معهم، حتى انتكث فتل الطاغية وأجهز عليه عمله وتهاوى صنمه فاتخذ من الجحر مأوى بعد البروج المشيدة التي بناها، فكانت نهايته كنهاية أسلافه الذين حاربوا الحسين وشعائره فحلت عليهم اللعنات .
انطلق شيعة العراق بمجرد سقوط الصنم إلى إحياء الشعائر الحسينية حتى ذهل الأعداء لذلك، فلم يكن أحد يتوقع أن القضية الحسينية ستجد لها متنفسا بعد الكبت البعثي لها لمدة قاربت الأربعين عاما، وبعد كل حالات الإعدام والسجن والاضطهاد، ليتفاجأ العالم بأسره بمظاهر عاشورائية لم يعرف لها مثيل وزيارة مليونية تخطت كل التوقعات.
اليوم وبعد ١٧ عاما من الخلاص ورغم اعتياد الناس على أداء هذه الشعائر بل الاجتهاد في تعظيمها والعمل على الحفاظ عليها، إلا أننا نرى التأكيد من المرجعية الدينية العليا على جانب مهم منها وهو جانب ( المظاهر العاشورائية ) ذلك الجانب الذي يعد استهلالا مهما للحدث ومقدمة ضرورية لتمييز شهر محرم عن غيره بل هو تمهيد معنوي كبير لأداء سائر الشعائر الأخرى فيه.
وقد رأينا ذلك في جواب استفتاء موجه لمكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله حول اقتراب حلول شهر محرم مع الواقع الذي نعيشه في ظل تفشي وباء كورونا فكان مما أجيب به السائل بعد بيان ما ينبغي فعله مع هذا الواقع وانتشار الوباء نقطة مهمة تتعلق بالمظاهر العاشورائية ونصها: (نشر المظاهر العاشورائية على نطاق واسع من خلال رفع الأعلام واللافتات السوداء في الساحات والشوارع والازقة ونحوها من الاماكن العامة مع مراعاة عدم التجاوز على حرمة الاملاك الخاصة أو غيرها وعدم التخلف عن رعاية القوانين النافذة في البلد. وينبغي أن تشتمل على مقاطع من كلمات الامام الحسين (عليه السلام) في نهضته الاصلاحية العظيمة وما قيل في فاجعة الطف من روائع الشعر والنثر...).
والملاحظ في هذه الفقرة المهمة أمور منها:
١- نشر المظاهر العاشورائية (على نطاق واسع) من خلال (رفع الأعلام واللافتات السوداء).
٢- تحديد مكانها وهو (الشوارع والأزقة ونحوها من الأماكن العامة).
٣- وضع شروط لذلك وهي: (مراعاة عدم التجاوز على حرمة الاملاك الخاصة أو غيرها وعدم التخلف عن رعاية القوانين النافذة في البلد).
٤- ينبغي أن تشتمل على مقاطع من كلمات الامام الحسين (عليه السلام) في نهضته الاصلاحية العظيمة وما قيل في فاجعة الطف من روائع الشعر والنثر...).
هنا نرى ان المرجعية العليا تدعو إلى أن تشتمل هذه اللافتات على مقاطع من كلمات الإمام عليه السلام في نهضته الإصلاحية وما أكثرها ولو بحثنا عنها فإننا سنجدها دون عناء مع ما توفره لنا وسائل الاتصال الحديثة والمواقع المعتبرة التي تعنى بهذا الشأن، وهو الأمر الذي ينطبق على تحصيل روائع الشعر والنثر التي قيلت في واقعة الطف ونشرها كمظهر من المظاهر العاشورائية..
المرجعية العليا تدعونا اليوم لما ينبغي أن يكون عليه واقع هذه المظاهر العاشورائية فلنعمل على ذلك حيث تكون: نشر على نطاق واسع وهي تحمل كلمات الحسين عليه السلام وما قيل من روائع الشعر والنثر في فاجعة الطف.
يتفق الجميع على أن الجموع الهائلة التي تشترك في احياء مراسيم زيارة أربعينية الامام الحسين عليه السلام، يُصعب أن تجتمع بهذا العدد أو حتى نصفه، في مناسبات اخرى وأما كن غير مدينة كربلاء المقدسة، فالسبب الذي يدفع هذه الجموع الهادرة للحضور الى مرقد ابي الاحرار عليه السلام واضح ومعروف، لذلك لا يمكن الحصول على مثل هذا الزخم البشري الكبير مهما كانت الدواعي لذلك، وهذا يجعلنا امام مسؤولية جديدة، تتكرر في كل عام مثل هذا اليوم، ونعني به يوم أربعينية سيد الشهداء الحسين عليه السلام.
هذه المسؤولية تتمثل بالكيفية التي نستثمر فيها هذا التجمع البشري لعدد ضخم من مسلمي العراق والدول الاسلامية كافة فضلا عن المسلمين في عموم ارجاء العالم، انها كما يتضح لنا جميعا فرصة ذهبية لنشر ثقافة اهل البيت بين هذه الجموع، ولابد من ان تكون الثقافة المبثوثة مهيّأ لها من جميع المجالات، ولابد أن تكون مستمدة من الفكر الحسيني القائم على اسس انسانية، مكللة بالمحبة والسلام والالتزام بحقوق الآخر، والاندفاع العفوي نحو مساعد الآخر واحترامه فضلا عن مساعدة الذات واحترامها.
إذ أن ثقافة الفكر الحسيني تدعو الجميع الى التآزر، والتمسك بالقيم الانسانية الخلاقة التي يمكنها ان تسهم بصورة فعالة في بناء الدولة القوة القادرة على حفظ حقوق الجميع، وتجعل الجمهور قادرا على مجابهة الحكام والحكومات التي لا تأبه بحقوق الشعب وثرواته وحرياته، وهذا ما تطلقه حناجر المشاركين في المواكب الحسينية عندما تعلن بجرأة كبيرة مقاضاة المفسدين ومن يتلاعب بثروات واموال الشعب، وتدعو الى ثقافة المقاضاة المعروفة بين العراقيين والمسلمين تحت بند (من أين لك هذا؟)، كذلك ينبغي أن تُستثمَر هذه المناسبة الدينية الضخمة بما يجعل الناس اكثر وعيا واصرارا على السلوك القويم.
فزيارة الاربعين على الرغم من ضخامتها في المجالات كافة، أي من ناحية الاعداد البشرية والغذاء والاطعام والمنام والكهرباء والماء وما شابه من خدام، وانتشار اعداد كبيرة جدا من المواكب والسرادقات والخيم، لتهيئة ما ينبغي من خدمات للزائرين كافة، مع هذا كله، لكن ينبغي ان تُدار هذه الزيارة وفق تنظيم دقيق، بمعنى يجب ان يتم نشر ثقافة الالتزام وعدم الاضرار بالشوارع والساحات والحدائق العاملة، وعدم رمي القمامة بطرق عشوئية، وسوى ذلك من اخطاء غير متعمَّدة ولكنها تثقل كاهل المدينة التي تغص بملايين الزائرين، لذلك فإن الالتزام بنظافة المدينة وبعدم رمي القمامة بصورة عشوائية، وسوى ذلك من أفعال خدمية ينبغي أن تتم بصورة خاضعة لنظام دقيق، يراعي بنية المدينة، ويسهل من خدمة الزائرين بطريقة لائقة.
أي أننا يمكن أن ننشر ثقافة النظافة، وثقافة الحرص على ممتلكات الدولة، والاماكن ذات الاستخدام العام، كذلك يمكن من خلال هذه الزيارة، ان ننشر روح التعاون والتكاتف والمؤازرة المتبادَلة بين الزوار بعضهم مع بعض من جهة، وبين الزوار وأهل المدينة المقدسة من جهة اخرى، وبهذا نكون قد استثمرنا هذه المناسبة الدينية بصورة سليمة، علما ان هناك فرصا كثيرة لنشر الوعي بين الزائران من خلال تقديم الفعاليات الثقافية والفنية المختلفة التي يمكن ان ترافق مراسيم الزيارة، على أن يتم الاعداد لها مسبقا.
فمثلا يمكن عقد الندوات الثقافية من خلال استثمار الزخم البشري في المدينة ونشر المبادئ التي نادى بها الامام الحسين عليه السلام، وجلها يتعلق بالارتقاء بالإنسان، كذلك يمكن تقديم الاعمال الفنية التي ترتقي بذائقة وخيال وافكار المسلمين، عبر فعاليات مباشرة مهيّأ ومخطط لها مسبقا، وهو أمر يتعلق بكيفية استثمار هذه المناسبة الكبرى ثقافيا بالطرق الصحيحة، من اجل تحقيق حالات التجديد الثقافية، وترسيخ القيم التي ترتقي بالإنسان الى مرتبة التقدم التي يسعى إليها الأمم المتطلعة للسمو بشقّيه المادي والمعنوي، ارتقاءً بالإنسان فكرا وايمنا وسلوكا، وهو امر يمكن تحقيقه في حالة التخطيط السليم لاستثمار وجود الزخم البشري الهائل في هذا المدينة بهذه المناسبة الدينية الكبرى، وما نحتاجه في هذا المجال، هو التخطيط الثقافي السليم، ومن ثم توفير مستلزمات التنفيذ المادية والفكرية، وصولا الى استثمار افضل واكبر يحقق للعراقيين والمسلمين عموما طفرة ثقافية نوعية، إذا ما توجّه المعنيون الى جعل الزيارة فرصة جادة وفريدة من نوعها لترويج الوعي والثقافة الانسانية الراقية بين المسلمين جميعا.
- نقلاً عن النبأ
السيد محمد رضا الجلالي
وأنا بين الجماهير المتوجّهين إلى الحرمين الشريفين في كربلاء المقدّسة بمناسبة يوم الأربعين الشهير، سُئلتُ:
ما هو دورُ الأربعين بين الشعائر الدينيّة، في إحياء ذكرى عاشورا؟
إنّ الإمام الحُسين (عليه السلام) خلَّد بتضحياته أُموراً عظيمة، نذكر بالمناسبة أمرينِ خالدين في حياة الأُمّة، يقومانِ على عاتق كُتْلتين واسعتين؛ هما: المستضعفون، والثوّار المجاهدون.
والأمران:
الأوّل: الألمُ والحزنُ لما جرى على الحسين وأهله وأصحابه من المآسي والمصائب، بكلّ عُنفٍ ووحشيّةٍ لا مثيل لها في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الدنيا، حتّى أبادوا كلّ من كانت له قدرة على الدفاع، فلم يبقوا منهم أحداً، فقضوا عليهم أجمع.
والأمر الآخَر، هو: النِضال المستميت والشجاعة والبطولة والفداء، التي قدّمها الحسين ومَنْ معه، في سبيل الهدف السامي، في تلك المعركة غير المتكافِئة عُدّةً وعدداً، حيث الإمام ومن معه حوالي المائة، في مواجهة ما لا يقل عن ثلاثين ألف من الأعداء الألدّاء.
لكنّ الحسين ومَنْ معه قاوموا بما عندهم من قُوّة، وجاهدوا مُستميتين وكانوا يتسابقون إلى «منحر الشهادة» بكلّ بَسالة ورشادة.
فأصبحت قضيّةُ الحسين (عليه السلام) بالأمر الأوّل: عَبْرةً للمستضعفين في الدُنيا، وللمؤمنين خاصّة الّذين عرفوه إماماً، وسبط رسول الله، وسيّد شباب أهل الجنّة.
وأصبح الحسينُ (عليه السلام) ومن معه بالأمر الثاني: عِبرةً للثوّار المجاهدين في سبيل الحرّية والعدل والإصلاح في الدنيا وعبر التاريخ، وبالأخصّ الذين اعتقدوا بالحسين قُدوةً وأُسْوة.
والكتلتان ـ المستضعفون، والثوّارـ يُكَوّنون الأكثريّة الساحقة دائماً.
بينما الحاكمون وأصحاب السلطة والقُدرة والإمكانات، هم ـ دائماً ـ أقليّة عَدَداً، وأن كانوا الأملك للعُدّة والمالَ.
وعند المواجهة بين الأكثرية والأقلّيّة؛ تلجأ الأقلّيّة إلى ما يملكون لتشتيت الأكثرية وتفريقهم من أجل السيادة عليهم، ، ولو بالقوّة والقسوة وبمعونة جمع المرتزقة والمجرمين.
والأكثرية، وإنْ كانوا عُزّلاً، لا يملكون ما يكفي من المال والسلاح، إلّا أَنّهم يملكون الأعَزّ والأقوى من ذلك، وهو الأمَل بما وعدهم الله من النصر، والاعتماد على سلاح الإرادة التي وضعها الله في فِطرتهم!
ومهما طالَ أمدُ المستكبرين، فإنّ أجالهم في إرادة الأكثرية من الأُمّة وعزمهم، فلو أرادت الأقلية القضاء عليهم، لكان ذلك هو القدر الذي عَبَّر عنه الشاعر:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحيا
ة فَثَمّ القضاءُ وثَمَّ القَدَر
والمستكبرون ـ رغم تظاهرهم بالقُدْرة! ـ فهم دائماً يهابُون الناس، لكون الناس هم الأكثرية، ولهم عواطف يتفاعلون معها، ولهم إيمانٌ يندفعون به، والمستكبرون: لا عواطف، ولا إيمان.
يدلّ على ذلك التاريخ
فإنّ الحكّام الظلمة يعتمدون على السلاح والنار، وقوّتهم تنحصر في ذلك، لكنْ السلاح إنّما تصنعه إرادة الإنسان، وهو إلى النفاد والعطل، والنار تطفئها الماء، وهي إلى الخمود والبرود.
أمّا العقيدة التي يتسلّحُ به الناس والإرادة التي يستندون إليها، فهي إلى الثبات والاستحكام، والعاطفة إلى الغليان والتجيُّش.
وقد شهد التاريخ ـ أيضاً ـ أنّ السلطات الأقسى، كانت إلى السقوط أسرع، وفي الهوان أوقع.
والثوّارُ ـ وهم من الناس المستضعفين ـ تميّزُهم ثِقافتهم ونشاطهم وتقدّمهم ودخولهم في مواجهة الأخطار، وتعرّضهم للحكّام والسلطات بما يمكنهم وما يملكون من قوّة، ويقدّمون الشهداء ـ الذين هم شموع مضيئة على طريق الانتصار.
فهم بلا ريب الجناح الآخر الذي يحقّق ما خلّده الإمام الحسين (عليه السلام) بين الأُمّة، وهم ـ بلا ريب ـ أعزّة، وأدوات فاعلة في تنوير الناس، وإثارة عواطفهم، وشدّ عزائمهم، لكنّهم يواجهون أخطاراً في حركاتهم، أهمّها:
أنّهم معرّضون مباشرة لقسوة الطغاة، وإحصائهم، وتشريدهم، والقضاء عليهم، بأساليب القمع والقتل، كما هو المشاهد في أكثر الحالات.
أنّهم معرّضون إلى خطر الانزلاق في هُوّة اليأس والإحباط عند طول المدّة، وبُعد الانتصار، ودوام الانتظار، من جهة.
وبَعدَ الانتصار ـ أيضاً ـ يواجههم خطرُ الانشغال بالدُنيا، والانعطاف إليها، والاغترار بالسلطة والمال والمقام والمنال، والانقلاب على الأعقاب.
فقلّما أخبر التاريخ عن بقاء المنتصرين على طريقهم الأوّل، بل سرعان ما انقلب أكثرهم وارتدوا حتّى على الأهداف التي رسموها، وناضلوا من أجلها.
وهذا الأكثر يقف في وجه الأقل ذلك، إذا أراد الأقلُّ البقاء على السيرة الأُولى، فتبدأ الخلافات، وتدبّ الانشقاقات بين «الثوّار».
وإذا بقي المقاومون ـ الأقل ـ وحدهم، استهدفهم الأعداء، والمنافقون، وبقيّة السلطة السابقة، وأفنوهم بالاغتيالات، والاتّهامات التي أشدّ من الموت. وحتّى الأكثر من الثوّار يُحاولون إزاحة الأقل، لأنّهم يعدّونهم ـ حجر عثرة ـ أمام طموحاتهم وأُمنياتهم ورغباتهم وشهواتهم، فالأكثر اليوم سلطة جديدة بل بلغوا درجة السلطة القديمة، لكنّهم يحملون شعار الجهاد والشعب والدين! و اسم الحسين! ويعتبرون أنفسهم الولاة على المستضعفين!
يحتجون بأنّهم جاهدوا، وعملوا، وناضلوا ونالوا العذاب والسجون والإبعاد، وها هم بلغوا مُناهم بالانتصار، فلهم ان يستفيدوا من نتائج نضالهم المرير العسير.
لكنّهم نسوا كلّ الأهداف الكبيرة التي حدّدوها، ونسوا المستضعفين الذي تحرّكوا باسمهم، واعتمدوا عليهم بل على أكتافهم وأعدادهم تسلّقوا وصعدوا.
