تاريخ
ما علاقة المسلمين واليهود بـ «المسجد الأقصى»؟
القدس، (أو القدس الشريف أو بَيت المَقْدِس أو البيت المُقَدَّس أو أورشليم) مدينة في فلسطين المحتلة وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بعد مكة والمدينة، وأكثر المدن قدسية لدى اليهود ومسيحي العالم، وتعد المدينة من الأماكن الدينية عند الأديان الإبراهيمية، وكل ديانة لها معالم وأماكن مقدسة فيها.

[اشترك]

وفي الوقت الراهن هذه المدينة بأكملها تحت الاحتلال، كما اعترف هذا الكيان بها كعاصمة أبدية له، لكن منظمة الأمم المتحدة ومعظم دول العالم لا يعترفون بالقدس عاصمة له.

وإن هذه المدينة وبعض أماكنها لها فضل عظيم، وذلك حسب الروايات الواردة عند الشيعة، وقد روي عن الإمام الحسن العسكري (ع) أن الصلاة في المسجد الأقصى تعادل الصلاة في المسجد الحرام، وصلاة واحدة فيه تعادل ألف صلاة في مساجد أخرى. (ويكي شيعة).

2023/10/31

هل دافع الإمام علي عن الزهراء عندما هاجموا الدار؟
إن هجوم القوم على البيت كان مفاجئاً، وأنهم بمجرد عودتهم من السقيفة، وعرفوا أن علياً عليه السلام في البيت بادروا لاقتحامه لأنهم حينما عادوا كان علي عليه السلام قد فرغ للتو من دفن رسول الله صلى الله عليه وآله.

[اشترك]

ولعله قد انصرف لبعض شأنه، ليتوضأ، أو يصلي، أو ليبدل ملابسه، أو لغير ذلك. وكان من الطبيعي أن تجلس الزهراء عليها السلام عند قبر أبيها في هذه اللحظات لتودعه، ولتناجيه. وموضع دفن النبي صلوات الله وسلامه عليه هو نفس بيت الزهراء عليها السلام قرب الباب.

فجاء القوم مسرعين، وطرقوا الباب، والزهراء عليها السلام خلفه، وعلي عليه السلام في الداخل، فبمجرد أن عرفوا أن في داخله أحداً اقتحموه، وفتحوا الباب، ولم تكن الزهراء عليها السلام ـ وهي وراء الباب ـ في وضع تستطيع معه أن تقابل الرجال الأجانب، فبادرت لإغلاقه، لتصبح خلفه، فضغطوها به، وصرخت فبادر علي عليه السلام لنجدتها، فهربوا، وظفر بأحدهم ـ كما تقول الرواية ـ فجلد به الأرض، وانشغل بإسعاف الزهراء عليها السلام.

وتجمعوا في الخارج في تلك الليلة، وجاءتهم النجدة من بني أسلم، واجتمعت عندهم الجيوش، وحوصر الناس في بيوتهم، ولم يستطع أحد أن يخرج من بيته، فضلاً عن أن يصل إلى المسجد، وفضلاً عن أن يصل إلى علي عليه السلام، ولعل الزبير قد وجد فرصة للتسلل إلى بيت علي عليه السلام في هذه الأثناء، وفي اليوم التالي سعوا إلى استخراج علي من بيته للبيعة، وجمعوا الحطب، وبادروا لإشعال النار فيه. ودخلوا عليه واستخرجوه للبيعة، وخرجت فاطمة عليها السلام في إثره، إلى آخر ما هو معروف ومشهور.

فظهر أن ما جرى على الزهراء عليها السلام في البداية كان لا يحتاج إلى أكثر من ثوان قليلة، وكان مفاجئاً، ولم يكن هناك اتفاق بين علي عليه السلام وبين الزهراء عليها السلام، على أن تتقدم هي لتفتح الباب دونه، كما يزعمه الزاعمون، أضف إلى أن الزبير لم يكن معهم في البيت.

كما أنه عليه السلام قد أنجد الزهراء عليها السلام بمجرد أن سمع صراخها ولكن الأمر كان قد قضي، وأصيبت سيدة النساء، ولم تكن هناك فرصة لدفعهم عن أذى الزهراء، عليها الصلاة والسلام .

المقال رداً على سؤال: كيف نجيب على من يقول بأن علياً عليه السلام كيف لم يدافع عن الزهراء عليها السلام ؟؟ إن كان فعلاً تم ضربها وكسر ضلعها الشريف ؟ أمِنَ المعقول أن يسمح لهم الإمام بذلك ؟
2023/10/24

كيف دكَّ النبي حصون «خيبر» بسيف الإمام علي؟
لما عاد النبي (ص) من الحديبية نحو المدينة أمضى شهر ذي الحجة كلّه أياما من شهر محرم الحرام من السنة السابعة للهجرة في المدينة، ثم تحرك بألف وأربعمائة نفر من المسلمين الذين كانوا احضروا والحديبية (خيبر) (حيث كان مركزاً للتحركات المناوئة للإسلام وكان النبي (ص) يتحين الفرص لتدمير ذلك المركز للفساد).

وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبية من المسلمين فحسب، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شيء أبداً.

ألا أن عبيد الدنيا الجبناء لمّا فهموا من القرائن أنّ النّبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعاً -وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام - أفادوا من الفرصة، فجاؤوا إلى النبي (ص) وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر، وربّما توسلوا بهذا العذر، وهو أنّهم يريدون التكفير عن خطئهم السابق والتوبة من الذنب وأن يتحملوا عبءَ المسؤولية، والخدمة الخالصة للإسلام والقرآن ويريدون الجهاد مع رسول الله في هذا الميدان، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفاً وأنها كشفت حقيقتهم من قبل: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ..﴾.

ورداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفرص يقول القرآن الكريم: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ ثمّ يضيف قائلا للنبي: ﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا﴾.

وليس هذا كلامي بل ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ وأخبرنا عن مستقبلكم أيضا.

إن أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصة بأهل الحديبية ولن يشاركهم في ذلك أحد.

لكنّ هؤلاء المخلفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبيّ ومن معه بالحسد كما صّرح القرآن بذلك: ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الفتح/15.

وهكذا فأنهم بهذا القول يكذبون حتى النبي (ص) ويعدون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

دعاء النبي (ص) في خيبر

وقد صممت قبيلة غطفان في البداية أن تحمي يهود خيبر غير أنها خافت بعدئذٍ عواقب أمرها (فاجتنبت حمايتها لهم).

فلمّا وصل النبي (ص) قريباً من قلاع خيبر أمر أصحابه أن يقفوا ثمّ رفع رأسه الشريف للسماء ودعا بهذا الدعاء: (اللهم رب السماوات وما أظللن وربّ الأرضين وما أقللن، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها).

دكِّ حصون خيبر

ثم قال (ص): "أقدموا بسم الله"، وهكذا وصلوا خيبر ليلاً وعند الصباح -حيث علم أهل خيبر بالخبر- وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل جنود الإسلام، ثم فتح النبي (ص) القلاع قلعة بعد أخرى حتى بلغ أقوى القلاع وأمنعها وآخرها وكان فيها (مرحب) قائد اليهود المعروف.

وفي هذه الأيام أصاب رأس النبي (ص) وجع شديد -كان ينتابه أحيانا- حتى أنه لم يستطيع الخروج من خيمته يوما أو يومين...

وفي هذه الأثناء وطبقاً لما ورد في التاريخ الإسلامي، حمل أبو بكر الراية في يده وتوجّه بالمسلمين نحو معسكر اليهود غير أنه سرعان ما عاد وهو صفر اليدين دون نتيجة، ومرّة أخرى أخذ عمر الراية وحمل بالمسلمين بصورة أشد فما أسرع ما عاد دون جدوى.

علي (ع) فاتح خيبر

فلمّا بلغ الخبر مسمع النّبي (ص) قال: "والله لأعطينها غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة!".

فاشرأبت الأعناق من كلّ جانب تُرى من هو المقصود، وقد حدس جماعة منهم أنّ مقصوده علي (ع)، إلا أنّ علياً كان مصاباً بوجع في عينه فلم يكن حاضراً حينئذٍ، ولما كان الغد أمر النبي بأن يدعو له علياً فجاء راكباً على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله (ص) وهو أرمد قد عصبّ عينيه.

فقال رسول الله (ص): ما لك؟ قال علي (ع): رمدت بعدك.

فقال له: أذن منّي، فدنا منه، فتفل عينيه، فما شكا وجعاً حتى مضى بسبيله. ثم أعطاه الراية.

فتوجه علي (ع) بجيش الإسلام نحو قلعة الكبرى (من خيبر) فرآه رجل يهودي من أعلى الجدار فسأله من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب. فنادى اليهودي: أيتها الجماعة حان اندرحاركم،...

فجاء (مرحب) آمَرُ الحصن ونازل عليا فما كان إلا أن هوى إلى الأرض صريعا بضربة علي (ع) فالتحمت الحرب بين المسلمين واليهود بشدة فاقترب علي (عليه السلام) من باب الحصن فقلعه فدحاه فرماه بقوة خارقة إلى مكان آخر، وهكذا فتحت القلعة ودخلها المسلمون فاتحين.

واستسلم اليهود وطلبوا من النبي أن يحقن دماءهم لاستسلامهم، فقبل النبي (ص) وغنم الجيش الإسلامي الغنائم المنقولة، وأودع النبي (ص) الأرض والأشجار بأيدي اليهود على أن يعطوا المسلمين نصف محاصيلها.

وأخيرا وطبقا لما نقلته التواريخ فإن النبي الأكرم وزع غنائم خيبر على أهل الحديبية فحسب، حتى الذين لم يشتركوا في خيبر وكانوا في الحديبية جعل لهم النبي سهما من غنائم خيبر، وبالطبع لم يكن لهذا المورد أكثر من مصداق واحد وهو (جابر بن عبد الله الأنصاري).

2023/10/18

لماذا حارب النبي (ص) يهود خيبر؟ وكيف اقتحم الإمام علي (ع) حصونهم؟
يهود خيبر كانوا يمثِّلون الخطر الثاني بعد قريش وحلفاء قريش، فهم ممَّن كان قد أمدَّ الأحزاب يوم الخندق بالسلاح والعتاد والمال والمُؤن، وكانوا قد تحالفوا مع يهود بني قريظة ويهود بني قينقاع ويهود بني النضير الذين استطاع الرسول (ص) إجلاء بعضِهم وهزيمة آخرين، فاستراح من شرِّ يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة الذين كانوا أقرب إلى المدينة من يهود خيبر، لكنَّ خيبراً كانت أكثر تحصُّنًا.

وكان عدد اليهود فيها أكثر، وكلُّ مَن هرب أو أنَّ الكثير ممَّن هرب من فرسان ورجال اليهود قد لجأ إلى تلك الحصون، فيهودُ خيبر كانوا يمثِّلون الخطرَ الأكبر بعد قريش على دولة الإسلام، وكانوا قد أعدُّوا العُدَّة، لأنَّهم شعروا بأنَّ المواجهة مع الرسول (ص) قدرٌ محتوم، لابدَّ وأنَّه سوف يتحقَّق يومًا ما، لذلك فقد أعدُّوا العُدَّة، فتزوَّدوا بالكثير من المُؤن من الشعير، والتمر والماشية وغيرها من المُؤن داخل حصونهم، واستوردوا الكثير من السلاح من الشام وغير الشام، واجتمعت عندهم الكثيرُ من الأسلحة بعد هزيمة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكانوا من أهل رؤوس الأموال كما تعلمون، وكما هو شأنُ اليهود في على امتداد تاريخهم، فكانوا يستثمرون هذه الأموال في استجلاب السلاح والعتاد استعدادًا لمواجهة الرسول (ص)، وكانوا قد تحالفوا مع بقايا القبائل العربيَّة التي لم تدخل في الإسلام-وهي عديدة وكثيرة- وعلى رأسهم قبيلة غطفان التي كان يربو تعداد فرسانها على عشرة آلاف، فخطرُ يهود خيبر والقبائل العربيَّة المتحالفة معهم بعد تحييد قريش كان خطرًا كبيرًا.

لذلك لم يجد الرسول (ص) بدًا من مواجهة يهود خيبر، وكان يهود خيبر يفضِّلون أن تكون المعركة عند حصونهم، ذلك لأنَّ حصونهم كانت منيعة، وكانت بها شُرفٌ وسطوح يتمكنون بها من مواجهة المسلمين من العلو ومن تلك الشُرف، والمسلمون من الخارج فيرمونهم بالجزل والحجارة والسهام والنبل والنار، ولا يستطيع المسلمون مقاومة كلِّ ذلك.

تخطيط يهود خيبر واستعدادهم للمواجهة:

على أنَّ حصارهم الذي كانوا يتوقعونه لن يُضيرهم -بحسب تقديراتهم- بل سيُضير المحاصرين، فالمحاصِرون هم المحاصَرون بحسب تقييمهم، لأنَّ المحاصرين سوف يكونون في العراء تحت أشعةِ الشمس، وستكونُ مؤنُهم محدودةً لأنَّهم سيكون بعيدين عن ديارهم فسيشقُّ عليهم نقل ما يكفي لمدَّةٍ طويلة، وسيكون التزوُّد معسورًا لبُعد المسافة، وذلك بحسب تقديرهم سوف يُدخل الوهن عليهم ويُضعفهم عن القدرة على الاستمرار في حصارهم لمدةٍ طويلة، وفي المقابل كان اليهود مستعدين للحصار لمدة طويلة جدًا لا يقوى جيشٌ على الصبر عليها، وهو خارج الحصون في صحراء قاحلة يؤتى بالماء من مكانٍ بعيد ولا يستطيع أن يتزود إلا بعد مشقة وعناء. كل هذه الحسابات كانت تقتضي بنظر اليهود استدراج المسلمين لتكون المواجهة قريبة من حصونهم، ثم أنهم قد خندَّقوا الحصون من خارجها وخندَّقوا الحصون من داخلها، فعلى المسلمين أن يتجاوزوا الخنادق التي هي على أطراف حصون خيبر، ثم إذا تجاوزوها واستطاعوا فتح أبواب الحصون فعليهم أنْ يتجاوزوا الخنادق التي بين أبواب الحصون وبين مواقع سكنى ومواقع صفوف جيش اليهود.

فالمعركة كانت في غاية الصعوبة والخطورة ولكنَّ الرسولَ (ص) إنَّما أقدم عليها لأنَّها كانت ملحَّة، ولم يكن بدٌ منها، فكان ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ وقد وعده -ووعده صادقٌ لا يتخلَّف- أن يُغنمه خيبر، وهذا الذي وقع.

انطلاق الرسول (ص) إلى خيبر والمسار الذي اختاره:

فبعد أنْ استراح الرسول (ص) في المدينة مقدار عشرين يومًا أو أكثر أو أقل، أُمر بأنْ يُعبَّأ جيشه، ولم يكن جيشه حينذاك يتجاوز الألف والخمسمائة، كان بينهم مئتي فارس، والبقية كانوا على الجمال. رحل الرسول (ص) بجيشه المحدود الذي لم يكن يتجاوز هذا العدد لكنَّه سلك طريقًا لم تكن اليهود تتوقعُه، فهو قد سار من جهة الشام وتوسَّط ما بين الشام وبين خيبر ليحولَ بينهم وبين ما يُمكن أن يصلَهم من قِبَل أحلافهم من طرف الشام وكذلك فإنَّ سلوك هذا الطريق يمنع اليهود من الهرب إلى الشام، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ سلوك هذا الطريق يمنع عنهم المدَد من طرف قبيلة غطفان التي كانت تشكِّل الخطر الأكبر على الرسول (ص) والمسلمين آنداك، لذلك تفاجؤوا حيث جاءهم المسلمون من حيثُ لم يحتسبوا.

المسلمون على أطراف حصون خيبر:

سار النبيُّ (ص) بجيشه حتى بلغ أطراف خيبر، فمكثوا حتى حان وقتُ صلاة الصبح فصلى بالناس وانتظر حتى بدأ ضوء النهار ينبسط في الأجواء، وفي الأثناء خرج المزارعون من أهل خيبر بمساحيهم وأدوات الحراثة كما هي عادتهم في كلِّ يوم، وكانت معهم دوابُّهم ومواشيهم، فرمق بعض المزارعين جيش المسلمين فقالوا: محمدٌ والخميس، محمد والجيش يعني، محمدٌ وجيشه، فقال الرسول (ص): اللهُ أكبر، خربتْ خيبر، إنَّا إذا نزلنا ساحةَ قوم فساءَ صباحُ المنذَرين([1]). فأخبر بذلك عن الوعدٍ إلإلهي المحتوم بالنصر. أسرع المزارعون فدخلوا حصونهم، وأغلقوا الحصون، وأحكموا الإغلاق، ووقعت حالة استنفار عند اليهود.

تعداد حصون خيبر:

كانت حصونُ خيبر موزَّعةً على ثلاث مناطق من أرض خيبر، وهي على أقلِّ التقادير سبعة حصون، أو أنَّ السبعة منها كانت الأكثر تحصينًا ومنعةً وكانت بعض الحصون بمثابة القلعة المشتملة على عددٍ من الحصون. وكان أول الحصون من الجهة التي بلغها النبيُّ (ص) حصنًا يُسمى الناعم، وكان فيه أربعة آلاف فارس من قبيلة غطفان، وكانوا على الشرك جاؤوا لمؤازرة اليهود وحمايتهم مقابل تموينهم بتمر خيبر مدَّة سنة كاملة.

حصنُ الناعم ومفاوضة المسلمين لغطفان:

فصار على المسلمين أن يواجهوا يهود خيبر وحلفاءهم من قبيلة غطفان والذين يبلغ تعدادُهم أربعة آلاف مقاتل، وقد تحصَّنوا معهم في حصن الناعم، وجيش المسلمين لا يبلغ الألفين، عندها بعث الرسولُ (ص) سعد بن عبادة زعيم الأنصار، وقال له: اذهب إلى غطفان وقل لهم: أن يتركونا ويهود خيبر، ولهم تمرُ يهود خيبر سنةً كاملة، إذا انتصرنا عليهم، وصلَ سعدُ بن عبادة (رحمه الله) إلى الحُصن وطلب الحديث إلى زعيم قبيلة غطفان، وكان اسمُه عيينه بن الحصن، كان رأيه أنْ يدخلَ سعدُ بن عبادة إلى الحصن ليتمَّ التفاوضُ معه داخلَ الحصن ولكن مرحبًا -وهو أحد زعماء اليهود- رفض ذلك وقال: إذا أدخلتَ سعدًا إلى الحُصن تعرَّف على مواضع الخلل والفجوات ومواضع العورات التي في الحصن، فقال عيينة: كنتُ أريد أنْ أُدخل الرعب في قلبه، إذ أنَّه إذا دخل الحُصن فوجد مِنعته ارتاع قلبُه وداخله الوهن، فقال مرحب: لا، اخرج وتفاوض معه خارجَ الحصن.

خرج زعيم غطفان فتفاوضَ مع سعد فقال له سعد: خلُّوا بيننا وبين اليهود نُناجزهم فإذا انتصرنا عليهم فلكم علينا أنْ نُعطيكم تمرَ يهود خيبر مدَّة سنةٍ كاملة، فأبى، فقال عيينة: نحن معهم في حلف وبيننا وبينهم معاهدة، ولا يمكن أن ننقض عهدنا معهم، قال له سعد: إنَّ الذي نطلبه منك ستتطلبُه منَّا ثم لن تجده، فأُحذِّرك، إنَّ رسول الله (ص) قد وعده ربُّه خيبر، ولا يخلفُ اللهُ وعده، فأنصحُك أن تنسحب ومَن معك من قبيلة غطفان واتركونا مع اليهود، رفض عيينة ما عرض عليه سعد ودخل الحصن وأغلقوه([2]).

وعاد سعدُ بن عبادة إلى رسول الله (ص) وأخبره عمَّا دار بينه وبين زعيم قبيلة غطفان وأنَّه أبى عليه الاستجابة إلى عرضه، عندها عبَّأ النبيُّ (ص) جيشه وأعطى لواءه كما هي العادة إلى عليِّ بن أبي طالب (ع)([3]) فتقدَّم بها إلى حصن الناعم فلم يلبث طويلًا حتى اقتحم بمَن معه هذا الحصن وعندها هرب اليهود ومن معهم من رجال قبيلة غطفان ولم تقع بينهم وبين المسلمين مواجهة، وهكذا سقط الحُصن الأول في أيدي المسلمين.

كيف اقتحمَ عليٌّ (ع) بالمسلمين حصن الناعم:

كيف وقع ذلك وكيف دبَّ الرعبُ في قلوب رجال قبيلة غطفان فنكلوا عن المواجهة؟ إنَّ ذلك من مصاديق قول النبيِّ (ص): نصرت بالرعب، ولعلَّ اسم عليٍ (ع) كان هو السبب في دخول الرعب في قلوبهم.

يذكر المؤرخون أنَّ عليًا (ع) تقدم حتى بلغ الحصن، يعني أنَّه تجاوز خندقه فوصل إلى باب الحصن، وكان هذا الحصن من أكثر الحصون منعةً ولكنَّه ظاهرًا كان دون حصن القموص تحصينا، أمسك عليٌّ بباب الحصن فاقتلعه، فدبَّ الهلع والرعب في قلوب اليهود وحلفائهم من غطفان، لم يتوقعوا ظاهرا- أنْ يتمَّ اقتلاع باب الحصن بهذه السرعة بل لعلَّهم لم يتوقعوا أنْ يتمكَّن المسلمون من تجاوز الخندق الذي يفصلهم عن باب الحصن لكن الذي وقع أصابهم بالذهول حيث وجدوا أنفسهم -دون توقع- وجها لوجه مع المسليمن بعد أن اقتلع عليٌّ (ع) باب الحصن اقتلاعًا وكان أقصى خطر في خلَدهم أن يتمكن المسلمون بعد جهدٍ جهيد من فتح الباب وليس اقتلاعه من أصوله لذلك ركبوا كلَّ صعبٍ وذلول وهربوا وبذلك استراح المسلمون من مواجهة قبيلة غطفان والذين لم يكونوا سوى مرتزقة ولذلك حين جدَّ الجد لم يصمدوا.

عليٍّ يقتلع باب حصن الناعم ويرمي به بعيدًا:

يقول أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خرجنا مع عليٍّ حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برايته فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجلٌ من يهود فطرح ترسه من يده فتناول عليٌّ باب الحصن فترَّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح اللهُ عليه ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفرٍ من سبعة أنا ثامنهم نجهد على أنْ نقلب ذلك الباب فما استطعنا أنْ نقلبه"([4])، كيف تمكَّن عليٌّ (ع) من اقتلاعه من أصوله لا ندري، وكان عليٌّ قد رمى به بعد اقتلاعه -كما في بعض الروايات- أربعين ذراعًا، الحصن الذي نتحدَّث عنه ليس حصن القَموص الذي أفادت الروايات أنَّ بابه الذي اقتلعه أميرُ المؤمنين (ع) يعجز عن حمله أربعون رجلًا أو يزيد وهو الذي عناه ابن أبي الحديد في قصيدته الشهيرة والتي جاء فيها:

يا قالعَ الباب الذي عن هزِّها ** عجزتْ أكفٌّ أربعونَ وأربع

يا هازم الأحزاب لا يُثنيه عن ** خوض الحمام مدجَّجٌ ومدرَّعُ

أأقولُ فيك سميدعٌ كلا ولا ** حاشا لمثلِكَ أنْ يُقال سميدعُ

بل أنت في يوم القيامة حاكمٌ ** في العالَمين وشافِعٌ ومشفَّعُ([5])

كلَّما اقتحم المسلمون حصنًا هرب اليهود إلى حصن آخر:

بقيت الإشارة إلى أنَّ المسلمين لمَّا أنْ دخلوا حصن الناعم وهربت قبيلة غطفان ومن كان معهم من اليهود حيث كان في الحصن منافذ ومخارج طوارئ فتسللت منها قبيلة غطفان وانسحبت من المعركة، ودخل اليهود إلى حصنٍ آخر، فثمة حصونٌ عديدة كما أشارنا لذلك منها حصنٌ يُسمَّى الشقَّة، وآخر يُسمَّى القلة، وثمة حصنٌ باسم ابن أبي الحقيق، وآخر يسمَّى البراء، وكذلك ثمة حصن الكتيبة وسلالم وحصون أخرى وكان كلَّما اقتحم المسلمون حصنًا ونجى من اليهود جماعة هربوا إلى الحصن الآخر.

ونظرًا لضيق الوقت نُرجئُ الحديث عن كيفيَّة فتح حصن القَموص والذي هو أمنع الحصون وأوسعها إلى جلسةٍ أخرى، فهذا الحصن الذي امتدَّ الحصار حوله قرابة الأربعة والعشرين يومًا هو الذي تسمعون أنَّ المسلمين قد عجزوا عن اقتحامه وكلَّما قصدته كتيبة من جيش المسلمين عادت أدراجها خائبة إلى أنْ كلَّف رسول الله (ص) عليًّا (ع) باقتحامه فذهب واقتلع بابه وفتح اللهُ خيبر على يديه.

الهوامش: [1]- المغازي -الواقدي- ج2 / ص643، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص106، دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص203. [2]- لاحظ: المغازي  -الواقدي- ج2 / ص650، امتاع الأسماع -المقريزي- ج13 / ص331. [3]- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص106، ج3 / ص23، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- 42 / 74، الإرشاد -المفيد- ج1 / ص79، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص137، المناقب -الموفق الخوارزمي- ص359. [4]- دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص212، المغازي -الواقدي- ج2 / ص655، السيرة النبوية -ابن هشام- ج3 / ص798. [5]- (الروضة المختارة في شرح العلويات السبع) -ابن أبي الحديد- ص140.
2023/10/15

واحلل عقدة من لساني.. هل عانى موسى (ع) من عيب في لسانه؟!
يبدو أن الداعي لهذا السؤال هو ما اشتهر في بعض التفاسير: بأن موسى قد أكل جمرة في صغره فأحدثت له عاهة في لسانه منعته من النطق الواضح والفصيح.

وقد اعتمد هذا التفسير على بعض الروايات المرسلة عند الفريقين سنة وشيعة، وهذه الروايات وإن كان لها صيغ متعددة، إلا أنها تشترك في معنى واحد؛ وهو أن فرعون أراد أن يقتل موسى بعد أن صدر منه أمراً أغضبه، فقالت امرأة فرعون: إنّه غلام حدث، لا يدري ما يقول، ثمّ اقترحت أن يضع أمامه تمر وجمر، ليرى هل يميّز بينهما، فمدّ موسى يده إلى التمر، فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر، فاحترق لسانه.

وقد تمّ التشكيك في هذه الرواية من بعض علماء السنة والشيعة، فالرواية مرسلة من جهة الإسناد، ومن جهة المتن لا تصلح أن تكون مفسرة لقوله تعالى (واحلل عقدة من لساني) وذلك من عدة وجوه:

أولاً: الظاهر من الرواية أنّها تثبت وجود عاهة ونقص في موسى، وهذا خلاف المبدأ العقليّ الحاكم بكمال الأنبياء من كل نقص يوجب القدح فيهم.

ثانياً: عاش موسى قبل بعثته فترة في قومه، كما أنه عاش عشر سنين في مدين، ولا وجود لأي إشارة تؤكد أنه كان يعاني في النطق والتفاهم، ولم يتحدّث موسى (عليه السلام) عن عقدة لسانه إلّا بعد تكليفه بالرسالة، الأمر الذي يقودنا إلى ضرورة النظر لهذه الآية - بعيداً عن هذه الرواية - للوقوف على المقصود من عقدة اللسان التي بدأت مع التكليف بالرسالة.

ثالثاً: قوله تعالى (واحلل عقدة من لساني) لا تدل بالضرورة على وجود عيب في اللسان، سواء كان بسبب خلقي أو بسبب احتراقه بالنار، فعقدة اللسان تحدث في مواقف كثيرة، مثل: الرهبة والدهشة والخشية والخجل أو غير ذلك، وبالتالي ليس هناك ضرورة لتفسير العقدة بوجود عيب عضوي وعاهة يعاني منها اللسان.

رابعاً: طلب إحلال عقدة اللسان يمكن حملها على وجود عيب في السامع، وليس عيباً في اللسان، فالكلام والحديث يختلف بالضرورة من مقام إلى مقام، ومن موضوع إلى موضوع، ومن مخاطب إلى مخاطب آخر، فلكل مقام مقال كما يقال.

وعلى ذلك يكون موسى طلب من الله أن يمكنه من الكلام بالشكل الذي يكون مفهوماً وواضحاً للمخاطبين.

والذي يرجح هذا المعنى: هو أن موسى بيّن علّة طلبه بقوله: (يفقهوا قولي)، فهذه الجملة تفسير لما قبلها، وعليه يكون المراد من حل عقدة اللسان ليس التلكؤ والعسر في النطق، وإنما المراد هو عقدة اللسان بسبب إِدراك وفهم السامع، سواء كان ذلك بسبب طبيعة الموضوع، أو بسبب ثقافة السامع، أو بسبب الحالة النفسية عند الطرفين، أو غير ذلك.

ومثال على ذلك هو أنني أكتب هذه الإجابة وأنا ارجو أن يحلل الله العقدة من لساني حتّى أوفّق في شرح وبيان هذا المعنى وإيصاله على الوجه الصحيح للقارئ.

خامساً: هذه الآية جاءت في سياق دعاء موسى لربّه بعد أن كلفه بالذهاب إلى فرعون، قال تعالى: (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).

ودعاء موسى (عليه السلام) بهذه الأمور لا يدلّ على أنّه كان فاقداً لها، فممّا لا شكّ فيه أنّ الله لم يختر موسى لرسالته إلّا بعد أن كان صدره منشرحاً بالإيمان، بل الله هو الذي تكفّل برعايته وتربيته منذ ولادته، قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)، وفي آية أخرى يقول تعالى مخاطباً موسى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)، ويُفهم من ذلك: أنّ الله تعالى هو الذي تكفّل وتدخّل بنفسه لصناعة موسى ورعايته، وهذا يدل على وجود دور خطير وكبير يتمّ إعداد موسى للقيام به في المستقبل، أي: أنّ هناك مهمّة صعبة تنتظر موسى (عليه السلام) تستدعي كلّ هذه العناية والرعاية من الله تعالى.

ولذا ليس من المستغرب أن يستعظم موسى هذه المهمة عندما يُكلّف بها، فبمجرد أنْ كلّفه الله بالذهاب إلى فرعون استشعر خطورة المهمّة، فطلب من الله بأن يعينه على ذلك من خلال شرح صدره وحلّ عقدة لسانه وتأييده بأخيه هارون.

سادساً: هناك علاقة واضحة بين إرسال موسى إلى فرعون وبين طلبه إحلال العقدة من لسانه، ويتّضح السبب في ذلك من خلال آيات أخرى جاء فيها: (وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ)، فهذه الآيات تكشف وبشكل واضح السبب وراء عقدة لسانه، وهي ضيق الصدر، (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي) كما أنّ الآيات تكشف أيضاً السبب في ضيق صدره هو الخوف من تكذيبه، (إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي) ثم يضيف سبب أخر وهو (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ).

ويتضح من ذلك أن عقدة اللسان سببها ضيق الصدر وعدم تحمّله لطغيان فرعون وتكذيبه له، ولذا طلب من الله أن يرسل معه هارون ليتحدّث نيابة عنه، ومن هنا يمكننا أيضاً تفسير قوله تعالى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ)، فوصف هارون بالفصاحة لا يعني أنّ موسى أقلّ فصاحة منه، وإنّما يعني أنّ هارون أقلّ انفعالاً وتأثّراً باستفزازات فرعون وملائه. والدليل على ذلك: أنّ موسى علّل عدم فصاحته وعقدة لسانه بضيق الصدر (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي)، كما أرجع ضيق الصدر إلى خوفه من التكذيب، (إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي)، ومن أجل ذلك طلب من الله أن يرسل معه هارون.

