قصص عن سجايا الإمام الصادق (ع)

الشيخ محمد الصنقور
زيارات:1168
مشاركة
A+ A A-
بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الصادق (ع) نتشرَّفُ بالحديثِ عن شيءٍ مِن مكارم أخلاقه. وإنَّ من نافلة القول أن يتحدَّث أحدُنا عن مكارم أخلاق أهل البيت (ع) بعد أنْ كانوا القرآن الناطق، وبعد أنْ كان الإسلام -بمبادئه وقيمِه-، متمثِّلاً في شخصيَّاتهم، وقد اعتجنَ واختلط بدمائهم، وأصبحت سجاياهم وأقوالُهم ومواقفُهم قرآناً ناطقاً، وإسلاماً ماثلاً يمشي على الأرض؛ ذلك لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد إنتجبَهم، واصطفاهم، واختصَّهم بعنايتِه، وأدَّبهم، فكانوا هم الأدلَّاءَ عليه، وكانوا هم المُعرِّفين لعبادِه ما أراده منهم ولهم.

الإمام الصادقُ (ع) -وكما تعلمون- هو الذي يُنسب إليه مذهب التشيُّع؛ ذلك لأنَّه قد سنحت له الفرصة نظراً للظروف السياسيَّة التي عايشها، حيثُ كان عهده عهداً مُنفتحاً نسبيَّاً، إذ كانت الدولة الأمويَّة منشغلةً بالحروب، والاضطرابات التي انتقضت عليها في مختلف بقاع الحواضر الإسلامية، وكانوا من الضَعف بحيثُ لم يكونوا يقوون على ممانعةِ الإمام (ع) عن ممارسة دوره التبليغيِّ، ودوره الإرشاديّ، ودوره الرساليّ. لذلك فقد استثمر الإمام (عليه السلام) هذه الفرصة السانحة في العمل على بثِّ العلوم والمعارف الإسلاميَّة على نطاقٍ واسع واستقطبت دروسُه الكثير من روَّاد العلم من مُختلف الحواضر الإسلاميَّة حتى عدَّ علماءُ الرجال والدراية من تلامذتِه المحدِّثين من مُختلف المذاهب ما يربو على الأربعةِ آلاف تلميذاً.

ما نودُّ أن نُشير إليه في هذه الجلسه هو بعض سجايا الإمام الصادق (ع)، والغايةُ من ذلكهو السعيُ من أجلالتمثُّل بسيرته والإهتداء بهدْيهِ ومكارمِ أخلاقِه.

الإمام والحلم

نبدأُ الحديثَ بما يرتبطُ بحلم الإمام (ع) الذي كان يزنُ الجبال، بل كانت تنوء الجبال دون تحمُّلِه، والحلمُ هو سيُّد الأخلاق، فإذا ما اتَّسم أحدٌ بسجيَّة الحِلم فقد اتَّسم بالأخلاق جلِّها؛ لأنَّ ملَكة الحلم تستبطنُ الكثير من السجايا، فالحلمُ لا يكون إلَّا للرجل الرؤوف العطوف، والحلمُ لا يكون إلا لذي صدرٍ رحِب، ولا يكون إلَّا لمن يملكُ عقلاً راجحاً يترفَّع به عن صغائر الأمور ومحقَّراتِها.

نماذج من حلم الإمام (ع):

أولاً: حلمه (ع) داخل بيته:

ذكر المؤرِّخون والرواة الكثير من المواقف المعبِّرة عن سعةصدر الإمام وحلْمِه، ونُشير هناإلى بعض تلك المواقف التي نقلها الرواة فيما يرتبط بشؤون الإمام الخاصَّة داخل بيتِه:

قد ذكر المؤرخون كيفية تعامل الإمام مع غلمانه، والذين يعملون ويخدمون عنده، فقد كانت في منتهى العطف والرأفة، ورغم ما يجدُه من مشاكسة بعضِهم، أو إهمال بعضِهم، أو تقصيرهم عن القيام بالمهمَّات التي أُنيطت بهم، إلَّا أنَّه يُقابل ذلك بسعةِ صدرٍ، ورحابة قلب.

- يروِّح غلامه!