وإذا فشِلت كتلة الثوّار من تحقيق الهدف الأسمى الذي خلّده، وقتل من أجله من قتل من الأنبياء والمرسلين، والأئمّة، والعلماء والشهداء فالثقل يقع على المستضعفين لوحدهم، وهم الّذين يعتمدون على العقيدة والإيمان، فلا عُدّة لهم ولا مال سواهما غير العاطفة كما قلنا: وهي لا يخمد نارها، ولا يبرد أوارها ولا يقلّ أصحابها، وهم القانعون بما يملكون من دون طمع في الدنيا ولا سلطانها فالحسين في وجدانهم حُرْقة لا تبرد، وحرارة لا تُطفأ، وحياة لا تعرف الموت، يعيش في ضمائرهم، فيبكونه أبداً، ما دامت في عُيونهم دمعة، وسيرة الحسين في طريقهم شمعة.
ويبذلون في حقّه الدماء، ما دامت في عُروقهم قطرة، وفي أجسامهم قوّة.
إعلاناً منهم بأنّهم يقدّمون أرواحهم فداءً للحسين وأهدافه، ويعملون ما عندهم من جهود في سبيل استمرار ذكره وفكره وانتشار علومه ومعارفه.
وها هم يتّجهون إلى الحرمين وبينهما، ويُهرولون حفاةً، ليدلّلوا على الاستعداد لكلّ شيء أن يفعلوهُ في سبيل الحسين ونهضته المقدّسة.
وإذا قرأنا التاريخ
نجدْ أنّ المستكبرين الطغاة جهدوا في عصورهم الطويلة، وسعوا بما يملكون من المكر والحيلة لإخماد حركة المستضعفين في طريق الحسين، وإطفاء نور نهضته المقدّسة، فلم يزد الظالمين إلاّ خساراً وإنّما زاد نار الناس أواراً، بدأً بالأمويين، إلى العبّاسيّين، ومنهم المتوكّل الذي حرث أرض كربلاء ليمحوَ أثر المرقد، فباد بالفشل.
وكُلّما حاولوا منع اتّجاه الناس إلى المرقدين والحرمين، لم ينقصوا منهم بل زادوهم كثرة وكثرة وكثرة، حتّى أصبح المُشاة على أقدامهم من جميع قطاعات الشعب وأصنافهم، متّجهين إلى كربلاء ومن مختلف أقطار العالم وبلدانه، ما ناهَزَ الملايين!
وهذا تاريخ العراق المعاصر، الذي احتلّته عصابة النواصب، أحفاد جنود هولاكو الذين خلّفهم في تكريت والأنبار، وعلى يد السفّاح السفّاك طاغية تكريت: شنّ هجوماً على الشعب الحسينيّ في كلّ العراق، وقتل منهم ـ طوال حكمه ـ ما يقرب من (ستّة ملايين) شخصاً، سوى ما جابههم من العذاب، بالاعتقالات والاغتيالات والسجون و التهجيرات والمصادرات، وزجّهم في أتون الحروب الخارجيّة، بروحٍ خبيثة طائفيّة، وحتّى قصف المدن - وبالخصوص مدينة الحسين (كربلاء المقدّسة)- وحتّى قتل اللاجئين إلى مرقد الحسين (عليه السلام) حيث هاجمهم داخل الحرم الحسيني الشريف وأرداهم قتلى شهداء، وآثار جرائمه موجودة في جدران المرقد المقدّس.
أضف إلى هدم المساجد والمدارس الدينية التي ناهزت العشرين، ومقرّات مواكب العزاء المعروفة باسم «الحسينيات» وتحطيم أدوات العزاء من الأعلام والطبول والأثاث والرياش. وقصف المدينة بكاملها قصفاً عشوائيّاً بالصواريخ والقذائف والهاونات.
إنّ ما قام به هذا الوحشيّ الناصبيّ، بجنوده الوحوش من تكريت والأنبار وما والاهم من النواصب، كان بهدف اجتثاث ذكر الحسين (عليه السلام) وإزالة شعائره، وإزالة وجوده من مشاعر الناس المستضعفين!
فهل تمكّن من ذلك؟ كلّا، كما لم يتمكّن سلفه الطالح من آل أُميّة ومروان والعبّاس وعثمان الأتراك! فلم يتمكّنوا من اقتلاع حُبّ الحسين من قلوب الناس.
بل نرى أنّ المستضعفين في كلّ بلاد العالم المعاصر من أعلى الشمال إلى أدنى الجنوب، ومن منطلق الشرق إلى منتهى الغرب، على اختلاف مِللهم وأديانهم ومذاهبهم وفرقهم، قد استيقظوا وانتبهوا إلى نهضة الحسين (عليه السلام) فتراهم توجّهوا إلى كربلائه وحرمه ومرقده، أفراداً وزرافات ومُشاةً وركباناً، ليتزوّدوا من روح الحسين (عليه السلام).
إنّ هذه المواكب التي بلغ عددها هذه السنة (6331) موكباً من داخل العراق وخارجه، مظاهرة عظيمة ـ قلّ مثيلها في العالم ـ من حيث الكمّ المشارك، ومن حيث الكيف باحتوائه لجميع أطياف المجتمع باختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم ومذاهبهم.
فتجد في المشاركين من الرجال والنساء والأطفال والشباب، فهم يمثّلون «جيشاً» عرمرماً جبّاراً.
وأهمّ ما فيه أنّه اجتمع وتهيّأ بدون دعوة داع، أو صوت نداء، أو ترتيب جهة معيّنة، وإنّما يقوم به الشعوب بطوع إرادتها وترتّبه بإدارتها، ويؤدّون واجباتها.
والمشاة منهم من البعد والقرب، من داخل العراق وخارجه، يعدّون بالملايين.
إنّ هذه الظاهرة العظيمة الفريدة في عصرنا، لهيَ أكبر شاهد على ما ذكرنا من أنّ ما خلّده الحسين (عليه السلام) بنهضته العظيمة، يقوم على أكتاف المستضعفين من الأُمّة.
وأمّا الثوّار
فقد أدّوا ما عليهم في مختلف الأدوار، حيث تحرّكوا بشعار «يا لثارات الحسين» بدأ بالتوّابين الأبرار، ومروراً بالمختار المغوار، وزيد الشهيد أبي الأحرار، وبالسادات الأخيار مثل الحسين الفخّي، وسائر بني النبيّ المختار عليهم صلوات الله.
فقدّموا التضحيات الكبار، لتخليد اسم الحسين (عليه السلام) ونهضته، وتبعهم الشيعة الكرام في كلّ المدن والدول التي حَلُّوا بها أو أقاموا بها أو مرّوا بها.
وأمّا في عصرنا
فالمجاهدون الذين قاوموا طاغية العراق لفترات طويلة، وقدّموا شُهداء عظاماً من أهل العلم والمعرفة والفضيلة، فقد بلغوا ـ بعون الله، وعلى أيدي وأكتاف وأعين الشعب العراقي الجليل ـ إلى سُدّة الحكم والسلطة وفّقهم الله ليقدّموا للشعب المظلوم الأهداف التي أعلنوها، وما يليق بالعناوين التي سمّوا بها أحزابهم والوعود التي أطلقوها، وبالخصوص ما يرتبط بإثارة شعار الحسين ونهضته، فلا يتركوا الناس بمفردهم بما يلزم لإقامة الشعائر من دون دَعْم الدولة وأجهزتها مادّياً ومعنوياً، ولا يفسحوا المجال للمثقّفين المدّعين للحرّية والمدنيّة والديمقراطية بالتعدّي على مواهب الشعب وشعوره وعواطفه تجاه الشعائر الحسينية والمراسم والمواكب، فإنّ الشعب الحسينيّ سوف يكون بالمرصاد لمن يمسُّ هذه الشعائر، أو ما يمتُّ بالحسين ونهضته مهما كان، وممّن كان، وأين ما كان.
وإنّ ما يقوم به الشعب الشيعيّ في مراسم عاشورا، والمظاهرة المليونية التي يشترك فيها المسلمون والمستضعفون من سائر الأديان والمذاهب لهو إنذار لمن يدورُ في مخيّلته المساس بالعواطف الحسينيّة، وكلّ فرد من المشتركين فيها يمثّل قنبلةً تنفجر في جموع المعتدين، وكلّ خطوة هي طلقة في صدور المعاندين.
وإذا خسئ الصنم الطاغوت، ولم يتمكّن من إخماد روح الولاء للحسين أو إطفاء نور النهضة الحسينية، في قلوب الناس وعقولهم، فكيف يتمكّن هؤلاء الخفافيش الذين يعملون في الظلام وبالسرّ، بأعمال الإرهاب، والتفجيرات والاغتيالات؟!
إنّ المستضعفين الحسينيين هم الأقدر على الأكبر والأقوى والأشدّ من هذه الأعمال، لكن قضيّتهم وأهدافهم وثقافتهم أسمى وأنبل وأعلى من أُولئك النواصب الجهلة والقتلة، وهم أكرم وأورع من أن يقوموا بالأعمال الهزيلة والرذيلة والضحلة التي يقوم بها أولئك الوحوش.
إنّما الموالون يقومون في وضح النهار بمثل اجتماع الأربعين المليونية، وتظهره أمام العالم، وهم يُعلنون بعقيدتهم الحقّة ونواياهم الطيّبة ويعبّرون بأعلى أصواتهم عن ولائهم لأشرف الناس محمّد وآل محمّد والسيرعلى هدي الإسلام في القرآن الكريم وعترة الرسول أهل بيته الطاهرين.
إنّ هذه المظاهرة، وبهذه الصورة والسيرة، وبهذا الهدف السامي هو الذي بهر العالم، ووقفت الشعوب على حقيقة التشيّع وما يملكه الشيعة من روح وصمود وحُبّ، كما يدلّ على وحدة الشيعة في إرادتهم الحفاظ على عقيدتهم بإدارة حازمة وتنظيم تعجزعنها أعتى السلطات في عالم السياسة والقوّة.
وذلك كلّه اقتداءً بالنهضة الحسينية وأهدافها وآثارها، فإنّها تعتمد على الحسين الذي كان إماماً، إلهيّاً، ولم يكن ملكاً ولا خليفة ولا حاكماً عسكرياً، بل كان قدوة عقدئدياً، وطالباً للحقّ الإلهي، ومُصلحاً دينياً، فقد قدّم جميع ما عنده في سبيل الله، ولذلك وهبه الله هذه الولاية والمحبّة في قلوب المؤمنين به وبنهضته، وهذه المكانة والعظمة والقدرة على جميع الناس في مثل هذا المجمع العظيم، الذي لا مثيل له.
وهكذا خلّد العَبْرة للمستضعفين، فورثوها للقيام بالشعائر بأحسن صورها وتمثيلها، فتخلّد النهضة الحسينية في عيونهم وعقولهم.
كما خلّد العِبرة في قيامهم بها ليرهبوا الأعداء، ويصدّوهم عن التجاوزوالظلم.
إنّ هذين الأمرين الخالدين «العَبرة، والعِبرة» سوف تستأصل في النهاية جذور الظلم والعدوان، وتجتثّ بذورهم، وتقطع دابرهم مهما كانوا مسيطرين على الحكم والدولة والسلطة، ومهما تلوّنت باسم الثقافة والديمقراطية ومهما تفنّنت في القساوة والوحشية فلابدّ أن تقوم حركة المستضعفين وتستمرّ حتّى يظهر المصلح الموعود وارث الحسين في إمامته وكرامته وأهدافه، وثاره، ليقوم بدولة كريمة يُعزّ بها الإسلام وأهله ويهلك ملوك الشرك وأهله ويتمّ المنّة (... عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) . آمين يارب العالمين.
- حرّر ليلة الأربعين سنة 1435هـ في كربلاء المقدّسة.
لمن يرمي ببصره على الأفواج والجحافل الزاحفة نحو كربلاء المقدسة هذه الأيام لزيارة الإمام الحسين، عليه السلام، في أربعينه، يُخيل اليه أن ثمة عفوية وتلقائية مدفوعة بحماس شديد، وحب عميق لصاحب المناسبة، وهو تصور لا يجانب الحقيقة، بل هو جزء منها، بيد أن الحقيقة كاملةً في هذه التظاهرة الجماهيرية المليونية، وجود ثقافة غير مكتوبة، لكنها مثبتة في الوجدان والقلب الذي يحمل الإيمان والولاء، وهذا ما يجعلنا نلاحظ التطور النوعي في مجالات عديدة داخل هذه التظاهرة التي تبدأ ربما قبل اسبوعين من يوم العشرين من صفر، فهناك التطور في نوع الخدمات المقدمة للزائر من حيث الكم والكيف، كما هنالك التطور في تنظيم المواكب السائرة من مناطق ومحافظات عديدة في العراق، وايضاً من خارج العراق.
كل ذلك؛ يجعلنا أمام منظومة ثقافية متكاملة أيام الأربعين، تتضمن السلوك والتقاليد والصفات الاخلاقية الحسنة ترافق الزائرين، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ومن كل شرائح المجتمع.
فما هي ثقافة المشي؟
أولاً: العطاء
هنالك فرق بسيط بين "الكرم"، وبين "العطاء".. فالحالة الأولى؛ مبادرة يقوم به الإنسان لضيف له، فيقدم له كل وسائل الراحة من منام وطعام وغيرها، بل حتى احياناً وسيلة نقل لذهابه وإيابه الى موطنه. بينما الحالة الثانية، فهي تحمل نفس المواصفات وبنطاق أوسع، إذ ربما لا يلتقي المعطي بمن يتسلّم العطاء إلا نادراً، وهذا ما نلاحظه في أماكن إقامة الزائرين، وسيارات النقل، وتوزيع المواد الغذائية وغيرها من أنواع العطاء.
نعم؛ هنالك مضايف وسرادق متراصّة على الطرق الرئيسية تستقبل الزائرين، وهنالك من يقدم الخدمات المتنوعة للزائرين، كما هنالك أعداد مضاعفة يقفون في الظل، يصلون الليل بالنهار، ويبذلون جهوداً كبيرة، لتوفير الراحة والأمان للزائرين، فهنالك الماء والكهرباء والدفء والوقود، وتوفير المواد الغذائية بكميات كبيرة، وايضاً وسائل النقل وغيرها، كلها أمور يعد لها وتتوفر من خلال جهود كبيرة لأناس ربما لا يحالفهم الحظ ويكونوا متواجدين داخل الموكب وهو يقدم خدماته للزائرين على الطريق.
هذه الصفة الانسانية السامية، نجدها في تقاليد الناس وآدابهم وأخلاقهم، وهم يسعون للمشاركة في هذه التظاهرة الجماهيرية، وخدمة السائرين على الاقدام باتجاه مرقد الإمام الحسين، عليه السلام. هذا الى جانب العطاء المباشر الذي بات أمراً مألوفاٌ في هذه الزيارة، وايضاً في الزيارات المليونية الاخرى الخاصة بالإمام الحسين، عليه السلام، مثل الزيارة الشعبانية، وزيارة يوم عرفه، هذا اضافة الى أيام عاشوراء. نرى أعداد كبيرة من الناس يسارعون الى العطاء والبذل، فمنهم من يفتح داره للزائرين، ومنهم من يقدم الطعام والشراب. وفي الآونة الاخيرة، نلاحظ مبادرات من نوع جديد لتقديم الخدمات لمن لا يمتلك الامكانية المادية الكبيرة، فانه يقوم بغسل ملابس الزائرين أو صبغ احذيتهم أو تسهيل أمر الاتصال بالهاتف الجوال، وغيرها من مختلف انواع الاعمال والمبادرات التي تصب كلها في خدمة الزائر وتسهيل أمر سيره على الاقدام نحو كربلاء المقدسة.
فالزيارة الاربعينية – على وجه التحديد- تشكل فرصة لتكريس ثقافة العطاء والبذل لصاحب الحاجة، وفرصة ايضاً لمكافحة نزعة الأنا وحب الذات والتملّك. هذه المناسبة تعبئ الانسان طيلة أيام السنة، على العطاء والبذل في سبيل القيم والمبادئ، لاسيما اذا رأى مردود هذا العطاء أمامه ويلمسه بحواسه ومشاعره، حيث يتشكّر الزائر مما قدم له من خدمات، كذلك الحال يتجسد بالنسبة لليتيم – مثلاً- عندما يستفيد من خدمات انسانية وثقافية من مؤسسة او جمعية خيرية، أو عندما تشيّد مكتبة عامة يستفاد منها طلبة العلوم الدينية والاكاديمية، ويبدون ارتياحهم من هذه المبادرة الحضارية. بمعنى إننا أمام الزائرين في أيام الأربعين وهم بحاجة الى خدمات متعددة وكثيرة، كما نكون أمام عموم أبناء بلدنا وأمتنا وهم بحاجة الى مختلف أشكال العطاء المادي والمعنوي والثقافي.