فالعنصر المشترك بين جميع الآيات: هي خوف موسى من التكذيب، فاحتاج إلى هارون ليكون الشاهد على صدقه، وهذا ما صرحت به هذه الآية وهي قوله: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ).

هامش: المقال رداً على سؤال: هل صحيح ما يقال: إن في لسان النبي موسى (عليه السلام) عقدة وعجمة، تمنعه من الكلام الفصيح والمفهوم؟ وما معنى قوله تعالى: (وأحلل عقدة من لساني)؟
2023/10/11

2023/10/08

هل كان النبي راعياً للأغنام؟
لم يصح في شيءٍ ممَّا ورد عن أهل البيت (ع) أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل أجيرًا لأحدٍ في رعي الأغنام، نعم ورد ذلك في طرق العامَّة كما في صحيح البخاري بسنده عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "ما بعث اللهُ نبيًّا إلا رَعى الغنم، فقال أصحابُه: وأنت؟ فقال: نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة"([1]).

هذا وقد اختلفوا فيما هو المراد من قوله: "على قراريط" هل قصد من ذلك بيان مقدار الأجرة أو أنَّه قصَدَ الإشارة إلى المكان الذي كان يرعى فيه الغنم وأنَّ اسمه قراريط، وعلى أيِّ تقدير فإنَّ قوله: "لأهل مكة" ظاهرٌ في أنَّه كان يُؤجِّر نفسه لرعي أغنام أهل مكَّة.

وهذا الذي ننفيه ونقول إنَّه لم يصح عن أهل البيت (ع)، ويؤكِّده ما رُوي عن عمَّار بن ياسر والذي كان تِرْبًا لرسول (ص)([2]) وكان معه في مكَّة قال –كما في تاريخ اليعقوبي-: "ولا كان – أي النبي (ص)- أجيرًا لأحدٍ قط"([3]).

هذا مضافًا إلى أنَّ الاعتبار الاجتماعي وكون النبيَّ (ص) من أشراف قريش بل هو من أعلاهم نسبًا وحسبًا وأنَّه ابنُ عبد المطَّلب سيِّد قريش وابن أخي أبي طالب شيخ البطحاء يُعزِّز ما أُثِرَ عن عمَّار بن ياسر من النفي المؤكَّد لصيرورة النبيِّ (ص) أجيرًا لأحدٍ يومًا ما.

كان يرعى ما يملكه من أغنام:

نعم ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل برعي الأغنام، وهي رواية عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ما بَعثَ اللهُ نبيًا قط حتى يسترعيه الغنم، يُعلِّمه بذلك رعية الناس"([4]).

وكذلك أورد الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن عطية قال: سمعتُ أبا عبد الله (ع) يقول: إنَّ الله عزَّ وجل أحبَّ لأنبيائه (عليهم السلام) من الأعمال الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئًا من قطر السماء"([5]).

وأورد الراوندي عن الشيخ الصدوق عن أبي سلمه أنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنَّا عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بمُرِّ الظهران نرعى الكباش وأنَّ رسول الله قال: عليكم بالأسود منه فإنَّه أطيبه، قالوا: نرعى الغنم؟ قال: نعم، وهل نبيٌّ إلا رعاها"([6]).

فهذه الروايات وإنْ كانت ظاهرة في أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل برعي الأغنام ولكنَّها لا تدلُّ على أنَّه كان يرعاها لغيره، فالنبيُّ (ص) كأبناء عصره كان يملكُ أغنامًا، فكان يذهبُ بها للمرعى وربما ساقَ معها بعض غُنيمات أهلِه إحسانًا منه إليهم، وهذا هو معنى اشتغاله برعي الأغنام لا أنَّ الرعي كان مهنةً له وأنَّه كان يؤجِّرُ نفسَه لرعي أغنام الناس كما تدَّعيه بعضُ روايات العامَّة.

ولعلَّ ممَّا يؤيدُ ذلك ما أورده الراوندي عن الصدوق بسنده عن سيف بن حاتم عن رجل من ولد عمار عن آبائه قال: قال عمَّار رضي الله عنه: "كنتُ أرعى غُنيمة أهلي، وكان محمَّدٌ صلَّى الله عليه وآله وسلم يرعى أيضًا، فقلتُ: يا محمد هل لك في فخ (فج)؟ فإنِّي تركتُها روضة برق، قال: نعم فجئتُها مِن الغد وقد سبقني محمدٌ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يذودُ غنمَه عن الروضة، قال: إنِّي كنتُ واعدتُك فكرهتُ أنْ أرعى قبلك"([7]).

فقول عمَّار: "كنتُ أرعى غُنيمة أهلي، وكان محمدٌ (ص) يرعى أيضا" معناه ظاهرًا أنَّ النبيَّ (ص) كان يرعى أيضًا غنيمة أهله فلم يكن أجيرًا عند أحد.

لم يكن أجيراً عند خديجة بل كان مضارباً:

وأمَّا ما يُقال إنَّه (ص) عمل أجيرًا عند السيِّدة خديجة قبل زواجه منها فهذا أيضًا لم يصح، فما ثبت في السيرة هو أنَّه تاجرَ بأموال خديجة (رضوان الله عليها) بمعنى أنَّه كان مضارِبًا ولم يكن أجيرًا ومعنى المضاربة، هي أنْ يُتاجر أحدُ الطرفين بأموال الآخر ويكون الربحُ بينهما بالنسبة المتوافَق عليها بينهما.

ويُؤكِّد ذلك ما أُثر عن عمَّار بن ياسر(رضوان الله عليه) ينفي ما زعمه الناس من أنَّ النبيَّ (ص) كان أجيرًا عند السيِّدة خديجة (رضوان الله عليها) قال: "وإنَّه ما كان ممَّا يقول الناس أنَّها استأجرتْه بشيء، ولا كان أجيرًا لاحدٍ قط"([8]).

وهذا هو المستفاد ممَّا رواه ابنُ إسحاق -كما في تاريخ الطبري وغيره- قال: ".. فلمَّا بلغها -خديجة- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغها من صدقِ حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه بعثتْ إليه فعرضتْ عليه أنْ يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتُعطيه أفضلَ ما كانت تُعطي غيره من التُّجار مع غلامٍ لها يُقال له ميسرة، فقبله منها رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فخرجَ في مالِها ذلك"([9]).

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه لم يصح أنَّ النبيَّ (ص) كان يمتهنُ رعي الأغنام في مقتبل عمره الشريف، نعم كانت له أغنام وبعض الإبل ورثها من أبيه فكان يرعاها ويسوسها كما يسوسُ الرجلُ دوابَّه وأملاكه، وكذلك فإنَّه لم يعمل أجيرًا عند أحد، وما رُوي من خروجه إلى الشام بأموال خديجة (رضوان الله عليها) فإنَّ ذلك وإنْ صحَّ إلا أنَّه لم يصح أنَّه كان أجيرًا عندها بل كان مضاربًا ومتاجرًا بأموالها، فكان له نسبةٌ من الربح ولها نسبةٌ منه، ولو اتَّفق عدم الربح فمقتضى عقد المضاربة أنْ لا يكون على صاحب المال شيءٌ للمُضارٍب، وعلى خلاف ذلك تكون الإجارة، فإن الأجير يستحقُّ الأجرة على المؤجِّر مطلقًا سواءً حصل الربحُ أو لم يحصل بل حتى لو خسِرَ المؤجِّر فإنَّ الأجير يكون مستحقًّا للأجرة على المؤجِّر.

*المقال رداً على سؤال: هل صحَّ ما يُقال إنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل برعي الأغنام في مقتبل عمره الشريف؟ الهوامش: [1]- صحيح البخاري -البخاري- ج3 / ص48. [2]- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج20 / ص38. [3]- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص21. [4]- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص32. [5]- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص32. [6]- قصص الأنبياء -الراوندي- ص284. [7]- قصص الأنبياء -الراوندي- ص274. [8]- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص21. [9]- تاريخ الطبري -الطبري- ج2 / ص35، مناقب علي بن أبي طالب -ابن المغازلي- ص350، أسد الغابة -ابن الأثير- ج5 / ص435.
2023/10/02

هل اتّبع الشيعة جعفر الكذّاب بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري (ع)؟
إنَّ هذه الدعوى ساقطة وغيرُ قابلة للإثبات العلمي، فليس في الروايات ولا في تاريخ التشيُّع بل ولا في التاريخ العام للمسلمين ما يصلح لإثبات هذه الدعوى، نعم ورد نصٌّ واحد فيه اشعار بهذا المعنى ولا يرقى لمستوى الظهور، ولم يرد في البين سواه، فهو خبرٌ شاذ، فاقدٌ لشرائط الاعتبار والحجيَّة نظراً لتفرُّد ناقله بنقله أولاً وضعف سنده إلى ناقله ثانياً وجهالة مَن نُقل عنه ثالثاً.

هذا النصُّ أورده الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتابه كمال الدين وتمام النعمة عن أبي الأديان، وكلُّ مَن أورده بعد ذلك نقله عن هذا الكتاب، ولا بدَّ أولاً من نقل هذا النصِّ بطوله ثم نُبيِّن ما يمنع من صلاحيته لإثبات الدعوى المذكورة:

"قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): وحدَّث أبو الأديان قال: كنتُ أخدمُ الحسن بن عليِّ بن محمد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (ع) وأحملُ كتبه إلى الأمصار، فدخلتُ عليه في علَّته التي تُوفي فيها (صلوات الله عليه) فكتب معي كُتباً وقال: امضِ بها إلى المدائن فإنَّك ستغيبُ خمسة عشر يوماً وتدخلُ إلى سرِّ مَن رأى يوم الخامس عشر وتسمعُ الواعية في داري وتجدُني على المغتسل. قال أبو الأديان: فقلتُ: يا سيِّدي فإذا كان ذلك فمَن؟ قال: مَن طالبك بجوابات كُتبي فهو القائم من بعدي، فقلتُ: زدني، فقال: مَن يصلِّي عليَّ فهو القائمُ بعدي، فقلتُ: زدني، فقال: مَن أخبر بما في الهميان فهو القائمُ بعدي، ثم منعتني هيبتُه أنْ أسأله عمَّا في الهميان. وخرجتُ بالكتب إلى المدائن وأخذتُ جواباتها ودخلتُ سرَّ مَن رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (ع) فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعةُ من حوله يعزُّونه ويهنونه، فقلتُ في نفسي: إنْ يكن هذا الامام فقد بطلت الإمامة، لأنِّي كنتُ أعرفه يشربُ النبيذ ويُقامر في الجوسق ويلعبُ بالطنبور، فتقدَّمتُ فعزَّيتُ وهنيت، فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كُفِّن أخوك، فقم وصلِّ عليه فدخل جعفر بن عليٍّ والشيعة من حوله يقدُمهم السمَّان والحسن بن عليٍّ قتيل المعتصم المعروف بسلمة. فلمَّا صُرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن عليٍّ (صلوات الله عليه) على نعشه مُكفَّناً، فتقدَّم جعفرُ بن عليٍّ ليُصلِّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سُمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليٍّ، وقال: تأخَّر يا عم فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي، فتأخَّر جعفر، وقد أربدَّ وجهُه واصفر. فتقدَّم الصبي وصلَّى عليه، ودُفن إلى جانب قبر أبيه (ع) ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتُها إليه، فقلتُ في نفسي: هذه بينتان بقي الهميان، ثم خرجتُ إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنُقيم الحجَّة عليه؟ فقال: والله ما رأيتُه قط ولا أعرفُه. فنحن جلوس إذ قدم نفرٌ من قم فسألوا عن الحسن بن علي (ع) فعرفوا موته فقالوا: فمَن "نعزِّي"؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلَّموا عليه وعزَّوه وهنوه وقالوا: إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممَّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفضُ أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلمَ الغيب، قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان "وفلان" وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لاخذ ذلك هو الامام، فدخل جعفر بن عليٍّ على المعتمد وكشف له ذلك، فوجَّه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وادَّعت حبلاً بها لتُغطِّي حال الصبي فسُلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موتُ عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشُغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين"(1).

هذا هو تمام النصِّ الذي أورده الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتابه كمال الدين وتمام النعمة، وقد نقله عن أبي الحسن عليِّ بن محمد بن خشَّاب أو حبَّاب، قال: حدثني أبو الأديان، فعليُّ بن محمد بن خشَّاب معاصرٌ لأبي الأديان بقرينة قوله في النصِّ الذي سبق هذا النص: "حدثني أبو الأديان"، وعليه فإدراك الشيخ الصدوق (رحمه الله) لمحمد بن عليِّ بن خشَّاب غير مُحرَز، وذلك لبُعد الفاصلة الزمنية بينهما، ولو تجاوزنا الإشكال من جهة اتَّصال السند فإنَّ عليَّ بن محمد بن خشَّاب ناقل النص عن أبي الأديان مجهولُ الحال بل هو مهمَلٌ، لم يُذكر أصلاً في شيءٍ من كتب الأصول الرجاليَّة، وكذلك فإنَّ أبا الأديان صاحب النصِّ المذكور مجهول الحال ومهمَل بل هو مجهول الهويَّة أيضاً، فلا يُعرَف له ولا لأبيه أسم، وكونه من خدم الإمام (ع) وانَّه بصري لم يُعرف إلا من دعواه في هذا النص، فالرواية في غاية الضعف من جهة السند، لذلك لا يصحُّ الاستناد إليها والاحتجاج بشيءٍ من مضامينها التي انفرد بها هذا النص. نعم لا مانع من الاستشهاد في مقام التأييد بالمضامين التي ورد ذكرها في رواياتٍ أخرى متعددة، ولذلك أورد الشيخ الصدوق (رحمه الله) هذا النص رغم ضعف سنده.

هذا هو الإشكال من جهة السند، وهو كافٍ لإسقاط الدعوى المذكورة عن الاعتبار نظراً لكونِها ترتكز على هذا النصِّ الفاقد لشرائط الحجيَّة، فبسقوطه تسقط الدعوى من أساسها.

هذا مضافاً إلى اكتناف موضع الشاهد من النصِّ المذكور على عددٍ من المبعِّدات يُفضي مجموعها إلى الاطمئنان بعدم الوقوع، فموضع الشاهد في النص المذكور هو قول أبي الأديان: "وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعةُ من حوله يعزُّونه ويهنونه"، وقوله في موضعٍ آخر من النص: "فتقدمتُ فعزيتُ وهنيت"، وقوله: "فأشار الناس إلى جعفر بن عليٍّ فسلَّموا عليه وعزَّوه وهنوه".

المبعِّد الأول: إنَّ سياق النص صريحٌ في انَّ تهنئة جعفر وقعت عند فناء دار الإمام (ع)، والإمام مازال مسجىً على المغتسل في بيته، والواعية وصراخُ النساء تعجُّ وتضجُّ بها دار الإمام (ع) كما يُستفاد ذلك من قول أبي الأديان: "فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعةُ من حوله يعزُّونه ويهنونه".

فإذا كان هذا هو ظرف التهنئة، فهل يطمئنُ عاقلٌ سويٌّ بصحة دعوى وقوع التهنئة؟! فهل من اللياقة والأدب أن ينبري الشيعة العاشقون لإمامهم المفجوعون بفقده إلى تهنئة أحدٍ في هذا الظرف الكئيب؟!، وكيف يليق ذلك وإمامهم مازال مسجىً على المغتسل لم يفرغوا حتى من تشييعه ومواراته في قبره؟! وكيف يستسيغون ذلك وصراخ النساء وواعيتهن تملأ الفضاء وتُضفي على الأجواء مشاعر الأسى والحزن. إنَّ صدور التهنئة في مثل هذا الظرف لا يقبلُها الأسوياء لوكان الميِّت شيخاً فانياً فكيف تصدرُ أو يتمُّ التصديق بصدورها والميِّت شابٌّ قويُ البنية صحيحُ البدن مات في ظرفٍ غامض -على أقلِّ تقدير- وبعدُ لم يتم الفراغ من تجهيزه!! وفوق كلِّ ذلك هو امامُهم وموئلهم.

المبعِّد الثاني: إنَّ تهنئة الإمام اللاحق عند وفاة الإمام السابق لم يكن مألوفاً بل ولا معهوداً عند الشيعة في مثل الظرف الذي يصوِّره لنا أبو الأديان، فاستقراءُ تاريخ وفيَّات الأئمة (ع) يرسم صورةً مباينة تماماً للمشهد الذي صوَّره لنا أبو الأديان، فالكآبة والحزن والأسى تكون هي البارزة على محيَّا الإمام اللاحق، وقد يخرج إلى الناس حاسر الرأس حافي القدمين، وكذلك هو حال الشيعة في مثل هذا الظرف.

فالمبادرة لتهنئة الإمام اللاحق من قِبَل الشيعة حين وفاة الإمام السابق ليس معهوداً في تاريخ وفيَّات الأئمة (ع) على امتداد أكثر من قرنين من الزمن، وذلك ما يُعزِّز الارتياب في النص المنسوب لأبي الأديان.

ولولا خشية الإطالة لاستعرضنا ما أفاده الرواة والمؤرخون في توصيف أحوال الأئمة (ع) وشيعتهم في عند وفاة واحدٍ من أئمة أهل البيت (ع)، إلا أنَّه لا يشقُّ على الباحث الوقوف على ذلك في مظانِّه.

المبعِّد الثالث: إنَّ الروايات المتظافرة التي تصدَّت لبيان ما وقع قُبيل وحين وبعد وفاة الإمام العسكري (ع) تتحدَّث عن أنَّ جهاز الدولة العباسية لم يُفارق بيت الإمام (ع) في هذا الظرف، فلم يخلُ بيته حينذاك من القادة والأجناد وأطباء السلطان والقضاة ووجهاء العباسيين، وكذلك فإنَّ دار الإمام ومحيطها في ساعة الوفاة وحين التجهيز لجثمان الإمام (ع) كانت تعجُّ بأخلاط الناس، ولم يكن أكثرهم من الشيعة كما هو المعروف عن مدينة سامراء، وعليه فكانت دواعي التقية في أجلى صورها، فصدق ما زعمه صاحب النص من صدور التهنئة بالإمامة في هذا الظرف من قِبل الشيعة هو في غاية البُعد عن الواقع.

ولتوثيق ما ذكرناه نكتفي بنقل رواية صحيحة الأسناد رواها الشيخ الصدوق في كمال الدين عن أبيه (رحمه الله) وعن شيخه الجليل محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه الله) قالا: "حدَّثنا سعد بن عبد الله -وهو ثقة جليل القدر-قال: حدَّثنا من حضرَ موت الحسن بن عليِّ بن محمد العسكري ودفنه ممَّن لا يُوقف على إحصاء عددهم، ولا يجوز على مثلهم التواطئ بالكذب. وبعد فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وذلك بعد مضي أبي محمد الحسن بن علي العسكري (ع) بثمانية عشر سنة أو أكثر مجلس أحمد بن عبيد الله ابن خاقان، وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم، وكان من أنصب خلق الله وأشدِّهم عداوةً لهم. فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرِّ من رأى، ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد بن عبيد الله: ما رأيتُ ولا عرفتُ بسرِّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن عليِّ بن محمد بن الرضا (ع)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إيَّاه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتَّاب وعوام الناس .. والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليٍّ ما تعجبتُ منه، وما ظننتُ أنَّه يكون. وذلك أنه لما اعتلَّ بعث إلى أبي أنَّ ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم أمير المؤمنين كلُّهم من ثقاته وخاصَّته، فمنهم نحرير وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي وتعرُّف خبره وحاله، وبعث إلى نفرٍ من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه، وتعاهده في صباحٍ ومساء. فلمَّا كان بعد ذلك بيومين جاءه مَن أخبره أنَّه قد ضعف، فركب حتى بكَّر إليه ثم أمر المتطبِّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أنْ يختار من أصحابه عشرة ممَّن يُوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً. فلم يزالوا هناك حتى تُوفي لأيامٍ مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين فصارت سرُّ مَن رأى ضجَّةً واحدة "مات ابن الرضا ".. ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعُطِّلت الأسواق، وركب أبي وبنو هاشم، والقواد والكتُّاب وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرُّ من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة. فلمَّا فرغوا من تهيئته، بعث السلطان إلى أبي عيسى ابن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلمَّا وُضعت الجنازة للصلاة، دنا أبو عيسى منها فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدِّلين، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان. ثم غطَّى وجهه، وقام فصلَّى عليه وكبَّر عليه خمساً وأمر بحمله، وحُمل من وسط داره، ودُفن في البيت الذي دُفن فيه أبوه .."(2).

أورد هذا الخبر -مع اختلافٍ يسير- الشيخ الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عن الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَشْعَرِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وغَيْرُهُمَا وكذلك أورده الشيخ المفيد في الإرشاد عن شيخه أبي القاسم بنفس السند(3).

المبعِّد الرابع: إنَّ ممَّا هو متسالمٌ عليه بين الإمامية هو انَّ الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين (ع)، وقد وردت في ذلك رواياتٌ كثيرة عن الأئمة الذين سبقوا الإمام العسكري (ع) كالإمام الصادق والإمام الرضا (ع)، فمن ذلك ما رواه الكليني وغيره بسندٍ صحيح عن حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّه قَالَ: "لَا تَجْتَمِعُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ إِنَّمَا هِيَ فِي الأَعْقَابِ وأَعْقَابِ الأَعْقَابِ"(4).

ومنه: ما رواه الكليني وغيره بسندٍ صحيح عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَعُودُ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ أَبَداً، إِنَّمَا جَرَتْ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ .. فَلَا تَكُونُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (ع) إِلَّا فِي الأَعْقَابِ وأَعْقَابِ الأَعْقَابِ"(5).

فعدمُ اجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (ع) كان من القضايا المُتسَالم عليها منذ الصدر الأول لتبلور مذهب الإمامية، ولهذا يكون ما ورد في نصِّ أبي الأديان -لو حملناه على المعنى الذي ادعاه صاحب الشبهة- منافياً لما هو ثابتٌ بالضرورة من أصول المذهب ومنافياً للأخبار الكثيرة المقطوع بصدورها في الجملة، ولهذا فهو ساقطٌ عن الاعتبار، إذ لا يصحُّ لدى العقلاء التشبث بنصٍّ شاذ والإعراض عمَّا استفاض نقله بأسانيد صحيحة ومعتبرة ومتسالَمٍ على مضمونها.

المبعِّد الخامس: لم يكن جعفر بن عليٍّ معروفاً بالصلاح والعفاف وحسن السيرة ليُحتمل في مثله الأهليَّة للإمامة من قِبل عوام الشيعة اغتراراً بنسبه بل كان على العكس من ذلك، فقد كان مشتهراً بالاستهتار والمقارفة لبعض كبائر الذنوب كمعاقرة الخمر واللعب بالقمار وحضور مجالس اللهو والطرب، والنصوص في ذلك متظافرة، لا يشقُّ على الباحث الوقوف عليها وعلى استفاضتها، حتى قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب الغيبة: "وما رُوي فيه وله من الافعال والأقوال الشنيعة أكثر من أن تُحصى"(6).

وعليه فمَن كانت هذه حاله لا يشتبهُ على الناس أمرُه فينسبوه إلى منصبٍ هو أجلُّ المناصب بعد النبوة، وإذا كان بعض الشيعة فد اغترَّ بنسب هذا الرجل وجهل بواقعه لبُعد موطنه أو لانصرافه إلى شئوناته الخاصة فتوهَّم لذلك وشبهه أهليَّةَ هذا الرجل للإمامة فإنَّ ما لا يمكن تعقُّله أن تنطلي مثل هذه الشبهة على عموم الشيعة خصوصاً من أهل سامراء الذين يعرف أكثرهم واقع هذا الرجل وما كان عليه من تهتُّكٍ واستهتار، وحينئذٍ كيف يسوغ لنا التصديق بما زعمه أبو الأديان: انَّ الشيعة كانوا حول جعفر يعزُّونه ويهنونه خصوصاً وانَّه ادَّعى انَّ فيهم السمَّانوهو من أعيان الشيعة؟!

ثم إنَّ أبا الأديان قد اقرَّ في هذا النص بأنَّه يعرف جعفراً بمقارفة الذنوب، قال: "لأنِّي كنتُ أعرفه يشربُ النبيذ ويُقامر في الجوسَق ويلعب بالطنبور"، فرغم اقراره بأنَّ تلك هي سيرة جعفر إلا انَّه مع ذلك بادر-بحسب زعمه-إلى تهنئته، وذلك ما يُسوِّغ لنا احتمال أنْ تكون التهنئة التي زعمها غير متَّصلة بالإمامة، لأنَّ الضرورة قائمة على انَّها لا تليق بمَن كانت هذه سيرته، ولهذا فمن المحتمل قويَّاً إنَّ التهنئة التي زعم وقوعها كانت متَّصلة بشأنٍ آخر غير الإمامة كالتهنئة مثلاً بمنصبٍ يقتضيه نسبُه، فلعلَّهم كانوا يُهنئونه بمثل تسنُّمه لنقابة الطالبيين أو الوصاية على أملاك وأوقاف الإمامين الهادي والعسكري (ع) أو شبه ذلك، ولهذا قلنا في بداية الجواب عن الشبهة: انَّ النصَّ المذكور لا ظهور له في أنَّ التهنئة كانت بالإمامة لاستبعاد أنْ يعترف ابو الأديان بمعاقرة جعفر للنبيذ ولعبه بالقمار والطنبور ثم يُبادر لتهنئته بالإمامة.

ويُؤكِّد استبعاد أنْ يكون المراد من التهنئة هي التهنئة بالإمامة ما ورد في ذات النص أنَّ وفد القميين الذين قدموا بعد وفاة الإمام (ع) بادروا إلى تعزية وتهنئة جعفر لكنَّهم في ذات الوقت رفضوا تسليمه للكتب والأموال التي يحملونها وطلبوا منه اخبارهم أولاً بأسماء أصحاب الكتب التي يحملونها ومقدار المال الذي يحملونه وقالوا: "إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممَّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفضُ أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلم الغيب"(7).

فلو كان مراد القميين من تهنئتهم له هي التهنئة بالإمامة فإنَّه لا معنى بعد ذلك لرفضهم تسليمه للأمانات التي بأيديهم، ولا معنى لامتحانه بعد أنْ أقرَّوا بإمامته فإنَّ ذلك يؤكِّد انَّ تهنئتهم له لم تكن بالإمامة وإنَّما هي تهنئةٌ بمنصبٍ لعلَّه قد ثبت له من جهة النسب وإنْ كان جعفر قد طمع لخفَّة عقله أن تكون التهنئة بما هي أوسع.

هذه مبعِّداتٌ خمسة يُشرف المتأمل فيها يسيراً على القطع بكذب ما ورد في نصِّ أبي الأديان من دعوى تهنئة الشيعة لجعفر بن علي بالإمامة، نعم لو كانت التهنئة المزعومة على أمرٍ آخر غير الإمامة لأمكن احتمالها دون الجزم بوقوعها وبسقوط النصِّ المذكور عن الاعتبار والحجيَّة تسقط دعوى انَّ الشيعة بادرت إلى تهنئة جعفر بالإمامة من أساسها، لأنَّه ليس في البين ما يصلح لأثبات هذه الدعوى سوى هذا النص الضعيف من جهة السند والشاذ من جهة المتن.

اشتباه بعض الشيعة لا يعبِّر عن عدم وضوح العقيدة المهدويَّة:

وأما أنَّ بعض الشيعة قد لُبِّس عليهم في بدايات الغيبة الصغرى فتوهَّموا إمامة جعفر بن علي -إما لبُعدهم عن أجواء الأئمة (ع) وأصحابهم أو لتضليل المضلِّين أو لمصالح شخصية أو ما أشبه ذلك- فهذا صحيح لكنَّه لا يُعبِّر عن عدم وضوح العقيدة المهدوية عند جمهور الشيعة، فإنَّ وقوع بعض الشيعة في شبهةٍ تصرفهم عمَّا عليه الضروري من أصول المذهب أمرٌ غير مستغرَبٍ ولا هو مستوحَش كما هو الشأن في سائر الملل والمذاهب، فلا يصحُّ لعاقلٍ يحترمُ عقله أن يتشبَّث بوقوع بعض المنتسبين لمذهبٍ في شبهةٍ لإثبات انَّ مورد تلك الشبهة لم يكن أمراً بيِّناً وواضحاً عند جمهور ذلك المذهب، فإنَّ مبرِّرات وقوع بعض المنتسبين لمذهبٍ في الاشتباه أو الانحراف عن مذهبهم ليست معدومة، فلا يصحُّ عند العقلاء الاستدلال بذلك على أنَّ مورد اشتباههم كان أمراً غامضاً عند الجمهور، فالذي يصلح لإثبات الغموض لقضيةٍ في مذهبٍ هو اشتباه جمهور ذلك المذهب من علمائه والسواد الأعظم لمنتسبيه، على أنَّ التضخيم لما وقع في بدايات الغيبة الصغرى من توهُّم بعض الشيعة لإمامة جعفر هي محاولة تفضحُ وهنَها وزيفَها حقائقُ التأريخ التي تؤكِّد أنَّ ما عليه جمهور الشيعة في مختلف الحواضر الإسلامية هو الاعتقاد بإمامة الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) وأنَّ عدد مَن اعتقد بامامة جعفر كان محدوداً جداً ثم ما لبث أكثرهم أنْ تراجعوا بعد أن تبيَّن لهم فسادُ ما كانوا قد وقعوا فيه، ومَن بقي منهم على ضلاله لم يتمكَّن من تمريره حتى على عقِبه وذوي قرابته، فلم يبقَ في الجيل الذي تلا هؤلاء المضلِّين أحدٌ يقبل بمعتقدهم.

يقول الشيخ أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، وهو من أعلام القرن الثالث الهجري وكانت وفاته بين 300ه و310ه أي أنَّ نشاطه العلمي كان في بدايات الغيبة الصغرى التي بدأت سنة 260ه وانتهت سنة 329 فوفاة الرجل وقعت قبل انقضاء الغيبة الصغرى بعقدين أو أكثر من الزمن، يقول (رحمه الله) في كتابه فرق الشيعة: -كما حكى عنه ذلك الشيخ المفيد في الفصول المختارة-: فقال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر (ع) وأثبتوا ولادته وصحَّحوا النصَّ عليه، وقالوا هو سميُّ رسول الله (ص) ومهديُّ الأنام، واعتقدوا أنَّ له غيبتين إحداهما أطول من الأخرى، والأولى منهما هي القصرى، وله فيها الأبواب والسفراء، ورووا عن جماعة من شيوخهم وثقاتهم أنَّ أبا محمد الحسن (عليه السلام) أظهره لهم وأراهم شخصه .."(8).

فهذا هو مذهب جمهور الشيعة منذ بدايات الغيبة الصغرى، وأمَّا الآراء الشاذة التي نشأت نتيجة بُعد بعض أبناء الشيعة عن أجواء الائمة (ع) وأصحابهم أو نتيجة الظروف السياسية أو تضليل المضلِّين فهي آراء ما لبثتْ أنْ تبخَّرت وعفى عليها الدهرُ، وتخلَّى عنها معتنقوها أو ماتت بموتهم فلا تجد لهم من باقية، لأنَّها كانت فاقدة لأبسط مقوِّمات البقاء.

يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) في الفصول المختارة بعد استعراضه وتفنيده للآراء الشاذَّة التي تبنَّى كلٍّ منها فريقٌ من المنتسبين للشيعة بعد وفاة الإمام العسكري (ع) قال (رحمه الله): وليس مِن هؤلاء الفرق التي ذكرناها فرقةٌ موجودة في زماننا هذا، وهو من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلا الإماميَّة الاثنا عشرية القائلة بإمامة ابن الحسن المسمَّى باسم رسول الله (ص) القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت قيامه بالسيف، حسبما شرحناه فيما تقدَّم عنهم، وهم أكثر فرق الشيعة عدداً وعلماء ومتكلِّمين ونظَّاراً وصالحين وعبَّاداً ومتفقِّهة، وأصحاب حديث، وأُدباء وشعراء، وهم وجه الإماميَّة ورؤساء جماعتهم والمعتمَد عليهم في الديانة. ومَن سواهم منقرضون .."(9).