يذكر المؤرخون أنَّ الإمام (ع) بعث غلاماً له في حاجة، فذهب الغلام وأبطأ كثيراً، فخرج الإمام (ع) يبحثُ عن هذا الغلام، فوجده نائماً في ناحية، فما أزعجه وما أيقظه، بل وجد عليه آثار الإرهاق -نتيجة الحر- فأخذ يُروِّحه! وبعد أن اكتفى ذلك الغلام واستيقظ، تبتسم الإمام (ع) في وجهه، وقال له: يا غلام، لك الليل، ولنا النهار(1). دون أن يُوبِّخه ويُقرِّعه كما يفعل أربابُ العمل. فكان ذلك مثالاً ينبغي أن يَحتذي به كلُّ من كان تحت يده مستأجَرون يعملون عنده.

- إبنه والجارية

ثمَّة موقفٌ آخر يُعبِّر عن سعة صدر الإمام (ع) بأكثر مما يُعبِّر عنه الموقف الأوَّل: فقد رُوي انَّ الإمام (ع) كان قد نهى نساءه وجواريه أنْ يصعدن إلى السطح -سطح البيت-، ولعلَّ ذلك مبالغةٌ منه في الستر والحجاب، واتَّفق في إحدى المرَّات خروج الإمام (ع) من مجلسه إلى فناء داره فوجد جاريةً تصعد إلى السطح، حاملةً أحد أولاده، فلمَّا أنْ رأته فزعت، فسقط الغلام من يدها نتيجةَ شعورها بالهلع والخوف، وأدَّى سقوط الغلام من يدها إلى موته، فأخذ الإمام يُهدِّئ من رَوْع الجارية ثم عاد إلى مجلسِه وقد بدا على وجهه أثر الوجوم-، ثم أخبر أصحابه بما وقع، ثم قال : والله ما حزنت على موت الغلام؛ فذلك أجلُه قد حان فرحل إلى ربِّه، ولكنَّ الحزن الذي انتابني هو إنَّي كنتُ سبباً في دخول الرُّعب والخوف إلى قلب تلك المرأة الضعيفة!(2). فرغم أنَّ ابنه الصغير قد مات، وكان موته مسبَّباً عن تقصيرِ تلك الجارية، إلَّا أنَّه سلَّم لربِّه، وفوَّض أمره لخالقه -عزَّ اسمه وتقدس-. وما صدر منه تعنيفٌ لتلك الجارية بل شعر بالحزن الشديد حتى ظهر على محيَّاه لأنَّه ربَّما كان سبباً في دخول والفزع والخوف إلى قلب تلك الجارية!

نحن شيعته -شيعة أبي عبد الله الصادق-، وفي كلِّ يومٍ نملأ قلوب المؤمنين غيظاً، ونُدخل عليهم الوهن، والحزن والأذى؛ نتيجة تصرُّفاتنا معهم، ونتيجة ألفاظنا البذيئة التي نواجههم بها، أو نتيجة ما نُمارسه من حماقات أو سلوكياتٍ تُوجب إشمئزازهم، أو حزنهم!

- مَلَكة راسخة

ثمَّة موقفٌ آخر -يُشبه هذا الموقف-، وقد عالجه الإمام(ع) بذات الأسلوب، فالمواقف التي يتَّفق للإمام مصادفتها تختلف في طبيعتها، إلَّا أنَّ ردة الفعل التي يُبديها الإمام (ع) تظلُّ ذاتَ نسقٍ واحد، وذلك ما يُعبِّر عن أنَّ الحلم الذي ينطوي عليه قلبُ الإمام (ع) كان سجيَّةً وملكةً راسخة ولم يكن تصنُّعاً، أو تكلَّفاً؛ لأنَّ المُتكلِّف قد يتزيَّا بصفةٍ في ظرفٍ ما لكنَّه لا يقوى على تقمُّصها في تمام الظروف، وفي كلِّ الأحوال ذلك لأنَّها لم تكن سجيَّةً راسخة في جِبلَّته ولهذا تتغيَّر مواقفُه وردةُ فعله بتغيُّر الظروف والأحوال، لكنَّ ما نجدُه فيسلوك الإمام (ع) هو التجانس بين مواقفه تجاه مختلف العوارض التي يتَّفق له مصادفتها فرغم تفاوتِها في القسوة والشدَّة إلَّا أنَّ ردَّة الفعل التي يُبديها الإمام (ع) تبقى محتفظة بنسَقٍ واحد.