ثانياً: الحب لا الكراهية
تبتلى مجتمعاتنا بحالة التنابز والتمايز والتباعد، وكل ما من شأنه التفرقة والنفرة بين أفراد المجتمع، لأسباب اجتماعية، مثل الطبقية، أو أخلاقية وسلوكية تجعل الانسان يدور حول نفسه، ويريد كل شيء له، لا لغيره، ثم يغمره شعورٌ بالتفوق والتعالي على الآخرين لصفة تملّكها أو موقع اجتماعي أو سياسي تسنّمه، أو حتى حيازته لدار وسيعة، أو سيارة فارهة وغير ذلك.. كل ذلك يجعل من حالة الحب والمودة إزاء الآخرين، أمراً بعيداً عن ذهنه وتفكيره، وربما يستغرب هكذا حالة إن طالبه أحد بها، لعدم وجود معنى لها في نفسه.
هذه الحالة أو الظاهرة النفسية، لا وجود لها في "المشي" الى كربلاء المقدسة.. لأن الثقافة هنا، تدعو الى مد يد العون لهذا وذاك، وفي كل الاحوال والظروف، كما تدعو الى التواضع والإيثار والتعاون، وبكلمة؛ حب الخير للآخرين.
والسبب في ذلك الذوبان الكامل في النهضة الحسينية، حيث يشعر الزائر وكل من يسهم في تقديم الخدمات للزائرين، أن لا شيء يحتفظ به لنفسه أمام العطاء والتضحية التي قدمها الإمام الحسين، عليه السلام، من أجل أن تعيش الاجيال من بعده، حرة كريمة، بعيدة عن أغلال الطغاة، وآمنة من المفسدين والمنحرفين. لذا فان مشاعر الحب الجيّاشة والمواكبة للمشي الى كربلاء المقدسة، تعبر عن محاولة الاقتداء بسيد الشهداء، عليه السلام، الذي تميّز ضمن ما تميز به، بحبه للخير للجميع، حتى آخر اللحظات التي سبقت وقوع السيف بينه وبين أهل الكوفة المغرر بهم لقتاله.
وهذا تحديداً من النقاط المضيئة التي التفتت اليها الشعوب المسلمة وغير المسلمة في العالم لدى تعرفها على شخصية الامام الحسين، عليه السلام، وعلى نهضته وقضيته. فلا كراهية، ولا إقصاء، ولا تهميش وتقليل من قدر الطرف المقابل، ما زال يشترك في الأخوة الإيمانية، او التماثل الانساني. وهذا ما لاحظه أعضاء وفد "الفاتيكان" المشاركين هذا العام في "المشي" مع الزائرين، حيث لم يلاحظوا أي حساسية او كراهية من سائر الزائرين، على العكس، هنالك الفخر والاعتزاز بوجودهم في موكب "المشي" لأنهم يريدوا أن تجسيد قيم ومبادئ النهضة الحسينية لهم وللعالم.
المشي.. تيار هادف يقرر مصيره بنفسه
لأن له هدف محدد وواضح، وعوامل ذاتية للتفاعل والحيوية، وقدرة غيبية – معنوية على التأثير في النفوس طيلة العهود والعصور التي مرت عليه، فان "المشي" لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، بات يشكل تهديداً – بشكل أو بآخر- على مصالح الحكام والأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق، لأن المعروف أنها ترمي بالدرجة الأولى الى كسب القاعدة الجماهيرية لتوطيد وتكريس وجودها السياسي وضمان فترة أطول في الحكم، إلا ان هذا "المشي" يشكل هاجساً مرعباً يقضّ المضاجع ما أن تحلّ أيام أربعين الامام الحسين ، عليه السلام، لذا شهدنا طيلة العقود الماضية، في التاريخ المعاصر، وفي العقود الاولى من التاريخ الاسلامي، محاولات عنيفة وشديدة من الحكام لوضع السدود والحدود أمام هذا التيار الجماهيري، وثني الناس من "المشي" لكن دون جدوى.
وهذا يثير السؤال؛ عن السبب الحقيقي وراء هذه المخاوف؟، لأن "المشي" بالأساس، ليس تظاهرة سياسية، ولا حركة عصيان مدني، ولا أي شكل من أشكال التحرك السياسي الذي تنظمه جماعات سياسية أو نقابات او منظمات مجتمع مدني وغيره، للتأثير على القرار السياسي واستهداف النظام الحاكم، إنما هو – كما هو واضح للعالم- عبارة عن سيل بشري يتشكل بمرور الايام من مناطق مختلفة من داخل وخارج العراق، يتوجه صوب كربلاء المقدسة لزيارة الامام الحسين، عليه السلام، في أربعين استشهاده. وهم لا يحملون بأيديهم سوى الأعلام الحمراء والبيضاء والخضراء، للدلالة الرمزية على وجود مواكب للزائرين، كما لا يحملون في أذهانهم سوى الساعة التي يصلون فيها الى المرقد الشريف.
العقدة العصية على الحل عند أهل الحكم، سواءً عند الحاكمين في العراق او غيره، هي "الولاء" في هذه المسيرة الجماهيرية، فقد قرأ النظام الصدامي في خلال فترة حكمه في العراق، تاريخ هذه الحركة، ووجد أن القمع المباشر والعنيف سبباً في تقويتها وتكريسها في النفوس، لذا حاول في السنوات الاولى من حكمه استيعاب هذه الحركة وتوجيهها بالشكل الذي تخلو فيه من المضامين والمفاهيم التي تحملها ومن أجلها تضم كل هذه الحشود البشرية، فلا حديث عن ظلم ولا طغيان ولا انحراف في النظام الحاكم ، إنما هي زيارة لمرقد أحد أولياء الله الصالحين، كما أي مرقد آخر. لكن عندما وجد الجذور العميقة لتلك المفاهيم في النفوس والضمائر، ألقى قناعه جانباً وأظهر وجهه الحقيقي المعادي لأي محاولة للتغيير والإصلاح، باستخدام أعنف الوسائل وأكثرها وحشية. فكانت المواجهة المكشوفة التي جرته الى حتفه.
من هنا؛ احتفظ "المشي" براية الولاء المطلق للإمام الحسين، عليه السلام، ونهضته الحضارية، وهذه الرسالة – يبدو- انها وصلت الى كل مكان بعد انهيار النظام الصدامي في العراق عام 2003، فقد شهد العالم بأسره، لاسيما المعنيين في العواصم الاقليمية والدولية، حجم وقدرة هذا الولاء في تحشيد وتعبئة الجماهير في أول زيارة أربعين تجري بحرية تامة من دون "صدام"، منذ حوالي اربعين عاماً.. لذا يمكن القول: أن "المشي" حقاً، تيار جماهيري جارف يقرر ويرسم مصيره بنفسه، فهو الذي انطلق وتشكل منذ أمد بعيد، وتطور بفعل التجارب ومستجدات الزمان والظروف الاجتماعية، ليكون بهذا الشكل من التنظيم والتنسيق، حيث تشهد كربلاء المقدسة هذه الايام توافد الملايين من البشر خلال ايام معدودة، لأداء مناسك الزيارة.
لكن؛ هذا ليس كل شيء.. فالتيار الجماهيري الجارف الذي عجز الحكام عن تحجيمه والتضييق عليه، بات اليوم يفرض إرادته على الحكام وعلى الواقع السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي والامني.. وهذا هو – بالحقيقة- قمة التطور في قضية "المشي". فعندما تتحول ظاهرة ما الى أمر واقع، فانها تستقطب الجهود والطاقات والامكانات لتكون في خدمتها، كما هي النبتة او الفسيل في الأرض الخصبة، فاذا انطلقت جذورها في الأرض، بدأت تمتص العناصر الغذائية من أملاح وماء، كما تستقبل أشعة الشمس والهواء وغيرها من عوامل النمو والارتقاء، فتتحول الى شجرة باسقة مثمرة، ليس لا يفكر أحد بقطعها، إنما يتوجه الناس للاستفادة منها والاعتزاز بها.
هذا الدرس فهمه الناس وابناء الأمة في كل مكان، وقد بلغت حالة النضج اليوم مرحلة متطورة، بقي أن يفهمه المسؤولون الحكوميون في البلاد التي ينطلق منها الزائرون، وعندما تصل الرسالة بشكل صحيح الى هؤلاء، فانها ستصل بالشكل نفسه وأكثر قوةً الى من يشعر بالخوف الشديد من هذه الظاهرة والحركة، ليس على مستقبله السياسي، إنما على عقيدته وتاريخه، وهذا أشد خطراً، لأن العقيدة هي التي تحمل النظام السياسي وتضمن له الاستمرار في الحكم. وهنا يتحدد المسار؛ إما أن تتراجع وتدع "المشي" يشق طريقه الى الأمام ولا تتعرض له، كما لو أنه لا يستهدف بالأساس التنظيمات الارهابية والتكفيرية، ولا الدول التي تقف خلفها. وإما ان يكون تختار المواجهة وتكرار التجارب الفاشلة للحكام السابقين على مر التاريخ الذين دفعوا ثمن حياتهم السياسية وخلفيتهم العقائدية والفكرية، من أجل إيقاف هذا "المشي" وهذا التيار الجماهيري، لكن دون جدوى.
* مقال من أرشيف شبكة النبأ المعلوماتية 18/كانون الأول/2013 - 14/صفر/1435
كثيراً ما يتساءل بعضهم عن الدواعي والأسباب التي تدعو الشيعة للعناية الشديدة بإحياء مصيبة عاشوراء، وتجديدها في كل عام، حيث تستنفر جميع طاقاتهم، ويحيون هذه المناسبة أكثر من عشرة أيام في جميع أنحاء العالم، خصوصاً أن ما جرى على الحسين في كربلاء قد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً، ولعل الإمام الحسين الآن في أعلى عليين في الجنة، والشيعة يبكون عليه ويندبونه ويلطمون عليه!!
بل ربما يتصور من يخالف الشيعة أن إحياء هذه المناسبة لا معنى له، ولا حاجة له أصلا!!
للجواب عن ذلك نقول:
إن أهم الدواعي والأسباب التي تدعو الشيعة لشدة العناية بإحياء مصيبة الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء أمران:
الأمر الأول: التعبد:
فإن أئمة أهل البيت عليهم السلام أمروا شيعتهم بإحياء ما جرى على الإمام الحسين في كربلاء بعدة أنحاء، منها:
1- البكاء عليه:
فقد روي عنهم عليهم السلام في فضل البكاء على الإمام الحسين عليه السلام ما لا يحصى كثرة من الروايات التي بلغت حد التواتر:
منها: ما رواه ابن قولويه قدس سره في (كامل الزيارات) والشيخ الصدوق قدس سره في ثواب الأعمال بسند صحيح عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين ، قال: من قطرت عيناه فينا قطرة ودمعت عيناه فينا دمعة، بوَّأه الله بها في الجنة غُرَفاً يسكنها أحقاباً. (كامل الزيارات: 201، ثواب الأعمال: 83).
ومنها: ما رواه ابن قولويه أيضاً بسنده عن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله في حديث طويل له قال: ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله عز وجل، ولم يرض له بدون الجنة. (كامل الزيارات: 202).
2- إنشاد الشعر فيه عليه السلام:
والروايات في ذلك صحيحة وكثيرة، منها: ما رواه ابن قولويه في (كامل الزيارات) بسنده عن صالح بن عقبة، عن أبي عبد الله قال : من أنشد في الحسين بيت شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة، ومن أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنة، فلم يزل حتى قال: من أنشد في الحسين بيتاً فبكى - وأظنه قال: أو تباكى - فله الجنة.
3- زيارته عليه السلام:
والأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام لا تحصى كثرة، بل بلغت حد التواتر، ويلاحظ فيها أمران:
أولاً: ما دلَّ على كثرة ثواب زيارته عليه السلام:
منها: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن مثنى الحناط، عن أبي الحسن الأول ، قال: سمعته يقول: من أتى الحسين عارفاً بحقّه غفر له ما تقدّم من ذنبه وتأخّر. (الكافي 4/582).
ثانياً: في كثرة الحث على زيارته:
فقد وردت الروايات الكثيرة في الحث على زيارة الإمام الحسين عليه السلام في أيام كثيرة خلال العام، مثل: يوم عاشوراء، ويوم الأربعين وهو العشرون من صفر، وأول رجب ووسطه وآخره، وفي النصف من شعبان، وليلة القدر، ويوم العيدين، ويوم عرفة وغيرها. وفي كل جمعة من كل أسبوع، بل في جميع أيام العام.
فقد روى الكليني قدس سره بسنده عن بشير الدهان، قال: قلت لأبي عبد الله : ربما فاتني الحج فاعرِّف عند قبر الحسين ؟ فقال: أحسنت يا بشير، أيما مؤمن أتى قبر الحسين عارفاً بحقّه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات، وعشرين حجة وعمرة مع نبي مرسل أو إمام عدل، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجة ومائة عمرة ومائة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عدل، قال: قلت له: كيف لي بمثل الموقف؟ قال: فنظر إليَّ شبه المغضب، ثم قال لي: يا بشير إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين يوم عرفة، واغتسل من الفرات، ثم توجّه إليه، كتب الله له بكل خطوة حجّة بمناسكها - ولا أعلمه إلا قال: وغزوة -. (الكافي 4/580).
4- ذكر الإمام الحسين عليه السلام عند شرب الماء:
فقد روى الكليني في الكافي وابن قولويه في كامل الزيارات بسندهما عن داود الرقي، قال: كنت عند أبي عبد الله إذ استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال لي: يا داود لعن الله قاتل الحسين ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين عليه السلام ولعن قاتله إلا كتب الله له مائة ألف حسنة، وحطَّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثلج الفؤاد. (الكافي 6/391، كامل الزيارات: 212).
5- عظم ثواب السجود على تربة قبره عليه السلام، واستحباب اتخاذ سبحة من تراب قبره.
فقد روى الشيخ الصدوق قدس سره في كتاب من لا يحضره الفقيه عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: السجود على طين قبر الحسين عليه السّلام ينوِّر إلى الأرض السابعة، ومن كان معه سبحة من طين قبر الحسين عليه السّلام كتب مسبّحاً وإن لم يسبّح بها. (من لا يحضره الفقيه 1 /268).
وروى الشيخ الطوسي قدس سره في مصباح المتهجد عن معاوية بن عمار، قال: كان لأبي عبد الله عليه السلام خريطة ديباج صفراء، فيها تربة أبي عبد الله عليه السلام، فكان إذا حضرته الصلاة صبَّه على سجادته وسجد عليه، ثم قال عليه السلام: السجود على تربة أبي عبد الله عليه السلام يخرق الحجب السبع. (مصباح المتهجد: 733).
الأمر الثاني:
أن الله تعالى له سر عظيم في الإمام الحسين عليه السلام، حيث شاءت إرادته سبحانه أن تبقى مصيبته عليه السلام حية حارة في وجدان المؤمنين إلى يوم القيامة.
فقد روى محمد بن همام في كتاب الأنوار عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً.
ثم قال عليه السلام: بأبي قتيل كل عبرة. قيل: وما قتيل كل عبرة يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا يذكره مؤمن إلا بكى. (جامع أحاديث الشيعة 12/556).
وروى ابن قولويه بسنده عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله : قال الحسين بن علي : أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر. (كامل الزيارات: 215).
وهذا هو الملاحظ بوضوح، فإن الشيعة يبكون الإمام الحسين عليه السلام بحرقة طول العام، ولا تبرد حرارة قتله في نفوسهم، وهذا من الأسرار الإلهية الخاصة به عليه السلام.
ولهذا فإن كل المحاولات التي بذلت للقضاء على قضية الإمام الحسين عليه السلام أو لاستنساخ قضيته في آخرين غيره باءت بالفشل الذريع.
وقد سمعت من السيد أحمد الأشكوري حفظه الله أنه لما ذهب بمعية السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله إلى مكتبة الفاتيكان، رأى فيها كثيراً من كتب المراثي الحسينية باللهجة الدارجة، مثل مراثي ابن نصار، وابن فايز وغيرهما، فسألا عن فائدة اقتناء مثل هذه الكتب التي لا تصلح إلا لخطباء المنبر الحسيني؟ فقال عميد المكتبة: إن الفاتيكان أرادت أن تستنسخ قضية الحسين، وتجعلها في السيد المسيح، فأرادت أن تستفيد من التجربة الشيعية، فاقتنت هذه الكتب، وكونت لجنة لذلك، لكن المحاولة باءت بالفشل.
مضافاً إلى أن الشيعة يرون أن ما جرى على الإمام الحسين عليه السلام ينبغي أن يخلد في عقول ووجدان الأمة، لما فيه من العظة والعبرة، فلا يصح لومهم على إحياء ذكرى مصيبته عليه السلام، خصوصاً أن جميع الدول تقريباً في هذا العصر تحتفل بمناسبات وطنية، وتحييها كل عام؛ لوقوع حوادث مهمة يراد إبقاؤها حية في وجدان الشعوب، وقضية الإمام الحسين عليه السلام أيضاً قضية مهمة، ينبغي إحياؤها للعظة والاعتبار في كل عام.