*المقال رداً على سؤال: أحدُهم ادَّعى انَّه بعد وفاة الإمام العسكري (ع) اتَّجه الشيعة إلى جعفر ابن الإمام الهادي المعروف بالكذَّاب فعزَّوه بوفاة أخيه وهنئوه بالإمامة ثم بعد ذلك انقلبوا عليه واعتقدوا بالإمام الثاني عشر المهدي (ع). فإذا صحَّت هذه الدعوى ألا تُعبِّر تهنئتُهم لجعفر بالإمامة عن عدم وضوح العقيدة بالمهدي عند الشيعة؟ الهوامش: 1- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص475. 2- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص40. 3- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص505، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص324. 4- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص286. 5- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص285. 6- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص227. 7- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص476. 8- الفصول المختارة -الشيخ المفيد- ص318. 9- الفصول المختارة -الشيخ المفيد- ص321.
2023/09/24

ما حقيقة أن الإمام العسكري (ع) كان عقيماً ولا ولد له؟!
 إنّ منَ الإشكالاتِ التي كانَ يثيرُها - ولا يزالُ - كثيرٌ منَ المُشكّكينَ والمُخالفينَ بينَ الحينِ والحين هيَ دعوى أنّ الإمامَ الحسنَ بنَ علي العسكريّ (ع) كان عقيماً لم يعقّب، والغرضُ مِن هذا الإشكالِ - كما هوَ واضحٌ - نقضُ عقيدةِ الشيعةِ الإماميّةِ فيما يعتقدونَه في إمامةِ الإمامِ الثاني عشر مِن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام الذي هوَ الإمامُ الحجّةُ المُنتظر محمّدٌ بنُ الحسن العسكريّ (عج) كما هوَ معروفٌ بينَ أهلِ العلم.

وفي الآونةِ الأخيرةِ ازدادَ طرحُ هذا الإشكالِ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ، حتّى تأثّرَ به بعضُ شبابِ الشيعةِ ممّن لا علمَ لهم بأساليبِ التدليسِ والتمويه التي ينتهجُها المخالفونَ حينَ يطرحونَ مثلَ هذه الإشكالاتِ بأسلوبٍ مُنمّقٍ بزعمِ أنّها حقائقُ مُغيّبةٌ عن الشيعة، فمِن هذهِ الإشكالاتِ التي نراها بكثرةٍ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ، ما أوردَه بعضُ كتّابِ الوهّابيّةِ المدعوّ عبدُ الرّحمنِ دمشقيّة في كتابِه المُسمّى (حوارٌ هادئٌ بينَ السنّةِ والشيعة)، إذ أوردَ هذا الإشكالَ في كتابِه بهذهِ العبارة: (لقد أكّدَت كتبُ الشيعةِ بحزمٍ أنَّ الحسنَ العسكري - الإمامُ الحادي عشر - كانَ عقيماً ولم تحمل منهُ زوجاته ولا جواريه، وأنّه لمّا ماتَ سنةَ 260 هـ دخلَ أقرباؤه على زوجاتِه وجواريه لعلّهم يجدونَ واحدةً منهنّ حاملاً، فلم يجدوا واحدةً منهنّ حاملاً. ممّا جعلهم يقسّمونَ ميراثَه بينَ أمّه وأخيهِ جعفر (الكافي الحُجّة 1/505 الإرشادُ للمُفيد 339 كشفُ الغمّة 408 الفصولُ المُهمّة 289 كتابُ جلاءِ العيون 762:2 وكتابُ أعلامِ الورى للطبرسي 377).وأنَّ السّلطانَ أرسلَ إلى دارِ الحسنِ العسكري مَن يفحصُ زوجاتِه وجواريه، فتبيّنَ له أنّه لم يكُن لهُ ولدٌ أبداً. (المقالاتُ والفِرق للقمّي 102 كتابُ الغيبةِ للطوسي 74).ولهذا قالَ الشيخُ الشيعي المُفيد « فلم يظهَر لهُ ولدٌ في حياتِه ولا عرفَه الجمهورُ بعدَ وفاتِه » (الإرشادُ 345 إعلامُ الورى بأعلامِ الهُدى للطبرسي 380).  

واعترفَت كتبُ الشيعة، بأنّه:" لم يُرَ لهُ خلفٌ، ولم يُعرَف له ولدٌ ظاهر، فاقتسمَ ما ظهرَ مِن ميراثِه، أخوهُ جعفرٌ وأمّه" قالَه القُمّي - الشيعي - في كتابه "المقالاتُ والفِرق" ص/102). انتهى كلامُه.  

 أقولُ تعقيباً على ما أوردَه هذا الكاتب: إنّ مَن يقرأ عنوانَ هذا الكتابِ يحسبُ أنّ مؤلّفَه استخدمَ الطريقةَ العلميّةَ في النقاشِ والحوار، فناقشَ الشيعةَ وحاورَهم حواراً هادئاً كما ادّعى، بعيداً عن التعصّبِ والتجريحِ والمُغالطةِ والتزويرِ والتدليس والقذف والبهت وقلبِ الحقائق وطمسِها، إلّا أنّه إذا تصفّحَ القارئُ المُنصفُ هذا الكتابَ وقرأ مضمونَه يجدُ خلافَ ذلكَ تماماً، إذ يجدُ مؤلّفَه يلصقُ بالشيعةِ ما هُم منهُ براءٌ، وينسبُ إليهم منَ العقائدِ ما لا يؤمنونَ به، ويلزمُهم بلوازمَ لا يصحّ إلزامُهم بها، وأتى فيه بالكثيرِ ممّا هوَ مُجانبٌ للحقيقةِ ومخالفٌ للواقعِ الذي عليهِ الشيعة. فضلاً عن تلاعبِه بالنّصوصِ واقتناصِه منها ما يؤدّي إلى قلبِ الحقيقة رأساً على عقب، فعلى سبيلِ المثال: في هذا الموضعِ انظُر كيفَ تقوّلَ على علماءِ الشيعةِ ما لم يتلفّظوا بهِ مُطلقاً، فهو يعبّرُ في كتابه تارةً بقوله: (لقد أكّدَت كتبُ الشيعةِ بحزمٍ أنَّ الحسنَ العسكري - الإمامَ الحاديَ العشر - كانَ عقيماً ولم تحمل منهُ زوجاتُه ولا جواريه). وتارةً بقوله: (ولهذا قالَ الشيخُ الشيعي المُفيد « فلم يظهَر لهُ ولدٌ في حياتِه ولا عرفَه الجمهورُ بعدَ وفاته ». وتارةً بقوله: (واعترفَت كتبُ الشيعةِ، بأنّه:" لم يُرَ له خلفٌ، ولم يُعرَف لهُ ولدٌ ظاهر، فاقتسمَ ما ظهرَ مِن ميراثِه، أخوه جعفر...)، ثمَّ تراهُ يذكرُ المصادرَ التي اعتمدَها في نقلِ عباراتِه، ليوهِمَ القارئَ بأنّه ليسَ إلّا ناقلاً لِـما وجدَه في هذهِ المصادر والكتب!!   

ولكن عندَ الفحصِ والتدقيقِ فيما نقله نجدُ أنّ الأمرَ بخلافِ ذلك، وأنّه كانَ يتلاعبُ بالنّصوصِ فيضيفُ إليها عباراتٍ مِن عنده، وينقصُ منها أخرى لغايةٍ في نفسِه، فنحنُ – على سبيلِ المثال – إذا رجعنا إلى كتابِ المقالاتِ والفرق، لأبي خلفٍ سعدٍ بنِ عبدِ الله الأشعري القمّيّ، (ص102)، حينَ كانَ يترجمُ للإمامِ العسكريّ (ع)، نجدُه يوردُ في ترجمتِه النصّ الآتي: (وولدَ حسنٌ بنُ عليّ في شهرِ ربيعٍ الآخر سنةَ إثنتينِ وثلاثينَ ومائتين، وتوفّى بسرَّ مَن رأى يومَ الجمعةِ لثمانِ ليالٍ خلونَ مِن شهرِ ربيعٍ الآخر سنةَ ستّينَ ومائتين، ودفنَ في دارِه في البيتِ الّذي دفنَ فيه أبوه، وهوَ ابنُ ثمانٍ وعشرينَ سنة، وصلّى عليهِ أبو عيسى بنُ المتوكّل، وكانَت إمامتُه خمسَ سنين وثمانيةَ أشهرٍ وخمسةَ أيّام، وتوفّى ولم يرَ لهُ خلفٌ ولم يعرَف لهُ ولدٌ ظاهر، فاقتسمَ ما ظهرَ مِن ميراثه أخوهُ جعفرٌ وأمُّه وهيَ أمّ ولدٍ كانَ يقالُ لها عسفان

ثمّ سمّاها أبوه حديث، فافترقَ أصحابُه مِن بعدِه خمسَ عشرةَ فرقة).   

وهاهنا سؤالٌ يفرضُ نفسَه: هل يجدُ القارئُ المُنصفُ في عبارةِ القمّيّ: أنّ العسكريّ (ع) كانَ عقيماً؟!

هذا فضلاً عن أنّ هذا الكاتبَ قد دلّسَ على القرّاءِ ما كانَ يعتقدُه القمّيّ في الإمامِ الحُجّةِ المُنتظر (عج) في نفسِ كتابه (المقالاتُ والفرق)، وذلكَ أنّ المحدّثَ القمّيَّ الثقة بمجرّدِ أنِ انتهى مِن ترجمةِ الإمامِ الحسنِ العسكريّ (ع)، وفي الصّفحة (102) نفسِها، شرعَ في بيانِ الفِرقِ التي افترقَت بعدَ وفاةِ العسكريّ (ع)، فبدأ بأوّلِ فرقةٍ يؤمنُ بها، وهيَ فرقةُ الإماميّة، وذكرَ فيها ما كانَ يعتقدُه في الإمامِ الحُجّة المُنتظر (عج) صريحاً، وإليكَ بعضاً من كلامِه الدالِّ على ذلك، إذ قالَ: ففرقةٌ منها وهيَ المعروفةُ بالإماميّة، قالت للهِ في أرضِه بعدَ مُضيّ الحسنِ بنِ عليٍّ حجّةٌ على عبادِه وخليفةٌ في بلاده، قائمٌ بأمرِه مِن ولدِ الحسنِ بنِ عليٍّ بنِ محمّدٍ بنِ عليّ الرّضا ، آمرٌ، ناهٍ، مُبلّغ عن آبائِه مودعٌ عَن أسلافِه ، ما استودعوهُ مِن علومِ اللهِ وكتبِه وأحكامِه وفرائضِه، وسننِه ، عالمٌ بما يحتاجُ إليه الخلقُ مِن أمرِ دينهم ومصالحِ دُنياهم خلفٌ لأبيه ، ووصيٌّ له ، قائمٌ بالأمرِ بعدَه ، هادٍ للأمّة مهديٌّ على المنهاجِ الأوّلِ والسّننِ الماضيةِ منَ الأئمّةِ الجارية ...، إلى أن قال: فنحنُ متمسّكونَ بإمامةِ الحسنِ بنِ عليّ ، مقرّونَ بوفاتِه موقنونَ مؤمنونَ بأنّ لهُ خلفاً مِن صلبِه ، متديّنونَ بذلك، وأنّه الإمامُ مِن بعدِ أبيه الحسنِ بنِ علي ، وأنّه في هذهِ الحالةِ مُستترٌ خائفٌ مغمودٌ مأمورٌ بذلك ، حتّى يأذنَ اللهُ عزّ وجلّ له فيظهرَ ويعلنَ أمرَه ، كظهورِ مَن مضى قبلَه مِن آبائِه إذ الأمرُ للهِ تباركَ وتعالى يفعلُ ما يشاء ويأمرُ بما يريدُ مِن ظهورٍ وخفاء ونطقٍ وصموت ، كما أمرَ رسوله صلّى اللهُ عليه وآله في حالِ نبوّتِه بتركِ إظهارِ أمرِه والسكوتِ والإخفاءِ مِن أعدائِه والاستتار ، وتركِ إظهارِ النبوّةِ الّتي هي أجلُّ وأعظمُ وأشهرُ منَ الإمامة ، فلم يزَل كذلكَ سنينَ إلى أن أمرَه بإعلانِ ذلكَ وعندَ الوقتِ الّذي قدّرَه تباركَ وتعالى فصدعَ بأمرِه وأظهرَ الدّعوةَ لقومِه ...، وقالَ أيضاً: هذا معَ القولِ المشهورِ مِن أميرِ المؤمنينَ على المنبر : « إنّ اللّه لا يُخلي الأرضَ مِن حجّةٍ له على خلقِه ظاهراً معروفاً أو خافياً مغموراً لكي لا يبطلَ حجّته وبيّناته » وبذلكَ جاءَت الأخبارُ الصّحيحةُ المشهورةُ عن الأئمّةِ ، وليسَ على العبادِ أن يبحثوا عَن أمورِ اللهِ ويقفوا أثرَ ما لا علمَ لهُم به ويطلبوا إظهارَه، فسترَه اللهُ عليهم وغيّبَه عنهم ، قالَ اللهُ عزّ وجلّ لرسولِه : ولا تقفُ ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ، فليسَ يجوزُ لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ طلبُ ما سترَه الله ، ولا البحثُ عن اسمِه وموضعِه ، ولا السؤالُ عن أمرِه ومكانِه، حتّى يُؤمروا بذلك، إذ هوَ عليه السّلام غائبٌ خائفٌ مغمودٌ مستور بسترِ اللّهِ مِن متّبعٍ لأمرِه عزّ وجلّ ولأمرِ آبائِه ، بل البحثُ عن أمرِه وطلبُ مكانِه والسّؤالُ عن حالِه وأمرِه محرّمٌ ، لا يحلُّ ولا يسعُ لأنّ في طلبِ ذلكَ وإظهارِ ما سترَه اللهُ عنّا وكشفِه وإعلانِ أمرِه والتنويهِ باسمِه معصيةُ الله ، والعونُ على سفكِ دمِه عليهِ السّلام ودماءِ شيعتِه وانتهاكِ حرمتِه ، أعاذَ اللهُ مِن ذلكَ كلَّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ برحمتِه وفي ستِر أمرِه والسكوتِ عن ذكرِه حقنَها وصيانتَها سلامةُ ديننا والانتهاء إلى أمرِ اللّه وأمرِ أئمّتنا وطاعتِهم ، وفّقنا اللهُ وجميعَ المؤمنينَ لطاعتِه ومرضاتِه بمنِّه ورأفتِه .  

وهكذا الحالُ فيما أوردَ الشيخُ الحسنُ بنُ موسى النوبختي، في كتابِه فرقُ الشيعة، (ص108)، إذ نقلَ عينَ ما نقلَه القمّيُّ آنفاً. ونقلَ كذلكَ الكلامَ على الفرقِ التي افترقَت بعدَ الحسنِ العسكريّ (ع)، فذكرَ الفرقةَ الثانيةَ عشرة في (ص112) من كتابِه هذا، ونقلَ ما نقلَه القمّيّ آنفاً مع اختلافٍ يسيرٍ جدّاً لا يضرُّ في أصلِ المعنى، ... إلى أن قالَ في نهايةِ المطاف: فهذا سبيلُ الإمامةِ والمنهاجُ الواضحُ اللاحب الذي لم تزَل الشيعةُ الإماميّة الصّحيحةُ التشيّعِ عليه.  

وأمّا الشيخُ المُفيد (قدّ)، فإليكَ عبارتَه في كتابِه الإرشاد، (ص336) بفصِّها ونصّها، إذ يقولُ: (ومرضَ أبو محمّدٍ عليهِ السّلام في أوّلِ شهرِ ربيعٍ الأوّل سنةَ ستّينَ ومائتين، وماتَ في يومِ الجُمعة لثمانِ ليالٍ خلونَ من هذا الشهِر في السنةِ المذكورة، ولهُ يومَ وفاتِه ثمانٌ وعشرونَ سنة، ودُفنَ في البيتِ الذي دُفنَ فيهِ أبوه مِن دارهِما بسرَّ مَن رأى. وخلّفَ ابنَه المُنتظرَ لدولةِ الحقّ. وكان قد أخفى مولدَه وسترَ أمرَه، لصعوبةِ الوقت، وشدّةِ طلبِ سلطانِ الزّمانِ له، واجتهادِه في البحثِ عن أمرِه، ولِـما شاعَ من مذهبِ الشيعةِ الإماميّة فيه، وعرفَ مِن انتظارِهم له، فلم يظهَر ولدُه عليه السّلام في حياتِه، ولا عرفَه الجمهورُ بعدَ وفاته. وتولّى جعفرٌ بنُ عليّ أخو أبي محمّدٍ عليه السّلام أخذَ تركتِه). إنتهى كلامُه.   

فانظُر أخي القارئ المُنصف إلى هذا الكاتبِ كيفَ دلّسَ على الشيخِ المُفيد (قدّس)، حينَ اقتطعَ مِن عبارتِه: (وخلّفَ ابنَه المُنتظر لدولةِ الحقّ)، التي هيَ نصٌّ واضحٌ في إمامةِ الحجّةِ المُنتظر (عج) الذي خلّفَه والدُه الإمامُ العسكريّ (ع)، واقتصرَ على بقيّةِ كلامه: (فلم يظهَر لهُ ولدٌ في حياتِه ولا عرفَه الجمهورُ بعدَ وفاتِه). ليوهِمَ القارئَ أنّ الشيخَ المُفيد ممَّن يقولُ بمقالتِه.

وهكذا كانَ حالُ الكاتبِ في عرضِه لعباراتِ المؤلّفينَ في مواضعَ أخرى مِن كتابِه هذا، ولذا ردّ عليهِ بعضُ أهلِ العلمِ بكتابٍ سمّاهُ (الحصونُ المنيعةُ في الردّ على كتابِ (حوارٌ هادئ بينَ السنّةِ والشيعة)، هذا فضلاً عن جهلِ الكاتبِ بمُرادِ علمائِنا الأعلام ومقصودِهم فيما عبّروا بهِ في هذا الموضعِ حينَ كانوا يُعبّرونَ بقولهم: (ولم يُرَ له خلفٌ، ولم يُعرَف له ولدٌ ظاهرٌ)! أو عبارة: (فلم يظهَر ولدُه عليهِ السّلام في حياتِه، ولا عرفَه الجمهورُ بعدَ وفاتِه). إذ عدمُ رؤيةِ الخلفِ لا تدلُّ على عدمِ وجوِده كما لا يخفى ذلكَ على أهلِ العلمِ، وكذلكَ فإنّ عدمَ معرفةِ أنّ للإمامِ العسكريّ (ع) ولداً ظاهراً، لا يدلُّ على عدمِ وجودِ ولدٍ له مُختفٍ عن الأنظارِ كما هوَ واقعُ الحالِ الذي يدينُ به علماءُ الإماميّةِ سلفاً عَن خلف، حينَ استندوا في ذلكَ إلى عدّة أدلّةٍ تثبتُ ما ذهبوا إليه وتؤكّده، فمِن هذهِ الأدلّةِ التي إسنادُها كالشمسِ في رائعةِ النهار، ما رواهُ الشيخُ الكلينيّ (ره) في كتابِه (الكافي ج1/ص377) عن مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّه ومُحَمَّدُ بنُ يَحيَى جَمِيعاً عَن عَبدِ اللَّه بنِ جَعفَرٍ الحِميَرِيِّ قَالَ اجتَمَعتُ أَنَا والشَّيخُ أَبُو عَمرٍو رَحِمَه اللَّه عِندَ أَحمَدَ بنِ إِسحَاقَ فَغَمَزَنِي أَحمَدُ بنُ إِسحَاقَ أَن أَسأَلَه عَنِ الخَلَفِ، فَقُلتُ لَه: يَا أَبَا عَمرٍو إِنِّي أُرِيدُ أَن أَسأَلَكَ عَن شَيءٍ ومَا أَنَا بِشَاكٍّ فِيمَا أُرِيدُ أَن أَسأَلَكَ عَنه، فَإِنَّ اعتِقَادِي ودِينِي أَنَّ الأَرضَ لَا تَخلُو مِن حُجَّةٍ، إِلَّا إِذَا كَانَ قَبلَ يَومِ القِيَامَةِ بِأَربَعِينَ يَوماً، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ رُفِعَتِ الحُجَّةُ، وأُغلِقَ بَابُ التَّوبَةِ فَلَم يَكُ يَنفَعُ نَفساً إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيراً، فَأُولَئِكَ أَشرَارٌ مِن خَلقِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ وهُمُ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيهِمُ القِيَامَةُ، ولَكِنِّي أَحبَبتُ أَن أَزدَادَ يَقِيناً وإِنَّ إِبرَاهِيمَ (ع) سَأَلَ رَبَّه عَزَّ وجَلَّ أَن يُرِيَه كَيفَ يُحيِي المَوتَى قَالَ أولَم تُؤمِن قَالَ بَلَى ولَكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبِي، وقَد أَخبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَحمَدُ بنُ إِسحَاقَ عَن أَبِي الحَسَنِ (ع) قَالَ سَأَلتُه وقُلتُ مَن أُعَامِلُ أَو عَمَّن آخُذُ وقَولَ مَن أَقبَلُ؟ فَقَالَ لَه - العَمرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، ومَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ، فَاسمَع لَه وأَطِع، فَإِنَّه الثِّقَةُ المَأمُونُ، وأَخبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَنَّه سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ (ع) عَن مِثلِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَه: العَمرِيُّ وابنُه ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيكَ عَنِّي، فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، ومَا قَالا لَكَ، فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسمَع لَهُمَا وأَطِعهُمَا، فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ المَأمُونَانِ، فَهَذَا قَولُ إِمَامَينِ قَد مَضَيَا فِيكَ، قَالَ: فَخَرَّ أَبُو عَمرٍو سَاجِداً وبَكَى ثُمَّ قَالَ: سَل حَاجَتَكَ؟ فَقُلتُ لَه: أَنتَ رَأَيتَ الخَلَفَ مِن بَعدِ أَبِي مُحَمَّدٍ (ع)؟ فَقَالَ إِي واللَّه، ورَقَبَتُه مِثلُ ذَا، وأَومَأَ بِيَدِه، فَقُلتُ لَه: فَبَقِيَت وَاحِدَةٌ، فَقَالَ لِي: هَاتِ. قُلتُ: فَالاسمُ؟ قَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيكُم أَن تَسأَلُوا عَن ذَلِكَ، ولَا أَقُولُ هَذَا مِن عِندِي، فَلَيسَ لِي أَن أُحَلِّلَ، ولَا أُحَرِّمَ، ولَكِن عَنه (ع)، فَإِنَّ الأَمرَ عِندَ السُّلطَانِ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (ع) مَضَى، ولَم يُخَلِّف وَلَداً ، وقَسَّمَ مِيرَاثَه وأَخَذَه مَن لَا حَقَّ لَه فِيه وهُوَ ذَا عِيَالُه يَجُولُونَ لَيسَ أَحَدٌ يَجسُرُ أَن يَتَعَرَّفَ إِلَيهِم أَو يُنِيلَهُم شَيئاً وإِذَا وَقَعَ الِاسمُ وَقَعَ الطَّلَبُ فَاتَّقُوا اللَّه وأَمسِكُوا عَن ذَلِكَ. وغيرُها منَ الرّواياتِ التي أوردَها الكلينيّ في هذا الموضعِ التي تثبتُ ولادةَ الإمامِ (عج)، وتثبتُ وجودَ مَن رآه ، فمَن أرادَ المزيدَ فليرجِع إلى المصدرِ أعلاه.

وما يعنينا في هذا المقامِ الذي نريدُ أن يلتفتَ إليه كلُّ إنسانٍ يحترمُ عقلَه وأن يكونَ فيه بعضُ الإنصافِ العلميّ، أن يُدقّقَ فيما يُنقلُ منَ المسائلَ الخلافيّةِ، ويتحرّى الصّوابَ خدمةً للحقيقةِ وتأييداً، لئلّا يكونَ سبباً في تشويشِ الحقائقِ وضياعِها كما يفعلُ الوهابيّةُ، وبالتالي فإنّهُ لا يضرُّ إلّا نفسَه ومن تابعَه في ذلكَ وقلّده، وسيُكتشفُ تدليسُه على الناسِ ولو بعدَ حين، ولات حينَ مندم، لاسيّما أنّ في هذهِ الرّوايةِ التي رواها ثقةُ الإسلامِ الكلينيّ (أعلى اللهُ تعالى مقامه) يُصرّحُ فيها السّفيرُ الأوّلُ في الغيبةِ الصّغرى، وهوَ أبو عمرو عثمانُ بن سعيدٍ العمري بأنّه رأى الإمامَ الحجّة (عج)، يقولُ صريحاً: إنّي رأيتُ الإمامَ الحُجّة الخلفَ (ع)، وإنّه لا يحلُّ ذكرُ اسمِه، لأنّ الأمرَ عندَ السّلطانِ أنّ الإمامَ العسكريّ (ع) لم يخلّف، وإلّا لو علمَ السّلطانُ بولادتِه (عج) لطلبَه، ولذلكَ حصلَت الغيبةُ للإمام (عج)، فكيفَ يُدّعى عقمُ الإمامِ العسكريّ (ع) بعدَ رواياتِ الولادة، وهذهِ الرّوايةُ نفسُها تؤكّدُ على ولادةِ الإمام وتُعلِّلُ سببُ إخفاءَ أمره؟!  

وعليه: فإنّ ما ينقلُ مِن أخبارٍ عَن عقمِ الإمامِ العسكريّ (ع) فإنّه يدخلُ في دائرةِ الإعلامِ المُضلّلِ المسوّقِ الذي يهدفُ إلى نقضِ عقيدةِ الشيعة الإماميّة المبنيّةِ على أُسسٍ متينة، خصوصاً أنّ عباراتِ علمائِهم لا تنفي وجودَ ولدٍ للإمامِ العسكريّ (عليه السّلام) كما تقدّمَ بيانُ ذلك، غاية ما في الأمرِ أنّ السلطةَ وأغلبَ النّاسِ في ذلكَ الوقتِ ما كانوا يعلمونَ بوجودِ ولدٍ للإمامِ العسكريّ (عليه السّلام)، وذلكَ لأنّ الأخبارَ المُستفيضةَ علّلَت ذلكَ بوجودِ السريّةِ التامّة التي كانَ يعيشُها الإمامُ العسكريّ (عليه السّلام) للحفاظِ على ولدِه المُبارك، حتّى إنّ أقربَ النّاسِ إليه وهوَ أخوهُ جعفرٌ لم يكُن يعلمُ بالولادةِ المُباركة، فالولدُ موجودٌ، لكنّه غيرُ ظاهرٍ كما هو واضحٌ، وبإمكانكَ التدقيقُ في عبارتي القمّيّ والشيخِ المُفيد (قدّس) التي يتبنّاهما علماءُ الإماميّةِ سلفاً عَن خلف، لتطمئنّ إلى ذلك.

2023/09/24

من صلّى على جثمان النبي (ص)؟

 

الثابتُ عندنا أَّن أوَّل مَن صلَّى على جثمان رسول الله (ص) هو الإمامُ عليٌّ (ع) بعد أنْ قام هو بتغسيلِه وتحنيطِه وتكفينِه ثم أذِنَ للصحابة في الدخول إلى الحجرة الشَّريفة للصلاةِ عليه، فكان يُدخِل فوجًا فوجًا أو عشرة عشرة فيُصلُّون عليه فُرادى ثم يخرجون ليدخل غيرُهم، وكان عليه السلام يقول: إنَّ رسولَ الله إمامٌ حيًّا وميِّتًا.

ورد في الكافي بسندٍ صحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال: "أتى العباسُ أميرَ المؤمنينَ (ع) فقال: يا علي إنَّ الناس اجتمعوا أنْ يدفنوا رسولَ الله (ص) في بقيع المصلَّى وأنْ يؤمَّهم رجلٌ منهم، فخرج أميرُ المؤمنين (ع) إلى الناس فقال: يا أيُّها الناسُ إنَّ رسولَ الله (ص) إمامٌ حيًّا وميِّتًا وقال: إنِّي أُدفنُ في البقعةِ التي أُقبضُ فيها، ثمّ قام على الباب فصلَّى عليه ثم أمرَ الناسَ عشرةً عشرة يُصلُّون عليه ثم يخرجون"(1).

وورد في كتاب إعلام الورى للطبرسي رحمه الله نقلًا عن كتاب أبان بن عثمان قال: "حدَّثني أبو مريم عن أبي جعفرٍ الباقر (ع) وذكر حديثَ تجهيزِ رسولِ الله (ص) إلى أنْ قال: قال الناسُ كيف الصلاةُ عليه؟ فقال عليٌّ (ع): إنَّ رسولَ الله إمامُنا حيًّا وميِّتًا، فدخلَ عليه عشرةٌ عشرة فصلَّوا عليه يوم الإثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء، صلَّى عليه كبيرُهم وصغيرُهم ذكرُهم وأُنثاهم وضواحي المدينة بغير إمام"(2).

وورد عن عليِّ بن موسى بن طاووس في كتاب الطرف عن عيسى المُستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) عن أبيه (ع) قال: "كان فيما أوصى به رسولُ الله (ص) أنْ يُدفن في بيتِه ويُكفَّن بثلاثةِ أثوابٍ أحدها يَمان، ولا يدخل قبرَه غيرُ عليٍّ (ع) ثم قال: يا عليُّ كنْ أنت وفاطمة والحسن والحسين وكبِّروا خمسًا وسبعين تكبيرةً، وكبِّرْ خمسًا وانصرف، وذلك بعد أنْ يُؤذنَ لك في الصَّلاة، قال عليٌّ (ع): ومَن يأذنُ لي بها؟ فقال (ص): جبرئيلُ يُؤذنُك بها، ثم رجال أهل بيتي يُصلُّون عليَّ أفواجًا أفواجًا ثم نساؤهم ثم الناس بعد ذلك قال (ع): ففعلتُ"(3).

كيفيَّة الصلاة على النبيِّ (ص):

هذا ويظهرُ من بعض الروايات المعتبرة أنَّ صلاة المسلمين من الصحابة ونسائهم كانت بنحو الدعاء له والدوران حول جثمانه الشريف، فلم يُصلِّ على النبيِّ (ص) الصلاة المعهودة سوى عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين (ع) وأضافت بعضُ الروايات سلمانَ الفارسي وأباذر والمقداد، وأمَّا سائر المسلمين فكانوا يدخلون عليه فوجًا فوجًا فيتحلَّقون حول جثمانِه الطاهر ويقفُ أميرُ المؤمنين (ع) في وسطِهم فيُلقِّنهم ما يدعون به.

ورد ذلك في مثل صحيحة أبي مريم الأنصاري قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كُفِّن رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) في ثلاثةِ أثوابٍ -إلى أنْ قال:- قلتُ: وكيف صُلِّي عليه؟ قال: سُجِّيَ بثوبٍ وجُعل وسطَ البيت، فإذا دخلَ قومٌ داروا به وصلُّوا عليه ودعوا له ثم يخرجون ويدخلُ آخرون"(4).

وأورد الكليني الرواية -بتفصيلٍ أكثر- بسنده عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قُلْتُ لَه كَيْفَ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ (ص) قَالَ: "لَمَّا غَسَّلَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وكَفَّنَه سَجَّاه ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْه عَشَرَةً فَدَارُوا حَوْلَه ثُمَّ وَقَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فِي وَسَطِهِمْ فَقَالَ: ﴿إِنَّ الله ومَلائِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ فَيَقُولُ الْقَوْمُ كَمَا يَقُولُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْه أَهْلُ الْمَدِينَةِ وأَهْلُ الْعَوَالِي"(5).