امرأةٌ من خدم الإمام -أو من جواريه، أو من نسائه، والتشكيك مني- كانت تشوي لحماً بواسطة السَّفُّود -السفود هو الحديدة التي يُوضع عليها اللحم لغرض شوائه-، هذه الجارية رفعت هذه السفافيد، وفي أثناء حملها لها -وكانت ثقيلة- سقطت بأكملها على رأس صبيٍّ للإمام -كان صغيراً يدرج على الأرض-، فمات من حينه. فما كان منه إلَّا أنَّه حاول أنْ يطمئنها، ويهدِّئ من روْعِها، ويُؤكد لها أنَّه لن تترتَّب على ذلك أيُّة عقوبةٍ منه عليها، ثم أخذ الصبيَّ ومضى به إلى المقبرة ودفنه.

ثانياً: من حلمه (ع) خارج بيته

ذكرنا شيئاً مما يتَّصل بأحواله الخاصَّة في بيته. وطبعاً، الخلق الرفيع في البيت عادةً ما يكون أقلَّ منه في خارج البيت، وعادةً ما يتخلَّى الإنسان عن كثير من أخلاقه في منزله، فقد يكون سيِّئ الخلق في البيت، وإنْ كان حسن الأخلاق في خارج المنزل، وذلك ما يُعبِّر عن أنَّ خُلقه لم يكن سجيَّة، وإنَّما كان حياءً من الناس. على أيِّ تقدير، الإمام (ع) لم يكن يختلف سلوكه وخلقه الرفيع من موطنٍ إلى موطن، ومن موقعٍ إلى موقع. 

- حلمه (ع) مع مَن يتهمه

في المدينة المنورة، وفي المسجد النبويّ الشريف، كان رجلٌ من الحجَّاج غريباً، صلَّى ثم نام في نفس الموقع الذي صلَّى فيه، ولمَّا استيقظ افتقد هميانه -الهميان هو: المحفظة التي يُحفظ فيها النقود-، فنظر في المسجد فلم يجد إلَّا رجلاً يُصلِّي -وهو الإمام الصادق (ع)-، هذا الحاجّ غريبٌ لا يعرف الإمام، فأمسك الإمام(ع) وقال: أنت الذي سرقَ الهميان. فقال له الإمام (ع) : كم كان في هميانك؟ قال: ألف درهم. فأخذه الإمام (ع) إلى البيت، ووزن له ألف درهم، وأعطاه إيَّاه. هذا الرجل ذهب إلى منزله فوجد الهميان هناك، فرجع إلى الإمام(ع) واعتذر منه، وقال: وجدتُ همياني في البيت، وكنتُ مشتبهاً. قال: "شيءٌ خرج من يدي لا يعود إليَّ"، خذها هبةً منِّي إليك(3). هذا الموقف يُعبِّر عن خلقٍ رفيعٍ لا يُجارَى وسعةِ صدرٍ منقطعة النظير،فقد كان بإمكان الإمام (ع) أن يستثمر وجاهته، وأنْ يُعرِّفه بنفسه، وعندئذٍ سوف تنتهي القضيّة، دون الحاجة إلى أن يرفع أمره إلى القضاء، خصوصاً وأنَّ هذا الرجل لم تكن له بيِّنة. إلَّا أنَّ الإمام (ع) لم يعامله بهذه الحِدِّية، بل أعطاه ما ادَّعى!