إن قلت: إن جميع هذه الأحاديث لم تثبت عندنا، وأننا لا نعتقد أن أئمة أهل البيت عليهم السلام أمروا الناس بذلك.
نقول: نحن قد ثبت عندنا ذلك بالروايات الصحيحة بل المتواترة عن أهل البيت عليهم السلام، والشيعة لا يتبعون غير أئمة أهل البيت ولا يقلدونهم، ولا يهمهم ماذا ثبت عند غيرهم.
كما أن الشيعة لا يطالبون غيرهم بإحياء مصيبة الحسين عليه السلام والبكاء عليه، وإقامة مآتمه، فمن لا يريد إقامة مآتم الحسين عليه السلام فهذا شأنه، ولا شأن للشيعة به، وكلامه لا يهمهم في شيء؛ فإن الله تعالى أنعم عليهم بهذه النعمة العظيمة، وحرم غيرهم منها، والحمد لله على ذلك.
كثيراً ما يطرح بعض الكتّاب والمنتقدين السؤال والشبهة التالية:
إنّ شيعة الكوفة من غدرهم، إنّهم دعوا الامام الحسين بن علي عليهما السلام برسائلهم ليكون إمامهم وقائدهم، إلّا انّهم غدروا به، فقتلوه وأهل بيته في واقعة الطف بكربلاء المقدّسة، وانخرطوا في معسكر يزيد بن معاوية، فهل كان الأمر كذلك؟
الجواب: أوّلاً إنّ المجتمع الكوفي آنذاك كان خليطاً غير متجانس، يحمل بين طيّاته ثقافات وآراء ومذاهب متفاوتة وربما متضاربة، يُكفّر البعض بعضاً لحداثة تأسيسها، وسرعان عمارتها بحوزات ومدارس علميّة وثقافيّة، وكونها دار الحكومة والخلافة لأمير المؤمنين علي عليه السلام لأوّل مرّة .
فاستوطنت الكوفة العاصمة آنذاك تيارات فكريّة وسياسيّة وعسكريّة تلعب دوراً في التأثير على مجريات الاُمور والوقائع والحوادث، وعلى النفوس والأفكار والآراء والمنطلقات والمعطيات والغايات، ومن أبرز التيارات في عصر الامام الحسين عليه السلام كما يلي:
الأوّل: الحزب الاموي ومن رجالاته عمر بن سعد وعمر بن حريث وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري وغيرهم من كبار الكوفة وأعيانها، ومن كان مع الحكومة ودار الخلافة الامويّة، فمن الطبيعي أن تدعمهم الدولة الامويّة في الشّام، وتفسح لهم المجال في نشاطهم الحزبي من كسب الساحة والساعة، وركوب الأمواج الّتي تعبّت في مصالحهم الشخصيّة والحزبيّة .
الثاني: الخوارج ومن رجالهم شمر ذي الجوشن، امتازوا بالعنف والإرهاب وعدم تفهّم الآخرين، ومن ليس لنا فهو علينا، ولابدّ من إزاحته وتصفيته جسديّاً أو سياسيّاً ومنطق (الحكم لله) وإن عليا قد كفر.
الثالث: البسطاء والسذج يمتازون بالشك والترديد، وانّهم يميلون مع كلّ ريح، وينعقون مع كلّ ناعق، فيتأثّرون تارة بأفكار الخوارج واُخرى بالحزب الاموي، فيتمطاهم الغير لمآربهم ومقاصدهم الشخصيّة أو الحزبية أو الفئويّة أو الطائفيّة.
الرابع: الحمراء وهم أبناء السبايا الفارسيّة ومن الكثرة بمكان حتّى كانت الكوفة تنسب إليهم وتسمّى بكوفة الحمراء، يحملون الحقد والكراهيّة والبغض لشيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام فاستعملهم ابن زياد لعنه الله لضرب شيعة علي عليه السلام وقتلهم وتشريدهم، وكان حضورهم فعّالاً في الجيش المحارب لسيّد الشهداء عليه السلام في كربلاء وفي يوم عاشوراء.
الخامس: شيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام وكان لهم الثقل الكبير في حوادث الكوفة ورجالاتهم تملأ العين والقلب كحبيب بن مظاهر الأسدي وحجر بن عدي.
فعند دخول مسلم بن عقيل سلام الله عليه الكوفة كانت الساحة والشارع للشيعة والحزب العلوي إن صحّ التعبير، إلّا انّه بعد دخول عبيدالله بن زياد ابن أبيه الكوفة انقلب الأمر، وتعاضدت التيارات الأربعة ضدّ التيار الشيعي أنذاك، وجراء الإعلام المضاد، وتخاذل أهل الكوفة، واستحواذ الشيطان على جمع من رجالهم وأعيانهم، وحبّ الدنيا الذي يعمي ويصم، والجبن والخوف والرعب من الجيش الاموي الموهوم الذي أشيع عنه أنه في طريقه إلى الكوفة، أدّى إلى شهادة مسلم وهاني بن عروة رضوان الله تعالى عليهما ومن ثمّ وقوع حادثة الطف الأليمة التي بكتها السماء والأرض وما فيها.
خطة عبيد الله بن زياد
أجرى عبيدالله بن زياد عند دخوله قصر الامارة في الكوفة خطّة أمنيّة وعسكريّة وسياسيّة مشدّدة كوضع العيون والجواسيس على الموالين والمتحمّسين لقدوم الامام الحسين عليه السلام، وسجن أعيانهم وقتل رجالاتهم، كصلبهم على أبوابهم، ليلقى الرعب والخوف والوحشة في قلوب أهالي الكوفة، ليحسب كلّ واحد حسابه، وغلّق أبواب الكوفة ليحجم دائرة الثوّار وتشكّلاتهم في الكوفة وفي الخارج، وقطع أيادي العون المادي والمعنوي والمالي لانتصار الثورة والنهضة التي أشعل فتيلتها قدوم مسلم بن عقيل سفير الامام الحسين عليه السلام إلى الكوفة .
إلصاق تهمة الخذلان بشيعة الكوفة
إلصاق هذه التهمة (خذلان الشيعة عن نصرة إمامهم الحسين عليه السلام) بشيعة الكوفة إنّما كان من الإعلام الاُموي المضاد آنذاك، ولازالت هذه النعرة الامويّة يتمنطق بها أبناء القوم على مرّ القرون والأحقاب، وكم لهم من قبل مثل هذا الإعلام الاموي المقيت حتّى في شهادة أمير المؤمنين علي عليه السلام، قالوا كيف قتل في المحراب، فهل كان يصلّي حتّى يقتل في محرابه؟!! أو قالوا بكفر أبيه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، وما شابه ذلك من الاشاعات ضدّ أمير المؤمنين علي عليه السلام وشيعته، فالسلطة الامويّة تشوّه كلّ من ينتمي إلى الامام علي عليه السلام ومنه تشويه شيعة علي في الكوفة في عصر الامام الحسين عليه السلام، وإلّا فان أكثر من كان في معسكر الامام الحسين عليه السلام من أصحابه الكرام، كان من أهل الكوفة كحبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله تعالى عليه، وبهذا التحليل التاريخي كيف يتهم شيعة الكوفة بقتل امامهم؟! أليس هذا من الاعلام المضاد ومن دسائس بني اُميّة وشيعة بنى سفيان ومن تبعهم كالوهابية الإرهابية إلى يومنا هذا؟!
شيعة آل أبي سفيان هم من قتل الحسين (ع)
عند رجوعنا إلى النصوص الواردة عن سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام نكشف من خلالها أنّ من قاتله ليس منم شيعته أو شيعة أبيه، بل هم من شيعة آل أبي سفيان ومن أعداء أمير المؤمنين علي عليه السلام واكتفى شاهدا بنصين:
الأوّل: جاء في مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف: 132 وينابيع المودة: 416 ومعالى السبطين: 2 12 وناسخ التواريخ: 2 376 عنهم: موسوعة كلمات الإمام الحسين 7: 492.
"ثم دنا من القوم ـ في يوم عاشوراء وفي أرض كربلاء ـ وقال: يا ويلكم على مَ تقاتلوني، على حقّ تركته فأم على سنَّةِ غيرتّها، أم على شريعة بدّلتها (أم على جرم فعلته)؟
فقالوا: بل نقاتلك بغضاً منّا لأبيك، وما فعل بأشياخنا يوم بدر و حنين، فلما سمع كلامهم بكى وجعل يقول:
كَفَر القوم وقدمآ رغبوا عن ثواب الله ربّ الثقلين
قتل القوم عليآ وأبنه حسن الخير كريم الطرفين
حنفآ منهم وقالوا أحملوا احشروا الناس إلى حرب الحسين
يالقوم من أناس رذّلٍ جمعوا الجمع لأهل الحرمين
ثم ساروا وتواصوا كلّهم باحتياجي لرضاء الملحّدين
لم يخافوا الله في سفک وحي لعبيد الله نسل الكافرين
وأبن سعد قدر ماني عنوةً بجنود كوكوفه الهاطلين
لا لشيء كان من قبل ذا غير فخرى بضياء الفرقدين
بعلي الخير من بعد النبي والنبي القرشي الوالدين
خيرة الله من الخلق أبي ثم اُمّي فأنا ابن الخيرتين
إلى آخر ما قاله عليه السلام.
الثاني: لمّا هجم عليه القوم أربعة آلاف من الرماة يرمونه بالسّهام فحال بينه وبين رحله، ـ خيامه ـ فضاج بهم: «ويحكم يا شيعة ال أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارآ في ديناكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربآ كما تزعمون »[1] .
فمع هذين النصين هل يحقّ لأمثال الوهابيّة ومن ضلّ عن سبيل الله ولم يتورع في التهمة والكذب والافتراء على الآخرين أن يتّهم شيعة علي عليه السلام يقتل ولده الحسين عليه السلام؟!! أم في قلوب القوم مرض فزادهم الله مرضا، وأعدّ لهم في الآخرة عذابا مهينا، والمؤمنون الموالون في الجنات يقولون: أن الحمد لله ربّ العالمين .
[1] مقتل الحسين الخوارزمي: 2 33 واللهوف: 119 والبداية والنهاية: 8 203 وبحارالأنوار:45 51 والعوالم:: 17 293 واعيان الشيعة:: 1 609 والدمعة الساكبة:: 4 343 عنهمموسوعة كلمات الحسين 7: 504.
كثيراً ما يعود هذا السؤال إلى الواجهة في أيام العزاء من شهري (محرم الحرام وصفر)، ومع أن ما جرى على السيدة زينب عليه السلام في تلك الحادثة المفجعة يفوق حدود صبر الرجال، إلا أنه –وكالعادة- يٌسئل دائماً عن موقف هذه المرأة الوحيدة: "هل صحيح أن السيدة زينب لطمت وجهها، وشقت جيبها عند مقتل جميع أهلها في كربلاء؟".
وفي الجواب يقول الشيخ المفيد قدس سره في كتاب الإرشاد حديثاً طويلاً جاء فيه:
قال علي بن الحسين عليهما السلام: إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعندي عمتي زينب تمرضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
يا دهر أف لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل *** وكل حي سالك سبيلي
فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها، وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة، فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل، وأما عمَّتي فإنها سمعت ما سمعت وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة، حتى انتهت إليه فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي. فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال لها: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان. وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام، فقالت: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصابا؟! فذاك أقرح لقلبي وأشد على نفسي. ثم لطمت وجهها، وهوت إلى جيبها فشقته، وخرت مغشياً عليها. فقام إليها الحسين عليه السلام، فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه! اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون، وهو فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخية إني أقسمت فأبري قسمي، لا تشقي علي جيباً، ولا تخمشي علي وجهاً، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت. ثم جاء بها حتى أجلسها عندي[1].
ولا شك في أن لطم الوجه وشق الجيب قبيح إلا على أبي عبد الله الحسين كما ورد ذلك في الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار عليهم السلام.
منها: معتبرة معاوية بن وهب عن الصادق عليه السلام أنه قال لشيخ: أين أنت عن قبر جدي المظلوم الحسين؟ قال: إني لقريب منه، قال عليه السلام: كيف إتيانك له؟ قال: إني لآتيه وأكثر. قال: ذاك دم يطلب الله تعالى به، ثم قال: كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام[2].
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء على الحسين بن علي عليهما السلام، فإنه فيه مأجور[3].
ومنه يتبين أن ما ظهر من السيدة زينب عليها السلام من الجزع على أخيها الإمام الحسين عليه السلام لم يكن قبيحاً ولا مذموماً، بل كان فعلاً حسناً محبوباً، إلا أن الإمام الحسين عليه السلام أراد منها سلام الله عليها أن تكون بعد قتله أربط جأشاً، وأقوى جناناً، لتقوم بمهامها الجسيمة، ومسؤولياتها العظيمة، ولئلا يشمت به وبها أعداء أهل البيت عليهم السلام، لا من أجل أن جزعها عليه سلام الله عليه كان قبيحاً، والله العالم.
[1] الإرشاد: 232.
[2] وسائل الشيعة 3 /282.
[3] الوسائل 10 /396.
إن أجبنا عن هذا السؤال بأن الإمام الحسين عليه السلام خرج عز للإسلام، فإن هناك من سيشكل علينا بالقول: "ولماذا تبكي على يوم فيه عز للإسلام والمسلمين أيسوؤك أن ترى عز للإسلام؟
في المقابل، إن قلنا إن خروجه ومقتله ذلاً للإسلام والمسلمين سيرد علينا إشكال آخر، وهو "وهل نسمي الحسين مذل الإسلام والمسلمين؟" (لأن الحسين في معتقدك أيها الشيعي يعلم الغيب، ومنها يكون الحسين قد علم أنه سيذل الإسلام والمسلمين).
وللإجابة عن كل ما تقدم نقول:
إن موقف الإمام الحسين عليه السلام كان عزًّا للإسلام، ولكن بقتله انثلم الإسلام وذل المسلمون.
أي أن الإمام الحسين عليه السلام كان معزا للإسلام، وقد ضحى بنفسه الطاهرة، وبأبنائه، وإخوته، وأبناء عمومته، وأصحابه، ورضي بسبي نسائه، من أجل إعزاز دين الله تعالى.
إلا أن مواقف الذين حاربوه لما قتلوه انثلم الإسلام، وانمحق الحق، لأنهم خذلوا أولياء الله، ونصروا أعداءه.
والشيعة لا يبكون على الإمام الحسين عليه السلام إلا لمحبتهم وموالاتهم له، وللتأكيد على أنهم يسيرون على منهاجه، وأنهم يرون صحة موقفه، وينكرون جرائم أعدائه المحاربين له، ويتبرؤون منهم، ومن أشياعهم، وأتباعهم، ومن كان على طريقتهم، لا أنهم يبكون على اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام والمسلمين.
ولا منافاة بين كون الإمام الحسين أعز الله تعالى به الإسلام وبين البكاء عليه، فإن من ضحى بنفسه في سبيل الله وكانت مواقفه عزًّا للإسلام والمسلمين، لا محذور في البكاء عليه محبة له، وتأييداً لمواقفه، وإحياء لأمره.
- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع "الأئمة الإثني عشر".
«ولَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ»
الحديث عن هذا الموضوع طويل ولم افكر لحظة في ان اخوض فيه أو أدعو لهكذا ممارسات او انتصر لها ولكنها همسة في اذن المثقفين من الذين لا يطل علينا شهر المحرم حتى نراهم وقد اوقدوا للاحتجاج نارا يصل لهيبها الى عنان السماء ..
التطبير ليس سببا للتخلف فللتخلف عوامله السياسية والاقتصادية ولو كان سببا لكان العراقيون الان في موقع متقدم حضاريا بعد 20عاما من منع النظام البائد لعموم لشعائر الحسينية, وهي ممارسة موجودة عند الكثير من الشعوب في العالم كجزء من مثيولوجيتها او طقوسها الدينية بغض النظر عن رصيد تلك الشعوب الحضاري .. كالكريسماس في اغلب دول الغرب ويوم الخصوبة في اليابان حيث يطوف الالاف من الناس نساء ورجالا الشارع وهم يحملون مجسمات من الفلين للعضو الذكري ويوم الخوف في البرازيل حيث يرتدي الالاف اقنعة مخيفة ويجوبون الشوارع وغيرها و لايمكن ان نقول عن هذه الدول انها متخلفة.