وأورد الشيخ المفيد في الأمالي بسنده عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفرٍ محمد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام) قال: لمَّا فرغ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) من تغسيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتكفينه وتحنيطه أذِنَ للناس وقال: ليَدخلْ منكم عشرة عشرة ليصلُّوا عليه، فدخلوا وقام أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بينه وبينهم و قال: ﴿إِنَّ الله ومَلائِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾" وكان الناس يقولون كما يقول. قال أبو جعفر (عليه السلام): وهكذا كانت الصلاةُ عليه صلَّى الله عليه وآله"(6).

والظاهر عدم منافاة ما ورد من كيفيَّة صلاة المسلمين على جثمان الرسول (ص) وأنَّها كانت نحواً من الدعاء ولم تكن الصلاة المعهودة، الظاهرُ عدم منافاة ذلك مع ما ورد من أنَّ المسلمين كانوا يدخلون أفواجًا فيصلُّون ويخرجون، فإنَّ جملة " يُصلُّون" وإنْ كانت ظاهرةً بدْوًا في الصلاة المعهودة إلا أنَّ هذا الظهور لا يستقرُّ بعد تصدِّي الروايات الأخرى لتفسير كيفيَّة الصلاة وأنَّها كانت نحواً من الدعاء ولم تكن الصلاة المعهودة.

هذا ويمكن تأييد هذا الجمع ببعض ما ورد من طُرق العامَّة من أنَّ الصلاة على جثمان النبيِّ الكريم (ص) من قِبل المسلمين لم تكن أكثر من التسليم والدعاء(7).

*المقال رداً على سؤال: من الذي صلَّى على الجثمان الطاهر للنبيِّ الأكرم محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟


الهوامش: 1- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص451. 2- إعلام الورى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص270. 3- وسائل الشّيعة -الحر العاملي- ج3 / ص83. 4- وسائل الشّيعة -الحر العاملي- ج3 / ص85. 5- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص450. 6- الأمالي -الشيخ المفيد- ص32. 7- لاحظ: الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص291 قال: أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن علي قال لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السرير قال علي ألا يقوم عليه أحد لعله يؤم هو إمامكم حيا وميتا فكان يدخل الناس رسلا رسلا فيصلون عليه صفا صفا ليس لهم إمام ويكبرون وعليٌّ قائم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهم نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه ونصح لامته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل الله إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه فيقول الناس آمين آمين حتى صلى عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان". ولاحظ أيضاً: الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص290، الاستذكار -ابن عبد البر- ج3 / ص54.
2023/09/14

ما حقيقة مشاركة الحسن والحسين (ع) في الفتوحات الإسلامية؟
هناكَ بعضُ الروايات التي تشير إلى مشاركة لإمام الحسن وأخيه الحسين (عليهما السلام) في غزو شمال افريقيا سنة 26هـ وغزو طبرستان وخراسان سنة 30هـ في أيام الحاكم الأموي عثمان بن عفان، وقد ورد ذلك في كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للطبري المتوفى سنة 310، وأوردها إبن خلدون في كتابه العبر والمتوفى سنة 808هـ، وأخذها عنهم أغلب المؤرخين، ولم يروها المؤرخون الذين سبقوا الطبري كابن سعد في الطبقات، واليعقوبي في تاريخه، أو المعاصرين له كابنِ أعثم في فتوح البلدان والمسعودي في مروج الذهب. كما لم تروها كتب الشيعة المعتمدة كالإرشاد للشيخ المفيد، والمناقب لابن شهراشوب وغيرهما.

فقد جاء في تاريخ الطبري ج 3، ص 323 في حوادث سنة 30 ه طبعة مصر، إنهم اشتركوا في فتح طبرستان مع سعيد بن العاص، وأسند الرواية إلى حنش بن مالك التغلبي بثلاث وسائط، وهو يتحدث عن سنة 26هـ وقد توفي عام 310هـ، فهناك قطعٌ في سلسلة الرواة التي يجب أن تتضمن تسع أو عشر وسائط، مضافاً إلى معارضتها بالرواية الثانية التي يذكرها الطبري نفسه عن فتح طبرستان وبالإسناد نفسه (عن حنش بن مالك) لم يذكر فيها مشاركة الإمامين (عليهما السلام). واما إبن الاثير فقد نقل الخبر في كتابه الكامل في التاريخ 2/248، طبع بيروت ولكنه نقله من دون ذكر السند. وأمّا اليعقوبي في تاريخه فلم يذكرها، وكذلك المسعودي صاحب مروج الذهب.

أمّا رواية ابن خلدون التي أوردها في تاريخه جـ2 ص128 والتي ذكرت اشتراك الإمامين في غزو إفريقيا سنة (26هـ) مرسلة ولم تسند إلى راوٍ أو كتاب، مع أنّ ابن خلدون توفي سنة 808هـ بعد ثمانية قرون تقريباً من الغزوة، فهي رواية ساقطة لا سند لها، ولا يمكن الإعتماد عليها، علماً بأنّ الطبريّ أورد ذات الرواية ولم يذكر اشتراك الحسنين في الغزو. كما أنّ ابن خلدون لم يذكر في روايته عن فتح خراسان أو طبرستان اشتراك الإمامين رغم ذكره الغزوة وتفصيله في المناطق التي وصلها الفتح.

كلّ ذلك يجعل مشاركة الإمامين الحسن والحسين (عليهم السلام) مشكوك فيها ولا يمكن القطع بحدوثها، والذي يؤكد ذلك موقفهما من شرعية الخلافة واعتراضهما مع أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما جرى من اغتصاب الخلافة.

 أمّا لمن يعود الفضل في فتح بلاد فارس، فإنّ جوابه نجده عند أمير المؤمنين (عليه السلام) بكشفه عن السبب وراء تدافع القوم على فتح البلدان، فقد جاء في شرح النهج: 20 / 298 بقوله عندما قال له قائل: (يا أميرَ المؤمنين أرأيت لوكان رسول الله صلى الله عليه و آله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، وآنس منه الرشد، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت، ولو لا أن قريشاً جعلت أسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلماً إلى العز والأمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدّت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكرًا، ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرَت بعد الفاقة، وتموّلت بعد الجَهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لو لا أنه حق لما كان كذا، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوت وصيته، حتى أكل الدهر علينا و شرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممّن يعرف، ونشأ كثير ممّن لا يعرف.

وما عسى أن يكون الولد لو كان! إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقربني بما تعلمونه من القُرْب للنسب واللحمة، بل للجهاد والنصيحة، أفتراه لوكان له ولد هل كان يفعل ما فعلت! وكذاك لم يكن يَقْرُب ما قَرُبْتُ، ثم لم يكن عند قريش والعرب سبباً للحظوة والمنزلة، بل للحرمان والجفوة.

اللهم إنك تعلم أني لم أرد الأمرة، ولا علوّ الملك والرياسة، وإنما أردتُ القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها والمضي على منهاج نبيك، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك)

فبشارة رسول الله بفتح بلاد فارس تتنبأ بما سوف يقع ولا علاقة لها بشرعية الخلفاء ولا بسلامة نية الفاتحين فقد تكون نياتهم خالصة وقد تكون دوافعهم الملكُ والسلطان وبسط النفوذ والهيمنة، والله وحده هو العالم بحال القلوب؛ بل حتى من حارب بين يدي رسول الله قد يكون قتاله لأمر في نفسه كما هو حال شهيد الحمار.

هامش: المقال رداً على سؤال: هل الإمامان الحسن والحسين (ع) شاركا في الفتوحات؟ وإذا لم يشاركا ماهو السبب؟ ومن هم الذين نفذوا بشارة النبي (ص) وفتح الله على أيديهم فارس والروم؟ من الذي نشر الإسلام في أفريقيا ودول أوربا وغيرها من البلاد؟
2023/09/04

لماذا لُقّب الإمام الحسن (ع) بـ «كريم أهل البيت»؟
من شخصيات أهل البيت عليهم السلام الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا الإمام الحسن الزكي عليه السلام، هناك خصائص ثلاث تتجلى في شخصية الإمام الحسن الزكي  وتستحق أن نقف منها موقف التأمل والتدبر: الصفة الأولى: التضحية بالمقام الاجتماعي

الإمام الحسن عليه السلام كان يلقب بكريم أهل البيت، وهنا سؤال يطرح نفسه، لماذا يلقب الحسن بكريم أهل البيت؟ مع أن كل أهل البيت كانوا منابع ومناهل للكرم والعطاء، فلماذا الحسن بالذات يلقب بكريم أهل البيت؟

ربما يتصور الإنسان لأن الحسن كان يعطي أمواله ومنحه بلا تدقيق وبلا محاسبة، فلذلك لقب بكريم أهل البيت، جاءه رجل فطرق بابه، وقال:

لم يخب الآن من رجاك ومن

أنت جواد   وأنت   معتمد

لولا  الذي  كان  من أوائلكم     

حرك  من  دون بابك الحلقة

أبوك  قد  كان  قاتل الفسقة

كانت  علينا  الجحيم منطبقة

فأخرج إليه صرة من الدراهم والدنانير، قال:

خذها    فإني   إليك   معتذر

لو كان في سيرنا الغداة عصا

لكن  ريب  الزمان  ذو  غير    

واعلم  بأني  عليك ذو شفقة

أمست  سمانا  عليك مندفقة

والكف   مني   قليلة   النفقة

لماذا لقب بكريم أهل البيت، هل لأنه كان يعطي أمواله بلا حساب؟

الإمام عندما يعطي أمواله فإنما يعطيها إما لمن يستحقها أو لمن لا يستحقها، فإن كان يعطي الأموال لمن يستحقها، فهذا ليس كرما، بل هو حق من حقوق المساكين والمحتاجين ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ وإن كان يعطي أمواله لمن لا يستحقها، فهذا تبذير، والتبذير حرام، فلماذا يوصف بكريم أهل البيت وهل أن شخصيته العظيمة العملاقة تقوم ببضع دراهم ودنانير يعطيها للآخرين، فيلقب بكريم أهل البيت؟

الإمام محمد بن علي بن الحسين لقب بالباقر عليه السلام، لأنه كان يبقر العلم بقرا، هذه صفة تتناسب مع شموخ مقامه، وعلو موقعه، الإمام الحسين لقب بسيد الشهداء، هذه صفة تنسجم مع علو مقامه، أما تلقيب الحسن بكريم أهل البيت لأنه يعطي بعض الدراهم والدنانير لمن يسأله فهذا ليس لقبا ينسجم مع شموخ مقام الإمامة، وعلو موقع الإمامة، ما معنى كريم أهل البيت؟

لبيان ذلك نتعرض لأمرين:

الأمر الأول: مسألة الحاجة إلى المقام الاجتماعي

علماء النفس يقولون: هناك حاجات نفسية ثلاث يحتاجها الإنسان حاجة ماسة وأساسية:

حاجة الإنسان للأمن النفسي: الإنسان إذا لم يحصل على الأمن النفسي فإنه لا يمكنه أن يبدع، ولا أن يبتكر، لأنه لا يعيش الأمن والاستقرار.

حاجة الإنسان إلى الانتماء: الانتماء إما لقبيلة، أو لشركة، أو عائلة، لأن الشعور بالانتماء يعطي الإنسان شعورا بالعزة والحماية.

حاجة الإنسان إلى التقدير الاجتماعي: الإنسان يحتاج إلى أن تقدر جهوده، أعماله، إلى أن يجعل في المقام الاجتماعي اللائق بشأنه، الإنسان إذا لم تعطى ولم تغذى فيه هذه الحاجة، وهي حاجته إلى التقدير الاجتماعي فإنه يصاب بالإحباط والخذلان، وبالتالي فهو لا يشعر بقيمة ذاته وجهوده.

من هنا نقول بأن كل إنسان يحتاج إلى مقام اجتماعي بين أبناء المجتمع، وهذا المقام يعبر عنه بالكرامة، بالحرمة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ كل إنسان يحتاج إلى مقام اجتماعي، إلى كرامة، إلى حرمة، تصان حرمته، لا يعتدى عليه، لا تخدش كرامته، لا تضيع جهوده.

الأمر الثاني: هل يمكن للإنسان أن يضحي بالمقام الاجتماعي؟

لا يجوز للإنسان أن يعرض موقعه ومقامه الاجتماعي للاعتداء، وللنيل والجرح، في علم الفقه يقولون هناك فرق بين الحق وبين الحكم: الحق يسقط بالإسقاط، والحكم لا يسقط بالإسقاط، أنت بإمكانك أن تسقط حقوقك، لكن ليس بإمكانك أن تسقط الأحكام التي تصونك وتصون كرامتك، مثلا: أنا إنسان دائن، أدين شخصا بأموال معينة، أنا لي حق على هذا المدين، بإمكاني أن أسقط حقي وأقول: أسقطت عنك الدين الذي لي على ذمتك.

ولكن هل يجوز لي أن أقول للآخرين اغتابوني كما ترغبون، هذا حق لي وأنا أسقطته فإنه لا يجوز له ذلك، لا يجوز له تعريض نفسه للغيبة، لأن حرمة الغيبة من الأحكام وليست من الحقوق حتى يستطيع إسقاطه.

الحق يرتبط بمصلحة شخصية، ولذلك يمكن أن يسقطه الإنسان، أنا لي حق على فلان وهو الدين، هذا الحق مصلحة شخصية، وبما أن الحق يرتبط بمصلحة شخصية، لذلك يمكن لي أن أسقطه، بينما الأحكام لا ترتبط بمصالح شخصية، بل ترتبط بمصالح اجتماعية عامة.

مثلا: الإسلام عندما يقول يحرم الغيبة، فهو لم يحرم الغيبة رعاية للشخص المغتاب فقط، لم يحرمها لأجل مصلحة شخصية، وهي مصلحة الشخص المغتاب، وإنما حرم الغيبة لأن خلق الغيبة يربي الإنسان الذي يغتاب الآخرين على النفاق، بئس الأخ أخ يطريك شاهدا، ويأكلك غائبا، فالغيبة تربي الإنسان على النفاق، وعلى أن لا يرى حرمة للآخرين، وعلى أن يعتدي على شخصيات الآخرين، فحرمة الغيبة ليست حقا من الحقوق، لأنها لا ترتبط بمصلحة شخصية، وإنما هي حكم من الأحكام، لأنها منوطة بمصلحة اجتماعية عامة، وهي حفظ أبناء المجتمع عن الصفات الذميمة، كصفة النفاق، وهتك حرمات الآخرين، وتتبع عورات الآخرين، فيجوز لك أن تسقط الحق، ولكن لا يجوز لك أن تسقط الحكم، لذلك لا يجوز للإنسان أن يضحي وبموقعه الاجتماعي، وبكرامته، وحرمته، لأن ذلك حكم وليس حق حتى يسقط بالإسقاط، لذلك ورد في الحديث الشريف: ”إن الله فوض لعبده المؤمن كل شيء، ولم يفوض له إذلال نفسه“.

لو فرضنا أن التضحية بالمقام الاجتماعي يحفظ مصلحة الأمة الإسلامية وترابطها، فهل يجوز لي أن أضحي بمقامي الاجتماعي؟

نعم يجوز، بل يجب، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة“ من هنا نفهم موقعية الإمام الحسن الزكي ما ضحى إمام بموقعه الاجتماعي كما ضحى الإمام الحسن الزكي عليه السلام الإمام الحسن الزكي كان يعرف أنه إذا صالح معاوية سيعرض حرمته للهتك، سيعرض موقعه الاجتماعي للجرح، وللخدش، وللنيل والاعتداء وللظلم، ومع ذلك أقدم وضحى بهذا الموقع الاجتماعي في سبيل حفظ مصلحة الأمة، دخل عليه أعداؤه، فقالوا: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، ودخل عليه بعض شيعته وقالوا: السلام عليك يا مذل المؤمنين، وقال له بعض شيعته: ليتك مت يا حسن ولم تبايع معاوية، لقد رجعوا مسرورين بما أحبوا، ورجعنا مرغمين بما كرهنا.

الإمام الحسن تعرض لإهانات، واعتداءات على شخصيته وكرامته لم يتعرض لها أحد من أهل البيت عليه السلام إذن الحسن عندما أقدم على الصلح وضحى بالموقع الاجتماعي، وضحى بالشخصية الاجتماعية، والتضحية بالموقع الاجتماعي ربما تكون أعظم من التضحية بالنفس، فإن الإنسان قد يتحمل أن يقتل نفسه، ولكنه لا يحتمل أن يتعرض للإهانة، ربما يتحمل أن يريق دمه، ولا يتحمل أن يتعرض لاعتداء على شخصيته، وعلى كرامته، لذلك لقب بكريم أهل البيت، وليس لأنه يعطي أموال للآخرين، كل الناس تعطي أموال للآخرين، حاتم الطائي كان المثل الأعلى بين العرب في الكرم والجود، الحسن لقب بكريم أهل البيت لا لأنه يعطي أموال، وينفق أطعمة، الكرم نوع من التضحية، الحسن لقب بكريم أهل البيت لأنه ضحى بأمر لا يضحي به الإنسان العادي، ضحى بشخصيته وموقعه الاجتماعي في سبيل حفظ مصلحة الأمة ووحدتها، وفي سبيل حفظ الأمور العامة للمجتمع الإسلامي، فهو ضحى بأمر عظيم لذلك لقب بكريم أهل البيت.

من هنا نفهم أن تضحية الحسن لا تقل عن تضحية أخيه الحسين، الحسين ضحى بجسده، بحياته، والحسن ضحى بحرمته، وبموقعه الاجتماعي العظيم، وتعرض للاعتداء الواضح، كل ذلك في سبيل مصلحة الأمة، الحسين ضحى بحياته في سبيل إصلاح الأمة «ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح» والحسن  ضحى بموقعه الاجتماعي في سبيل مصلحة الأمة «إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو لي، تركته لإصلاح أمر الأمة، وحقن دمائها» ”هما إمامان قاما أو قعدا“ فكل منهما ضحى بنوع من التضحية، وضحى بطريق من طرق التضحية.

إذن هذا هو السر في تلقيب، وتوصيف الإمام الحسن الزكي عليه السلام بكريم أهل البيت.

الصفة الثانية: خشية الله تبارك وتعالى

يروي المؤرخون أن الإمام الحسن الزكي كان إذا توضأ للصلاة اصفر لونه، وارتعدت فرائصه، وكان إذا وقف على باب المسجد، وقف وقفة الذليل المستكين، وقال: «إلهي مسكينك ببابك، أسيرك بفنائك يا محسن قد أتاك المسيء، أنت المحسن وأنا المسيء، يا محسن تجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم» لماذا يصفر لون الإمام الحسن وترتعد فرائصه وهو نقي تقي مطهر من الرجس، مصداق واضح للآية المباركة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا﴾ فهل كان الإمام الحسن الزكي يخاف عذاب النار، أو يخاف محاسبة الملائكة؟

هناك فرق بين الخوف، وبين الخشية، القرآن الكريم فرق بين هاذين المصطلحين، قال في وصف الأولياء الأتقياء ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وقال في وصف العلماء ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فهناك خوف، وهناك خشية، وفرق بين الخوف والخشية.

الخوف: هو الانفعال الناشئ عن توقع الألم، من يتوقع ألما ينفعل، فهذا الانفعال النفسي الناشئ عن توقع الألم يسمى الخوف، الإنسان الذي يصدر منه الذنب وتصدر منه المعصية، لأنه يتوقع حسابا ويتوقع ألما، ويتوقع عقابا، لذلك يصاب بالقشعريرة، بالانفعال النفسي، هذا يسمى خوف.

الخشية: هي الخضوع الناشئ عن إدراك العظمة، من أدرك عظمة إنسان، فخشع له، كان خشوعه خشية وليس خوفا، الخشية لا تعني توقع ألم، مثلا: عندما تدخل على أحد العلماء العظام، فتصاب بالخضوع والهيبة والإجلال له، هذه خشية وليست خوفا، الخشية خضوع ناشئ عن عظمة، لذلك كانت الخشية من صفات العلماء، لأن العلماء بالله كلما تكاملت علومهم، وارتفعت درجاتهم في معرفة الله تبارك وتعالى، كان إدراكهم لعظمة الله تعالى أكبر، فكان الخضوع الناشئ عن إدراك عظمة الله أكثر سيطرة، وأكثر هيمنة على قلوبهم وعلى مشاعرهم ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ والحسن  من أوضح مصاديق العلماء، فكان ما يعتريه، وما يتجسد من خلال عبادته، هو من مظاهر الخشية، وليس من مظاهر الخوف.

الصفة الثالثة: سمو النفس

نحن نعرف أن الإمام الحسن الزكي وغيره من أئمة أهل البيت عليه السلام لا يبالون باعتداء الآخرين، إذا اعتدى عليهم إنسان يبتسمون، ويمرون مر الكرام، ولا ينفعلون ولا تظهر عليهم سمات الغضب أو الانفعال، هل لأنهم لا يشعرون بأن لهم كرامة أو عزة كي لا يتأثروا بجرح الآخرين واعتداء الآخرين لهم، لماذا لا يغضبون لمثل هذه الاعتداءات، ولمثل هذا الجرح؟

ورد عن الإمام الحسن الزكي عليه السلام أن رجلا شاميا رأى الإمام الحسن في مكة المكرمة، قال: من هذا؟ قالوا: هذا الحسن ابن علي ابن أبي طالب، فشتمه وشتم أباه أمير المؤمنين، فلما انتهى من سبابه وشتمه التفت إليه الإمام الحسن وهو يبتسم، قال: يا هذا أظنك غريبا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كنت فقيرا أغنيناك، فهلا حولت رحلك إلينا، ونزلت ضيفا علينا، فإن لنا منزلا رحبا، وجاها عريضا، ومالا وفيرا، فما تمالك الرجل حتى انكب عليه يقبله.

ما معنى هذا التصرف، كيف لإنسان يعتدى على كرامته ثم يبتسم ويضحك، ويقول يا هذا إن كنت طريدا آويناك، أو جائعا أشبعناك؟ هذه الصفة نسميها بسمو الذات.

علم النفس فيه مدارس مختلفة: المدرسة السلوكية، المدرسة التحليلية، علم النفس الإنساني، علم النفس الارتقائي، مدارس متعددة في علم النفس، من مدارس علم النفس: علم النفس الارتقائي، جون بياجيه هو الرائد لهذه المدرسة، علم النفس الارتقائي هو عبارة عن كيف ترتقي النفس بذاتها، وكيف تشعر النفس بقيمة ذاتها من دون مؤثرات، ومن دون عوامل خارجية، ارتقاء النفس بذاتها.

الفلاسفة يقولون: الذاتي لا يتغير، وإنما الذي يتغير هو الأمر العرضي، أما الصفة الذاتية لا تتغير، مثلا: حرارة الماء، وحرارة النار، فإن الفرق بينهما أن حرارة الماء حرارة عرضية مكتسبة من النار، يعني أن الماء يكون بارد ونضعه على النار فيكتسب الحرارة من النار، هذه الحرارة حرارة عرضية، لذلك يمكن أن تزول، وأن تتغير، يمكن أن تتحول درجة الحرارة إلى أدنى درجاتها، لأنها صفة مكتسبة، عرضية، لذلك فهي قابلة للتغير والزوال، أما حرارة النار فهي حرارة ذاتية، لو أخذت موقد من النار، ووضعت فوقه طنا من الثلوج، تبقى حرارة النار كما هي لا تتغير، حرارة النار صفة ذاتية لها، والذاتي لا يتغير، إلا أن تتغير النار وتصبح شيئا آخر، وإلا ما دامت النار نارا فإنها تبقى حارة.

هذا لا يختص بالأمور التكوينية، حتى في المقامات الروحية، في علم الكلام يقولون: هناك فرق بين مولوية الله، ومولوية الآخرين، الإنسان إذا عصى ربه، لماذا يعاقبه الله على ارتكاب المعصية؟ هناك مسلكان في علم الكلام:

المسلك الأول:

أن الله يعاقب الإنسان على المعصية لأنها هتك لحرمة الله، يعني عندما أعصي الله فقد هتكت حرمة الله عز وجل، لذلك فإن العاصي يستحق العقاب لأنه هتك حرمة ربه عز وجل، هذا مسلك موجود في علم الكلام وكثير من علمائنا يقبل هذا المسلك.

المسلك الثاني:

لماذا يعاقب الإنسان على المعصية؟ لا لأنه هتك حرمة الله، إنما عرض نفسه للوعيد ليس إلا، الله تبارك وتعالى صدر منه وعد ووعيد، وعد بالثواب على الطاعة، وتوعد بالعقاب على المعصية، فمن أطاع عرض نفسه للوعد، ومن عصى عرض نفسه للوعيد.

هذا المسلك يختاره جمع من العلماء منهم السيد السيستاني دام ظله، يقول: هل يتصور من مخلوق صغير على كوكب صغير، الإنسان مخلوق صغير على كوكب صغير، وهذا الكوكب نسبته إلى مليارات الكواكب والمجموعات الشمسية نسبة الواحد إلى المليار، فهل يحتمل أن ذنبا يصدر من مخلوق صغير على كوكب صغير أن يوجب هتك حرمة الله عز وجل، وهل حرمة الله الذي يهيمن على هذا الوجود بأسره من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة تنهتك بهذا الذنب من هذا المخلوق الصغير على هذا الكوكب الصغير! لا فهذا الذنب لا يوجب هتكا لحرمته تبارك وتعالى، لأن حرمته ذاتية وليست حرمة عرضية كي تنهتك بذنب هذا المخلوق.

هناك حرمة ذاتية، وحرمة عرضية، الحرمة الذاتية هي حرمة الله، حرمة الله ومولويته ذاتية له لأنها نابعة من خالقيته تبارك وتعالى، مقتضى خالقيته أن له حرمة وله مولوية، فمولويته وحرمته ناشئة عن خالقيته، لذلك فإن حرمته حرمة ذاتية، والذاتي لا يتغير ولا يزول ولا ينهتك ولا ينفصم، آلاف المعاصي لا تهتك حرمته، ولا تقدح مولويته تبارك وتعالى لأنها مولوية ذاتية.

أما المولوية الاعتبارية، لنفرض مثلا رئيس الشركة له حرمة اعتبارية وليست حرمة ذاتية، انتخب فأصبح رئيسا، هذه تسمى مولوية اعتبارية، أو مثلا أنا شيخ البلاد، أو أمير البلاد، هذه الإمارة وهذه الشيخوخة، هذه المولوية كلها مولوية اعتبارية، يعني أن الآخرون أعطوها لي، وليست ذاتية، المولوية الاعتبارية تتأثر بالآخرين، تتأثر بالنيل من قبل الآخرين، أما المولوية الذاتية لله تبارك وتعالى فلا تتأثر بذلك، القرآن الكريم يشير إلى ذلك ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ يعني أن هؤلاء الذين عصوا ظلموا أنفسهم ليس إلا، عرضوا أنفسهم للوعيد، وإلا فلا يؤثرون على مولويتنا أو حرمتنا ﴿وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

إذن هناك فرق بين المولوية الذاتية لله تبارك وتعالى لا تنفصل ولا تتأثر، وهناك مولوية اعتبارية لأمير البلاد، أو لرئيس الشركة، هذه قد تنفصم وقد تتأثر.

هنا نقول أن المقامات على قسمين، سمو النفس قد يكون سموا ذاتيا، وقد يكون سموا مكتسبا، هناك إنسان يشعر بأن قيمة ذاته لم تأتي من قبل المجتمع، وإنما قيمة ذاته من خلال فضائله، ومناقبه، فسموه سمو ذاتي، وهناك إنسان يشعر بأن قيمته ليست من ذاته، قيمته من المجتمع، المجتمع هو الذي أعطاه هذه القيمة، وهذا الموقع، لذلك متى ما جرح أو اعتدي عليه شعر بأن موقعه قد انفصم، وانهتك، لأن موقعه ليس ذاتيا له، وإنما قيمته وسموه أتى من قبل المجتمع، فإذا رفع المجتمع هذا السمو واعتدى عليه، تأثر لأن سموه تعرض للنيل والخدش والنقص، أما الذي يشعر بأن سموه ذاتي من خلال فضائله ومناقبه فهو لا يتأثر باعتداء الآخرين أبدا ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾.

الإمام الحسن الزكي كذلك، فهو يشعر بأن قيمة ذاته لم تأتي من قبل الناس، قيمة ذاته وسمو نفسه من خلال فضائله ومناقبه، خلقه وسلوكه، إذن له سمو ذاتي، والذاتي لا يتأثر باعتداء الآخرين، ولا يتزلزل ولا ينقص بجرح الآخرين، لأنه سمو ذاتي، لذلك لا يبالي باعتداء الآخرين، أما الإنسان الذي يغضب سريعا إذا اعتدي عليه، أو خدشت كرامته، فهو الإنسان الذي يشعر بأن قيمته قد أتت من قبل الآخرين، فإذا اعتدي عليها فقد نقصت، لذلك يثأر لقيمته ولسموه ولموقعه الاجتماعي، هذا معنى سمو الذات، وهذا معنى ارتقاء النفس بذاتها لا بالمؤثرات الخارجية.

جاء رجل إلى الإمام الباقر عليه السلام قال له: أنت البقرة؟ فقال له الإمام: سماني رسول الله الباقر، فقال: أنت ابن الطباخة؟ قال: وما في ذلك عيب، ذاك مهنتها، قال: أنت ابن السوداء البذيئة؟ قال: إن كانت كذلك غفر الله لها، وإن لم تكن كذلك غفر الله لك، هذا النوع من التعامل مع الآخرين، هذا النوع من السيطرة على النفس، لا تفسير له إلا السمو الذاتي، لأنه يشعر بأن قيمته بذاته لا بالآخرين، فلا تتأثر بجرح الآخرين ولا باعتدائهم.

كتب معاوية ابن أبي سفيان إلى الإمام الحسن الزكي : أنا خير منك، لأن الناس أجمعت علي ولم تجمع عليك، فكتب إليه : إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاص لله، وأنا لا أقول أنا خير منك، لأنه لا خير فيك، فلقد برأني الله من الرذائل كما برأك من الفضائل.

2023/08/24

صلح الحسن وثورة الحسين (ع).. الباعث والمنطلق -2-
فقد تحدَّثنا فيما سبق حولَ مسألةِ الصُلح، وقلنا إنَّ الباعثَ على اختيارِه هو مقتضياتُ الظروف التي لم تكنْ تسمحُ بغير اعتمادِ هذا الخيار، لأنَّ المحاذيرَ المترتِّبةَ على سلوكِ غيرِ هذا الخيار كارثيَّة.

ولكي يتبيَّن أنَّ خيارَ الصلحِ هو الخيار المتعيِّن من بين الخيارات الأخرى نشيرُ بنحوِ الإيجاز إلى عددٍ من الأمور:

جيش الشام يزحفُ نحو العراق:

الأمرِ الأول: هو أنَّه وبعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) في الشهور الأخيرة من سنةِ الأربعينَ من الهجرة عبَّأتِ الشام جيشاً قِوامُه على تقديرِ المُقِلِّ من المؤرِّخين يصلُ إلى ستينَ ألف مقاتل، وقد أنهى بعضُهم عددَ جيشِ الشام إلى مائة ألفٍ أو يزيدون، وكان جيشاً متماسكاً يخضعُ إلى قيادةٍ مركزيَّةٍ واحدة، أوامرُها ناجزةٌ ونافذة، وقد صدرت الأوامرُ له بالزحفِ نحوَ العراق، فإنْ وجدَ جيشاً خاض معه حرباً، وإن لم يجد صار بوسعه الهيمنة على العراقِ دون مقاومة، وبذلك تسقطُ الخلافة الاسلاميَّة والتي كان مركزُها في الكوفة.