- درسٌ آخر: في التواضع

هذه القضية بالإضافة إلى دلالتها علىعظيم حلم الإمام تُعبِّر عنمدلولٍ آخر: وهو أنَّ الإمام (ع) -رغم وجاهته- لم يكن يصنع كما يفعل الآخرون من ذوي الثراء أو الجاه فهم يحرصون على الظهور في مظاهر الجلال والأبُّهة ليدلِّلوا على امتيازهم عن سائر الناس. فتلاحظون أنَّ الكثير من أصحاب الوجاهات لا يمشي أحدُهم إلا في موكبٍ؛ ليُوحي للآخرين عن تميُّزه وخصوصيَّته، ويتصرَّف على أنَّه شخصٌ ليس كمثلِه شيء، فليس له ما للناس، وعليه ما عليهم! أراد الإمام (ع) أنْ يُعلِّمنا من هذا الموقف أنَّه لا ينبغي لأحدٍ-مهما كان عليهمن موقعٍ ومقامٍ علميٍّ أو اجتماعيّ- أن يستثمر ذلك في سبيل أن تكون له امتيازات، وخصوصيَّات في المجتمع، فيُضيف بذلك على الناس عبئاً فوق ما هم عليه من أعباء. تلاحظون أنَّ بعضهم إذا أراد أنْ يعبرَ طريقاً فإنَّه يفرض على الآخرين عدم عبوره إلا بعد أنْ يقطع هو ذلك الطريق فيكون بذلك عبئاً على الناس يُضاف إلى عبء وجوده بينهم، فلأنَّه يرى لنفسه امتيازاً وخصوصيَّةً، لذلك يرى إنَّه لا ينبغي لأحدٍ أن يُزاحمه في طريقه.

هذا بعض ما يرتبط بسجيَّة الحلم التي كان عليهاالإمام (ع)، وقد قلنا إنَّ هذه السجيّة تكتنز الكثير من السجايا الحميدة، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون حليماً إلَّا أن يكون متوفِّراً على مجموعة من السَّجايا الرفيعة، فالحليم لا يكون إلَّا رؤوفاً، رحيماً عطوفاً صبوراُ ولا يكون كذلك إلَّا حينما يكون عقله راجحاً.

الإمام والعبادة

وأمَّا ما يتَّصل بعبادته، فالوقت يضيقُ عن استيعاب هذا المحور ولذا نكتفي بما ذكره أحدُ تلامذته، وهو مالك بن أنس - كان قد تتلمذ عند الإمام برهةً من الزمن، وهو إمامٌ لواحدٍ من المذاهب-، حيث كان يقول: كان جعفر بن محمد لا يخلو من ثلاثِ خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً. وكان من عُظماء العُبَّاد، وأكابر الزُّهاد الذين يخشون اللهَ عزوجل. يقول: وقد حججتُ معه سنةً، فلمَّا استوت به راحلتُه عند الإحرام، كان كلَّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد يخرُّ مِن على راحلته. ويقول: ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمد (ع)(4). هذا واحدٌ ممن رأى الإمام(ع) ولم يكن يُؤمن بإمامته وأنَّه ممَّن افترض الله طاعته على العباد، وقد عكس لنا واقع الإمام العباديّ، حيث أنَّه أفاد أنَّ الإمام (ع) لم يكن وقتُه يخلو من عبادة، فإمَّا أن يكون صائماً، أو قائماً، أو ذاكراً. وثمَّة أقوالٌ أخرى لآخرين -ممن شهدوا الإمام، وصحبوه-، قالوا: لا يخلو الإمام من ذكرٍ، أو تعليم. فإما أن يكون ذاكراً لله، أو مُعلِّماً لخلقه.

الإمام والصبر

وأما ما يرتبط بصبره (ع) فنشير إلى موقفٍ أو موقفين - حتى لا نطيل عليكم-. فقد روي انَّ الإمام (ع) كان في منزله، وكان معه بعض أصحابه، فدخل البيت ثم خرج وكان عليه آثار الحزن، وأخبرهم أنَّ ابناً له مريض وقد اشتدَّ به المرض، ثم بعد برهةٍ قام عنهم ودخل، ثم عاد مستبشراً فأخبرهم أنَّ الولد قد مات! استغربوا، فقال لهم: نحن أهل بيتٍ لا نجزع عند المصيبة، بل نرضى بقضاء الله وقدره. وإنَّما كان حزني عليه؛ لأنَّه كان في عُهدتي وكنتُ أنا الذي أرعاه، وقد جعله الله -عز وجل-وديعةً عندي وفي عنقي، فكنتُ وجلِاً من أجله، فحينما اختار الله أمانته سلَّمت(5).

ثم انَّه و بمنتهى الهدوءٍ والاطمئنان، حمل الغلام إلى موقع دفنه، وجهَّزه ثم دفنه، مسلِّماً لله -عزَّ اسمه وتقدَّس-.