أضف الى اصرار اولئك المثقفين على جعل النموذج الغربي معيارا للحضارة وكأن الغرب بقعة سماوية لا يطأها غير الملائكة.. الشارع الغربي مسرح دائم لجريمة القتل ومشاهد العنف وحرب العصابات المخيفة .. مراهنات المصارعة الحرة التي تدر على منظميها ارباحا طائلة من انثيال آلاف الغربيين على هذا اللون من الرياضة سواء بالحضور الفعلي للصالات المخصصة لها او على مواقع الانترنت, ولا أظن إنني بحاجة الى الاشارة للشبه البالغ بين الصورة المرفقة واي صورة تمثل ظاهرة التطبير, واذا كان للتطبير دور في بث روح العنف في اجيالنا فلن يكون كتأثير المحطات الفضائية التي لا تنفك عن بث افلام الرعب بمشاهد العنف والدم المقزز والتي تنتجها هوليود.
هؤلاء المثقفون من كان يريد استعراض عضلاته الثقافية فهو اقل من ان اتحدث اليه ومن كان حريصا على الاصلاح فقد ضل الطريق, لقد نسي ان التفاوت في الوعي والقدرة على الاكتساب الثقافي هي من صميم الطبيعة البشرية .. ومن اللامعقول ان نطالب العوام اصحاب الحرف ان يفهموا ثورة الحسين ع كما يفهمها العلماء والمفكرون .. ان خطابه المتعالي لم يؤدِ ـ على الواقع العملي ـ الا لحالة من القطيعة بينه وبين العوام الذين ينوي اصلاحهم والى حالة من الندية والتخندق.. العامي صار مستفزا سلفا من ذلك الخطاب واعتبره لا يمثل غير حالة مناهضة للحسين ع وخطة للتآمر على التشيع ومظاهر الولاء بعد ان يعتبر ما يقوم به ـ في حدود منظومته الفكرية ـ يمثل الذروة في الانتماء .. وإذا اعتقد المثقف انه انما يؤدي دوره التنويري بأمانة والمفروض من العامي ان يتجاوز حدود وعيه من تلقاء نفسه ليرتقى الدرجة التي تمكنه من تفهم خطابه التنويري فهو هنا يقع في خطأ كبير. لن يكون المثقفون في أي حال من الاحوال افضل من الانبياء الذين هجروا صوامع علياءهم وبذلوا الغالي والنفيس في النزول الى مستوى العامة وتبليغهم ما يردهم مورد الاصلاح بخطاب يفهمونه.. العامي يدافع عن سلوكه بانه تجسيد لصورة تعبر عن استعداده التام لبذل الدم في نصرة الحسين ع والمثقف يطعن في مصداقيته وهنا لا يسعني الا تذكر قول السيد المسيح ع (من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها) ..أظن ان على المثقفين اذا كانوا حريصين بالفعل على الاصلاح الذي اتصور انهم يقصدون به (ان الحسين ع فكر عملاق وقيم فاضلة واحياء ذكراه يتمثل في الارتقاء لذلك الفكر وتطبيق تلك القيم) ان يبتعدوا عن أي خطاب مضاد للشعائر لا يؤدي الا الى الاستفزاز والقطيعة ليخلق لنفسه منفذا يصل به الى اسماع اولئك العوام ليمرر بعد ذلك خطابه التثقيفي في التذكير بهذه القيم وضرورة التقيد بها فإذا ما تم له ذلك وأدى خطابه الى تأثير ايجابي فيهم فان هذا التأثير سيكون عاملا مهما في طرد الظواهر السلبية.. ولهم في الائمة الاطهار أسوة حسنة حين احجموا ع عن أي مواجهة فعلية للحكام الجائرين ليمرروا بذلك تراثهم الفكري والعلمي والاخلاقي الذي فعل فعله الايجابي المطلوب في الامة الاسلامية.
ولا أغفل نقطة مهمة وهي ان المثقف الذي يعلن الجهاد المقدس على انصاف المثقفين والمتاجرين بقضية الحسين ع بإصراره على منهج الصدام المؤدي الى حالة النفور بشكل حتمي إنما يؤدي لهؤلاء المتاجرين خدمة عظيمة حيث يخلي لهم الساحة .
* الشيخ ليث الكربلائي
- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع "الأئمة الإثني عشر".
الأصل في العناوين المأخوذة في الأدلة الشرعية مواضيعا كانت ام متعلقات هو حملها على مدلولها اللغوي ما لم يدل دليل على النقل ومن ثم الاصل فيها انها مُطلَقة من جهة الماهية ما لم يدل دليل على تدخل الشارع في ضبط ماهيتها ومن ثم فان الأصل في تلك العناوين ومصاديقها حملها من حيث كيفية وجودها على طبيعتها المألوفة عند العرف ما لم يثبت بدليل ان الشارع يريد وجودها بنحو خاص. وهذه القضايا الثلاثة من مسلمات علم الأصول.
والعناوين المأخوذة في أدلة الشعائر الحسينية ليست بدعا من ذلك و لكن نلاحظ أن ثمة سيمفونية يعزفها البعض عاما بعد عام حول المرحلة الثالثة اي في كيفية ابراز الشعائر الحسينية الى صقع الوجود، فنجد البعض يُشْرِعُ في كل عام بتصنيف الشعائر الحسينية الى شعائر منصوصة وأخرى غير منصوصة ومن ثم يحكم بشرعية الأولى بينما يوصم الثانية الابتداع وقد فاق هؤلاء حتى السلفية في توزيع تهمة الابتداع في قضية الشعائر، وآخر ما كان من ذلك مقالا قرأته يوم أمس لأحد الكتاب يرى فيه ان عزاء طويريج لا أصل له من الشرعية من جهة انه غير منصوص عليه بعنوانه. ومع ان توزيع الشرعية وعدمها بهذه الطريقة أمر ساذج للغاية لكن سأتوقف عنده في هذا المقال قليلا فقط لأن الكاتب ذاك ينسب نفسه الى طلبة العلم !.
لو تحرينا العناوين الواردة في أدلة الشعائر الحسينية سنجد انها عناوين كلية مطلقة من قبيل (إحياء أمرهم عليهم السلام) و (الحزن والجزع على مصابهم ).
وهذه كلها عناوين ذات حقيقة لغوية عرفية ولا يوجد اي دليل يدل على ان الشارع يطلب خصوص نحوٍ من انحاء وجودها العرفي فلسان (احياء امرهم) لسان عام ينطبق على كل ما يرى العرف ان فيه تذكيرا بهم وكذا لسان (الحزن على مصابهم) فيكون الفرد مخيرا في تطبيق هذه الطبيعة على اي مصداق من مصاديقها ما دام الشارع يطلب الطبيعة من دون من دون تخصيصها بعوارض معينة.ومثل هذا التطبيق لا يعد تشريعا كما لا يعد ابتداعا وذلك من جهة وضوح ان الفرد في صدد الامتثال بالتعبد بالطبيعة المطلوبة عند الشارع الموجودة في هذا المصداق ولا يتعبد بعوارض وخصوصيات المصداق نفسه وهذا له نظائر لا تعد ولا تحصى في الاحكام الشرعية الاخرى من غير باب الشعائر الحسينية كما لا يخفى.
وبهذا اللحاظ يصبح مفهوم الشعائر الحسينية عاما يشمل جميع المصاديق التي تبقى الطبيعة المطلوبة عند الشارع (احياء امرهم والحزن لمصابهم عليهم السلام) محفوظة فيها وما من شك ان في عزاء طويريج وما شابهه عرفا احياءً لذركهم وحزناً على مصابهم فهو مطلوب عند الشارع من هذه الحيثية وما لم يتم تجريده منها عرفا لا وجه للدعوة الى رفع اليد عنه نعم يصح ايضا رفع اليد عنه في حال انطباق عنوان ثانوي على الموضوع يُخرِجُه عن حكمه الأولي وهو غير متوفر في المقام.
وهنا ينبغي الالتفات الى ان قوله تعالى: " وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ " يشمل جميع الشعائر الحسينة من جهة ضوابط التعامل مع النص الآنفة الذكر نفسها حيث ان المدلول اللغوي للشعائر هو كل ما لله فيه أمر أشعر به وهو عام يشمل جميع اوامره تعالى وان اختلفت درجات انطباق عنوان الشعائر عليها لذا قال بعض الأعلام من السنة والشيعة ان الشريعة كلها شعائر ولكن لكل درجته.
وختاما أقول من المؤسف جدا ان يتخلى بعض من ينسب نفسه الى طلبة العلم عن وظيفته التي هي الهداية والارشاد ويتلبس بنقيضها حيث يكون مصدرا للصدود والادبار والأكثر أسفا ان يسلك في ذلك مداخل يعرف مخارجها اقل الطلبة فمن المستبعد جدا انه لا يعرفها غير اني اقول لهؤلاء وعن خبرة عمرها سنوات طوال بفضل تواجدي في دوائر ومؤسسات معينة : اطمئنوا مهما قدَّمتم من تنازلات ومجاملات ومهما وصموكم بالحداثة يبقى في واقع الأمر لن يرضى عنكم علماني ولا شيوعي مالم تدخلوا في ملته.. فباسم الله تخلصوا من ضنك عيشة أنصاف الهويات وحددوا هوياتكم أيا كان اختياركم؛ فمن أسباب ضنك العيش ان يكون المرء قلقا في هويته. والله المستعان.
جميل عودة إبراهيم
- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع "الأئمة الإثني عشر".
ببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت ممن يبيع المخدرات والممنوعات، أو كنت ممن يتعاطها، أو كنت ممن يٌسهل نقلها بين الشباب والشابات المراهقين، فتشارك في قتلهم، وشل حركتهم، وتعطيل دورهم الاجتماعي، حتى لو تبرعت بأموالك كلها في محرم الحرام.
ولن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت تبيع المسكرات أو تتناولها. ولن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت تلعب القمار، وتتكسب من أموال الآخرين، وتبيض أموالا ليس لها منشأ، حتى لو بنيت موكبا كبيرا، وأنفقت عليه من مالك مالا كثيرا. ولن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت من أصحاب محال الدعارة، تشغل في محلك الفتيات القاصرات الهاربات من أهلن، وتجتذب أراذل الناس، حتى لو قررت أن تغلق محلك مؤقتا، خجلا من الحسين وأتباعه. فهذه الأعمال كلها لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
ببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت تحمل سلاحا، توجهه نحو الأبرياء والأطفال والنساء، لتنتقم من هذا الشخص أو ذاك الشخص، فتهاجم بأسلحتك الخفيفة والثقيلة العشائر، والقرى الآمنة، فتروع سكانها، وتهدم أبنيتها، وتخرب معالمها، وكأن القانون أنت، والحاكم أنت، ثم تنصب في طريق زوار الحسين المواكب والأعلام، وتجود بالمال، وتنحر الذبائح، فهذه الأعمال كلها لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
ببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت تكذب، وتفتري، وتتهم الناس، جهارا نهارا، من دون تروي، ومن دون دليل، فتشيع في المجتمع ظاهرة الكذب والافتراء على الآخرين، فتصور الحق باطلا، وتصور الباطل حقا، سواء أقمت ذلك بنفسك، أو استعملت وسائل التواصل الاجتماعي، أو كنت تمتلك قناة فضائية، حتى ولو نقلت مراسم عاشوراء على قناتك مباشرة. فهذه الأعمال كلها لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
ببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت تغش في معاملاتك التجارية والصناعية، وتبيع بالربا، وتأخذ أموال الناس ظلما وعدوانا، فتبرعك لأعمال الخير والبر في طريق الحسين لن يجعلك من أنصار الحسين، فتلك الأعمال عند الله هباء منثورا. وهذه الأعمال لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
وببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت موظفا في مؤسسة حكومية أو غير حكومية، فتقضي وقتك في أمور ليست من صميم عملك، وليست عمن تتقاضى عليه الأجر، وتتعامل مع المواطنين في مؤسستك كأنهم أعداء لك، فتتهرب من مسؤوليتك، وتأجل أعمالهم إلى أجل غير مسمى. وتتقاضى منهم أموالا غير قانونية، على سبيل الهدية، لقاء عمل قمت به هو من مسؤولياتك الوظيفية. ولن تكون على خط الحسين؛ حين تفضل بعض المواطنين على الآخرين، لا لسبب إلا لأنهم من معارفك أو أصدقاءك أو ممن أوصيت بهم. فهذه الأعمال لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك على خط الحسين (ع).
وببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت مسؤولا حكوميا، رفيع المستوى، رئيسا أم وزيرا أم مديرا، وأنت لا تهتم بشؤون الناس، ولا تخلص في عملك، ولا تنفذ ما وعدت به من خدمات ومشروعات وبرامج، ولا تراقب من هم دونك في المسؤولية، فالمحاسبة جزء من مسؤوليتك، كما أن التنفيذ جزء من مسؤوليتك.
ولن تكون في طريق الحسين؛ إذا وقعت عقدا أو اتفاقية أو برنامجا، يصب مجراه في جيبك، وجيب حزبك. ولن تكون في طريق الحسين عندما تأتي بأناس ليسوا قادرين على إحداث تغييرات واصلاحات في مؤسستك، وكأنك مثل الذي سبق لا يهش ولا ينش. فهذه الأعمال لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
ببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين، إذا كنت نائبا برلمانيا، تتهاون في مسؤولياتك، وتتقاعس عن واجباتك، وتتغيب عن مواعد جلسات المجلس، وتساوم الفاسدين، وتغض النظر عن فسادهم، مقابل حصة في مال أو منصب، توعد به لأحد أقرباءك أو أصدقاءك. فهذه الأعمال لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
وببساطة شديدة؛ لن تكون في طريق الحسين؛ إذا كنت رجل دين، ظاهرك غير باطنك، تقول ما لا تفعل، وتحلل لنفسك ما تحرمه على الآخرين، فتحلل حرام الله، وتحرم حلاله، وتحرض الناس بعضهم على بعض، وتأكل مال الأيتام ظلما وعدوانا، فهذه الأعمال لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
ولن تكون في طريق الحسين؛ وأنت تجلس في بيتك من دون عمل، تتكل على الآخرين في شرابك وطعامك ولباسك. ولن تكون في طريق الحسين؛ وأنت تسئ التصرف مع والدتك ووالدك فلا تؤدي حقهما، ومع زوجتك وأولادك فلا تنصفهم من نفسك، ومع جيرانك فلا تراعي حرمتهم. فهذه الأعمال لها طرق، وللحسين طريق، وإن تراءى لك ولغيرك أنك في طريق الحسين (ع).
نعم، لكي نكون في طريق الحسين، مع أصحاب الحسين، وأنصار الحسين، فعلينا جميعا، أن نطهر أنفسنا من رجس الذنوب بالاستغفار، والتوبة إلى الله، من كل ذنب ارتكبناه، وأن نعاهد الله ورسوله وأهل البيت عليهم السلام أن لا نكرر هذه الذنوب، ولا نظلم الآخرين، ونغمط حقوقهم، ما استطعنا لذلك سبيلا، وأن نصحح مسيرة حياتنا، فترك كل الطرق والدروب المنحرفة التي سلكناها، ونتجه جميعا نحو طريق الحسين، لأنه أقصر الطرق إلى صلاح ديننا ودنيانا والى رضوان الله عز وجل.
*نقلاً عن شبكة النبأ
د . الشيخ عماد الكاظمي
- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع "الأئمة الإثني عشر".
قال الإمام الحسين (عليه السلام): ((إِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِـراً، وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً، وَلا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ في أُمَّةِ جَدِّي، أُرِيدُ أنْ آمُرَ بِالمَعْروفِ وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وَأَسِيرَ بِسيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ)). ([1])
إنَّ في هذا النص لكلمة الإمام الحسين (عليه السلام) أموراً مهمة متعددة ينبغي علينا قراءتها بتأمل ودقة، إذ إنه (عليه السلام) أراد بهذه الكلمة أنْ يبيِّنَ الأُسس التي من أجلها ستكون نهضته ضد الظلم والطغيان، فإننا من خلال هذه الكلمة العظيمة التي قالها الحسين (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية عندما سأله عن خروجه من مكة، أراد أنْ يؤكد للأجيال حقيقة ذلك، بل يؤسس لكُلِّ نهضة ترجو التحرر والقضاء على كُلِّ ظلم يؤسَّس من قبل الحكام والمتسلطين، ويمكن قراءة هذا النص بأبعاد ثلاثة وهي كالآتي:
أولاً: البعد السياسي (الحركي).
ثانياً: البعد الفقهي.
ثالثاً: البعد العقائدي.
فهذه الأبعاد الثلاث يمكن قراءتها والأخذ بها من خلال التأمل الدقيق في هذه الكلمة العظيمة، ونحاول إنْ شاء الله تعالى معرفة الفهم الحقيقي لكل بُعْدٍ من هذه الأبعاد.
- أولاً: البُعد السياسي (الحركي).