الأمرِ الثاني: بعد استشهاد أميرِ المؤمنين (ع) في شهر رمضان من سنة الأربعينَ للهجرة بايعَ الناسُ عدا بلادِ الشامِ الكبرى الإمامَ الحسنَ المجتبى (ع) فأصبحَ هو الخليفةَ الرسمي للمسلمين، فكانَ عليه العملُ على إحكام الاستقرارِ في عموم الحواضر الإسلاميَّةِ المتراميةِ الأطراف، فالعديدُ منها كانت مضطربةً، ولم تكن تدينُ بالولاء الكامل للخلافة المركزيَّة، وبعضُها أصبح بحكم الخارج عن نفوذِ الخلافة المركزيَّة مثل بلاد مصر التي قتلتْ سرايا الشام الوالي عليها وهو محمد بن أبي بكر، وتمَّ اغتيالُ مالكِ الأشتر الذي بعثَه الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع) ليكون والياً عليها، واستُشهد أميرُ المؤمنين (ع) قبل إرجاع مصرَ إلى نفوذِ الخلافة الإسلامية، وكذلك فإنَّ اليمن أصبحتْ بحكم الخارجة عن نفوذ الخلافة الإسلاميَّة بعد أنْ غزتها سرايا الشام وهرب الوالي عليها، وأمَّا البصرة فهي وإنْ كانت قد بايعت الإمامَ الحسنَ (ع) إلا أنَّ أكثر عشائرها تدينُ بالولاء للشام، فكأنَّها قطعةٌ من بلاد الشام، وهكذا هو الشأن في الحجاز فلم تكن خالصة، فقد غزتْها الشام بقيادة بسر بن أرطاة وأرعبها وقتل من قاوم من رجالها وسلب الكثير من أموالها، ولذلك كان على الإمامِ الحسنِ (ع) أنْ يُعيد الاستقرار إلى عامَّةِ الحواضرِ الإسلامية، وذلك ما يسترعي جُهداً ليس باليسير، ووقتاً ليس بالقصير.

واقع جيش الحسن (ع) وسير الأحداث:

الأمرِ الثالث: في الوقت الذي كان على الإمام الحسن(ع) أنْ يُعيد الاستقرارَ إلى عامَّة الحواضرِ الإسلاميَّة كان عليه أن يُعبِّأ جيشاً كبيراً لصدِّ جيشِ الشام الذي كان يُسابقُ الزمن ليصلَ إلى أطراف العراق.

لذلك أعلنَ الأمامُ (ع) النفيرَ العام وبذل مع المخلصِين من أصحابِه جهودا مُضنية من أجل تعبئة جيشٍ يتمكنُ من صدِّ جيش الشام إلا أنَّهم لم يتمكنوا -على التحقيقِ- من تعبئةِ أكثرَ مِن عشرينَ ألفَ مقاتل، فالجيشُ الذي أعدَّه أميرُ المؤمنينَ (ع) قبل استشهادِه والذي كان قوامُه يصلُ -كما قيل- إلى أربعين ألفاً قد انفضتْ فلولُه بعد استشهادِ الامامِ عليٍّ(ع) وصارَ من العسيرِ تعبئةُ هذا العددِ بفعل المثبِّطين من زعماءِ العشائر والوجهاءِ والقادةِ العسكريين، والذين كاتب الكثيرُ منهم قيادةَ الشام سرَّاً وقدَّموا لها رسومَ الطاعة والولاء وأكَّدوا على استعدادِهم للانقلابِ على الإمام الحسنِ (ع) والانضمامِ إلى صفوفِ الجيش الشامي متى ما وصلَ إلى حدودِ العراق.

فلم يتهيأ للإمام الحسن (ع) سوى تعبئةِ عشرينَ ألفَ مقاتل، ومثلُ هذا العددِ غيرُ قادرٍ على حسمِ المعركة لكنَّه قد يتمكَّن من الصدِّ والمقاومة الى وقتٍ ربَّما تتحسَّن بعده الظروف، هذا لو كان هذا الجيش متماسكاً ويتحلَّى بمعنوياتٍ عالية ومؤمناً بضرورة التصدِّي للمواجهة ويخضعُ لقيادةٍ مركزيَّةٍ واحدة إلا أنَّ الأمرَ لم يكن كذلك، فهذا الجيش عبارة عن مجاميعَ متنافرةٍ ومتباينةٍ في أغراضِها وأهوائِها وعقائدِها كما وصفهم الإمام(ع) في بعض ما أثر عنه: "لا يثقُ بهم أحدٌ أبداً إلا غُلب، ليس أحدٌ منهم يوافقُ آخرَ في رأيٍ ولا هوى، مختلفين لا نيّة لهم -أي لاعزم لهم- في خيرٍ ولا شر"(4).

وعلى أيِّ تقدير فإنَّ الإمامَ الحسنَ (ع) زحفَ بهذا الجيش الذي كان يضمُّ جميعَ المُخلصين مِن شيعته من الصحابة وأبناءِ المهاجرين والأنصار وخيرةِ رجال عليٍّ (ع) وساروا حتى بلغوا موقعاً يقالُ له (دَيْر عبد الرحمن) هناك أمرَ الأمام (ع) اثني عشر ألفاً منهم أن يتقدَّموا ويُعسكروا في منطقةٍ يُقال لها مسكن حيثُ ستكونُ الموضعُ الذي يلتقي فيه الجيشان، وأمَّر عليهم عبيدَ الله بن العباس فإذا أُصيب فالقيادةُ تكونُ لقيسِ بنِ سعد بنِ عبادة (رحمه الله) وسار الإمامُ (ع) ببقية الجيش إلى المدائن، وعددُهم يقربُ أو يزيدُ قليلاً على الثمانيةِ آلافِ مقاتل، وعسكرَ هناك ينتظر المدَد ليلتحقَ بمسكن إلا أنَّه لم يصل إليه مَدَدٌ يُذكر، وأمَّا ما كان من الطلائع التي بعثها الإمام (ع) إلى مسكن بقيادةِ عبيدِ الله بن العباس فحينَ استقرَّتْ في ذلك الموضع وأخذَ الجيش مواقعَه فيها بانتظار ابتداءِ المعركة حيثُ إنَّ الإمام(ع) أعطى أوامره بأنْ يخوضوا الحربَ إذا بدأهم جيشُ الشام، في ذلك الموضع، وفي تلك المرحلةِ الحرجة تفاجأ جيشُ الإمام الحسن (ع) باختفاء قائدِهم عبيدِ الله بن العباس ونما إلى علمِهم أنَّه قد انحازََ إلى قيادةِ الشام أو انسحب وتركَ مقرَّه إلى وِجهةٍ مجهولة بعد أنْ وصلتْه من قائدِ جيش الشام وعودٌ وعطايا ومِنح، وعلى إثرِ هذا النبأ الصادم اضطربَ جيشُ الإمامِ الحسن (ع) وأُشيع في وسطِه كذباً أنَّ الإمامَ الحسنَ (ع) قد صالحَ أهلَ الشام، وحينها بذل قيسُ بن سعد والمخلصون جهوداً مضنية من أجل الإمساك بزمام الجيش إلا أنَّهم لم يُفلحِوا فانسحب على إثر ذلك ثمانيةُ آلاف، انضمَّ الكثيرُ منهم إلى صفوفِ جيش الشام وتفرَّق آخرون ولم يتمكَّن قيسُ بنُ سعد من الاستمساك بأكثرَ من أربعةِ آلاف مقاتل هم بقية المخلصِين من رجال عليٍّ (ع) ورغم ذلك قرَّر قيسٌ (رحمه الله) أن يخوضَ بهم المعركة متى ما بدأت، وذلك في مقابلِ ستينَ ألف مقاتلٍ أو يزيدون.

وأمَّا ما كان من شأنِ الثمانيةِ آلاف الذين عسكروا في المدائن بقيادة الإمام الحسن (ع) فقد بلغهم أنَّ عبيدَ الله بن العباس قد انحازَ إلى جيشِ الشامِ وأنَّ ثمانيةَ آلاف قد انضمُّوا إلى جيش الشام، وأنَّ قيسَ بن سعد قد قُتل، فاضطربَ جيشُ الإمام (ع) في المدائن وبذل الإمامُ (ع) والمخلصون جهوداً من أجل تهدئته والاستمساك به إلا أنَّه ظلَّ على اضطرابه، فكان الكثيرُ أو الاكثر منهم يضغطُ من أجل إبرام عقد الصلح، ثم إنَّ جماعةً كبيرة من جيش الإمامِ الحسن (ع) قد اقتحموا في احدى ليالي المدائن المعسكرَ الذي كان يقيمُ فيه الإمامُ (ع) وأثاروا فيه اللَّغط وسلبوا ما أُتيح لهم سلبُه، وكان غرضُهم اغتيالَ الإمام (ع) حيث أصابه أحدُهم بطعنةٍ غائرة من خنجرٍ مسموم في فخذه بلغتِ العظم.

فكانت هذه هي بعضُ بوادرِ الجيش الذي يُراد له أنْ يخوضَ معركةً شرسة مع جيش الشام المتماسِك والذي يربو عددُه على الستين ألفَ مقاتل.

مثلُ هذا الجيشِ لا يُمكنُ لقائدٍ أنْ يجازف فيخوض به معركة، خصوصاً وأنَّه قد نما إلى علمِ الإمام (ع) بالشواهد القطعيَّة أنَّ عدداً ليس بالقليل من المندسين من أتباع زعماء العشائر كانوا مكلَّفين باغتيال الإمامِ الحسن (ع) أو تسليمِه متى ما التحمَ الجيشان.

فجيشُ الإمام (ع) علاوة على قلَّته في مقابل جيش الشام فإنَّه كان خليطاً من مجاميعَ متباينة في الأغراضِ والأهواء، فكان فيهم الخوارجُ الذين كانوا يتحيَّنون الفرصةَ لأخذ الثائر من الحسن (ع) والمخلصين من أصحابه لقتلاهم في النهروان، وكان فيهم المندَّسونَ من أتباعِ زعماء العشائر التي كانت تضمر الولاء لجيشِ الشام، وفيهم الكثيرُ ممن سئم الحربَ ويطمحُ في العافية وكان التحاقُهم بصفوف جيش الإمام (ع) نشأ عن اعتبارات مختلفة، وفيهم المتردِّدون الذين تتلون مواقفُهم حسبَ اختلاف الظروف.

وقد أجملَ الإمامُ الحسن (ع) في إحدى خطبه الواقعَ المتردِّي الذي كان عليه جيشُه فقال(ع) مخاطباً لهم: "إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكٌّ ولا ندمٌ وإنَّما كنا نقاتلُ أهلَ الشام بالسلامةِ والصبرِ فشِيبتِ السلامةُ بالعداوة والصبرَ بالجزع، وكنتم في مسيرِكم إلى صفين، ودينُكم أمامَ دنياكم. وأصبحتم اليومَ ودنياكم أمام دينِكم. وأنتم بين قتيلينِ، قتيلٍ بصفينَ تبكونَ عليه، وقتيلٍ بالنهروانِ تطلبونَ بثأره. فأمَّا الباقي فخاذل، وأمَّا الباكي فثائر .."(5).

فالحرصُ على الدنيا هو الجامع بين مجاميع جيش الإمام (ع) فإمَّا هو حرصٌ على البقاء والعافية أو هو حرصٌ على تحصيل المزيد من المُتع والامتيازات كما شأنُ المندسين أو هو حرصٌ على الانتقام وإرواء الغليل، ثم قال الإمام(ع): "وأنتم بين قتيلين" أي أنَّكم صنفان: صنفٌ لا يُبارح خلدَه مَن قُتل من أهلِِه وعشيرتِه في صفِّين، وصنفٌ منكم لا يُبارِحُ خلدُه مَن قُتل من أهلِه وعشيرتِه في النهروان، أمَّا الصنفُ الأول فيبكونَ على قتلاهم في صفِّين بمعنى أنَّهم لا يريدون المزيدَ من القتل وقد جزعوا من الحرب ويُحبون العافية، فهذا هو معنى "قتيلٍ بصفينَ تبكون عليه"، وأمَّا الصنف الثاني فهم الخوارج الذين تغلي قلوبُهم غيظاً على أميرِ المؤمنين (ع) والمخلصين من أتباعه الذين قتلوا أصحابَهم في النهروان، فهؤلاءِ إنَّما دفعَهم للالتحاق بجيش الإمام (ع) لأنَّ في ذلك فرصةً سانحةً لأخذ الثأر من الإمام الحسن(ع) والخلَّصِ من أصحابِه إذا التحم الجيشان، وهذا هو معنى "وقتيلٍ بالنهروان تطلبونَ بثأره"، وأمَّا الباقي فخاذل وهم المندَّسون والمنافقون الذين يُضمرون الولاء لقيادة الشام ويطمحونَ في عطاياها وامتيازاتها، وكذلك المتردِّدون الذين تتلوَّن مواقفُهم بحسبِ اختلاف الظروف.

الحكيم لا يُجازف فيخوض حرباً بمثل هذا الجيش:

فمثلُ هذا الجيشِ الفاقدِ لأبسط مقوِّمات الثبات لا يُجازفٌ قائدٌ حكيم فيَخوضُ به معركة، فإنَّه ما إنْ تبدأَ الحربُ حتى تتحولَ صفوفُه إلى فُوضى عارمةٍ يكون ضحيتُها قائدُ الجيش والخُلَّصُ من رجالِه، فينهزمُ طلابُ العافيةِ وهم الأكثرُ، ويعملُ المندَّسون وطلابُ الثأر على تصفيةِ خصومِهم، وهم قائدُ الجيش والمخلصونَ من رجاله، وبذلك تُحسم المعركةُ لصالح العدوِّ بقليلٍ من الخسائر.

وهنا قد يُقال إنَّ الخيار العقلائي في مثل هذا الفرض يُحتِّمُ على القائدِ الحكيم العملَ على تأجيلِ خوضِ الحرب إلى أنْ يتهيأَ له تنقيةُ صفوفِه من المندَّسين وتعبئةُ المزيدِ من المقاتلين، إلا أنَّ الإمامَ الحسنَ (ع) لم يكن يسعُه ذلك، فجيشُ الشامِ على مشارفِ العراق وهو ماضٍ في طريقِه، فإمَّا أنْ يعترضه جيشُ مِن العراق فيخوض معه حرباً وإنْ لم يعترضْه جيشٌ فسيدخلُ العراقَ ويبسطُ نفوذَه عليها، وبذلك تسقطُ الخلافةُ الاسلاميَّة ويُصبحُ الخليفةُ ورجالُه في قبضةِ الجيشِ أسارى.

تعيُّن خيار الصُلح من بين الخيارات:

فالإمامُ الحسنُ(ع) كان أمامَ خياراتٍ ثلاثةٍ لا رابعَ لها، فإما أنْ يتركَ جيشَ الشام يدخلُ العراقَ ويبسطُ نفوذَه عليها دون مقاومةٍ، وبذلك تسقطُ الخلافة الإسلامية ويُصبحُ الإمامُ الحسنُ والحسينُ(ع) والخُلَّصُ من شيعة عليٍّ (ع) في قبضة الجيش أسارى، أو يتمُّ قتلُهم ثم يُتَّهم به بعضُ أفراد الجيش وأنَّهم تصرَّفوا دون أوامر وبذلك يضيعُ دمُ الإمامين (ع).

والخيار الثاني: هو أنْ يدخلَ الإمام (ع) بجيشِه المهترئِ والمتهالكِ حرباً مع جيشِ الشام، وبذلك تُحسمُ المعركةُ سريعاً لصالحِ جيشِ الشام، وُيقتل الإمامُ الحسن (ع) ولن يُقتلَ الإمامُ الحسن (ع) حتى يقتلَ الحسين (ع) ولن يقتلَ الحسينُ(ع) حتى تُقتلَ الصفوةُ من رجال عليٍّ (ع) فلن يُفوِّتَ جيشُ الشام هذه الفرصةَ السانحة للإجهاز الكامل على البقية الباقية من رجال عليٍّ (ع) وبذلك تتمُّ الإبادة الكاملة لحملَة الإسلام المحمديِّ الأصيل، فلا يبقى في الأمَّة سوى حملَةِ النسخةِ القرشيةِ المشوَّهةِ للإسلام. وقد أشار الإمامُ الحسن (ع) إلى ذلك في مواضعَ عديدة.

ثم إنَّه لن يكونَ لاستشهادِ الإمامِ الحسنِ (ع) أثرٌ معنويٌّ فيكونُ طريقاً للهداية، لأنَّ المؤرِّخين وعامَّةَ الناس سيقولون إنَّ الخليفةَ خاضَ حرباً هو اختارها لتثبيتِ خلافتِه إلا أنَّ الحربَ حُسمت لصالح المعارضة فُقتلَ الخليفةُ كما يُقتلُ أيُّ مقاتلٍ في الحروب، فلم يكن الحسن (ع) -وكذلك الحسين (ع)- ثائراً على الظلم والعدوان بل كان خليفةً رسمياً يعملُ وأخوه على تثبيتِ خلافتِه في مقابل معارضةٍ ترفع شعار الانتصار للخلافة الراشدة، فلعلَّ الحقَّ أو بعضَه معها.

وربَّما يُقتلُ الإمامُ الحسن (ع) وكذلك الحسين (ع) غيلةً على يد رجالٍ من صفوفِ جيش الحسن(ع) أو هكذا تُنسب التُّهمة إليهم من قِبَل جيش الشام وتكونُ الداهيةُ حينذاك أشدَّ وأنكى.

وربَّما لا يُقتل الحسن (ع) وإنَّما يتمُّ أسرُه بمعونةٍ من المندَّسين في جيشه وهم كثيرون، وقد خطَّطوا لذلك طويلاً كما نصَّت على ذلك الأخبار، وبهذا يُصبحُ الإمامُ أسيراً في يدِ قائدِ جيش الشام، فإمَّا أنْ يقومَ بتصفيتِه ولو من طريق الخوَنة المندَّسين في صفوف الإمام(ع) وإمَّا أنْ يمنَّ عليه فيُطلقُ سراحَه فيكونُ ذلك سبَّةً إلى آخر الدهر ووهناً عظيماً على الإسلامِ وآل بيت الرسول، وقد أشار الإمام (ع) إلى ذلك في بعضِ ما أُثر عنه قال (ع): "يزعمون أنَّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، واللهِ لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلَماً، فوالله لئنْ أسالمَه وأنا عزيزٌ خيرٌ من أنْ يقتلني وأنا أسيرُه أو يمنَّ عليَّ فتكونَ سبةً.. إلى آخر الدهر"(6) ويقول (ع): والله .. ولو وجدتُ أنصاراً لقاتلتُه ليلي ونهاري حتى يحكمَ اللهُ بيني وبينه"(7).

والخيار الثالث: هو أنْ يختار طريقَ الصلح يفرض فيه شروطَه فإنْ التزم بها ففي ذلك خيرٌ كثير، وإمَّا أنْ لا يفي بها وبذلك ينكشفُ زيفُه ويُفتضح غشُّه للمسلمين، ويكونُ للحسنِ (ع) أو الحسين (ع) حقُّ النهوضِ في وجهه، ويكونُ ذلك مبرَّراً يتفهَّمُه التأريخ، وبالصلحِ يظلُّ خطُّ الإمامةِ قائماً يأوي إليه مَن يبتغي الهدى، ويظلُّ الصفوةُ من أتباعه يعملونَ على تأصيله وامتدادِه: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾(8) فلولا الصلحُ لانقطع السبيلُ على الأجيال للوصول إلى الإسلام بنسختِه الصافية والنقيَّة.

 ونختم بما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أبي سعيد عقيصا قال: قلتُ للحسنِ بن عليٍّ يا بن رسول الله: لم صالحتَ؟ فقال: يا أبا سعيد ألستُ حجةَ الله تعالى ذكرُه على خلقِه وإماماً عليهم بعد أبى (ع)؟ قلتُ بلى قال: ألستُ الذي قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله لي ولأخي: الحسنُ والحسينُ إمامان قاما أو قعدا؟ قلتُ بلى، قال فانا إذن إمامٌ لو قمتُ وأنا إمامٌ إذ لو قعدتُ، يا أبا سعيد علَّةُ مصالحتي لمعاوية علةُ مصالحةِ رسول الله صلَّى الله عليه وآله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف مِن الحديبية أولئك كفارٌ بالتنزيل وهذا وأصحابُه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكرُه لم يجبْ أن يُسفَّه رأيي فيما أتيتُه من مهادنة أو محاربة وإنْ كان وجهُ الحكمةِ فيما أتيتُه مُلتبساً، ألا ترى الخضر (ع) لما خرق السفينةَ وقتلَ الغلامَ وأقامَ الجدارَ سخط موسى (ع) فعلَه لاشتباهِ وجهِ الحكمةِ عليه حتى أخبرَه فرضي، هكذا أنا، سخطتُم عليَّ بجهلِكم بوجهِ الحكمةِ فيه، ولولا ما أتيتُ لما تُرك من شيعتِنا على وجهِ الأرض أحدٌ إلا قتل"(9).

وهذا هو مرادنا من أنَّ العزم كان منعقداً على استئصال حملَة الإسلام المحمَّدي الصافي عن جديد الأرض فلا يبقى باستئصال أهل البيت(ع) وشيعتهم من الإسلام إلا الإسلام بنسخته المشوَّهة القرشية وبذلك يتعذَر على الأجيال الوقوف على الإسلام بنسخته الصافية النقية.

الهوامش: 1- الكافي -الكليني- ج5 / ص369. 2- دعائم الاسلام -القاضي النعمان- ج1 / ص56، الكافي -الكليني- ج2 / ص669. 3-الكافي -الكليني-ج2 / ص99. 4- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج3/ 407. 5- تاريخ مدينة دمشق ج13 / ص268، الكامل في التريخ -ابن الأثير- ج3 / ص406. 6- بحار الأنوار -المجلسي- ج44 / ص30. 7- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص12. 8- سورة الأنفال / 42. 9- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص211. 10- سورة النصر / 1-3.
2023/08/23

صلح الحسن وثورة الحسين (ع).. الباعث والمنطلق -1-
بما أننا نقتربُ من ذكرى استشهادِ الإمامِ الحسنِ المجتبى (ع) نغتنمُ هذه المناسبةَ الجليلةَ للحديثِ حولَ مسألةِ صلح الإمامِ الحسن (ع) إلا أنَّ الحديث لن يكون حول أسبابِ الصلحِ ومبرراتِ الإقدامِ على هذا الخيارِ بل سيكونُ حولَ ما زعَمه عددٌ من الكتاب مِن دعوى أنَّ اختيارَ الإمامِ الحسن (ع) لطريقِ الصلح، واختيارَ الإمامِ الحسينِ (ع) لطريقِ الحربِ والمواجهةِ يُعبِّران عن طبيعتين ومِزاجين متباينين.

فكانَ الباعثُ للإمام الحسنِ (ع) على اختيارِ طريقِ الصلحِ والمهادنة هو ما تقتضيه طبيعتُه من الميل للموادَعة، وكان الباعثُ للثورة لدى الإمامِ الحسين (ع) هو طبيعتَه التي كانت تتَّسمُ بالميلِ إلى التوثُّبِ والمناكفة، فخيارُ الصلحِ وخيارُ الحربِ قد نشئا عن طبيعتين تميلُ إحداهما للموادعة والأخرى للتمرُّد، كذلك زعَم بعضُهم، وفيما زعَموه وأرجفوا به جنايةٌ مستبشَعة، وتجاوزٌ مستهجنٌ لمقتضياتِ الحقائقِ التأريخيَّة.

 فلم تكن الثورةُ ناشئةً عن مِزاجٍ يميلُ إلى التمرُّد والمناكفة كما لم يكنِ الصلحُ ناشئاً عن هوىً في النفس وإيثارٍ للعافية والموادعة، بل كان كلٌّ من الخيارين قد نشئا عن وعيٍ متناهٍ لمقتضياتِ الظروف، والتزامٍ كاملٍ بالتكليفِ الشرعي، ومعرفةٍ تامَّةٍ بما يقتضيه الأمرُ الإلهي، فالحسنُ والحسينُ (عليهما السلام) إمامان ينطلقانِ من منطلَقٍ واحد، ويغترفان من منهلٍ واحد. ولو اتَّفق أنْ تبادلَ كلٌّ منهما ظرفَ الآخر لاختار الإمامُ الحسينُ (ع) طريقَ الصُلح، واختارَ الإمامُ الحسنُ (ع) طريقَ الحربِ والمواجهة.

ولكي يتَّضحَ ذلك لابدَّ من بيان ما هي الظروف التي اقتضت ودفعت بالإمام الحسن (ع) إلى أنْ يتَّخذ خيارَ الصلحِ والمهادنة، وما هي الظروفُ التي اقتضت أنْ يتَّخذَ الحسينُ الشهيد (ع) خيارَ الثورةِ والمواجهةِ والحرب. إذا وقفنا على الظروفِ التي اكتنفت كلا الخيارين فسيتَّضحُ أنَّ كِلاهما نشأ عن منشأٍ واحد، وقبل أنْ نتحدَّثَ عن الفوارقِ بين ظرفي الإمامين (ع) نرى من المناسب التأكيدَ على عددٍ من المقدِّمات.

معصومون عن التهاونِ والخطأ في تقدير الأمور:

المقدِّمة الأولى: هي أنَّه نحن -الشيعةَ الإماميَّة- لا نحتاجُ إلى البحث عن مشروعيَّة موقفِ الإمام الحسن (ع) من الصلح وعن مبرراته كما أنَّه لسنا بحاجةٍ للبحث عن مشروعيَّة موقفِ الإمام الحسين (ع) من الثورة على السلطةِ الأمويَّة، بمعنى أنَّه لا ضرورةَ لدينا تقتضي البحثَ عن الأدلَّة التفصيليَّةِ المصحِّحة لموقفِ الإمامِ الحسن (ع) من الصلح كما أنَّه لا ضرورة عندنا للبحثِ عن الأدلَّة التفصيليَّة التي اقتضتْ أنْ ينهضَ الإمامُ الحسينُ (ع) في وجهِ النظام الأمويّ، وذلك لأننا نعتقدُ بعصمةِ الأئمة الأطهار (ع) وأنَّ كلَّ موقفٍ يتَّخذونه -وإنْ خفيَ علينا وجهُهُ ومنشأه- فهو الحقُّ الحقيقُ بالاعتماد، وكلَّ طريق يسلكونه فهو الذي يتعيَّنُ سلوكُه، فلا يعرِضُ الخطأُ والاشتباهُ على شيءٍ ممَّا يفعلونَه، فهم معصومون مُنزَّهون عن التهاونِ في أمر الله تعالى، ومُنزَّهونَ عن الغفلةِ والخطأ في تقديرِ الأمور، عصَمهم اللهُ تعالى لأنَّه قد جعل منهم هداةً لعبادِه، وحماةً لدينِه، وأدلَّاءَ على أحكامِه وشريعتِه، فكلُّ ما يتَّخذونَه من مواقفَ تكونُ نابعةً عن بصيرةٍ للواقع كما هو، وعن معرفةٍ تامَّةٍ بالحكم الإلهي وموضوعاتِه.

ذلك هو ما نعتقدُه في أئمةِ الهدى(ع) تبعاً لما قامَ عليه البرهانُ القطعيُّ وما نصَّ عليه القرآنُ المجيدُ والسنَّةُ الشريفة، وعليه فنحنُ حينما نتحدَّثُ عن مُبرِّرات الخيار الذي اتَّخذه الإمامُ الحسنُ (ع)، أو الخيارِ الذي اتَّخذه الإمامُ الحسينُ (ع) فإنَّما نتحدَّثُ عن ذلك لأجل أن نُثبتَ للآخرين صوابيَّةَ الموقفِ الذي اتَّخذه كلٌّ منهما، وإلَّا فنحن نعتقدُ يقيناً بأنَّ مواقفَهما (ع) مطابقةٌ لمقتضياتِ الأمرِ الإلهيّ.

سيرة الرسول (ص) مع خياري السلم والحرب:

المقدِّمةِ الثانية: هي أنَّ اتِّخاذَ طريقِ الصلحِ والمهادنةِ لا يكونُ بالضرورة أمراً سلبياً أو مرجوحاً، كما أنَّ اتِّخاذَ طريقِ الحربِ والمواجهة لا يكونُ بالضرورة أمراً إيجابياً أو راجحاً. فالصلحُ له ثمراتٌ وله فوائد إذا ما كان هو المناسبَ لمقتضياتِ الظروف، كما أنَّ الثورةَ كذلك تكونُ لها ثمراتٌ إذا ما كانت هي المناسبةً لمقتضيات الظروف. لذلك اتَّخذ الرسولُ الكريم (ص) خيارَ الصلحِ والمهادنة، كما اتَّخذ خيارَ المقارعةِ والمواجهة، فقد كان رسولُ الله (ص) ملتزماً بخيار المهادنة والمداراة لأكثرِ من عقدٍ من الزمن حينما كان في مكة الشريفة، فكانَ يُسايسُ قريشاً، ويُداريهم، ويَحرِصُ على أنْ لا يدخلَ معهم في مواجهةٍ، رغمَ نزَقِهم وقسوتِهم وبطشِهم بأصحابِه، فكان يُصِرُّ على خيارِ المهادنة، وكان يدعو الى اللهِ عزَّ وجل بالكلمةِ والموقف دون أنْ يشهِرَ في وجهِ أحدِهم سيفاً؛ ذلك لأنَّ خيارَ المهادنةِ حينذاك كان هو الخيارَ الأحظى عقلاً والأكثرَ نفعاً.

وبعد أكثرِ من عقدٍ من الزمن، وبعد أنْ هاجرَ الى المدينة المنورة ظلَّ على ما كان عليه من عدمِ اختيارِ طريقِ المقارعةِ والمواجهة لمشركي قريش، وكذلك اعتمد ذاتَ الخيار مع سائر القبائل والديانات طريقاً ووسيلةً لنشر الدعوة في ربوعِ الجزيرةِ العربية، ثم إنَّه وبعد أنْ اقتضت الظروفُ وتهيأتِ الأسبابُ وقويتْ شوكةُ الرسولِ (ص) وتمادى المشركونَ في غيِّهم وبغيهم لم يجدْ من سبيلٍ لحمايةِ مُنجزات الدعوة سوى اتِّخاذِ خيارِ الحرب والمقارعة، فقد كان حينها هو الخيارُ الكفيلُ بحماية الدعوةِ وأتباعِها من بغي المشركين، ولذلك نزل القرآنُ الكريم ليؤكِّدَ على أنَّ هذا الخيار أصبح هو الخيارَ المناسبَ لتلك المرحلة، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾(3) حينها بدأ الرسولُ (ص) في انتهاج خيار الدفاعِ والمناجزة، إلَّا أنَّه لم يكن الخيارَ الأخير، فبعد أن كثُرت الحروبُ والمواجهاتُ والسِّجالُ بينه وبين قريش، واقتضتِ الظروفُ أنْ يعقدَ معهم صُلحاً، فإنَّه لم يتلكَّأ، ولم يتوقف بل اتَّخذ هذا الطريق بكلِّ حزم وجرأة كما كان قد اتَّخذ طريقَ المقارعةِ والمواجهة بكلِّ حزم وجرأة، فصالحَهم صُلحَ الحُديبيَّة على أنْ لا يُقاتلهم عشرَ سنين، والتزمَ بالشروط، فلم يدخل بعده معهم في مواجهة إلَّا بعد أنْ نقضوا الشروط التي أُبرمتْ بينه وبينهم. تلك هي سيرةُ الرسولِ الكريم (ص) مع خياري السلم والحرب، فلم يكن السلمُ والموادعة خياراً أبديَّاً كما لم تكنِ الحربُ خياراً أبديَّاً.

سيرةُ عليٍّ (ع) مع خياري الحرب والسلم:

كذلك هي سيرةُ الإمامِ عليٍّ (ع) مع الخيارين، فقد كان خيارُ السلم والموادَعة هو خيارَه الذي اعتمده قُرابةَ خمسٍ وعشرين سنة رغم قسوتِه ومرارته وشدَّةِ وطئه على قلبِه ومشاعره، وقد صرَّح في مواضعَ عديدةٍ بذلك، وعبَّر عن مرارة هذا الخيار ومناسبته في ذات الوقت لمقتضى الحكمةِ والمصلحةِ الدينيَّة، فكان يقولُ -كما في نهج البلاغة-: ".. لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، واللَّهِ لأُسْلِّمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ .."(4) وقال في خطبتِه الشقشقيَّة: ".. فرأيتُ أنَّ الصبرَ على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العينِ قذى، وفي الحلقِ شجى، أرى تُراثي نهبا .."(5) فهو قد التزمَ بهذا الخيار رغم شعورِه بالمرارة والغَبن لغمطِهم الحقَّ الذي هو له دونَهم.