الإمام والتكسُّب

ونتحدث عن أمرين ونختم الحديث:

الأمر الأول: يرتبط بكيفية تكسُّب الإمام (ع). فقد كان المعروف عن الإمام (ع) انَّ له بعض الضيعات، وكان في حالاتٍ يُباشر عمليَّة الحراثة بنفسه (6) -رغم تقدم سنِّه، ورغم وجاهته، وعظيم شأنه-، وفي إحدى المرَّات قال لأحد التجار: إن وُلدي قد كثروا، فلو أخذتَ هذا المال وتاجرت به إليَّ - هذه المعاملة تسمَّى بالمضاربة، فيكون للتاجر نصيب من الربح، وللإمام نصيب-. هذا الرجل خرج مع تجارٍ آخرين إلى مصر، وقبل الدخول إلى أرض مصر سألوا عن أحوال السوق، فقيل لهم: إنَّ الناس في أمسِّ الحاجة لمثل هذه الأطعمة وهذه البضائع التي تحملونها، فتعاهد التجار فيما بينهم أن لا يبيعوا شيئاً بدينار إلَّا ومعه دينار ربحاً، فدخلوا سوق مصر فباعوا ما قيمته دينار بدينارين. وكان الإمام (ع) قد أعطى هذا الرجل ألفاً، فرجع إليه بألفين، وقال: هذه ألفٌ هي أموالك، وهذه ألفٌ هي ربح أموالك. فقال له الإمام: تربحون على الناس بالضعف؟ قال له: نحن ذهبنا إلى مصر وكانوا في حاجة ماسَّة إلى هذه الأطعمة والبضائع، وهم قد اشتروها منا بمحض إرادتهم. فقال الإمام (ع): أمَّا الألف فهي أموالي، وأمَّا الألف الأخرى فلا أريدها، وقال له: دخلتم على قومٍ مسلمين، فربحتم عليهم هذا الربح الفاحش! هذا ليس من أخلاقنا. ثم أفاد كلمة بليغة -قال (ع): مجالدة السيوف، أهون من طلب الحلال-(7). هذه كلمة معبِّرة، عن أنَّ الإنسان يجب أن يتحرَّى الحلال، والحلال ليس هيِّناً ولا سهلاً، فمَن أراد أن يأكل الحلال فإنَّ الحلال يتطلب مؤنةً وعناءً مضنياً. فلا ينبغي للمؤمن أن يتساهل في شأن رزقه، فيخبط خبطَ عشواء، يأكل ما يجد وما لا يجد، دون أن يتحرَّى الأمر؛ ليتثبَّت من حليَّةِ ما يتعاطاه أو حرمته وانَّه من موارد الشُّبهة أو من موارد الحلال البيِّن.

مسك الختام .. من كرامات الإمام:

وأما الأمر الثاني: وبه نختم حديثنا عن الإمام (ع) فهو ذكر بعض كراماته، - فإنَّ كراماته التي نقلها الرواة كثيرة، ومعبِّرة عن موقعه السامي عند الله -عز وجل-، فمِّما أفاده الرواة أنَّه كان مُجاب الدَّعوة، وكانت دعوته كحدِّ السيف.

فمن ذلك ما رُويَ أنَّ رجلاً يُسمى الحكم بن العباس الكلبي، هذا الرجل كان سيِّئاً، وكان يتفاخر بقتل زيد الشهيد -عمّ الإمام الصادق (ع)-، وقد بلغت به الوقاحة أنَّه كان يقول:

صلبنا لكم زيداً على جذعِ نخلةٍ ** ولم نر مهديَّاً على الجذع يُصلبُ

وقِستُم بعثمانٍ عليــَّاً سفاهةً ** وعثمانُ أزكى من عليٍّ وأطيبُ

بلغ هذاالشعر مسامع الإمام (ع)، فاغتاظ منه فرفع يده قائلاً: اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابك. فما كان إلّا أن بعثه بنو أمية في مهمة إلى الكوفة، فوثب عليه أسدٌ أو كلب في الطريق فقتله، فبلغ الإمام (ع) خبره فخرّ ساجداً ثم قال: "الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا"(8).