إنَّ هذا البُعد يكمن في قوله (عليه السلام): ((إِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِـرًا، ولا بَطِرًا، ولا مُفْسِدًا، ولا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ في أُمَّـةِ جَدِّي)) فمن خلال هذا المقطع أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أنْ يبيِّنَ الأسس التي تقوم عليها نهضته المباركة، فلو أننـا تأمَّلنا ٱبتداء في التركيب اللغوي لهذا المقطع لرأينا أنه (عليه السلام) قد ٱستعمل أسلوباً مهماً من الأساليب البلاغية عند العرب وهو التأكيد بالنفي والاستثناء وهو القصر الحقيقي للتوكيد على أمرٍ عظيم.([2])
فالحسين (عليه السلام) يبين الأصل والأساس الذي يقوم عليه هذا الخروج، وهو درس بليغ لكُلِّ مَنْ يريد الخروج والإصلاح والصلاح، ويجب أنْ يكون هذا الخروج لا يشوبه أمور أربعة ليكون صالحاً وفيه الفتح والظفر، وهذه الأمور الأربعة هي:
1- الأَشِر.
فهذه أول صفة أراد أنْ ينفيها الإمام الحسين (عليه السلام) عن خروجه، فالأشر في اللغة كما قال ٱبن فارس: ((الهَمْزَةُ والشِّينُ والرَّاءُ أَصْلٌ واحِدٌ يَدُلُّ على الحِدَّةِ، ومِنْ ذلِكَ قَوْلُهُمْ: هُوَ أَشِرٌ أي: بَطِرٌ مُتَسَرِّعٌ ذو حِدَّةٍ)) ( [3])، وقيل إنَّ الأشر هو: ((أَشَدُّ البَطَرِ)). ([4])
فالحسين (عليه السلام) أراد أنْ يعلن نفي خروجه لأجل هذه الصفة أو الغاية.
2- البَطَر.
وهذه الصفة الثانيـة التي أراد أنْ ينفيـها الإمـام الحسـين (عليه السلام) عن خروجه ، فالبطر ينصرف إلى تعاريف متعددة منها:
* التبختر. * قلة احتمال النِّعمة. * الدَّهَشُ والحَيْرَةُ وأَبْطَرهُ أَي أَدهشه. * الطُّغيان في النِّعْمَةِ. * كراهة الشيء من غير أَنْ يستحق الكراهية. * الطغيان عند النعمة وطول الغنى. وفي الحديث الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ هو أَنْ يجعل ما جعله الله حقّاً من توحيده وعبادته باطلاً. *هو أَنْ يتخير عند الحق فلا يراه حقّاً. * هو أَنْ يتكبر من الحق ولا يقبله. * وقال الليث البَطَرُ كالحَيْرَة والدَّهَشِ. * البَطَرُ كالأَشَرِ وغَمْطِ النعمةِ. ([5])
فهذه المعاني أراد الحسين (عليه السلام) أنْ ينفيها عن خروجه العظيم، ومن خلال هذه التعاريف نرى أنَّ هناك علاقة بين الأشر والبطر من جهة، قال الراغب الأصفهاني (ت502ﻫ/1108م): ((فَالأَشِرُ أَبْلَغُ مِنَ البَطَرِ، والبَطَرُ أَبْلَغُ مِنَ الفَرَحِ، فَإنَّ الفَرَحَ وَإِنْ كانَ في أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ مَذْمُوماً لِقَوْلِهِ تَعَالى: ﴿إنَّ ٱللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ﴾ [القصص: 76] فَقَدْ يُحْمَدُ تَارَةً إِذا كَانَ عَلى قَدَرِ ما يَجِبُ)). ([6])
3- الفَسَاد.
وهذه هي الصفة الثالثة التي ينفيها الحسين (عليه السلام) عن خروجه، فالفساد: ((نَقِيضُ الصَّلاحِ)) ([7]) ، واللفظ واضح في معناه، فلم يرد أيَّ إفساد في المجتمع، بل يريد صلاحه، لا كما يريد أنْ يصوِّره فقهاء السلطان، والمأجورون للدعاية الأموية.
4- الظُّلم.
وهذه هي الصفة الرابعة التي ينفيها الحسين (عليه السلام) عن خروجه وهو الظلم والاعتداء على الآخرين من قبل المسلمين وغيرهم، فالظلم كما عُرِّف: ((وَضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَأَصْلُ الظُّلْمِ الجَوْرُ ومُجاوَزَةُ الحَدِّ)). ([8])
فالحسين (عليه السلام) أراد أنْ ينفي عن خروجه ما تقدم من الصفات؛ لئلا يقول قائل إنه قد خرج من أجل تفرقة المسلمين، لذا عَقَّب ذلك بقوله: (إِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ) فهو بذلك قد حصر خروجه لأجل أمر واحد وهو (الإصلاح)، والإصلاح هو ضد الإفساد والفساد، وفي ذلك إعلانٌ منه بوجود فسادٍ في المجتمع أوجب على الحسين (عليه السلام) أنْ يخرج ويُصلح ما أفسده الظالمون والطغاة، وخصوصاً أنه قد ذكر لفظ (أمة جدي) ليريد القول: إنَّ هذه الأمة التي ظهر فيها الفساد هي الأمة التي أنقذها جدي النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقام بإصلاحها وإنقاذها من الضلال بنور الإسلام، ولكن تلك الجهود التي بذلت من قبل يحاول الأمويون -اليوم- أنْ يقضوا عليها، والحسين هو نفسُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجب عليه أنْ يقوم بالعمل نفسه، وبذلك يؤكد أنَّ خروجه ليس لأجل دنيا، أو مصلحةٍ من مصالحها وآثارها، بل من أجل الآخرة والحفاظ على روح الشريعة المقدسة، وتحقيق العدالة والخير والصلاح للمجتمع.
إنَّ في ذلك رسالة عظيمة وصريحة لكُلِّ مَنْ يريد القيام بثورة ضد الظلم والطغيان بأنْ يكون خروجه على أساس ذلك، ووفق ما تقدم ويبتغي بها صلاح نظام كامل ومن أجل تحقيق أهداف الأمة، لا من أجلِ صلاحِ أشخاص وتحقيق أهدافهم، فكانت هموم الأمة وما يتعلق بها هو هدف الإمام الحسين (عليه السلام) في خروجه، وهذا سرٌّ من إسرار خلود ثورته المباركة؛ لأنها كانت من أجل الآخرين وليس لنفسه كما في الدعوات التي كانت تخرج في ذلك الوقت، وإنْ كان ذلك يؤدي إلى قتله وقتل أهل بيته وأصحابه، فهو بذلك يؤدي رسالة الأنبياء الذين جاؤوا من قبل للصلاح والإصلاح.
([1]) مقتل الحسين (عليه السلام)، عبد الرزاق المقرم ص139
([2]) للتفصيل ينظر: جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبلاغة، أحمد الهاشمي ص189
([3]) معجم مقاييس اللغة باب (أشر)
([4]) لسان العرب باب (أشر)
([5]) المصدر نفسه باب (بطر)
([6]) المفردات في غريب القرآن مادة (أشر)
([7]) لسان العرب مادة (فسد)
([8]) المصدر نفسه مادة (ظلم)
من محاضرات شهر المحرام الحرام ١٤٤١هـ لسماحة السيد منير الخباز
الليلة الأولى: البعد الاجتماعي في الشخصية المحمدية
أهم مضامين المحاضرة:
- القدرة على التعارف تعني القدرة على صنع صداقة ومحبة واكتساب التجارب وهذا ما أشار له القرآن الكريم في إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.
- الإنسان بطبعه إلى الفريق المشابه أكثر من الفريق المختلف.
- الانسان يعيش صراعاً بين الأنا وبين الغير، بين نحن وهم، وهو صراع بين غريزتين، غريزة البقاء الفردي، والبقاء الجماعي.
- تقسيم نحن وهم.. أنا وأنت.. بداية المشاكل الاجتماعية والتفرقة.
- الهدف من وجود الإنسان أن يكون مرآة لله وأن تتجلى فيه صفات الله، وتجلي صفة الرحمة الإلهية في الإنسان عندما يصبح مضحياً من أجل غيره.
- أسمى مرآة لله هو النبي محمد صلى الله عليه وآله.
- كربلاء مدرسة للمثل وأروعها مثال الإيثار وصوره الكثيرة التي تجلت في مواقف أهل بيت وأصحاب الحسين عليه السلام.
يورد البعض إشكل على الشيعة فقالوا: روى الكليني في الكافي عن أحمد بن محمد رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يكره السواد إلا في ثلاث: الخف، والعمامة، والكساء. (فروع الكافي للكليني 6 /449).
وروى الحر العاملي في وسائله عن الصدوق عن محمد بن سليمان مرسلاً عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قلت له: «أصلي في القلنسوة السوداء؟ قال: لا تصل فيها؛ فإنها لباس أهل النار. (الوسائل 3 /281).
وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام مرسلاً، وفي العلل والخصال كما في الوسائل عنه عليه السلام مسنداً أنه قال لأصحابه: لا تلبسوا السواد؛ فإنه لباس فرعون.
بل وردت بعض الأخبار عند الشيعة تبين أن السواد من زي بني العباس أعدائهم، مثل ما روي عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلاً أنه قال: روي أن جبريل عليه السلام أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وعليه قباء أسود ومنطقة فيها خنجر، فقال صلى الله عليه وآله: يا جبرائيل ما هذا الزي؟ فقال: زي ولد عمك العباس، فخرج النبي صلى الله عليه وآله إلى العباس فقال: يا عم، ويل لولدي من ولدك، فقال: يا رسول الله أفأجبُّ نفسي؟ قال صلى الله عليه وآله: جرى القلم بما فيه.
وقد روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه 1/252 بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام أنه قال: أوحىالله إلى نبي من أنبيائه عليهم السلام: قل للمؤمنين لا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.
وبعد هذه الأخبار وغيرها في ذم الأئمة للسواد، وأنه لباس أعداء الشيعة:
لماذا يلبس الشيعة السواد ويعظمونه، ويجعلونه لباس الأسياد؟!!
وللإجابة نقول:
1- أن الروايات التي ذكرها المخالف أكثرها مراسيل لا يصح الاحتجاج بها، وكان اللازم على المخالف أن يحتج على الشيعة بروايات صحيحة السند.
ومع الإغماض عن أسانيد تلك الروايات فإنها تدل على أن لبس السواد مكروه، وليس بمحرم، ومن لبس السواد فأقصى ما فعله هو ارتكاب المكروه لا المحرم.
2- أن ظاهر الروايات هو كراهة اختيار لبس السواد من دون مناسبة، أو من أجل التشبّه بأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله الذين اتخذوا السواد شعاراً لهم، أما لو لبسه حزناً في مصيبة، أو لزيادة الستر كما هو الحال بالنسبة إلى النساء، أو لأنه لا يملك غيره، أو للتوقي من البرد مثلاً، أو لغير ذلك من الغايات الحسنة، فإنه لا كراهة فيه.
3- أن أحاديث أهل السنة دلت على أن النبي صلى الله عليه وآله كان يلبس السواد.
فقد أخرج مسلم بسنده عن عائشة، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود1.
والمرط: كساء يكون تارة من صوف وتارة من شعر أو كتان أو خز. قال الخطابي: هو كساء يؤتزر به
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)2.
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء3.
وعن عمرو بن حريث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء3.
وعن عائشة قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشتد به وجعه، قالت: فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، ويقول: «قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحرِّم ذلك على أمته4.
والخميصة: ثوب خز أو صوف مُعْلَم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء مُعْلَمَة، وكانت من لباس الناس قديماً5.
وعن عبد الله بن زيد قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه6.
وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس بُردة سوداء، فقالت عائشة: ما أحسنها عليك يا رسول الله، يشوب بياضك سوادها، ويشوب سوادها بياضك. فبان منها ريح، فألقاها، وكان يعجبه الريح الطيبة7.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جُبَّة من صوف سوداء، فلبسها فلما عرق وجد ريح الصوف، فخلعها، و كان يعجبه الريح الطيب8.
والأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وآله كان يلبس السواد كثيرة جدًّا، وأنا أتعجب من هذا المخالف الذي يشكل على الشيعة بأمر ثبت عندهم بأحاديث صحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله كان يفعله.
4- أن جملة من علماء أهل السنة أفتوا باستحباب لبس السواد.
فقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية ما يلي: يندب لبس السواد عند الحنفية، قال ابن عابدين: «ندب لبس السواد؛ لأن محمداً ذكر في السير الكبير في باب الغنائم حديثاً يدل على أن لبس السواد مستحب».
وقال في الفتاوى الهندية: (الباب التاسع في اللبس: ما يكره من ذلك، وما لا يكره) ندب لبس السواد، وإرسال ذنب العمامة بين الكتفين إلى وسط الظهر، كذا في الكنز.
وأفتى آخرون بأن لبس السواد جائز، ليس بمكروه.
قال الملا علي القاري: وفي الجملة جاز لبس السواد في العمامة وغيرها وإن الأفضل البياض نظراً إلى أكثر أحواله عليه الصلاة والسلام فعلاً وأمراً، وأغرب الشافعية في قولهم: «لبس الخطيب السواد بدعة، فليتركه ويلبس الأبيض، إلا إن أُكْرِه بخصوصه كما كان يفعله العباسيون»، وما أحسن عبارة الطيبي: فيه جواز لبس السواد في الخطبة وإن كان البياض أفضل9.
وذكر بعضهم أن من علامات المسلمين: لبس السواد.
قال السرخسي في المبسوط: وأما السواد من علامات المسلمين، جاء في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا لبستْ أمَّتي السواد فابغوا الإسلام»، ومنهم من روى: «فانعوا»، والأول أوجه، فقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّر العباس رضي الله عنه بانتقال الخلافة إلى أولاده بعده، وقال: «من علاماتهم لبس السواد»، والكفار لا يلبسون السواد10.
وقال الصنعاني في بدائع الصنائع 1/303: ولو اجتمع الموتى المسلمون والكافر يُنظر إن كان بالمسلمين علامة الفصل بها يفصل، وعلامة المسلمين أربعة أشياء: الختان، والخضاب، ولبس السواد، وحلق العانة.
5- أن علماء أهل السنة اتفقوا على أنه يجوز للمرأة أن تلبس السواد في المصيبة.
فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما يلي: اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها لبس السّواد من الثّياب، ولا يجب عليها ذلك، بل لها أن تلبس غيره. واختلف فقهاء الحنفيّة في المدّة الّتي يجوز لها أن تلبس فيها السّواد، فقال بعضهم: لا تجاوز ثلاثة أيّام. ولكنّ فقهاء المذهب - ومنهم ابن عابدين - حملوا ذلك على ما تصبغه الزّوجة بالسّواد، وتلبسه تأسّفاً على زوجها، أمّا ما كان مصبوغاً بالسّواد قبل موت زوجها، فيجوز لها أن تلبسه مدّة الحداد كلّها. ومنع الحنفيّة لبس السّواد في الحداد على غير الزّوج. وقال المالكيّة: إنّ المحدّ يجوز لها أن تلبس الأسود، إلاّ إذا كانت ناصعة البياض، أو كان الأسود زينة قومها. وقال القليوبيّ من الشّافعيّة: إذا كان الأسود عادة قومها في التّزيّن به حرم لبسه، ونقل النّوويّ عن الماورديّ أنّه أورد في «الحاوي» وجهاً يلزمها السّواد في الحداد11.
فإذا جاز لبس المرأة للسواد في الحداد والمصيبة، فإن مصابنا بالإمام الحسين عليه السلام عندنا أشد من مصاب المرأة بزوجها، فجوازه فيه أولى.
6- أن الشيعة لم يجعلوا لبس السواد شعاراً لهم بحيث يلبسونه في تمام السنة، وفي جميع الأوقات، وإنما يلبسون السواد في أيام الحزن على مصائب أهل البيت عليهم السلام، فهو في حقيقته نوع من التعبير عن الحزن عليهم، وعن مودتهم، والموالاة لهم، وهذه غاية شريفة يحسن لأجلها لبس السواد.
7- أن بعض الأحاديث المروية في كتب الشيعة دلَّت على جواز لبس السواد.
منها: ما رواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع بسنده عن داود الرقي، قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد الله عليه السلام عن لبس السواد، قال: فوجدناه قاعداً وعليه جبة سوداء، وقلنسوة سوداء، وخف أسود مبطن، ثم فَتَقَ ناحية منه، وقال: «أما إن قطنه أسود»، وأخرج منه قطناً أسود، ثم قال: بيِّضْ قلبك، وألبسْ ما شئت12.
ومنها: ما رواه البرقي في المحاسن بسنده عن عمر بن زين العابدين عليه السلام، قال: لما قُتل جدِّي الحسين المظلوم الشهيد لبس نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد، ولم يغيِّرنها في حرٍّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يصنع لهن الطعام في المأتم13.
قلت: وعليه، يمكن الجمع بين هذه الأخبار وتلك بأن تحمل الأخبار الناهية على جعل السواد شعاراً، أو لبسه من أجل التشبّه بأعداء الله تعالى، وتحمل الأخبار المبيحة على لبسه حزناً على مصائبهم عليهم السلام، أو لأي غاية أخرى حسنة.
قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان14.