وحين تهيأتِ الظروفُ وتمكَّن من المباشرةِ لدور الإصلاحِ والتقويمِ للأمَّة ومحاولةِ العودة بها الى مسارِها الصحيحِ الذي أرادهُ اللهُ عزَّ وجلَّ وأراده رسولُه لها (ص) قام وبكل حزمٍ وبكلِّ رباطة جأش قائلا: ".. الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ .."(6) وقال (ع): "ألا إنَّ كلَّ قطيعةٍ أقطعها ..، وكلَّ مالٍ أعطاه من مال الله، فهو مردودٌ في بيت المال، فإنَّ الحقَّ القديم لا يُبطلُه شيء .. فإنَّ في العدل سَعةً، ومَن ضاق عنه الحقُّ فالجورُ عليه أضيق"(7) وكان قد صرَّح بمبرِّر اعتماده لهذا الخيارِ الجديد المتَّسم بالمصارمة والمواجهة بقوله (ع): ".. لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا .."(8).

فقوله (ع): "لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ .." بيانٌ لمنشأ اقتضاء الظروف لمباشرةِ دورِ الإصلاحِ لِما اعوجَّ من مسارِ هذه الأمَّة.

إذن فقد اتَّخذ عليٌ (ع) كلا الخيارين، وكان رسولُ الله (ص) قد اتَّخذ كلا الخيارين، وكانت الغايةُ في كلا الموردين واحدة وهي الحمايةُ لدين الله، والإعلاءُ لكلمتِه، والرعايةُ لعباده.

موقفُ الحسين (ع) من الصلح:

وهكذا فإنَّ الإمامَ الحسين (ع) كان قد اتَّخذ كلا الخيارين أيضاً، فخيارُ الصلح والمهادنة قد اتَّخذه الحسين (ع) بمعيَّةٍ الإمامٍ الحسن (ع) فلم يكن خيارُ الصلح والموادعة خياراً خاصَّاً بالإمام الحسن (ع) بل كان خياراً معتمَداً من قبل الإمامين الحسنِ والحسين (ع) فلم يكن الحسنُ (ع) وحده الذي اختصَّ بخيار السلم والموادعة والصلح، فالحسين (ع) كان معه أيضاً، ولذلك وبعد أنْ رحل أبو محمدٍ الحسنُ (ع) الى ربِّه جلَّ وعلا ظلَّ أبو عبدالله الحسينُ (ع) ملتزماً بهذا الخيار، وكان يأبى أنْ يخرجَ على النظام الأموي التزاما بعقد الهُدنة، وكانت كتبُ الكوفةِ تأتيه متواليةً تُحفِّزُه على الخروج وإعلان الحرب، وكان يأبى ويقول: "إنَّ بيننا وبين هذا الرجلِ عقدا"(9) ثم كان يأمرُ شيعته بأنْ يكونوا أحلاسَ بيوتِهم(10)، إذن فالحسينُ الشهيد (ع) قد اعتمد خيارَ المهادنةِ والصلح، وذلك يؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ اختياره في عهد يزيد للحرب لا يُعبِّر عن مِزاجٍ يختلفُ عن المزاج الذي كان عليه أبو محمَّدٍ الحسنُ (ع) فلم يكن المنطلَقُ والباعثُ لاعتماد كلٍّ من الخيارين سوى ما تُمليه وتفرضُه مقتضياتُ الوظيفةِ الشرعيَّة، فمعاذَ اللهِ أن يكون للهوى والمزاج واختلافِ الطبائع أدنى دورٍ فيما كانا يتخذانِه من خيار كما هو الشأن عند سائر أئمةِ أهل البيت (ع) فمواقفُهم جميعاً على اختلاف صورها تنشأُ محضاً عن الحِرصِِ الشديد على الدين ومقدَّراته، وتستهدفُ محضاً الرعايةَ والذودَ عن هويَّته ومعالمِه ومقاصدِه وغاياتِه، فذلك هو مُنطلُقهم وإنْ اختلفتْ مقتضياتُه.

الحرب هو القرار الأول الذي اعتمده الحسنُ (ع):

المقدِّمةِ الثالثة: هي أنَّ الإمامَ الحسنَ (ع) هو أيضاً قد اعتمد طريق المواجهة فمنذُ أنْ بايعه المسلمون بعد استشهاد الإمام علي (ع) كان أوَّلُ قرارٍ قد اتَّخذه هو التعبئةَ للحرب، ثم أمر مَن تعبَّأ من أهلِ الكوفة بالمسير الى النُخيلة وهي المعسكرُ الذي يُراد له أنْ يكون مُنطلقاً لجيش العراق، وبعثَ بطلائعَ منه إلى الموقع الذي يُنتَظرُ أنْ يكون موضعاً للمواجهة مع جيش الشام، فكان القرارُ الأولُ هو الحربَ والمواجهة إلا أنَّ الخياناتِ المتواليَّة مِن قادة الجُند وزعماءِ العشائر، وتخاذلَ الناس وتلكؤهم عن الانضمام لصفوفِ الجيش وتسرُّبَ الكثيرِ ممَّن كان قد انضمَّ إليه حال دون أنْ يستمرَّ الإمامُ (ع) في اعتمادِ هذا القرار فلم يكن مع الإمام الحسنِ (ع) من الجُندِ والقادةِ العسكريين ما يكفي لخوضِ المعركةِ فضلاً عن حسمِها.

فالإمامُ الحسنُ (ع) لم يعتمدْ خيارَ الصلحِ والمهادنة لأنَّ ذلك هو المناسبُ لطبيعة شخصيَّته -كما يزعم البعض- فقد خاضَ الإمامُ الحسنُ (ع) حروباً ثلاثة، وكان قد أبلى فيها بلاءً متميِّزاً، فكان موقعُه في الصفوفِ الأماميَّة، ومَن يقفُ على يوميَّات صفِّينَ وأحداثِ يومِ الجمل، وحربِ النهروان يعرفُ أنَّ الإمامَ الحسن (ع) كان رجلَ حربٍٍ كما كان رجلَ سِلْم.

ثمرات الصلح:

المقدِّمةِ الرابعة: وهي التأكيد على أنَّ الصلح ليس خياراً مرجوحاً دائماً، بل قد يكونُ كذلك، وقد يكونُ خيارُ الصلحِ هو الخيارَ الأجدر بالاعتماد إذا كان هو المناسب لمقتضيات الظروف، فقد تترتَّبُ على الصلح آثارٌ وثمرات لا يُمكن تحصيلُها بالحرب إلا أنَّ الإدراكَ لذلك لا يكون إلا لذوي البصائر والنظرِ الثاقِب الذين ينظرون الى ما وراء الأمور، فقد يُساهمُ الصلحُ في تقويةِ شوكة المؤمنين، كما قد ساهمتِ المهادنةُ والمداراةُ أيامَ رسول الله (ص) في تقويةِ شوكة المؤمنين، فلو اختار الرسولُ الكريم (ص) خيارَ المقارعة والمواجهة من أوَّلِ الأمر لكان ذلك مُنتجاً للإجهاز على دعوتِه في مَهدِها، ولهذا اعتمدَ طريق المداراة، وبذلك قويت شوكةُ الإسلام وأخذ يمتدُّ في الأرضِ ويتجذَّر الى أنْ بلغ مرحلةً يصعبُ معها استئصالُه، إذن فالصلحُ قد يُساهمُ الى حدٍّ كبير في تقوية شوكة المؤمنين، وعندئذٍ تكون ثمة فرصةٌ لتعبئةِ القوى، وسدِّ الثغرات ومواطنِ الضعف، ولولا الصلحُ لما أمكن ذلك، إذ أنَّ العدوَّ لن يتركَ لك فرصةً عندئذٍ، إذا كنتَ في خطِّ المواجهةِ معه وأنت ضعيف، فإنَّ غايتَه معك ستكونُ الاستئصال، كما أنَّ الصلحَ قد يُساهم والى حدٍّ كبير في التحفُّظ على بقايا مقدَّرات المؤمنين، فكان صلحُ الحسنِ (ع) قد ساهم في التحفُّظ على البقية الباقية من صفوة رجال عليٍّ (ع) والذين كان وزنُهم وزنَ الأمَّة، ولو كان خيارُ الحرب هو الخيارَ الذي اتَّخذه الحسنُ (ع) لاستُأصلت هذه البقيةُ الباقية، وعندئذٍ لا تُرفعُ للإسلام راية، وذلك هو ما صرَّحَ به الإمامُ الحسنُ (ع) فكان يؤكِّد أنَّ غرضَه من الصلح هو التحفُّظ على دماء البقية من خيار هذه الأمَّة، لأنَّه ببقائهم يستمرُّ خطُّ الرسالة ويكون ثمة بصيصُ أملٍ لتصحيح المسار، مسارِ الأمة الذي أراد له بنو أمية أنْ ينحرفَ عن الخط القويم، هؤلاءِ الرجالُ كانوا منتشرين في الأرض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعبئون القوى، ويحشدون الناس ويكشفون زيفَ السلطة، فلم يكن بمقدورِ الإمامِ الحسنِ (ع) أنْ يفعل كلَّ ذلك لو استُأصلت هذه البقيةُ الباقية أمثال حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعدي بن حاتم، وكميل بن زياد وغيرهم من الأخيار كميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهم.

الصلح كشفَ زيفَ العدوِّ ومهَّد للنهضة:

ومن الأمور التي يُساهم الصلحُ في تحقيقها هو كشفُ واقعِ العدو، فلم يكن زعيمُ البيتِ الأموي عدوَّا سهلاً، فكان له تأريخ، وكانت له (شرعيةٌ) مزعومةً يتدثِّرُ بها، فقد كان ثقةَ الخلفاء، كان الخليفةُ يعزلُ في كلِّ سنتين جميعَ ولاته على الأمصار ويُعيِّن غيرَهم إلَّا زعيمَ البيتِ الأموي فلم يكن يعزلُه، فكان ذلك وساماً يتزيَّنُ به، فهو معتمَدُ الخليفة وموضعُ ثقته، وكان علاوةً على كلِّ ذلك يعرفُ كيف يتظاهرُ بالنُّسُك والإيمان والتقوى، والحِرصِ على مقدَّرات الأمة، وكان يسوسُهم بالبذل والحلم، ويعتمدُ المكرَ والخداعَ وسيلةً في تمرير أهدافِه، كلُّ ذلك عزَّز من موقعِه بين أتباعِهِ وبين البسطاء من الناس وهم السوادُ الأعظمُ من هذه الأمَّة، فلم يكن هذا الرجلُ عدواً سهلا، هذا الرجلُ يحتاجُ الكشفُ عن زيفِه الى وقتٍ ليس بالقصير وإلى وضعِ مزاعمِه على المَحكِّ، ولم يكن ذلك إلَّا بواسطةِ الصُّلح فبهِ يُتاح للأمةِ أنْ تقفَ على دخيلتِه وواقعِه، فالصلحُ وإنْ كان خيارا مرًّا إلا أنَّ مِن نتائجه، بل ومن أعظمِ نتائجِه هو الكشفُ عمَّا وراءَ القناعِ المزيَّف الذي كان يتمظهرُ به، فذلك هو ما وقع بعد الصلح، فبعد أنْ استتبَّ له الأمرُ، وأمسكَ بزمامِ الأمور ولم يبقَ في البين ما يخشى منه صعدَ المنبرَ ليقولَ: "ما قاتلتُكم لتصلَّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجُّوا، وإنِّي لأعرفُ أنَّكم تفعلونَ ذلك، إنَّما قاتلتُكم لأتأمَّرَ عليكم!"(11) وبذلك ذهبت كلُّ الشعاراتِ البرَّاقةِ التي كان يرفعُها أدراجَ الرياح.

وقال في موردٍ آخر: "ألا إنَّ كلَّ شيءٍ أعطيتُ الحسنَ بن عليٍ تحتَ قدمي هاتين لا أفي به"(12) فلم يعُد يخشى من الجهرِ بنكثِ العهد ومن التصريح بأنَّه كان يمكرُ ويُخادعُ المسلمين، ثم إنَّه وبعد أنْ ملك زمام الأمور قتل الأبرارَ، والأخيارَ، والعبَّادَ، والنسَّاكَ الذين يقومون الليل، ويقرؤون القرآن، ويُعلِّمون الناسَ أحكامَ اللهِ تعالى!! أمثال حجر بن عدي وأصحابِه وعمرو بن الحمق الخزاعي والذي كان رأسه أولَ رأسٍ يُحملُ في الإسلام على خشبةٍ ويُدارُ به في الحواضر ثم حمل رأسَه إلى زوجته التي كانت في الحبس فألقي في حجرها، وكان أشدُّ الناسِ بلاءً هم أهلَ العراقِ عامَّة وأهلَ الكوفة خاصَّة، فكان زيادُ ابن أبيه الوالي على العراق من قبل البيت الأموي يقتل الناسَ على الظنَّة والتهمة ويصلبُ الكثيرَ منهم على جذوع النخل ويسملُ عيونَهم ويبترُ أطرافَهم بل قد يصلبُ الرجلَ في مشهدٍ من الناس عارياً بل وثَّق التاريخُ صلبُهم لامرأةٍ عارية، هذا وقد اعتمد زيادُ بن أبيه سياسة التهجير القسري فهجَّر الآلاف إلى خراسان وإلى عمان.

كان يبعثُ بالسرايا الى كلِّ بقعة من الحاضرة الاسلامية لم تقدِّم له رسومَ الطاعة فيقتلُ أجنادُه مَن تنالُه أيديهم من رجالها ويُمثِّلون بجثامينهم وقد يَحرِقونها، ويسلبونَ أموالَهم حتى ما كان منها على صدورِ النساء، ومن كلِّ ذلك وشبهِه اشتهرَ بين الناس صنيعُه وعرفوا حقيقةَ هذا الرجل، وأنَّه ليس جديراً بأنْ يكون خليفةً على المسلمين، ثم لم يهدأ له بال ولم يستقرَّ له قرار حتى نصَّب عليهم قسراً رجلاً كان مشهوراً بين المسلمين بالفِسقِ والفجورِ وتركِ الصلاة وشربِ الخمر والعبثِ واللعبِ مع القيان والقرود، ولهذا ومثلِه عرف الناسُ واقعَ هذا الرجل، وبذلك مهَّد الإمامُ الحسنُ (ع) بصلحِه للحسين (ع) لينهضَ بالثورة، فلولا الصلحُ لما أُتيحَ للأمةِ والتأريخ استيعابُ مبررِّات نهضةِ الحسين (ع).

الهوامش: 1- الكافي -الكليني- ج1 / ص139، 140 من خطبةٍ لأمير المؤمنين (ع). 2- سورة الطلاق / 5. 3- سورة الحج / 39. 4- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص124. 5- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص32. 6- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص89. 7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص46. 8- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص36. 9- الأخبار الطوال -الدينوري- ص222. 10- الامامة والسياسة -ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الزيني- ج1 / ص142، الأخبار الطوال -الدينوري- ص221. 11- المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص251، كشف الغمة -الاربلي- ج2 / ص164. 12- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج16 / ص46، مقاتل الطالبيين -أبي الفرج الأصفهاني- ص45. 13- سورة العصر / 1-3.
2023/08/23

رقيّة بنت الحسين (ع).. شخصيّة حقيقية أم وهمية؟!
يدعي البعض أنه لا وجود لسيدتنا رقية بنت الحسين (س)، وأن المرقد الموجود في سوريا ليس لها، ويشككون أو ينكرون وجودها سلام الله عليها، فما حكم المنكر؟ وما رأيكم حول السيدة رقية (س)؟ وتاريخياً هل كان للإمام الحسين(ع) بنتاً بهذا الاسم أم لا؟ الجواب من سماحة المرجع السيد محمد صادق الروحاني (قدس):

لقد كان لأبي عبدالله الحسين (ع) عدة أولاد بنين وبنات منهم طفلة ذات ثلاث سنين معروفة ب (رقية) ومدفونة في سوق شارع العمارة في دمشق وقد ورد ذكرها في كتب أرباب المقاتل في واقعة كربلاء وناداها الامام الحسين(ع) ونطق باسمها في اكثر من موضع وحادثة وخصوصا في الساعات الاخيرة من عمره الشريف عند ما اراد ان يودع اهله وعياله نادي باعلي صوته (يا اختاه يا ام كلثوم وانت يا زينب وانت يا رقية وانت يا فاطمة وانت يا رباب اذا انا قتلت فلا تشققن علي جيبا ولا تخمشن علي وجها ولا تقلن علي هجرا) (اللهوف في قتل الطفوف، وكذلك جاء في مقتل ابي مخنف) الذي هو اقدم مقتل لابي عبدالله الحسين(ع) – نادي في يوم عاشوراء لكي يودع اهله وعياله (يا ام كلثوم ويا سكينة ويا رقية ويا عاتكة ويا زينب يا اهل بيتي عليكن مني السلام.

(رقية في كتب السنة) واما في كتب السنة – ذكر عبدالوهاب بن احمد الشافعي المصري (المتوفي عام 673 هجري) مقام السيدة رقية في كتابه (المنن: العاشر) هذا البيت- بقعة شرفت بآل النبي صلي الله عليه وآله في دمشق وبنت الحسين (ع) الشهيدة (رقية) وقد ذكر العلامة الشيخ الحافظ سليمان القندوزي الحنفي المتوفي عام 1294- اسم رقية (س) عن لسان ابي عبدالله الحسين(ع) (ثم نادي يا ام كلثوم ويا سكينة ويا رقية ويا عاتكة ويا زينب يا اهل بيتي عليكن مني السلام) وفي المنتخب ذكر كيفية رحلتها في دمشق.

2023/08/22

هل ألّف الأئمة (ع) الكتب العلمية؟
توجدُ للأئمّةِ الأطهارِ كتبٌ ومصنّفاتٌ في أبوابِ العلومِ وهيَ على قسمين:

الأوّل: كتبٌ خاصّةٌ لدى الأئمّة -عليهم السلام- فيها أسرارُ أخبارِ الحدثانِ ما كانَ وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ والحلالُ والحرامُ مِن أحكامِ الدّين ولم تُنشَر منها إلّا ما رويَ مِن أقوالِهم -عليهم السلام- عنها مثلَ ما كتبَه أميرُ المؤمنينَ عليّ –عليهِ السلام- الذي سُمّيَ "الجامعة"

قالَ الاِمامُ الصّادقُ -عليه السّلام- هوَ يعرفُ كتابَ علىٍّ طولُه سبعونَ ذراعاً، إملاءُ رسولِ اللّهِ مِن فلقِ فيهِ، وخطُّ عليّ بنِ أبي طالب -عليهِ السّلام- بيدِه، فيهِ واللّهِ جميعُ ما يحتاجُ إليهِ النّاسُ إلى يومِ القيامةِ، حتّى أنّ فيهِ أرشَ الخدشِ والجلدةَ ونصفَ الجلدة (1).

ويقولُ سليمانُ بنُ خالد: سمعتُ أبا عبدِ اللّهِ -عليهِ السّلام- ، يقولُ: «إنّ عندَنا لصحيفةً طولُها سبعونَ ذراعاً إملاءُ رسولِ اللّهِ -صلّى اللهُ عليهِ وآله- وخطَّ عليٍّ (عليه السّلام) بيدِه، ما مِن حلالٍ ولا حرامٍ إلاّ وهوَ فيها»(2).

ومثلُ: مصحفِ فاطمةَ الزّهراء –عليها السلام- قالَ الإمامُ الصّادق -عليهِ السَّلام- : " و إنَّ عندَنا لمصحفُ فاطمة ( عليها السَّلام ) و ما يدريهم ما مصحفُ فاطمة ، مصحفٌ فيه مثلُ قرآنِكم هذا ثلاثَ مرّات، واللهِ ما فيهِ مِن قرآنِكم حرفٌ واحد، إنّما هوَ شيءٌ أملاهُ اللهُ و أوحى إليها " (3).

والثاني: الكتبُ التي أملاها الأئمّة -عليهم السّلام- على أصحابهم مِن أدعيةٍ ومواعظ والتي تتضمّنُ شرائعَ الدّينِ مثلَ كتابِ الصحيفةِ السجّاديّةِ جامعٌ لعيونِ أدعيةِ الإمامِ عليّ بنِ الحسين زينِ العباد -عليهِ السلام-

وله كتابُ: رسالةُ الحقوقِ.

وله مناسكُ الحجِّ رسالةٌ حاويةٌ لجميعِ أحكامِ الحجِّ الشرعيّة ، في ثلاثينَ باباً.

وقد ذكرَ السيّدُ محسنُ الأمينُ عدّةَ كتبٍ للإمامِ الصّادقِ -عليهِ السّلام- نذكر مِنها:

1. رسالةُ الإمامِ الصّادقِ -عليهِ السّلام- إلى النّجاشيّ والي الأهوازِ المعروفةِ برسالةِ عبدِ اللهِ بنِ النّجاشي.

2‌. رسالةٌ لهُ -عليه السّلام- أوردَها الصّدوقُ في الخِصالِ تتضمّنُ شرائعَ الدّينِ ..

3. كتابُ التوحيدِ بروايةِ المُفضّلِ بنِ عُمر الجعفي في ردِّ الدّهريّةِ وإثباتِ الصّانعِ.

4. كتابُ الإهليلجةِ بروايةِ المُفضّلِ بنِ عُمر أيضاً.

5.كتابُ مصباحِ الشّريعةِ ومفتاحُ الحقيقةِ.

6. رسالتُه إلى أصحابِه رواها الكُليني في أوّلِ روضةِ الكافي

7. رسالتُه إلى أصحابِ الرّأي والقياس .

8. رسالتُه في الغنائمِ ووجوبِ الخُمسِ أوردَها وما بعدَها إلى السّادسِ عشرَ في تحفِ العقول .

٩‌. رسالتُه في وجوهِ معايشِ العبادِ ووجوهِ إخراجِ الأموالِ جواباً لسؤالِ مَن سأله كم جهاتُ معايشِ العبادِ التي فيها الاكتسابُ والتّعاملُ بينَهم ووجوهُ النّفقات .

10. رسالتُه في احتجاجِه على الصوفيّةِ فيما ينهونَ عنهُ مِن طلبِ الرّزق .

11. كلامُه في خلقِ الإنسانِ وتركيبِه (4).

قلتُ: كتبُ الأسرارِ ورثَها الأئمّةُ وهيَ خاصّةٌ بهم وأما الأخرى فالظروفُ والمحنُ التي مرّ بها أئمّة أهلِ البيتِ -عليهم السّلام- وأصحابُهم حُرقِت الكتبُ وضاعَ الكثيرُ منها. والحمدُ لله أوّلاً وآخراً.

الهوامش: 1- الخرائجُ والجرائح ج2ص٣٩٦- الفصولُ المهمّةُ في أصولِ الأئمّة ج2ص60 2- بصائرُ الدرجات ج1ص172 3- بصائرُ الدرجات : 152 ، و بحارُ الأنوار : 26 / 39 4- أعيانُ الشّيعةِ، ج2، ص519 ـ
2023/06/19

الإمام الجواد (ع) وقيادته المبكرة للشيعة.. 6 نقاط مهمّة
يُثارُ إشكال من قِبل الآخرين: وهو إنَّ الإمامة منصبٌ إلهيّ كما تقولون، وهو في الرتبةِ منصبٌ يتلو منصبَ النبوَّة -إنْ لم يكنْ يوازيه في الخطورة-.

وذلك يقتضي أن لا تُناط مسؤوليةُ هذا الموقعِ الجليل إلَّا برجلٍ قد خَبِر الحياة، وصقلتْه السنون، وعكفَ ردحاً من الزمن يغترفُ من معارفِ الإسلام، التي يقصرُ العمرُ وإنْ امتدَّ عن الإحاطةِ بتفاصيلها ودقائق مبانيها ومقاصدها، فكيف يتسنَّى لصبيٍّ صغيرٍ أن يتعرَّف على هذا الكمّ الهائل من المعارف الدينية، والتي تشملُ الفقهَ، والكلامَ، والعقيدةَ، والتفسيرَ، والحديثَ، وغيرَها من المعارف، وكيف يُتاح لصبيٍّ صغير أنْ يكون واجداً للملكات العقلية والنفسية التي تقتضيها الزعامة والإمامة لأهليَّة الزَّعامةِ؟

قد يُثارُ هذا الإشكال، وحينئذٍ قد يُقال واستنتاجاً لهذا الإشكال بأنَّه ليس من الصحيح أنَّ ثمَّة أئمةً قد فَرضَ اللهُ طاعَتهم وزعامتَهم وولايتهم على الأمة وهم صغارُ السن.

وهذا الإشكالُ كما تُلاحظون لا يعدو الاستبعادَ فهو إشكالٌ ثبوتي لا نحتاجُ في مقامِ الإجابةِ عنه إلى عناءٍ يُذكر، بعد أنْ كان لظاهرةِ الإمامةِ المبكِّرة جذورٌ في تاريخِ الرسالات، فقد أكَّد القرآنُ الكريمُ أنّ يحيى بنَ زكريا (ع) تحَّمل أعباءَ النبوَّةِ وهو في عمرِ الصبي، قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1)، ويقولُ الله تعالى في شأنِ عيسى بنِ مريم (ع)، والحوارِ الذي وقعَ بين بني إسرائيل وبين السيدة مريم، حين جاءت برضيعِها تحملُه، فأشارت إليه أنْ كلِّموه ولا تسألوا مِن أين جئتِ بهذا الصبيِّ، فقالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا / قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا / وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا / وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا / وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(2).

وفي كلا الموردين نوَّه القرآنُ على أنَّ من منَحهُ اللهُ تعالى مقامَ النبوَّةَ والحكمَ في عمر الصبى قد منحَه قبل ذلك أو في عرضِه العلمَ بالكتاب. كما هو مفادُ قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾(3) وهو مفاد قوله تعالى على لسان عيسى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(4).

إذنْ فظاهرةُ الإمامة المبكِّرة لها جذورٌ في تاريخ الرسالات، ولعلَّ أحدَ مناشىءِ تأهيلِ مَن هُم في عمر الصبى لمقامي النبوة أو الإمامة هو التأكيدُ على انَّ مثل هذه المقامات لا يصلُها أحدٌ بجُهدِه وإنَّما هي مَلَكة تُمنحُ من عند الله تعالى ابتداءً، فقد يصلُ المرءُ إلى أرذلِ العمر، ويشتغلُ بطلب العلمِ طيلةَ عمره، ويخبُرُ الحياةَ فلا يتأهلُ لهذه المَلَكة، ثم يتأهلُ لها مثلُ عيسى المسيح وهو في المهد فيفوقُ في أهليَّتِه أكثرَ الأنبياء ليكون في مصافِّ أولي العزم منهم رغم انَّ عمره المساوقَ لعمرِ نبوَّتِه لم يمتد لأكثرَ من ثلاثةِ عقود بعدها توفَّاه اللهُ إليه ورفعه إلى سمائِه.

ستُّ نقاط للتنبيه على حقّانية الإمامة المبكرة:

وحتى يتبلورَ الأمرُ ويُصبحَ أكثرَ وضوحاً -فيما يتصل بظاهرةِ الإمامة المبكِّرة عند أهلِ البيت (ع)- نُنبِّه على مقدماتٍ ستَ أشار إليها الشهيدُ الصدر الأول -قدس الله نفسه الزكية-، وحين تتضحُ هذه المقدمات يتبيَّنُ أنَّ ظاهرةَ الإمامةِ لم تكن جزافية، بل كانت ظاهرةً واقعية اقتضتها العنايةُ والحكمة الإلهيَّة، فكان لها الأثرُ البليغُ في ترسيخ العقيدة ِالامامية.

المقدمة الأولى: هي إنَّ إمامةَ أهلِ البيت (ع) لم تكن -كما هو بيِّن- مركزاً من مراكز السلطة، فلم تكن وزارةً في سلطة أو دائرةً تابعةً لدوائرِ الخلافة، وإنَّما كانت حالةً مستقلةً بل ومباينةً للسلطة. فلو كانت الإمامةُ مركزاً، أو دائرةً من دوائرِ السلطة بحيث كانت تذودُ عنها وترعاها، وتُروِّجُ لها، لكان الأمر ربَّما يُصحِّحُ التشكيك إلا أنَّها لم تكن كذلك، فلم يكن يحميها من أحد، ولم يروِّجْ لها من أحد. بل كانت تعتمد -الإمامة- على التغلغل الرُّوحي في نفوس الأمة، وتستندُ إلى التفوُّق العلمي والفكري الكاشفِ بذاته عن الكفاءة، فحين يدّعي أحدٌ من أهل البيت (ع) أنّه إمامٌ مفترَضُ الطاعة فهو إنَّما يعتمدُ في إثباتِ ذلك على تفوِّقه العلمي، وعلى تفوِّقه الفكري، فيستند القبولُ لدعواه على ذلك وعلى تميِّزه الروحي، حيث يجده الناس مثالاً منقطعَ النظير في الورعِ التقوى، والنُسُكِ، والأخلاقِ الفاضلة، وكانت تظهر على يديه الفضائلُ، والكرامات، التي لا يتفق صدورها إلا لأصفياء الله ونجبائه، فكان ذلك كلُّه مجتمعاً هو ما ينشأ عنه الإذعان لإمامته عند من يُؤمن به. فلم يكن مذهبُ أهل البيت (ع) يعتمدُ على ترويجِ السلطان وإعلامه، بل كان السلطان وأعوانُه وجهازُه الإعلامي يسعون جاهدين على التعميةِ والتشويشِ والإخفاءِ لفضائلِ أهلِ البيتِ، وكراماتهم، وما يعبِّر عن تفوقِهم العلميّ، هذه هي المقدمة الأولى، وهي حقيقةٌ لا يسع من أحدٍ أن يتنكر لها.

أما المقدمة الثانية: فهي نوعيَّةُ القواعدِ الواسعةِ المنتميةِ لأهلِ البيت (ع)، والممتدةِ في عمقِ الحواضرِ الإسلامية، فهي في خراسانَ والأهوازِ والريِّ وفارس وقم، وفي العراقين، وفي حلب وفي الحجاز، وفي اليمنِ وغيرِها من حواضر الإسلام، وهذه القواعد لم تكنْ من الهمجِ الرعاع، بل كان فيهم الكثيرُ من ذوي الوجاهاتِ والمواقعِ الاجتماعية، وكان فيهم العلماءُ والفقهاءُ، وفيهم المتكلِّمون والمفسِّرون، وكان فيهم القرَّاء وحملةُ الحديث والمؤرخون والأدباء والشعراء، وفيهم من تتلمذ على أيديهم الكثيرُ من علماء العامة والخاصة في مختلف حقول المعرفة المتداولة في تلك العصور. فلم يكن شيعةُ أهلِ البيت (ع) جماعةً من السُوقة والهمجِ الرعاع بل لا زال التراثُ الإسلامي يحتفظُ بالكثير من مآثر هؤلاء المنتمين لأهلِ البيت (ع) ويحتفظُ بالكثير من نظرياتهم في الطبِّ والكيمياءِ وعلمِ الهيئةِ والجَبْرِ والحسابِ وعلمِ المنطقِ والكلام والعَروضِ والنحو، وكان فحولُ شعراءِ العصر الأموي والعباسي منهم، والكثيرُ من الأسماءِ اللامعةِ في العديدِ من العلوم هم من أبناء هذه المدرسة. ومثلُ هؤلاء لا يصحُّ في حقِّهم التوهُّمُ بأنَّ اتَّباعهم لأهلِ البيت(ع) نشأ جزافاً وعن غير رويةٍ وتثبُّت، إنَّ مثلَ هؤلاءِ لا يليقُ بشأنِهم الإذعانُ مجتمعين بإمامةِ أهلِ البيت (ع) لولم يجدوا فيهم الكفاءةَ والجدارةَ للموقعِ الذي يعتقدونَه فيهم.