ومما روي في ذلك أيضاً أنَّ والي المدينة داود بن علي العباسي قتل المعلَّى بن خنيس أحد موالي الإمام (ع)، ثم إنَّه بعث عدداً من رجاله إلى الإمام (ع) يأمره بالمثول بين يديه وأمرهم بقتله إنْ أبى ذلك، فحين جاءوه وألحُّو عليه بالمثول بين يدي داود العباسي، رفع الإمام (ع) يديه إلى السماء فدعا عليه وسمعه الحاضرون يقول في منتهى دعائه: الساعة الساعة، وبعدها قال لرجال داود اذهبوا إلى صاحبكم فإنَّه قد هلك الساعة، فكان كما أفاد الإمام (ع)(9).

الهوامش:

1- (نص الرواية): وعنه، عن ابن عيسى، عن عبد الله الحجال، عن حفص بن أبي عايشة، قال: بعث أبو عبد الله (عليه السلام) غلاما له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره لما أبطأه، فوجده نائما فجلس عند رأسه يروحه حتى انتبه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان والله ما ذلك لك تنام الليل والنهار، لك الليل، ولنا منك النهار. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي- ج 15 ص 266.

2- (نص الرواية): كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فما تغير لوني لموت الصبي وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب، وكان عليه السلام قال لها: أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك - مرتين. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 ص24.

3- (نص الرواية): ابن شهرآشوب في المناقب: عن كتاب الفنون، قال: نام رجل من الحاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى جعفر الصادق (عليه السلام)، مصليا ولم، يعرفه فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني، قال: "ما كان فيه ؟" قال: ألف دينار، قال: فحمله إلى داره، ووزن له ألف دينار، وعاد إلى منزله ووجد هميانه، فرجع إلى جعفر (عليه السلام) معتذرا بالمال فأبى قبوله، وقال (عليه السلام): "شئ خرج من يدي لا يعود إلي" (إلى أن) قال: فسأل(3) الرجل، فقيل: هذا جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: لا جرم هذا فعال مثله. مستدرك الوسائل - الميرزا النوري- ج 7 ص 206-207.

4- (النص): مالك بن أنس الفقيه قال: حججت مع الصادق سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخر من راحلته فقلت في ذلك، فقال: وكيف أجسر أن أقول لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن يقول لا لبيك ولا سعديك. وقال مالك بن أنس: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلا وعلما وورعا وكان لا يخلو من احدى ثلاث خصال: اما صائما، واما قائما، واما ذاكرا، وكان من عظماء البلاد وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم، وكان كثير الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله، اخضر مرة واصفر أخرى. مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب- ج 3 ص 395-396. وفي موضع آخر: وقال مالك بن انس: ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادة وورعا. مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب- ج 3 ص 372.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 ص25.

6- (النص): رأيت أبا عبد الله (ع) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك، فقال لي: إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة. الكافي -الشيخ الكليني- ج5 ص76.

7- (نص الرواية): محمد بن يعقوب، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن أحمد بن النضر، عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد الله عليه السلام مولى يقال له: مصادف فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا، قال: فتجهز بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة، فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شئ، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار دينارا، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان كل واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح، فقال: إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع ؟ فحدثه كيف صنعوا، وكيف تحالفوا، فقال: سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلا بربح الدينار دينارا، ثم أخذ أحد الكيسين، وقال: هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثم قال: يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال. وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي- ج 17 ص 421-422.

8- (نص الرواية): بلغ الصادق عليه السلام قول الحكيم بن العباس الكلبي: صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة ولم أر مهديا على الجذع يصلب وقستم بعثمان عليا سفاهة وعثمان خير من علي وأطيب فرفع الصادق عليه السلام يديه إلى السماء وهما يرعشان، فقال: اللهم إن كان عبدك كاذبا فسلط عليه كلبك، فبعثه بنو أمية إلى الكوفة فبينما هو يدور في سككها إذا افترسه الأسد، واتصل خبره بجعفر. فخر لله ساجدا ثم قال: الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا. بحار الأنوار - العلامة المجلسي- ج 46 ص 192.

9- بصائر الدرجات محمد بن الحسن الصفار- ص 238.

مواضيع مختارة