1. صحيح مسلم 3/1649
2. صحيح مسلم 4/1883
3. a. b. صحيح مسلم 2/990
4. مسند أحمد 6/274
5. النهاية في غريب الحديث 2/81
6. سنن أبي داود 1/302. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/215، وإرواء الغليل الألباني 3/142
7. صحيح ابن حبان 14/305. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين
8. المستدرك 4/209، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في سلسلته الصحيحة 5/168
9. مرقاة المفاتيح 5/599
10. المبسوط 10/199
11. الموسوعة الفقهية الكويتية
12. علل الشرائع 2/347
13. المحاسن 2/420
14. الحدائق الناظرة 4/160
لم يكن حسين موظفا (26 عاما) حكوميا او صاحب محل تجاري عندما قرر مع اصدقائه تأسيس موكب حسيني لخدم الزائرين في الاربعين بعد ان تبلورت فكرتهم عقب نقاش طويل.
يحصل حسين على اموال بسيطة مقابل عمله في البناء كما غالبية اصدقائه.
اتفق الشاب العشريني مع اصدقائه على تأسيس صندوق مالي لجمع التبرعات لصالح الموكب يقوم على اساس الدفع الشهري للمشتركين, كما اتفقوا ايضا على تسمية الموكب بـ (موكب شباب علي الاكبر).
يقول حسين لـ(موقع الأئمة الإثني عشر) ، "كانت الفكرة في بدايتها تقوم على اساس ان نؤسس موكب يضم شباب منطقتنا الراغبين بتقديم الخدمة للزائرين بشكل طوعي ومستقل وبجهود شخصية".
ويضيف، كل الشباب المشتركين والمؤسسين للموكب هم الكسبة ومحدودي الدخل وليس فينا اي موظف ولا نحصل على دعم باي شكل من تجار او جهات اجتماعية او سياسية او دينية".
ويمضي بالقول ، "جميع ما يحتاج اليه الموكب وما يقدمه من خدمات للزائرين يتم توفيرها من مبالغ الصندوق، وهذه المبالغ تجمع في الصندوق طوال العام ليتم الاستفادة منها في الزيارة".
وعلى مدار اسبوع كامل يتخذ حسين ورفاقه من الطريق بين العاصمة العراقية بغداد ومدينة كربلاء مقرا لموكبهم لتقديم الطعام والشراب وتوفير السكن للزائرين بشكل مجاني دون كلل او ملل.
موكب بصري في مدينة الحلة
وفي مكان اخر من العراق ، وعلى الطريق الرابط بين كربلاء ومحافظة بابل يتوسط موكب كبير جانب طريق الزائرين المعروف بطريق "يا حسين" تتقدمه يافظة كتب عليها "موكب انصار الحجة اهالي البصرة".
وعلى طريق الزائرين امام الموكب يفترش شباب لم يتجاوزوا العشرينات من العمر الاسفلت واضعين الاواني الكبيرة المعروفة محليا بـ (الصواني) مملؤة بأشهى المأكولات وهم ينادون بأصوات عالية "تفضل يا زاير" في مشهد قل نظيره.
يتخذ هذا الموكب من مدينة بابل مقرا لتقديم خدماته للزائرين بشكل سنوي، رغم بعد المسافة بين بابل ومدينة البصرة التي تبعد اكثر من 400 ميل الى جنوب العراق.
يشتهر الموكب البصري بتقديم الاكلات البصرية الشهيرة كـ "المسموطة والمطبك" وهي اكلات شعبية يدخل السمك فيها كوجبة رئيسية.
يقول جاسم البيضاني (48 عاما ) وهو كفيل الموكب، ان الموكب يتكون من مجموعة من الاصدقاء من منطقة الجمعيات في البصرة بدأوا تأسيسه منذ 6 اعوام.
وعن الدعم المالي للموكب، يقول البيضاني بلهجته البصرية "حبوبي احنه ما نستلم دعم غير من اعضاء الموكب".
ويوضح ، "نعتمد في الموكب على اموال الاشتراك الشهري للمؤسسين ، حيث نقوم بجمع مبلغ شهري قدره 25 الف دينار عراقي كل شهر طوال السنة تجمع هذه الاموال في صندوق وتستخرج في زيارة الاربعين".
وعن مقدار المواكب التي تستخرج من صندوق الموكب، يشير البيضاني الى انها "تتراوح بين 10 – 15 مليون دينار عراقي سنويا".
ويتابع حديثه بالقول، احيانا تحصل حالات فردية كأن يأتي متبرع معروف ومزكى من احد المؤسسين يقدم مبلغ معين للموكب نتولى نحن صرفه في الحاجات الضرورية للموكب.
وعن كيفية صرف هذه الاموال، يقول البيضاني، "نحدد ما نحتاج اليه في اعداد الطعام للموكب قبل الخروج من البصرة قبل زيارة الاربعين، ونعد قائمة لذلك بالاحتياجات دون نقص، ثم نتوجه السوق لشرائها بأموال الصندوق".
ويستبق الموكب البصري زيارة الاربعين بتحضير المواد الغذائية في 4 شاحنات حمل كبيرة تحمل مختلف انواع الاطعمة والاغذية التي يتم توزيعها على الزائرين، والتي يتم شراؤها من اموال صندوق الموكب، بحسب البيضاني.
"مصاهرة" بسبب موكب حسيني
ويذكر البيضاني حادثة تسجيل الموكب ، اذ يقول "عندما اردنا تسجيل الموكب في مدينة بابل ونحن من اهل البصرة طلب منا احضار شخصين من سكنة المحافظة ليكونا كفيلين للموكب".
ويضيف ايضا ، صادفنا ايضا ان احد المواكب من المدينة ارادوا التسجيل ايضا وهو ما دفعنا الى التحدث اليهم والطلب منهم بتكفلنا، وسرعان ما وافقوا بحفاوة واتنان عندما علموا اننا من البصرة".
ويتابع بالقول، "بعد اكمال الاجراءات اصر هؤلاء على استضافتنا عندهم بإلحاح شديد، وافقنا وذهبنا معهم، ومنذ تلك اللحظة بدأت علاقة الاخوة بيننا لتطور فيما بعد الى علاقة مصاهرة ونسب لاحقا".
موكب يقلص خدماته في زيارة الاربعين !!
في السياق ذاته، يتحدث سجاد الفتلاوي وهو احد خدمة "موكب الصديقة الطاهرة" وهو من اكبر المواكب الحسينية في قضاء الهندية (طويريج) عن الموكب قلص نسبيا من خدماته للزائرين خلال السنوات الثلاث الماضية.
واوضح الفتلاوي ، ان سبب ذلك يعود لتوفير الاموال وتحويلها الى الدعم اللوجستي للمقاتلين من متطوعي فتوى الدفاع الكفائي والقوات الامنية خلال سنوات الحرب ضد تنظيم داعش الارهابي.
ولفت الى ان الموكب لم يقتصر دعمه للمقاتلين على ايام معدودة بل استمر في دعمهم على مدار الاعوام الماضية بتوفير الطعام والاغطية والملابس والادوية لهم وتزويدهم ببعض الاموال ومراعاة عوائل بعض المقاتلين من العوائل المتعففة.
وبين الفتلاوي، ان موكب الصديقة تبنى ايضا بعض المبادرات للمساهمة في تشييد دور سكنية لبعض المقاتلين من العوائل المتعففة طيلة السنوات الثلاث الماضية.
ويمضي بالقول "ان الموكب وعلى مدار السنة يحرص على خدمة زوار الامام الحسين عليه السلام في ايام الخميس وليالي الجمعة حيث يفتح ابوابه على طريق كربلاء ويستضيف الزائرين ويقدم لهم وجبات الافطار كل اسبوع".
ماذا يفعل اصحاب المواكب طيلة ايام السنة؟
وعن بقية ايام السنة ، يقول الفتلاوي ، "ان جميع خدمة الموكب هم من الكسبة واصحاب المزارع والموظفين وهم في معظم ايام السنة منشغلين بإعمالهم، ولكن في مواسم الزيارات المليونية يتركون كل شيء وراءهم ويتوجهون لخدمة الزائرين".
في كربلاء حيث تقصد الملايين سنويا لزيارة الامام الحسين واخيه ابي الفضل العباس عليهما السلام، تضج الشوارع بالمواكب الحسينية التي تقدم الطعام والشراب للزائرين يتفان عجيب.
ازقة المدينة القديمة وشوارعها تضيق ذرعا بتلك المواكب التي بلغت هذا العام 10600 موكب حسيني من مختلف محافظات العراق ومن دول عربية واسلامية دخلوا المدينة لخدمة الزائرين بحسب قسم الشعائر والمواكب الحسينية في العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية.
ومن اشهر المواكب في المدينة القديمة، موكب انصار الزهراء عليها السلام الذي يتخذ من منطقة ما بين الحرمين الشريفين مقرا لتقديم خدماته.
ويضم الموكب عشرات الاعضاء المشاركين بالخدمة او التمويل بينهم ضباط متقاعدون وكسبة واصحاب محال تجارية وموظفون ومزارعون من مختلف مناطق كربلاء المقدسة، بحسب كفيل الموكب لؤي الكربلائي.
يتحدث الكربلائي لـ "موقع الأئمة الإثني عشر" عن استمرار العمل في خدمة الزائرين طوال العام، حيث يقول "في كل ليلة جمعة نبدأ بتجهيز الطعام للزائرين من الظهيرة حتى منتصف الليل".
ويضيف، "في رمضان ايضا يبدأ تحضير وجبات الفطور للزائرين في كل ليلة جمعة الشهر الفضيل".
الاربعين على الابواب.. المرجعية توجه
في الجمعة الماضية (19 / 10 / 2018)، ومع الايام الاولى لانطلاق مسيرة الاربعين ، دعا وكيل المرجعية الدينية العليا السيد احمد الصافي خلال خطبة الجمعة من الصحن الحسيني الشريف اصحاب المواكب الى الالتزام بالنظافة والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة.
كما دعا الصافي ايضا الى ضرورة ان يستفيد الزائرون من وجود المبلغين من اساتذة وطلبة الحوزة العلمية وترك الحياء "المذموم".
ورغم كثرة المواكب الحسينية داخل كربلاء وعلى الطرق المؤدية اليها فان تنافسا شديدا يتصاعد بين هذه المواكب طيلة ايام زيارة الاربعين دون خاسر فيه، حيث يتنافس الجميع على خدمة الزائرين لكن بروح الاخوة والتعاون.
ليسَ مداديَ ممن سبرَ غور التأريخ، ولا يعرف محبرةً غير التي يغمسها ببراءته، مهتديًا طريقه على سجيته، مترجلا بين السطورِ على فطرته، باحثًا عن معناهُ كي يحشو به جوفَ لفظهِ، باحثًا هنا وهناك، مُقلِّبًا بصره بين السطور، عن إصبعٍ مبتور ؛ كي يحكي له سمفونية الإنتصار تلكَ التي رتلها الحسين في (الفجر، وليالٍ عشر)، راح مدادي متأبّطًا حبرهُ ليجلب من ذلكَ الكهفِ جَعبتهُ، علّ بعض السطور المخبوءة بين دفتي التاريخ تخبره عن ذلك الحسين، و عن أحجية الماء ومصدره الحسين، فعجبًا كيف عطشَ الحسين ؟!
للصدى فحيحٌ مهولٌ، يُفزِعُ كلَّ سؤول، اقتربَ المداد من بئر معطلةٍ وقصرٍ مشيد، متسائلًا :
- أين رحل ذوي القصور ؟! أين ذلك الذي قال ملكنا لن يبور؟! أين الذي قال:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحًا * ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
ماذا فعلت بهم يا حسين حتى جعلتَ الماء لا يصلُ إليهم وهو في أيديهم، حقا وعدُ اللهِ مفعولًا حين قال :(وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون )
كانت هنالك فجوة في ذلك الكهف تناديني، فرحتُ حاملا فانوسي خشية ظلمته، فوضعت فانوسيَ وجلستُ على وصيدِهِ، اسمعُ أنينًا قد ملأ صيوانَ أُذُنيَّ، صدًى لقطراتٍ متساقطةٍ كأوراقِ الخريف كأنّها تطرّ الأرض ؛ لتتوسَّدَ ضريحَها الذي آلت أن يكونَ بين التراب، فأخذتُ اختلسُ النظراتِ للولوجِ في الأعماق، فشقّ عينيَّ نورٌ من فجوة الكهفِ، آه، ماذا يفعلُ هنا، ألم ذلك الحسين...
اقتربتُ منه، سيدي ماذا تفعلُ هنا؟ كيف عقروك؟ مَنْ لقطيعِ ناقةِ صالح؟! مَنْ لأيوبَ فقد اندملتْ قدماهُ وما زال يصبر؟! ردَّ عليّ بدمعه المحمر، ترجّل صوبهم فلا ناصر لي ولا معين ولا سفير..
فقلتُ: و ماذا تريد مني أن أفعله ؟! فقال: عليكَ اللحاقُ ببُنيتي المدلَّلَة..
- و من هي ففواطمُكَ كُثُر، و عيالكَ في الأسر، والحزن في حلقومهم مُرّ ...
- إيهٍ على بنيتي السبية، ألم تعرفوا رُقيّة، فالشوقُ أضناها، والحرُّ سمَّرَ وجنيتها الوضّاءتينِ، لهفي على تلكَ المُقلتينِ، يا بسمتي الموؤدةُ وقتَ الصباح، كيف سقوكَ الماءَ القراح؟! أخبروا أم أبيها أنّني سوفَ آتيها، وستكونُ راحتيَّ بينَ راحتيها...
و مداديَ يكتب وصيتَهُ، والحبر قد لاحت حُمْرتُهُ، وا لهفتي على الحسين...
حدّقَ بي ثم قال، انتظر لم ينتهِ المقال، هلّا أخبرتم الطُهْرَ زينبَ أنني معها حين الريح بها تميل، و تارةً أُسعفُها بدمعي حين نوحُها يُطيل، قل لها لقد سمعتُها حين نادت وامحمدا، فبعثت لها فرسي الميمونَ كي ينادي ب(الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها)، فكان صهيلُه أولَ رسالةٍ لها على أن القوم ذبحوني...
قل لها كنتُ أركضُ مع أطفالي حين فرّوا كالطيور، كنتُ أنعى كل طفلٍ حين طأته سنابك الخيل على الظهور، كنت أرى الشيبَ والشبيبة، وهي تُسحقُ بلا ريبة، وقد تعانقت الأضلعُ ونزلت الأدمعُ، ونعى كل حبيبٍ حبيبه...
طأطأتُ رأسيَ الخجول من رأسه، كيف لي رأسٌ مشرأبُ العنق على جسدي، وهو رأسٌ بلا جسد، و هيبتهُ ليس لها حد، كيف يكون لي إصبعٌ أشيرُ به عند الكلام، و كلامي قد تسمَّر في فمي، حين نادى الخيول بإصبعٍ مبتورٍ أن لا تهجمي، ولكنها كانت عن فقهِ عربيتِهِ أعجمية، يا ويلكِ ماذا فعلتِ أيتها الأعوجية؟!
رأيتهُ قد أومئ بإصبعهِ المبتورِ نحو الخيام... ثم تنهّدَ من سطوة اللئام ..
-سيدي ماذا دهاك؟! ما الذي هناك؟!
- آهٍ على الخيام، حرقوها، وبرزت منها ربّات الخدور، رقية تبحث عني بين تلك الخيام، قد قلت لها سأعود، وسكينة ما زالت تلهج بعمها أبي الفضل، قل لها لن يعود، فخسوف قمرها قد خلف بعده ظواهر كونية وتغيرات، وجفنُها من بعدهِ ما بات، لم تعد من بعده أربع فصول، بات فصلًا واحدًا خريفيّا، قل لها فلتقف على الطلول، كما قال قيس عند طلول ليلى: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ... فقد حرقت طلول ليلى قلبَ قيسَ، و هل بعد حرق خيامنا من منزلِ؟!...
سيدي، يرفع المنتصرون إصبعيهم علامةً لنصرهم، وأنتَ يا سيدي ترفعُ إصبعًا مبتورًا إيذانًا بأنكَ هزمتَ أمية بأصبعك المبتور و رأسكَ السامقُ فوقَ الرماح...
فالسلامُ على الحسين، وعلى علي بن الحسين، و على أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين...