المقدمة الثالثة: إنَّ الشروط التي يعتمدُها ويتبّناها أصحابُ هذه المدرسةِ في الإمام لم تكن شروطاً ميسورة، بل هي شديدةُ التعقيد، يتعسَّرُ على أكثر خلق الله أن يكونوا واجدين لها أو حتى لبعضِها، فقد كانوا يشترطون في الإمام مضافاً إلى النصِّ عليه أنْ يكونْ معصوماً من صغائرِ الذنوب فضلاً عن كبائرِها، ومعصوماً حتى من الخطأ، وأن يكونَ أعلمَ الناس على الإطلاق وأتقاهم، وكانوا يشترطونَ في الإمام العديدَ من الملكاتِ والكفاءات فلا يُذعنون بإمامته ما لم يكن واجداً لهذه الصفاتِ والملكات، فهم حينما قبلوا بإمامة الجواد (ع) مثلاً وهو في عمر الصبى لم يكن ذلك اعتباطاً، وإنّما أذعنوا له بالإمامة لأنَّهم وجدوا فيه ما لا يسعُهم إلا الإذعانُ بإمامته.

فتىً في عمرِ الصبى يجلسُ بين يديه ذوو السنِّ من الفقهاء والمتكلمين ممن تتلمذوا على يد الصادق والكاظم والرضا (ع) فيسألونَه وهو يجيبُ دون تريُّثٍ أو إعداد حتى احصى بعضُ الرُواة -كما في الصحيح -ثلاثينَ ألفَ مسألةٍ كانت مجموعَ ما ألقي على الإمام من الأسئلة في إحدى المواسمِ وكانت اجاباتُه كلُّها مطابقةً لما كانوا قد تلقَّوه من اجاباتِ الصادقين من آبائه (ع).

وهذا عليُّ بن جعفر -ابن الإمام الصادق (ع)- أدرك الإمامَ الجواد (ع) فهو عمُّ أبيه، وكان من كبارِ علماءِ أهل البيت (ع)، فكانَ يجلسُ في المسجدِ النبويِّ الشريف فيتحلَّقُ حولَه روَّادُ العلمِ يكتبونَ ما يُمليه عليهم، وكان عمرُه قد نيَّف على السبعين .. ينقل عنه مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ جَالِساً بِالْمَدِينَةِ وكُنْتُ أَقَمْتُ عِنْدَه سَنَتَيْنِ أَكْتُبُ عَنْه مَا يَسْمَعُ مِنْ أَخِيه يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ (ع) إِذْ دَخَلَ عَلَيْه أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الجواد (ع) الْمَسْجِدَ - مَسْجِدَ الرَّسُولِ (ص) فَوَثَبَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ فَقَبَّلَ يَدَه وعَظَّمَه فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (ع): يَا عَمِّ اجْلِسْ رَحِمَكَ اللَّه فَقَالَ: يَا سَيِّدِي كَيْفَ أَجْلِسُ وأَنْتَ قَائِمٌ، فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ إلى مَجْلِسِه جَعَلَ أَصْحَابُه يُوَبِّخُونَه ويَقُولُونَ: أَنْتَ عَمُّ أَبِيه وأَنْتَ تَفْعَلُ بِه هَذَا الْفِعْلَ؟ فَقَالَ: اسْكُتُوا إِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ -وقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِه- لَمْ يُؤَهِّلْ هَذِه الشَّيْبَةَ وأَهَّلَ هَذَا الْفَتَى ووَضَعَه حَيْثُ وَضَعَه، أُنْكِرُ فَضْلَه؟! نَعُوذُ بِاللَّه مِمَّا تَقُولُونَ بَلْ أَنَا لَه عَبْدٌ"(5).

وقد وردت رواياتٌ عديدة متعاضِدة وفيها ما هو صحيحُ السند قريبةٌ من هذا المضمون، أتُرى أنَّ عليَّ بن جعفر- الشيخ الكبير وهو كما وصفوه من عظماءِ أهل البيت- يُذعنُ بالإمامة لصبيٍّ لو لم يجد فيه ما يُؤهِّله لهذا المقام؟! ثم لم يكن ذلك من عليِّ بن جعفرٍ وحسب، فقد كان يَقصدُ الإمامَ الجواد (ع) علماءُ من بغدادَ، والكوفة، والحجازِ وخراسان وغيرها من الحواضر يستفتونه، ويسألونَه، فيجدون عنده ما لا يجدونه عند غيره من شيوخ الإسلام! -هذه هي النقطة الثالثة-.

أمَّا المقدمة الرابعة: وهي الحقيقة التأريخية التي يُؤكِّدها المؤرخون، وهي إنَّ ولاية أهلِ البيت (ع)، والانتماءَ لهم، كان يُكلِّف غالياً، فكان ينتهي بالمنتمين لهم خصوصاً من ذوي الشأنِ منهم في الكثيرِ من الأحيانِ إلى السجونِ، والطواميرِ، أو المطاردةِ، والتصفيةِ الجسدية، وكان مَن دونَهم في الشأن يُحرمُ الكثيرُ منهم من عطائهم ويُحاربون في أرزاقهم ومعائشهم، فالانتماء لمدرسةِ أهل البيت (ع) في العصر الأموي والعباسي الأول كان يساوقُ القبول بضَنكِ العيش وقسوةِ الحياة، وكان يعني الترقُّبَ للاستهداف بالتصفيةِ أو السجنِ أو التهجيرِ أو الحرمانِ من العطاء بل والمصادرةِ للمال.

ورغم كلَّ ذلك ظلَّ أتباعُ هذه المدرسةِ متمسكينَ بما هم عليه من الاعتقاد بإمامة أئمةِ أهل البيت (ع) دون أنْ يُثنيهم عن ذلك ما كانوا يتكبَّدونه من عناءٍ وعنَت، أتُراهم يتحمَّلون كلَّ هذا المشاقِّ والشدائد دون أن يكونوا قد وجدوا أنَّ ما هم عليه هو الطريق المُفضي للرضوان الإلهي؟! إذن يكونوا حمقى، وقد علم الجميعُ أنَّهم عقلاء وأنَّ فيهم النابهين وذوي العلم والحِجى والفضل.

وأمَّا المقدمة الخامسة: فهي إنَّ الإمام من أئمة أهل البيت (ع) لم يكن معزولاً، فلم يكن في بروجٍ مُشَّيدة، تحوطوها الحجَّاب، فيُشار إليها بأنَّ في هذه البروج رجلاً إلهيّاً، تظهرُ على يديه الكرامات، ويعلم بكتابِ الله وسُنَّة رسوله (ص)، لم يكن الأمرُ كذلك حتى يُقال إنَّ الشيعة قد آمنت بإمامة رجلٍ دون معاينةٍ ودون أنْ تقومَ عندهم الدلائلُ على إمامته بما يجدونه في حديثِه وما كان يظهرُ على يديه من الخوارقِ التي لا يتفقُ صدورُها إلا من أصفياءِ الله ونجبائه.

كان الإمامُ من أئمةِ أهل البيت (ع) يعيشُ في وسطِ الناسِ، يقصدونه فلا يجدونَ ما يحولُ دون التقائهم به، فكان يدخلُ عليه كلُّ الناس على اختلافهم في المشاربِ والمذاهب يستمعونَ إلى حديثِه ويستفتونَه وأحياناً يمتحنونَه. وكان أتباعُ المذاهب وعلمائِهم على درايةٍ بما يعتقدُه الشيعة في أئمتهم من العصمة والتفوُّق في العلم والمعرفة، فكانَ بإمكانِهم أنْ يُبدِّدوا هذه الهالةَ التي كان يعتقدُ بها الشيعةُ في أئمتِهم (ع)، وذلك بالدخولِ على أئمتِهم وامتحانِهم في محضرِ شيعتِهم، وإحراجِهم، وإفحامهم، وينتهي الموضوع. لماذا لم يفعلوا ذلك؟! أليسَ في الأمّة علماء؟! ألم يكن فيهم فقهاءُ ومحدِّثونَ ومَن عُرفوا بالتميُّز في علم الكلام والتفسير؟! لا ريب أنَّهم كانوا كثيرين، لكنَّهم كانوا يُدركون قصورَهم عن ذلك، نعم بذلت السلطةُ العباسية في ذلك مساعيَ متعدِّدةً وبعناوينَ مختلفة لكنَّ مسعاها في كلِّ مرةٍ يعودُ عليها بنقيضِ غرضِها فكانوا يجمعونَ في كلِّ مرة المتميِّزين من علماءِ المذاهبِ والديانات ويُحرِّضونَهم على التحضير لأكثر المسائل تعقيداً ثم يدعونَ الإمامَ للحضور دون سابقِ إشعارٍ عن غرض الدعوة أملاً في أنْ يكونَ ذلك موجباً لمفاجئته بما لم يكن مستعدَّاً له فينقطعُ أو يتعثَّر في الجواب لكنَّ حظَّ السلطةِ من ذلك في كلِّ مرةٍ هو الإخفاق، ولو كانوا قد أفلحوا في هذا المسعى ولو لمرةٍ واحدةٍ لطاروا بها مبتهجين ولشاعَ ذلك وذاع ولسُوِّدت بالإخبار عنه الصحائفُ، فالمناوئون لأهل البيت (ع) كثُر والدواعي للنقلِ شديدة رغم ذلك لم يصلْ إلينا إلا ما يُعبِّر عن اخفاقِ السلطة وتألقِ الإمام (ع) في كلِّ مناظرةٍ يتمُّ عقدُها وهو ما نشأ عنه المزيدُ من الإكبار والإجلال لأئمة أهل البيت (ع) في مختلف الأوساط.

المقدمة السادسة والأخيرة: إنَّ الخلافةَ كانت تنظُرُ إلى أئمة أهلِ البيت (ع) على أساس أنَّهم خطرٌ على السلطة، وكان احتفاءُ الناس بهم، واتساعُ قواعدِهم وامتدادُها في مختلفِ الأقطارِ الإسلامية، يُحرجُ الخلافةَ العباسية، حتى قال هارونُ: أنا إمامُ الأجساد، وهذا إمامُ الأرواح أو القلوب -يشيرُ إلى الإمام الكاظم (ع)-، فما الذي أعيى السلطةَ فدفع بها نحو التعسُّفِ والبطش؟!. أليس من اليسير عليها أنْ تُبدِّدَ هذه الهالةَ بواسطةِ إحراج هؤلاءِ الأئمة (ع) الذين تُدَّعى لهم الإمامة؟! فعلماءُ العامة جلُّهم يأتمرونَ بأمر السلطة العباسيَّة، ألم يكن في وسع خلفاءِ بني العباس أنْ يستقدموا العلماءَ من مختلفِ الأقطار الإسلامية، ثم يُحضرونَ الإمامَ، ويقولونَ له: أنت تدَّعي الإمامةَ، إذن أجب عن أسئلةِ هؤلاء العلماء. لماذا لم يتوسَّلوا بذلك ولجئوا إلى اعتماد التعسُّفِ، والبطش، والتصفية الجسدية؟ أليس من الميسور أن يتوسلوا بهذه الوسيلة؟ ألم يكونوا مُدركين بأنَّ الظلمَ قد يزيدُ من سعة نفوذِ هؤلاء الأئمةِ وعشقِ الناسِ لهم؟

لا ريب انَّهم كانوا يُدركون ذلك لكنَّ خيار الظلم والبطش هو الخيارُ المتاح، فهم يعرفون أنَّ أئمة أهل البيت (ع) لا يمكن إحراجُهم لأنَّهم أعلمُ الناس، وأعرفُهم بكتاب الله وسنَّة رسوله (ص).

إذا اتَّضحت هذه الحقائقُ يتضحُ أنَّ ظاهرةَ الإمامةِ المبكِّرة لم تكنْ مغمزاً في العقيدةِ الإمامية، بل كانت برهاناً يُضافُ إلى البراهين الدامغةِ على حقانيةِ المذهبِ الإمامي، فقد وجد كلُّ من عاصرَ الإمامَ الجواد (ع) ما نشأ عنه الإذعانُ بتميِّزه وتفوِّقه وأنَّه كان -بحق- امتداداً لرسول الله (ص) في سجاياه وعلمِه واتصالِه بالغيب وما كان يظهرُ على يديه من الكرامات التي لا يتَّفق صدورها إلا ممن اجتباه الله لدينه، ولهذا أذعن الشيعةُ بإمامته، رغم انَّ أبناء الرسول (ص) كانوا كثيرين لكنَّهم لم يقبلوا بإمامة أحدٍ منهم من شيوخ البيت النبوي ممَّن كان قد عاصره، وذلك مؤشِّرٌ واضحٌ على أنَّ الأمرَ لم يكن خاضعاً للعاطفةِ والمحاباة وإنَّما كان خاضعاً للنصِّ والبرهان.

الهوامش: 1- سورة مريم / 12. 2- سورة مريم / 29-33. 3- سورة مريم / 12. 4- سورة مريم / 30. 5- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 322. 6- سورة الكوثر.
2023/06/18

«حاكم جائر».. كيف قبل الإمام الرضا (ع) بولاية عهد المأمون؟!
حديثنا سوف يتركَّز حول مُبرِّرات قبول الإمام الرضا (ع) لولاية العهد، من قِبَل الخليفة العباسي عبد الله المأمون، حيث أُثيرت حول هذه القضية التأريخيَّة مجموعة من الإثارات والإستفهامات، نستعرضُ واحدًا منها -وهو أهمُّها-، ومن خلاله تتّضح الإجابة عن سائر الاستفهامات.

هذه الإثارة، أو هذا الاستفهام، هو أنَّه كيف أقدم الإمامُ الرضا (ع) -وهو في موقعه الديني-، على القبول بولاية العهد لسلطانٍ جائرٍ ظالمٍ مستبدٍّ مُغتصِبٍ لمنصب رسول الله (ص)؟ أليس في ذلك إقرارٌ بصوابيَّة ما عليه بنو العباس؟ أليس في ذلك إضفاءٌ للشرعيَّة على ولايتهم وملكِهم؟ أليس من المُفترَض ومن المناسب للإمام الرضا (ع) أنْ يرفضَ قبولَ الولاية ولو أدَّى ذلك إلى استشهاده، كما استُشهد أبو عبد الله الحسين (ع) بعد أنْ رفض البيعةَ ليزيد بن معاوية؟

هذا استفهامٌ يُثيرُه البعض حول هذه القضيَّة التأريخيَّة المُسلَّمة، وهي ولاية الإمام الرضا (ع) للعهد من قِبَل المأمون.

وحتى يتَّضح الأمر، ونتمكَّن من الإجابة عن هذا الاستفهام، لابدَّ لنا من أنْ نستعرض أمرين أساسيين، وباتِّضاحهما يتّضحُ الجواب عن هذا الإشكال.

أمران أساسيان في تحرير الجواب:

الأمر الأول: هو ما يرتبط بظروف قبول الإمام (ع) لولاية العهد، فما هي الظروف والملابسات التي اكتنفتْ هذه القضية، وأنتجت قبولَ الإمام (ع) لولاية العهد؟ ثم ما هي حقيقةُ قبوله لولاية العهد؟

والأمر الثاني: والذي ينبغي أنْ يتَّضح في المقام، هو أنَّه ما هي النتيجة، أو النتائج التي ترتَّبت عن قبول الإمام (ع) لولايةِ العهد؟

حين اتِّضاح هذين الأمرين يتجلَّى الجوابُ عن هذا الاستفهام الذي أثرناه قبل قليل.

الجواب في محاور: المحور الأول: الظروف المزامنة لقبول الإمام (ع) بولاية العهد: أولا: الاضطرابات والثورات وحساسيَّة موقع الإمام الرضا (ع):

نتحدَّث عن الظروف التي اكتنفت قبول الإمام (ع) لولاية العهد. تعلمون أنَّ المأمون وبإيعازٍ من أبيه الرشيد قد تولَّى على أرض خراسان بأكملها، والبلدان التي تليها وتحوطُ بها، وبقي هناك واليًا إلى أنْ تُوفي أبوه الرشيد، وكان الأمينُ هو خليفة هارون، وكان في بغداد. وتعلمون أيضًا أنَّ هناك مشاحناتٍ، وسوء علاقة بين الأخوين، أدَّت في نهاية الأمر إلى نشوب حربٍ بينهما، وانتهت بمقتلِ الأمين، وكان قاتلُه هو أخاه المأمون، هذه مسألة مُسلَّمة تأريخيًّا.

المُسلَّمة التأريخيَّة الأخرى هي أنَّه قد نشبت ثوراتٌ كثيرة من العلويين، بل ومن غيرهم، إبَّان خلافة هارون، وتعقَّبتها ثوراتٌ كثيرة، في نواحٍ مختلفة من البلدان الإسلامية في أيام الأمين، وهكذا في أيام المأمون، فكانت الثورة تلوَ الثورة، تنشبُ وتبقى زمنًا، ثم يقضي عليها العباسيُّون بكلِّ قسوة وشراسة.

العباسيُّون يعرفون أنَّ عدوَّهم الأكبر هم العلويُّون، وعلى الأخص أهل البيت (ع) فقد كان لأهل البيت (ع) -بالخصوص- قاعدة شعبيَّة واسعة في البلاد الإسلامية، وكان المأمون يُدرِك جيِّدًا أنَّ بقاءَ عليِّ بن موسى الرضا (ع) -وهو وجه أهل البيت (ع) آنذاك- ووجودَه في موقع المعارضة للدولة العباسية يُضعفُ ويُوهِن العبَّاسيين، ممَّا أدَّى به إلى أنْ يفكِّر في أحد خيارين:

إمَّا أنْ يقضي على الإمام الرضا (ع) -وهذا لم يكن ميسورًا في تلك المرحلة-، وإمَّا أن لا يقضي بقتله؛ لأجل ما عليه المسلمون من تقديرٍ واحترام، وتأييدٍ وحبّ، وولاء لأهل البيت (ع)، وحينئذٍ تظلُّ الثورات تشتعلُ هنا وهناك. وذلك هو ما دعى المأمون إلى أنْ يفكِّر في وسيلةٍ لامتصاص غضب الجماهير -جماهير المسلمين- التي كانت تُكنُّ الولاء لأهل البيت (ع)، أو على الأقل تُكنُّ العداء لبني العباس، وترى أنَّهم ظلمة، وقساة، وفجرة، ومُبتزُّون للخلافة.

فالسياسة التي سلكها المأمون لغرض المعالجة لهذه المعضلة اقتضت أن يُقصِي الإمام إلى خراسان، وأن يعزلَه من جهةٍ عن قواعده الشعبية، ثم يسعى من أجل إضفاء الشرعية على ولايته، وذلك بأنْ يجعل الإمام وليَّا لعهده، والإمام (ع) بموقعه الديني وموقعه الاجتماعي في النفوس سيمتصُّ بحسب تصوُّر المأمون النقمة على الخلافة العباسيَّة، وسوف يُضفي بذلك شرعيَّةً على خلافته وولايته، ويدرأ عن نفسه ودولته ما تُخلِّفه الثورات من خللٍ ووهن.

ثانيًا: اعتقال الإمام الرضا (ع)، والقرائن التأريخية على ذلك

بعد أنْ اتَّضحت هذه المقدَّمة نقول: إنَّ المأمون بعث مجموعةً من جنوده إلى المدينة، وأمر الإمام (ع) وعددًا من بني عبد المطلّب أن يرحلوا معهم إلى خراسان، وبتعبير أدقَّ -كما ينقل المؤرخون- جاء هؤلاء الجنود لإشخاص الإمام (ع)، وعددٍ من بني عبد المطلّب على غير اختيار منهم فكان ذلك أشبه شيء بالاعتقال والإشخاص القسري إلى خراسان(1).

القرينة الأولى: اقتياد الإمام قسرًا، ومن دون مفاوضات:

نعم، أخذوهم على أنَّهم مطلوبون للسلطة، أخذوهم على أنَّهم معتقلون، فلم تقع أيُّ مشاوراتٍ أو مفاوضات، ولم يكن للإمام خيارٌ في أن يرفض الرحيل إلى خراسان رغم أنَّه أبدى عدم الرغبة في المصير إلى خراسان بل إنَّه رفض القبول في أول الأمر لكنَّ قرار السلطة كان ناجزًا ولم يكن قابلًا للتفاوض، هذه مسألة.

القرينة الثانية: الطريق الذي اقتادوا فيه الإمام (ع):

الظرف الآخر الذي يُعبِّر -في النتيجة- عمَّا نريد أنْ نستنتجه، هو أنَّ الطريق الذي أمر المأمون جنوده أن يسلكوه بالامام كان على غير طريق الحواضر الإسلامية التي لأهل البيت فيها شيعةٌ ومؤيِّدون، فقد أمر المأمونُ جنوده أن يأخذوا الإمام ومَن معه من بني عبد المطلب على غير الطريق الذي يمرُّ بهم على المدن التي لهم فيها ولاء، لذلك أمرهم أنْ يذهبوا به من جهة البصرة، ثم من البصرة إلى خوزستان، ومن خوزستان إلى فارس -المُعبَّر عنها بشيراز، ومن شيراز إلى نيشابور، ومن هناك إلى مرو. وهذا الطريق يقلُّ فيه أنصار أهل البيت (ع)، فكانت خشيته من أن تحدث ردَّة فعل على اعتقال الإمام الرضا (ع)، لذلك أمر بأن يُؤخذ الإمام إلى غير الطريق الذي يمرُّ بالحواضر المشتملة على شيعة لأهل البيت (ع) هذا هو الأمر الثاني(2).

القرينة الثالثة: الرجال الذين بُعثوا لاقتياد الإمام:

من هم الرجال الذين بُعثوا لاقتياد الإمام الرضا (ع) إلى مرو؟ إنَّهم لم يكونوا رجالًا مدنيّين، ذوي وظائف سياسيَّة كما لم يكونوا ممَّن يسلكون الحياد، بل كانوا عسكريين ومِن ألدَّ أعداء أهل البيت (ع)، كانوا جفاةً قُساة، عاملوا الإمام (ع) وبني عبد المطلب أقسى معاملة، حيث قلنا إنَّ طريقة أخذهم كانت على هيئة الإعتقال، ولم تكن على هيئة وفادة مثلًا واستضافة، فالأشخاص الذين اختارهم المأمون لهذه المهمة كانوا من أمثال الجلوديّ، وهو شخصية تأريخية معروفة بالقسوة، وكان من قوّاد جيش هارون الرشيد، هذا الرجل كان معروفًا بالعداء لأهل البيت (ع)، وهذا الرجل كان في أيام هارون الرشيد زعيمًا للجيش، وعندما قضى هارون الرشيد على ثورة من الثورات العلويّة أمر الجلوديّ أن يذهب إلى بيوتات بني عبد المطلب، وبني هاشم، ويقتحمها كلَّها، ويسلبُ كلَّ ما فيها من ذهبٍ وحُليٍّ ومتاع، بل ويسلب عن العلويات مقانعهن! وأمره بأن لا يُبقي في بيت طالبيٍّ عينًا ولا أثرا، فأخذ يقتحم بيوت بني عبد المطلب، وبيوت بني هاشم في المدينة، بيتًا بيتًا، حتى بلغ بيت الإمام الرضا (ع)، فأمر الإمام الرضا (ع) جميع النساء والبنات أن يدخلن إلى حجرة، وأغلق عليهنّ الباب، ووقف الإمام الرضا (ع) على الباب، وقال للجلوديّ: لا آذن لك بالدخول على أيِّ حال. قال: أنا مأمور من قبل الخليفة بذلك. قال (ع): وإنْ، ماذا تريد؟ قال: أُريد أن أسلب الهاشميّات والعلويّات ما عليهنّ من مقانع، وما عندهنّ من حليّ. فقال (ع): أنا أفعل ذلك. فلم يأذن له بالدخول، ودارت بينهما مشادَّة كلاميَّة عنيفة، ثم هدأ الجلوديّ وقبل بأن يتولَّى الإمام (ع) أخذ ما عند العلويّات من متاع، فدخل الإمام الرضا (ع) وأخذ جميع حُليهِّن، ومتاعهن، وما عندهنَّ من ثياب، ولم يبقِ على كلِّ علوية إلَّا ثوبًا واحدًا -حتى مقانعهن، وخلاخيلهن، وأقراطهن-، أخذها الإمام (ع) وسلَّمها للجلوديّ(3). حتى يذكر المؤرخون أنَّ العلويات -كلَّهن- إذا أردن الصلاة، كانت تُصلِّي واحدةً بعد الأخرى، فإذا انتهت واحدةٌ أعطت قناعها إلى الأخرى؛ لتصلِّي به، هذا هو الرَّجل الذي بعثه المأمون؛ ليأخذ الإمام (ع) إلى مدينة مرو، هذا هو الأمر الثالث الذي نُريد بيانه في مقام بيان الظروف التي اكتنفت قبول الإمام لولاية العهد.

ثالثًا: إجبار الإمام على القبول بولاية العهد:

حينما وصل الإمام (ع) إلى مرو، ما الذي فعله المأمون؟ أمر بأن يُفرَّق بين الإمام (ع) وبين بني عبد المطلب. فأمرهم أن يحبسوا الإمام (ع) في بيتٍ، بعيدًا عن بني عبد المطلب؛ وذلك إمعانًا في إرهابه، وإرعابه، والضغط عليه، من أجل قبول ما كان يريده المأمون. ثمَّ بعد ذلك بعث المأمون برجلين -هما من أعمدة رجاله-: وهما، الفضل بن سهل، والحسن بن سهل، بعثهما إلى الإمام (ع)، فدخلا عليه وعرضا عليه ولاية العهد. فامتنع الإمام (ع) ورفض، وأبى أشدَّ الإباء، فقالا له: الأمرُ ليس اختياريًّا، ما عرضنا عليك الأمر لنُخيِّرك، وإنَّما هو فرضٌ مُلزِمٌ لك. فأصرَّ الإمام (ع) على امتناعه عن القبول، فقالوا: قد أُمِرنا من قِبَل المأمون، إنْ لم تقبل أنْ نضرب عُنُقك.

ثم خرجا من عنده، وبعده بعث المأمونُ إلى الإمام أنْ يحضر، فأُحضِر الإمام (ع) إلى مجلس المأمون، فقال له: لِمَ لا تقبل بولاية العهد؟ قال (ع): ولِمَ أقبل بولاية عهدك؟ إن كُنتَ -مضمون الحديث- إنْ كنت ومَن وَلَدك من وُلد العبَّاس أحقُّ بهذا الأمر دون غيركم، فلا يسوغ لكم أنْ تخلعوا رداءً ألبسه الله إيَّاكم، وإن لم تكونوا أهل حقٍّ فلا شأن لك في الأمر، وليس لك أن تضع من تشاء، وتعزل من تشاء. قال: ليس الأمر بيدك يا أبا الحسن، عليك أنْ تقبل وإلَّا تُضرب عنقك. فأصرَّ على الإمام، وألحَّ عليه بالقبول، وهدَّده إنْ لم يقبل فإنَّ مصيره السَّيف(4).

هذه هي ظروف القبول بولاية العهد.

المحور الثاني: ماهيّة وحقيقة قبول الإمام بولاية العهد:

إذن، فالإمام (ع) قَبِل بولاية العهد تحت حدِّ السيف، إلا أنَّه لم يقبل ابتداءً، وهكذا دون شرط، بل قال له: أَقبلُ منك ولاية العهد على أنْ تقبل شرطي. قال: وما هو؟ قال (ع): كما في إعلام الورى للطبرسي: "فإني أُجيبك إلى ما تريده من ولاية العهد، على أنَّي لا آمر ولا أنهى، ولا أُفتي ولا أقضي، ولا أُولِّي ولا أعزل، ولا أُغيِّر شيئًا ممَّا هو قائم" ومعنى ذلك أنَّه اشترط عليه أنْ لا يتدخَّل في شيءٍ شؤون الحكم والإدارة، وأنْ لا تُناط به أيُّ مسؤولية مهما حقُرت، وبذلك تكون ولايته صوريَّة ليس أكثر، ولأنَّ المأمونَ يطمح في قبول الإمام الرضا (ع) بأيِّ نحو، لذلك قَبِل بهذا الشرط(5).

طبعًا هذا الشرط في الواقع يسلُب من المأمون كثيرًا ممَّا كان يطمحُ في تحصيله، فكان يقصدُ من الإلحاح والإصرار على الإمام (ع) بقبول الولاية أنْ يُوهِم الناس بأنَّ الإمام الذي أنتم تبعًا له، والذي تعتقدون أنَّه لا يقبل بسلطاننا، ولا يرضى بخلافتنا، ويراها غير شرعيَّة، قد قَبِل بولاية عهدنا، ثم إنَّكم تقولون إنَّ الإمام إذا مَلَك وأصبح مبسوط اليد، سوف يسُود العدل والرَّخاء بين الناس، في حين أنَّه قد وُلِّي الأمر ولم يسُدُ العدل والخير والرَّخاء بين الناس، وبذلك يضعُف اعتقاد الناس بأهل البيت (ع).

الإمام (ع) في أول الأمر فوَّت الفرصة على المأمون، وذلك لأنَّه لم يقبل بولاية العهد إلا قسرًا وتحت حدِّ السيف وحينئذٍ لا يسعُ المأمون أنْ يدَّعي الشرعيَّة لخلافته لأنَّ قبول الإمام (ع) بها كان بالإكراه والقسْر، ثم إنَّ الإمام (ع) باشتراطه عدم التصدِّي لشؤون الإدارة والحكم، يُصبح من غير الإنصاف تحميل الإمام (ع) ما يحدث من ظلمٍ واستبداد واستكبار؛ لأنَّ الإمام الرضا (ع) أعلن -وبصريح الكلام- أنَّه ليس له من الأمر شيء، ثم إنَّه كان يُؤكِّد -دائما- أنَّه إنَّما قَبِلَ قسرًا، وبالتالي فالشرعيَّة التي كان يطمحُ المأمونُ في تحصيلها من قبول الإمام بالولاية لم تحصل فالشرط الذي وضعه الإمام أمام القبول والمواقف التي سجَّلها الإمام (ع) في السنوات، أو في الفترة التي كان قد تولَّى فيها العهد فوَّتت على المأمون ما كان قد ابتغاه من تولية الإمام للعهد.

ثم إنَّ المأمون أراد أنْ يظهر للناس بأنَّه على وئامٍ تامٍّ مع الإمام الرضا (ع)، وأنَّ الإمام الرضا (ع) قَبِلَ الولاية بمحض اختياره، وأنَّه يدعم ويُؤيِّد خلافة بني العباس، ويُعظِّمها ويُشيِّدها، ويقبَل بها، ويرى شرعيَّتها، أراد أن يُظهر ذلك من خلال إعلان مهرجانٍ كبير، يدعو فيه كبار القُواد والوجهاء، ثم بعدهم الناس؛ لبيعة الرضا (ع) على أنَّه وليٌّ للعهد، وبالفعل يأتي الوجهاء والقُواد والجيوش، والإمام (ع) جالس بجنب المأمون، فيأمر المأمون ولده العبّاس أنْ يكون أوَّل من يُبايع الرضا (ع) بولاية العهد، ثمَّ يأمر بعد ذلك العلويين أن يبايعوا، فيُبايع عباسيّ وبعده علويّ، وهكذا ثم يأتي زعماء القبائل وقوَّاد الجند، ثم وجهاء الناس فيُبايعون الإمام.

ماذا كان موقف الإمام (ع) في هذا الظرف الصَّعب جدًّا؟ في الواقع، كان الإمام (ع) -كما يؤكِّد المؤرِّخون، حتى بعض مؤرخي السنة- قد أبى أن يبسط يده للبيعة، وإنما رفع يده تلقاء وجهه وكان باطنها تلقاء الناس، فقال له المأمون: يابن رسول الله، لو بسطت يدك ليبايعك الناس. قال (ع): هكذا كان يفعل جدِّي رسول الله (ص). وهذه أوّل إشارة للناس، بأنَّ الأمر لم يكن اختياريًا للإمام حتى تُضفى الشرعيَّة لولاية المأمون بواسطة ولاية الإمام الرضا للعهد.