يحترز البعض لضمان حياته ويثور البعض لضمان حياة الآخرين
البعض يضحي بالقيم لأجل مصالحه بينما البعض الآخر يضحي بحياته من أجل القيم.. التواريخ عيون ترى فتميز بين البعضين... تضع الفوارق عبراً مؤثرة بين سعي وسعي ثمة أحلام يوقظها رفيف الذكريات ولذلك أصبحت الثورات نبراساً يعي خطورة العتمات تنفتح الرؤى يقظه ليقظتها وقاراً يجلله المسير حين تمر عبرة وعبرات
أول عمل ثوري في تاريخ المسلمين هو واقعة الطف
أول دعوة شاملة لتحقيق العدل والمبادئ الإسلامية والقيم الصحيحة هي واقعة الطف
أقول لكل مثقف: أرجوك
أبعد عن السياقات المنطقية لمجرى الحروب ولا تجعل من تلك السياقات الميتة موازين واقعة انفردت بمعانيها العظيمة
أقول لكل أديب: أرجوك
أبعد عن أقدس واقعة غبار التكرار واللامبالاة السردية واللغة العادية وادرس حاضرها قبل ماضيها، علائقها، كنهها، ولا تبقى عند ما يسميه البعض عبر ودروس فحسب بل انفض التواريخ لتتساقط عنها الآثام والجهل والتغيب حينها كم ستراه جميلا
أقول لكل خطيب: أرجوك
المفردات المأساوية حق
وصور التضحيات الباهرة لأصحابها حق
والبكاء ومواساة أهل البيت(ع) حق
ولكن البحث عن المضامين الثورية وجوهر الظاهرة الحسينية وفلسفتها، وإظهار الحقائق المرتبطة بمستويات إيمانية علمية عملية هي أيضاً حق لا بد أن يراعى
لا بد أن نتحرى نعم نتحرى أساسيات واقعة خالدة اسمها الطف
والطف لغة أسم مشتق من الإطلالة وأطف أطل وتبقى الطفوف مشعلا يتوقد على مر العصور تذكار دم لا تبهت ألوانه في عيون تتطلع من على شرفات العزة لحياة كريمة
الطف مشروع سلامً وحب وعاطفة أخذها حب الحياة إلى ساحات الشهادة فمنحت بموت أبطالها أملاً جديداً لجيل جديد ليأتي مع كل جيل.
يقول غاندي: (تعلمت من الحسين، كيف أكون مظلوما فأنتصر)، والنصر هنا غير محصور بالقتال أو الحرب، وإنما النصر يشمل شؤون الحياة كافة، فالمطلوب منا كمسلمين وعراقيين أن ننتصر على النواقص الكثيرة التي تشوب واقعنا، وجلّها يتعلق بطرائق التفكير، والقيم التي تضبط إيقاع النشاط المجتمعي، القضية الحسينية قامت على أساس ملء القيم التي تركت فراغا هائلا بين الفكر والسلوك، والمبادئ والتطبيق، وحين شعر الحسين عليه السلام أن هناك بونا واسعا بين الواقع والأفعال، بين ما يقوله القائد وبين ما يطبقه، اندلعت الثورة الحسينية هادفة إلى وضع حد للانحراف وإعادة الأمور إلى نصابها، ووضع الأقدام على الجادة الصواب.
هناك مبدأ يقول أن الشجرة التي لا تمتلك جذورا راسخة ومتينة لا يمكنها أن تصمد في وجه الريح، وسوف تتعرض للقلع في أول إعصار يستهدفها، ولا يُعفى الإنسان فردا كان أو أمة من هذا القانون، فإن لم يكن له جذورا مبدئية أخلاقية قيمية عالية، سوف يكون عرضة للهزيمة والزوال، أما جذورنا فهي ثقافتنا، وقضيتنا الحسينية التي نستمد منها مبادئنا، والأمم الكبرى تلك التي تمتلك تاريخا عظيما، تتعلم من ماضيها ما يجعل حاضرها متقدما ونافرا.
وفي عودة إلى سجلات التاريخ الإسلامي سوف نعثر على كنزنا متمثلا بالقضية الحسينية، وها نحن اليوم نعيش ذكرى واقعة الطف، ولا شك أننا بحاجة ماسة الى استثمار هذه الواقعة بما تحمله من قيم انسانية كبيرة، يمكن - في حالة الالتزام بها وتطبيقها عمليا في حياتنا- أن تنقلنا من مجتمع يعاني مشكلات حياتية كثيرة، الى مجتمع منظّم يعرف ماذا يريد وماذا عليه أن يقدم وينشط ويجتهد، على أننا نتفق بأن عاشوراء تقدم لنا منظومة قيم عظيمة، تصب كلها في تعضيد الفعل الإنساني الذي ينسجم مع الفطرة البشرية، وفي حال أحسنّا التعلّم من مبادئ الفكر الحسيني واستطعنا تجديد القيم وإدامتها، كالصدق، ورفض الظلم، والإنصاف، مراعاة الحقوق، والتعايش، والتكافل، والأخلاق العالية، فإننا سنغدو من الأمم المتقدمة في حاضرها وماضيها ومستقبلها.
كيف نستثمر الزيارات المليونية؟
إن ما يحدث اليوم في مدينة كربلاء المقدسة، تظاهرة مليونية يحييها تنوع بشري عرقي وديني إنساني يصل سقف الملايين، وهذه المدينة الصغيرة بمساحتها والكبيرة بقلبها وإيمانها، تستوعب تلك الملايين الهائلة من الزائرين، تحتويهم وترعاهم وتكرمهم استنادا إلى ما وهبها الثائر العظيم الحسين عليه السلام من قيم عظمى، لذلك علينا التمسك بما تطرحه قيم الطف وأهدافها، من فرص لتطوير الحياة، وأن لا نسمح بحالة خلط الأوراق التي تحاول أن تعطي وجها آخر لهذه الواقعة، لاسيما عندما يحاول بعضهم تشويه القيم حين يتم حصرها في خانة ضيقة، ذلك أن الجوهر الإنساني لمبادئ الإمام الحسين عليه السلام، موجّه الى الإنسانية جمعاء، كونه يمثل رمزا ومثالا للكفاح الإنساني أجمع، لذا من باب أولى أن يجد المسلمون والعراقيون في القيم الحسينية ملاذا لهم وطريقا لتطوير حياتهم من خلال التركيز على تنظيم حياتهم، وتقليل الهدر، واعتماد النظافة، والتعاون المتبادَل واحترام النظام حتى في أدق الأمور، مثل استخدام الشوارع والحدائق والأرصفة، وضبط التعاملات المختلفة، ورعاية الجار، وإكرام الضيف، وحفظ حقوق الجار وصلة الرحم، وكل القيم التي تحفظ تماسك الناس وتقواهم وحياتهم.
بعضهم يرى في هذا السيل البشري الجارف للزوار، بأنه يشكل عبئا على المدينة، ولكن مثل هذا التفكير لن يكون سليما إذا ما عرفنا أن جميع بلدان ومدن العالم تتمنى وتسعى كي تزيد من زوّارها، في إطار السياحة الدينية أو سواها، الفوائد من ذلك كثيرة، تبدأ بالاقتصادية والثقافية والاجتماعية ولا تنتهي عند حدود معينة، أما في حال ظهور خرق هنا أو هناك، فهذا يستوجب تعاملا صحيحا من المجتمع نفسه، ولو أننا أقمنا مقارنة بين الفوائد ونقيضها لاكتشفنا أن مدينتنا تتميز عن سواها بكثرة زوّارها، والكل ينظر إلى هذه الميزة ويتحسّر عليها، لكن المطلوب أن نستثمر النتائج بصورة علمية صحيحة، وأن ندعم القيم التي تنتج عنها، كالتعاون، والنظافة، والسخاء، والصبر، والكرم، فضلا عن الفوائد العملية الجمّة.
وموضع الحسد من الآخرين، يتأتى من كثرة زوّار مدينة كربلاء المقدسة، فهذه ميزة وليست معضلة تعانيها المدينة، نحن بحاجة إلى تنظيم هذه الزيارة الأربعينية لا أكثر، خصوصا وأننا نعيش هذه الذكرى اليوم، فلابد أن نتعلم منها، ولا يمكن أن تمر بنا من دون الاستفادة من منظومة القيم التي تطرحها، لاسيما أننا نمر في منعطف سياسي اجتماعي اقتصادي حرج، ينطوي على تحولات هائلة في حياة المسلمين والعرب والعراقيين، لهذا نبقى بحاجة الى استثمار إنسانية مبادئ واقعة الطف، والتمسك بكل ما يمت بصلة الى الارتقاء بالمجتمع العراقي، والعمل بشكل منظّم على آلية التنظيم الجيد، وتعظيم القيم وتطويرها لدى الأفراد والعائلات والمجتمع برمّته.
الحسين صوت الحق والسلام
لذلك عندما نستذكر هذه الأيام وما جرى في واقعة الطف ونعيش نفحات القيم العاشورائية، لابد أن نتمسك بهذه القيم، لأن خلاصنا من مظاهر التردّي والتراجع، تكمن في تمسكنا بهذه القيم التي تشكل حصانة للجميع، سائلين ومسؤولين، ولاشك أننا جميعا ندرك بوضوح صوت الحق والسلام والرحمة الذي أطلقه الإمام الحسين عليه السلام، معلنا أنه لا يعبأ بالسلطة، وليس ساعيا إليها، لأنها لا تمثل هدفا، ولا تستحق أن تكون كذلك، لكن إعادة الأمور الى نصابها هو الهدف الأسمى، هذه هي الركيزة الاساسية التي تمثل اهداف القيم العاشورائية الرافضة للظلم جملة وتفصيلا، والداعية الى احترام حقوق الناس وحرياتهم، فضلا عن تحريمها بشكل قاطع للتبذير والإسراف وإهدار أموال الفقراء، وفق تخريجات تسمح للفاسد أن يجد سبيله الى سرقة ثروات وحقوق الشعب، فالقيم التي حملتها القضية الحسينية ترفض ما يقوم به بعض الساسة من هدر للثروات وتجاوز على الحقوق، لذلك ينبغي استثمار الفكر الحسيني لمحاربة الفاسدين وعدم السماح لهم بجعل القضية الحسينية غطاءً لأفعالهم المرفوضة جملة وتفصيلا.
لاسيما أن القيم الحسينية تطالبنا بأن نشيع ثقافة احترام الجميع للجميع، والمحافظة على حقوق الجميع، وحرمة أنفسهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وحتى أفكارهم وآرائهم، وتدعونا الى الوقوف صفا واحدا متماسكا، لدرء المخاطر التي قد تستهدفنا، أيا كان مصدرها، فالأهم هو انسجامنا وتقاربنا ومعاضدة بعضنا بعضا، ثم نبذ التطرف والعنف، والعمل وفق قيم التكافل فيما بيننا، والتعاون والاحترام المتبادل، وحماية أموال الفقراء، وانتهاج مبدأ العدالة بين الجميع، فهذه هي القيم التي اراد لنا الامام الحسين عليه السلام أن نتمسك بها، لأنها طريقنا الى الحياة السليمة، وسبيلنا الى العدل والسلام والتقارب والتعايش مع بعضنا، ولعل الرسالة الأهم، هي أن السلطة والجاه يجب أن تخدم الناس، لا أن تُستخدَم ضدهم، وإذا استطعنا أن نتصدى لهذه المهمات بصلابة، فإننا نكون قد تعلّمنا من الحسين عليه السلام ما يجعل حاضرنا مضيئا متوازنا، ومستقبلنا مشرقا.
*نقلاً عن النبأ
النيرفانا كلمة ذات جذور هندية سنسكريتية بمعنى الوصول إلى حالة (الغبطة المستديمة) أو النشوة، وذلك بعد فترات طويلة يستغرقها الإنسان في التفكر والاستغراق في معرفة عمق الأشياء وكنهها وصولاً لمبتغاه من أجل الوصول إلى قيمته، وقد يتشظى المعنى إلى صفاء الروح بعد أن تتطهر بفعل مؤثرات تمنحها الانسجام والتصالح.
ولو أسقطنا مفهوم (النيرفانا) بهذه الأبعاد على مانشاهده من صور وتمثلات الزيارة المليونية الخاصة بأربعينية الإمام الحسين (ع)؛ لوجدنا أن المؤثرات الإيمانية التي تُسْقط على الملايين القاصدة لكربلاء تفعل فعلها النيرفاني في إيصال النشوة ببعدها الروحي إلى كل ما يتصل بمشاعر القاصدين، وكأنهم يعيشون طقس اغتسالٍ وتطهرٍ عبر هذه الخطى التي تمثل معراجاً روحياً. إن الشحن بطاقة النيرفانا يتخذ عند البوذيين مثلاً يلزم سلوكيات تتعلق بالعزلة والاختلاء بالنفس، وتقول الحكايات أنهم يتوارون في كهوف جبال التبت؛ من أجل الحصول على أوقات أكثر للتعبد والتأمل والتفكر.
بينما الأمر في (نيرفانا) الزيارة الأربعينية يتخذ شكلاً لا علاقة له بطقوس العزلة والاختلاء في الكهوف أو أماكن التأمل الأخرى، بل على العكس، تأخذ الفكرة بعداً جماعياً يصل إلى أكثر من عشرين مليون إنساناً من جنسيات وأعراق مختلفة. وقد تكون هذه الزيارة تأكيداً لأهمية السلوك الجماعي الذي يحقق الكثير من الأهداف سواء للفرد أو المجتمع، زارعاً في النفوس المعاني الجميلة، والقيم النبيلة، حتى مع الزمن الطويل نسبياً الذي تستغرقه هذه الزيارة من دون حدوث مشاكل، بينما تسطع صور السلوكيات الأخلاقية، والتكافل الاجتماعي، الأمر الذي يعطي قوة إضافية للمجتمع المتوحد ، وهذا ما يفسر ديمومة هذه الطاقة الإيجابية التي تترسخ سنة بعد سنة منذ قرون.
حالة من البناء الجماعي للإنسان تمتد عبر أكثر من أسبوعين سيراً على الأقدام تمنح تجديداً للمفاهيم، وشرحاً آخر لها يكاد يكون هو الشرح المؤكد، والذي لا تشوبه شائبة كأنه معراج روحي متحقق بأبعاده المتعلقة بفهم القضية ومؤثراتها التي تمنح هذه الطاقة الإيجابية، معززة بذهنية صافية مرتكزة على يقين لن يتزعزع، فضلاً عن سلوكيات اخلاقية تنسجم مع ذهنية الطاقة الروحية، الذهنية التي تؤكد أن هذه الملايين البشرية صارت عناصر مشحونة بكل احتياجات الروح السامية، فهي مجتمع مندمج روحياً وجسدياً بقيمة القضية وعمقها.
هذه الخطى المليونية تنتج علائق إنسانية هي في حقيقتها مزيج من العواطف والأفكار. والعلائق بين هاتين البنيتين تُنتج وتُكتشف طيلة الفترة الزمنية التي يتوقف الزمن إزاءها، مسترقاً السمعَ لنبض المسافة المنتعشة إيمانياً بتسابيح المؤمنين، واجتماعياً بتكافلهم ومساعدتهم لبعضهم البعض في كرنفال الأنسنة المتجدد. لقد أثبتت الزيارة الأربعينية ومازالت تثبت ان الانطلاق لتجديد خصوصية كربلاء يمر عبر قناة التصور العقلاني، والنظرة الواقعية للشعائر التي تمثل " تقوى القلوب " ؛ ذلك لأن الافرازات الاجتماعية لهذه الزيارة تقود إلى حالة وجدانية حضارية، فحين نعمد لتأصيل العلائق الإنسانية في هذه الزيارة لابد أن ننظر لهذه الإفرازات؛ لأن الصور التي نشاهدها خلال أيام المشي ليست خيالات تأملية، او مناهج تدريس تُدرّس لمرحلة عمرية محددة، إنما هي مشاهد تتجلى فيها الروح العاشقة المتذوقة لحلاوة اليقين. هي تجربة تنطلق من واقع مدرك، وفكرة متيقظة، وجذوة عشق لن تنطفئ بتأكيدات نبوية " إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفئ أبداً "، إذن، نحن إزاء حاضر فاعل في الوجدان الذي يُظَنُّ خطأ أنه وجدان سيفضي إلى الغياب.
ولكي تترسخ هذه الطاقة بأبعادها المتعددة، وأهمها البعد الإنساني الجماعي؛ لابد من تعزيز الاحتفاء بمسببها الأصلي، على أن يكون الابتعاد عابراً لمسميات العرق والدين، وهذا هو الذي تثبته الزيارة الأربعينية، متخذة من اشكال التعبير عنها مرتكزاً لتأصيل عالميتها، فهذه الحشود المليونية صار لها حضورٌ في اعمال الأدب المتنوعة، وكذلك في اللوحات الفنية، وربما نشاهد مستقبلاً معزوفات عالمية تتخذ من هذه الزيارة ومن الملايين الذين يحيونها عنواناً لافتاً وفريداً يعزز (النيرفانا) وطاقاتها المتوهجة عبر المبدعين وإنجازاتهم. وهذا ليس بالأمر الصعب، فمع كل موسم تتجدد فيه الزيارة الأربعينية؛ نجد أشياء مستحدثة؛ لذلك يمكن أن نرى في القادم من السنوات معارض للكتاب، أو ندوات تثقيفية وفكرية تُعرِّف بأبعاد هذه الزيارة مجتمعياً وثقافياً بل وحتى اقتصادياً.
*نقلاً عن النبأ