ثم أنَّه بعد أنْ بايعه الناس على ولاية العهد، قال المأمون للإمام: قُم، واخطب في الناس. فالمأمون ينتظر من الإمام (ع) أنْ يقوم فيُثني عليه ويمتدحه، وبذلك يحصل المأمون على شيءٍ من غرضه، إلا أنَّ الإمام (ع) حين قام خطب خطبةً قصيرة لا تتعدَّى السَّطرين، ثم مالذي قاله الإمام الرضا (ع) في خطبته؟ قال -بعد أنْ أثنى على الله عزَّ وجل، وصلَّى على رسوله (ص)-، قال: "لنا عليكم حقٌّ برسول الله (ص)، ولكم علينا حقٌّ به، فاذا أنتم أديَّتم إلينا ذلك، وجب علينا الحقُّ لكم"(6)، وختم خطبته.

لاحظوا، هذه الخطبة القصيرة ليس فيها أيُّ اتصال بما أراده المأمون، فليس فيها ثناءٌ ومدح، وليس فيها شكرٌ وحمد -كما يفعل القادة، والمتزلِّفون عندما يُعطون بعض المناصب-، ثم أنَّه عندما تحدَّث عن نفسه قال بأنَّ الحقّ الذي لنا عليكم نشأ عن حقِّ رسول الله (ص) عليكم، ومن الواضح أنَّ بني العباس ليس لهم حقٌّ من جهة رسول الله (ص)، وإنَّما هو لأولاد رسول (ص)، وبهذا الحديث، وبهذا الموقف، اتَّضح لكثيرٍ من الناس العقلاء -بالخصوص- أنَّ الأمر لم يكن اختياريًا للإمام الرضا (ع) وإنَّما كان قسريًا، ويظهر منه بوضوح أنَّه لا يعطي الشرعية للمأمون بعد أن لم يكن الرضا (ع) فعل ذلك باختياره.

ثم إنَّ المأمون حاول -وبكلِّ وسيلة- كي يصرف الإمام (ع) عن شرطه، وذلك بدعوته مرارًا وتكرارًا لتولِّي أمورٍ في الدولة، والإمام (ع) يأبى عليه، فلم يكن يرضى بالتدخُّل في شؤون الحكم، حتى في محقِّرات الأمور، وهذا التمنُّع قد يخفى على الناس في أول الأمر لكنَّه يتَّضح بمرور الأيام والشهور، فعندما لا يرون للإمام الرضا (ع) أيَّ صلةٍ بشؤون الحكم، وعندما يتمنَّع عن التصدِّي للقضاء والحكم حتى في القضايا الشخصيّة، فإنَّ الناس ومع الوقت يفهمون غايته من ذلك، فالناس عقلاء، فحين يجدون الإمام (ع) لا يتدخل بل ويمتنع من التدخُّل حتى في محقِّرات الأمور المتَّصلة بشؤون الحكم يُدركون أنَّ الأمر والواقع لم يكن كما يُروِّج له المأمونُ ورجالُه، فولايةُ العهد هي أعلى منصب بعد الخلافة، في حين أنَّهم لا يرون لذلك أثرا! كان الإمام (ع) في بيته، وقد يأتي إلى دار الحكم، إلَّا أنَّه يلتزم الصمت -إذا كانت المسألة ترتبط بالحكم، أو الإدارة-، وكان إذا دار الحديث في أمرٍ يرتبط بالعلم، والتفسير، والفقه، والكلام، كان هو المتحدِّث دون غيره.

يذكر المؤرِّخون أنَّ المأمون كان جالسًا للناس فدخل عليه بعض الجند برجلٍ يقتادونه، وكان الإمام (ع) حاضرًا، فوقف الرَّجل أمام المأمون والرضا (ع)، فسأل المأمون عن شأن الرَّجل فقيل له سارق، فاستفتى المأمونُ الإمامَ الرضا (ع) في شأنه إلا أن الإمام أبى أنْ يبتَّ حتى هذه القضية الحقيرة والصغيرة. فاضطر المأمون لاستجواب الرجل فسأله لِمَ سرقت؟ فأجابه بأنَّه سرق مضطرًا لأنَّه -أي المأمون- قد حجبَ عنه حقَّه فاضطرَّ للسرقة ودار بينهما حوار احتجَّ فيها السارق على المأمون بحججٍ فاستشاط منها المأمون غضبًا، فالتفتَ للرضا (ع)، فقال: ما يقول هذا الرجل! إلا أنَّ الإمام أبى أنْ يبتَّ في القضية، فالإمام (ع) كان يلتزم عدم البتّ في أيِّ قضية، مهما حقُرت -كما أوضحنا ذلك-(7).

المحور الثالث: المسوِّغ الفقهي للقبول بولاية الجائر:

بعد أنْ اتَّضحت ظروف قبول الإمام (ع) لولاية العهد نتحدَّث عن المسألة التي صدَّرنا بها حديثنا، وهي لماذا قَبِلَ الإمام بولاية العهد، رغم أنَّ من المُسلَّم به فقهيًّا هو حرمة قبول ولاية الجائر، والمأمونُ من حُكَّام الجور بلا إشكال، فلماذا قَبِل الإمام (ع) بولاية العهد؟

نحن نقول وإنْ كان من المُسلَّم فقهيًّا أنَّ قبول ولاية العهد للجائر مُحرَّمةٌ شرعًا، ولكنَّ ذلك ليس على إطلاقه فقبول الولاية من الجائر إنَّما تحرم عندما لا يترتَّب على قبول الولاية مصالح تفوق في أهميتها عدم القبول، وقد أفتى الفقهاء -كلُّ الفقهاء- أنَّ قبول الولاية من السلطان الجائر قد تكون جائزة في بعض الموارد، وقد تكون مستحبَّة في موارد أخرى، بل قد تكون واجبة في بعض الموارد.

فعندما يُفضي القبول بالولاية إلى شيوع إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورفع شيءٍ معتدٍّ به من الظلم عن المؤمنين، وعندما يترتب على القبول نفع المؤمنين، وعندما يترتَّب على قبول الولاية مصالح كبرى كما نتجت عن قبول الإمام (ع) للولاية، عندئذٍ تكون الولاية جائزة، بل هي واجبة في بعض الحالات -خصوصًا إذا كانت قد نشأت عن قسرٍ وجبر-، وعندئذٍ ينبغي للمؤمن عندما يقبلها أن يُسيِّرها إلى ما ينفع المؤمنين، وهذا ما فعله الإمام الرضا (ع)، وهو قد قبل الولاية قسرًا، كما أوضحنا ذلك من خلال استعراضنا لظروف قبول الولاية.

ومن جهةٍ أخرى حاول الإمام (ع) أنْ يجعل من قبوله للولاية طريقًا لفضح النظام، والكشف عن أنَّ المأمون لم يكن جادًّا، وإنَّما كان مراوغًا، وكان مكايدًا ومخادعًا للمسلمين، ولم يكن ذلك منه عن إخلاص للمؤمنين، ولم يكن ذلك احترامًا للمسلمين. الإمام (ع) أراد أنْ يفضح سياسة المأمون من خلال قبوله للولاية بعد أن أُلزم بذلك، وأنْ يُصيِّر من قبوله للولاية مَعبرًا لصالح الإسلام والمسلمين. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ أهل البيت (ع) -وطوال تاريخهم وقبل ولاية الإمام (ع)- قد ضُيِّق عليهم، بحيث لم يتمكَّنوا من نشر علومهم للناس، فكان قبول الولاية فرصةً سانحة لنشر الإمام علوم أهل البيت (ع)، وتعريف الناس مقدار علمهم وجلالهم، حتى أنَّ الأمر قد بلغ مبلغًا كان متميِّزا في تلك الحقبة.

أولًا: نشر علوم أهل البيت (ع):

إنَّ أكثر علوم أهل البيت (ع) التي وصلتنا، كانت عن أئمةٍ ثلاثة: الأول هو الإمام علي (ع)، والثاني هو الإمام الصادق (ع)، والثالث هو الإمام الرضا (ع) ؛ وذلك لأنَّ هؤلاء الأئمة قد سنحت لهم الفرصة في سنين محدودة أنْ يُوضحوا للناس الدين، ومعالمه، وعلوم أهل البيت، وما هم عليه من مقامٍ وفضيلة، واتِّصالٍ بالله عز وجل. فالإمام استثمر السنوات الخمس التي كان فيها واليًا، فجاء عنه -أكثر ما جاء عنه- في غضون السَّنوات الخمس التي حكم فيها. والإمام الصادق استثمر سقوط الدَّولة الأمويَّة وانشغال الدَّولة العباسيّة بتشييد أركان الدولة، استثمر ذلك الظرف، فأسَّس جامعة كبرى تخرَّج منها كثير من العلماء.

ثانيًا: مقام أهل البيت (ع):

الإمام الرضا (ع) استثمر هذه الفرصة أيضا فتصدَّى لنشر علوم أهل البيت (ع)، حيث كانت المناظرات، والمُحاجَّات والمكاتبات، والخطب التي كان يلقيها الإمام، والإجابات عن التساؤلات والإشكالات التي كان يتلقاها عن رواد العلم وسائر الناس تمثِّل كمًّا هائلًا من العلوم، حتى أنَّ محمَّد بن عيسى اليقطيني، وهو أحد الرجال الروَّاد المعروفين في الأوساط العلمية، هذا الرجل هو وحده- جمع من مناظرات، ومسائل الإمام عليِّ بن موسى ثمانية عشر ألف مسألة وقيل خمس عشرة ألف مسألة، أكثرها يتَّصل بعلوم العقيدة. فلم يتهيأ للإمام (ع) التصدِّي لذلك لولا هذه الفرصة التي استثمرها(8).

ثالثًا: بيان فضائل أهل البيت (ع) ونشرها بين الناس:

ثم إنَّ الإمام بيَّن للناس فضائل أهل البيت (ع)، وتعرَّف الناس على أنَّ هناك فرقًا بين الإمام (ع) وبين حاكم الجور، المأمون أراد أنْ يقول للناس إنَّ الأئمة لا يختلفون عن الحُكَّام، حيث إنَّهم لو ملكوا ولو أمسكوا بزمام الأمور لكانوا مثلهم، فالإمام الرضا (ع) ومن خلال مواقفه بيَّن للناس أنَّ أهل البيت (ع) ليس كما أراد المامون إيهام الناس به، فكان كثير الصلاة، كثير الصيام، كثير العبادة، كان كلامه حكمة وعلمًا وكان فعلُه مثال الخلق الرفيع وكانت سيرته كسيرة رسول الله (ص) في العفاف والنزاهد والزهد والتواضع فسيرته قبل توليه لولايه العهد هي ذاتها سيرته بعد توليه لولاية العهد.

حدثٌ بسيط يذكره المؤرِّخون يؤشِّر إلى ما ذكرناه، هو أنَّ جارية كان تخدم في بيت المأمون فكلَّفها المأمون بأنْ تذهب إلى بيت الإمام الرضا (ع) لتخدمه، تقول هذا الجارية: بقيت في بيت الإمام الرضا، وأنا أتمنَّى أن أخرج من بيته لأنِّي حين كنتُ في بيت المأمون كنت في رغدٍ من العيش فكنتُ في جنةٍ من الأكل والشرب والطيب، وأما حين ذهبت إلى بيت الرضا (ع) لأخدمه، لم يكن في بيته شيء من ذلك رغم أنَّه كان وليَّا للعهد وأضافت هذه الجارية: وفوق ذلك فإن الإمام قد نصِّب علينا قيِّمًا يوقظنا لصلاة الليل في كلِّ ليلة وتأخذنا بالصلاة في أوقاتها وكان ذلك من أشد شيءٍ علينا فكنت أتمنى الخروج من داره(9).

إذن لم تختلفْ سيرةُ الإمام (ع)، فكانت سيرتُه قبل ولايته للعهد هي ذاتها سيرته بعد ولايته للعهد، وبذلك ومثله عرف الناس أنَّ ما عليه أهل البيت (ع) من سموِّ في الأخلاق وتقيُّدٍ بالدين والسُنن كان ينبعُ من طهارة معدنهم وأنَّ الله تعالى هو من طهَّرهم واجتباهم لذلك لا تختلفُ لهم سجيَّةٌ من حالٍ إلى حال، فرغم ما صار في أيديهم -في بعض الظروف- من أموالٍ وقوَّة إلا أنَّهم ظلُّوا كما كانوا يفيضون رحمةً، وحنانا، ورأفة وتواضعًا وزهدًا في مباهج هذه الدنيا، كذلك كان أبو الحسن الرضا (ع) بعد ولايته للعهد، كان يجمعُ غلمانه وفتيانه وشيعته في بيته ويُطعمهم، ويأكلُ معهم، ويُؤنُسهم بحديثه -كما يذكر ذلك المؤرخون-، فإذا ما جاء رسولُ المأمون قال لهم تفرَّقوا حتى لا يَشي بكم الواشون.

تلك هي احدى ثمرات قبوله بولاية العهد، فلولا قبولُه لم يُدرك الناس هذه الخصوصية لأهل البيت (ع) أعني الثبات على قِيم الدين ومعالى الأخلاق في مختلف الأحوال والظروف، وكذلك فإنَّ من ثمراتِ القبول بالولاية هي تعرُّف الناس في مختلف الأصقاع على المقام السامي لأهل البيت عند الله تعالى، فحيث كان الإمام (ع) وليًّا للعهد لذلك كانت الأنظار تلحظُه وكانت أخباره تسترعي اهتمام الناس من مختلف المذاعب فكان ذلك منشًا لانتشار ما كان يظهر على يديه من كرامات وما يتحلى به من فضائل ومحامد الأخلاق.

مسك الختام

ونختم الحديث بنقل كرامةٍ ظهرتْ على يد الإمام الرضا (ع) أوردها الشيخُ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بسندٍ إلى الحسن بن عليٍّ العسكري عن أبيه عليِّ بن محمد، عن أبيه محمد بن عليٍّ عليهما السلام: إنَّ الرضاعليَّ بن موسى (ع) لمَّا جعله المأمونُ وليَّ عهده احتبس المطر، فجعل بعضُ حاشية المأمون والمتعصِّبين على الرضا يقولون: انظروا لمَّا جاءنا عليُّ بن موسى (عليه السلام) وصار وليَّ عهدنا فحبس الله عنَّا المطر واتَّصل بالمأمون فاشتدَّ عليه فقال للرضا (عليه السلام): قد احتبس المطر، فلو دعوتَ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُمطر الناس فقال الرضا (عليه السلام): نعم، قال: فمتى تفعلُ ذلك؟وكان ذلك يوم الجمعة، قال: يوم الاثنين فإنَّ رسول الله (ص) أتاني البارحة في منامي ومعه أميرُ المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) وقال: يا بني انتظر يوم الاثنين فأبرزْ إلى الصحراء واستَسقِ، فإنَّ الله تعالى سيُسقيهم، وأخبرْهم بما يُريك اللهُ ممَّا لا يعلمون من حالهم ليزداد علمُهم بفضلِك ومكانِك من ربِّك عزَّ وجلَّ، فلما كان يوم الاثنين غدا إلى الصحراء وخرج الخلائقُ ينظرون فصعدَ المنبر فحمدَ الله وأثنى عليه ثم قال: "اللهمَّ يا ربِّ أنتَ عظَّمتَ حقَّنا أهلَ البيت فتوسَّلوا بنا كما أمرتَ وأمَّلوا فضلَك ورحمتَك وتوقَّعوا إحسانَك ونعمتَك، فاسقِهم سقيًا نافعًا عامًّا غير رايثٍ ولا ضائرٍ، وليكن ابتداءَ مطرِهم بعد انصرافِهم من مشهدِهم هذا إلى منازلِهم ومقارِّهم قال: فوالذي بعثَ محمدًا بالحقِّ نبيًّا لقد نسجَت الرياحُ في الهواء الغيومَ، وأرعدتْ وأبرقتْ وتحرَّك الناسُ كأنَّهم يريدون التنحِّي عن المطر فقال الرضا (عليه السلام): على رسْلِكم أيها الناسُ فليس هذا الغيمُ لكم، إنَّما هو لأهلِ بلد كذا، فمضت السحابةُ وعبَرتْ ثم جاءتْ سحابةٌ أُخرى تشتملُ على رعدٍ وبرقٍ فتحرَّكوا فقال: على رسْلِكم فما هذه لكم، إنَّما هي لأهل بلدِ كذا، فما زالتْ حتى جاءتْ عشرُ سحابات وعبرتْ ويقول عليُّ بن موسى الرضا (عليه السلام): في كلِّ واحدة: على رسْلِكم ليستْ هذه لكم إنَّما هي لأهل بلدِ كذا، ثم أقبلتْ سحابةٌ حادية عشر فقال: أيُّها الناس هذه سحابةٌ بعثها اللهُ عزَّ وجلَّ لكم فاشكروا الله على تفضُّلِه عليكم، وقوموا إلى مقارِّكم ومنازلِكم فإنَّها مسامتةٌ لكم ولرؤوسكم مُمسكةٌ عنكم إلى أنْ تدخلوا إلى مقارِّكم ثم يأتيكم من الخير ما يليقُ بكرم اللهِ تعالى وجلاله، ونزل من على المنبر، وانصرفَ الناسُ فما زالت السحابةُ ممسكةٌ إلى أن قربوا من منازلِهم ثم جاءت بوابل المطر فملئت الأوديةَ والحياضَ والغدران والفلوات، فجعل الناسُ يقولون: هنيئا لولد رسولِ الله (ص) كراماتِ الله عزَّ وجلَّ ثم برزَ إليهم الرضا (عليه السلام) وحضرت الجماعةُ الكثيرة منهم فقال: يا أيُّها الناس اتَّقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تُنفِّروها عنكم بمعاصيه، بل استديموها بطاعته وشكرِه على نعمِه وأياديه، واعلموا أنَّكم لا تشكرون اللهَ بشيءٍ بعد الايمان بالله وبعد الاعتراف بحقوق أولياءِ الله من آل محمَّدِ رسولِ الله (ص) أحبَّ إليه من معاونتكم لاخوانِكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبَرٌ لهم إلى جنان ربِّهم، فانَّ مَن فعل ذلك كان من خاصَّة اللهِ تبارك وتعالى .."(10).

فقبول الإمام (ع) لولاية العهد كان من ثمراته أنَّ فضل أهل البيت (ع) قد ذاع وشاع في الحواضر الإسلامية. ونكتفي بهذا المقدار.

الهوامش: 1- عيون أخبار الرضا (ع) ج2 ص 152، إعلام الورى للطبرسي ج2 ص 72، مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص440، عيون أخبار الرضا ج 2 ص334. تاريخ الطبري ج7 ص 132. 2- إعلام الورى للطبرسي ج2 ص 72، عيون أخبار الرضا (ع) ج2 ص 194. 3- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 ص172. 4- عيون أخبار الرضا (ع) ج2 ص 150، 153، علل الشرائع للصدوق ج1 ص 338. مقاتل الطالبيين ص375. 5- عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق ج2 ص 161. إعلام الورى للطبرسي ج2 ص 72. علل الشرائع ج 2 ص 161. 6- إعلام الورى للطبرسي ج2 ص 74، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج49 ص146. الدر النظيم لابن حاتم المشغري ص 679. مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص 376. كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 71. 7- عيون أخبار الرضا ج2 ص 264. 8- الغيبة للشيخ الطوسي ص 73، مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج3 ص 461. 9- عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق 2 ص 193. 10- راجع عيون أخبار الرضا (ع) ج2/ 179. الخرائج والجرائح للراوندي ج2 ص 658، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي ص 468.
2023/05/31

ماذا جرى على حمزة والشهداء في غزوة أحد؟
قد تقدم بعض الكلام في كيفية استشهاد حمزة بن عبد المطلب رضوان الله تعالى عليه. وأن أبا سفيان كان يضرب شدق حمزة بزج الرمح، وهو ما ورثه عنه حفيده يزيد لعنه الله حيث صار ينكث ثنايا الحسين «عليه السلام» بقضيب وينشد:

[اشترك]

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

ثم طلب من رفيقه أن يستر عليه هذه الزلة. وعلقنا عليها بما سمح لنا به المجال.

بقي أن نشير هنا: إلى أمور وممارسات أخرى ظهرت بالنسبة إلى الشهداء وهي التالية:

1 ـ إن هنداً زوجة أبي سفيان، قد أتت مصرع حمزة؛ فمثلت به، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه ومذاكيره، ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها، وقلائد في عنقها، واستمرت كذلك حتى قدمت مكة. وكذلك فعل النساء بسائر الشهداء الأبرار.

وزادت هي عليهم: أنها بقرت بطن حمزة، واستخرجت كبده فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها 1.

ويقال: إنها كانت قد نذرت ذلك 2.

فيقال: إن النبي «صلى الله عليه وآله» لما بلغه إخراجها كبد حمزة قال: هل أكلت منه شيئاً ؟

قالوا: لا.

قال: إن الله قد حرم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبداً 3، أو: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة إلى النار 4.

وليتأمل بعد فيما يقال حول إسلامها، وإيمانها، ثم الحكم لها بالجنة، كغيرها ممن هم على شاكلتها!!.

2 ـ وأقبلت صفية لتنظر أخاها، فالتقت بعلي «عليه السلام»؛ فقال: ارجعي يا عمة؛ فإن في الناس تكشفاً، فسألته عن الرسول «صلى الله عليه وآله»، فقال: صالح.

قالت: ادللني عليه حتى أراه؛ فأشار إليه إشارة خفية من المشركين، ـ لعلهم كانوا لا يزالون قريبين من هناك، ويخشى كرتهم فيما لو علموا: أن علياً بعيد 5 عن النبي «صلى الله عليه وآله» ـ فأقبلت إليه، فأمر «صلى الله عليه وآله» الزبير بإرجاعها، حتى لا ترى ما بأخيها.

فقالت للزبير: ولم ؟

وقد بلغني: أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فسمح لها النبي «صلى الله عليه وآله» برؤيته، فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له. كذا في الإكتفاء 6.

ويقال: إن الأنصار هم الذين حالوا بينها وبين رسول الله «صلى الله عليه وآله» 7.

3 ـ وفي الصفوة: أنها جاءت بثوبين لتكفين حمزة، فإذا إلى جنبه أنصاري قتيل، قد مثل به، فوجدوا غضاضة وحياء أن يكفنوا هذا، ويتركوا ذاك، فأقرعوا بين الثوبين؛ فأصاب الأنصاري أكبر الثوبين، فكفن حمزة بالآخر، فلف على قدمي حمزة ليف وأذخر 8.

4 ـ وكان لحمزة يوم قتل تسع وخمسون سنة، وصلى النبي «صلى الله عليه وآله» عليه، وكبر سبع تكبيرات. ثم صاروا يأتون بالقتلى، ويضعونهم إلى جانبه، فيصلي عليه وعليهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة. كذا في الطيبي 9.

ولكننا نشك فيما ذكر عن مقدار عمره بملاحظة ما تقدم في حديث إرادة عبد المطلب ذبح ولده عبد الله، حين ولد له أولاده العشرة.

كما أننا نجد علياً «عليه السلام» يذكر: أنه «صلى الله عليه وآله» قد خص حمزة بسبعين تكبيرة 10. فلعله كبر عليه سبعين، ثم صلى عليه سبعين صلاة أخرى.

5 ـ قال ابن إسحاق: ومر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ حين رجع إلى المدينة ـ بدور من الأنصار؛ فسمع بكاء النوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له.

فأمر سعد بن معاذ، ويقال: وأسيد بن حضير نساء بني عبد الأشهل: أن يذهبن ويبكين حمزة أولاً، ثم يبكين قتلاهن. فلما سمع «صلى الله عليه وآله» بكاءهن، وهن على باب مسجده أمرهن بالرجوع، ونهى «صلى الله عليه وآله» حينئذٍ عن النوح، فبكرت إليه نساء الأنصار، وقلن: بلغنا يا رسول الله، أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء نندب به موتانا، ونجد بعض الراحة؛ فأذن لنا فيه.

فقال: إن فعلتن فلا تلطمن، ولا تخمشن، ولا تحلقن شعراً، ولا تشققن جيباً 11.

قالت أم سعد بن معاذ: فما بكت منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا.

ولعل نهيه «صلى الله عليه وآله» لهن عن شق الجيوب وخمش الوجوه، هو لأجل أن لا يوجب ذلك شماتة أعدائهم بهم.

6 ـ ولما أراد معاوية أن يجري عينه التي بأحد، كتب إلى عامله بالمدينة بذلك، فكتبوا إليه: إنا لا نستطيع أن نخرجها إلا على قبور الشهداء.

فكتب: انبشوهم.

قال جابر: فلقد رأيتهم يحملون على أعناق الرجال، كأنهم قوم نيام. وأصابت المسحاة طرف رجل حمزة، فانبعثت دماً.

قال أبو سعيد: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً 12.

7 ـ ومر أبو سفيان بعد إسلامه بأحد، فقيل له: أي يوم لك ههنا.

فقال: والآن لو وجدت رجالاً 13.

8 ـ مر أبو سفيان في أيام عثمان بقبر حمزة، وضربه برجله، وقال: يا أبا عمارة، إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا اليوم يتلاعبون به 14.

وكل ذلك يوضح حقيقة ما يقال عن إيمان أبي سفيان، وولده معاوية، وزوجته هند!!!

9 ـ وأما عن شرب حمزة للخمر حين خروجه إلى أحد، فقد أثبتنا أنه كذب، فراجع ما قدمناه حين الكلام حول تحريم الخمر وذلك في سياق الحديث عن زواج علي «عليه السلام».

أما نحن فنشير إلى الأمور التالية:

ألف: موقف الرسول صلى الله عليه و آله من المثلة بحمزة

 

إنهم يقولون: إنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها في واقعة أحد، سأل «صلى الله عليه وآله» عن عمه حمزة بن عبد المطلب، فالتمسوه، فوجدوه على تلك الحالة المؤلمة، حيث كانت هند أم معاوية، وزوجة أبي سفيان قد مثلت به؛ فجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، وبقرت بطنه، واستخرجت كبده، فلاكتها، ولم تستطع أن تسيغها، إلى غير ذلك من ممارسات وحشية تجاه تلك الجثة الطاهرة. ـ تقدمت الإشارة إليها ـ فجاء «صلى الله عليه وآله»، فوقف عليه، فيقال: إنه «صلى الله عليه وآله» لما رآه في تلك الحالة قال:

«لولا أن تحزن صفية، وتكون سنة من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع، وحواصل الطير 15.

أو قال: لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى 16، ولئن أظهرني الله على قريش يوماً من الدهر في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم» 17.

والمسلمون أيضاً قالوا: «والله، لئن أظفرنا الله بهم يوماً من الدهر، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب» 18.

ويقال: إنه «صلى الله عليه وآله» بكى وشهق، وقال: رحمة الله عليك، لقد كنت فعولاً للخير، وصولاً للرحم، أم والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك.

فنزل جبريل بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ 19. فعفا رسول الله «صلى الله عليه وآله» وصبر.

وفي رواية، قال: أصبر، ونهى عن المثلة.

وفي أخرى: كفر عن يمينه 20.

ونقول: إن بكاءه «صلى الله عليه وآله» على حمزة لا مانع منه، وأما ما سوى ذلك مما ذكر آنفاً، فنحن نشك في صحته. ونعتقد أنه كقضية ممارسة عمل المثلة الشنيع المنسوب له «صلى الله عليه وآله» زوراً وبهتاناً، قد وضع بهدف إظهار رسول الله «صلى الله عليه وآله» كأحد الناس، الذين يتعاملون مع القضايا من موقع الإنفعال والعصبية للقبيلة والرحم، ولتبرر بذلك جميع المخالفات التي ارتكبها ويرتكبها الحكام الظالمون.

كما أن ذلك يُسقط قول وفعل الرسول «صلى الله عليه وآله» عن الاعتبار والحجية، فلا يبقى لما ورد عنه «صلى الله عليه وآله» من ذم لمن يحبهم بعض الناس تأثير يذكر.

أما ما نستند إليه في حكمنا على هذه الأقاويل بالوضع والاختلاق، فهو الأمور التالية:

1 ـ إن ذلك لا ينسجم مع روحية وأخلاق وإنسانية النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»، ولا ينسجم حتى مع روح التدبير للأمور العامة، من قبل أي إنسان حكيم، مدبر للأمور، ولا مع سياسة الأمم بالمعنى الصحيح والسليم للسياسة. وذلك لأنه لا مبرر لإبقاء جثة شهيد في الصحراء، تصهرها أشعة الشمس، عرضة للوحوش والسباع والطير، ولا فائدة في إجراء كهذا.

إذ من الواضح: أن ذلك لا يعتبر انتقاماً من قريش، ولا أداء لحق ذلك الشهيد العظيم، إن لم يكن إساءة وإهانة له، بملاحظة أن إكرام الميت دفنه. ثم، أوليست إنسانيته «صلى الله عليه وآله» وأخلاقه الرفيعة هي التي أملت عليه حتى أن يغيب جثث قتلى المشركين في قليب بدر؛ فكيف بالنسبة لهذا الشهيد العظيم، أسد الله وأسد رسوله؟!!

ويحاول البعض أن يدَّعي: أنه «صلى الله عليه وآله» لم يقصد مدلول هذا الكلام، وإنما هو يريد فقط أن يظهر مظلوميته ووحشية الطرف الآخر، أبي سفيان وأصحابه. ولكنها محاولة فاشلة، فإننا نجل النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» عن أمر كهذا، ولا يجوز نسبته إليه؛ لأن معناه: إمكانية التشكيك في كثير من أقواله، ومواقفه، وأفعاله «صلى الله عليه وآله».

أضف إلى ذلك: أن ما جرى لحمزة «عليه السلام» قد جرى مثله لغيره من الشهداء، وإن كان ما جرى لحمزة «عليه السلام» أفظع وأبشع. فلماذا اختص غضبه «صلى الله عليه وآله» بما جرى لعمه وحسب؟!.

ثم إن المفروض بهذا النبي العظيم هو أن يظهر الجلد والصبر لا الجزع والحزن، إلا بالنحو المعقول والمقبول، وإلا فما وجه اللوم لغيره ممن فقد الأهل والأحبة، إن تجاوز حده، وظهر منه ما لا ينبغي في مناسبات كهذه؟!

2 ـ قولهم على لسانه «صلى الله عليه وآله»: إنه إن ظفر بقريش فسيمثل بثلاثين مرفوض أيضاً؛ إذ هذه جثث قتلى المشركين أمامه، وهي اثنان أو ثمانية وعشرون جثة، بل وأكثر من ذلك، كما يظهر من بعض النصوص، فلماذا لا يمثل بها، ويشفي غليل صدره منها؟!

ولِمَ لم يبادر المسلمون ـ بدورهم ـ إلى التمثيل بتلك الجثث التي تركها أصحابها وفروا خوفاً من أن يدال المسلمون منهم، كما فروا من قبل في بدر؟!

3 ـ أما نزول الآية الكريمة رداً عليه «صلى الله عليه وآله» وهي قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ ... ﴾ 19فلا يصح أيضاً، لأن الآية مكية؛ فإن سورة النحل قد نزلت في مكة، وأحد قد كانت في السنة الثالثة من الهجرة 21.

والقول: بأن سورة النحل كلها قد نزلت في مكة إلا هذه الآيات إنما يستند إلى هذه الروايات بالذات، فلا حجة فيه.

إن قلت: قد تحدثت السورة عن المهاجرين، وهذا يناسب أن تكون السورة قد نزلت بعد الهجرة.

فالجواب: أنه لم يثبت أن المقصود هو الهجرة إلى المدينة فإن الهجرة إلى الحبشة كانت قد حصلت والمسلمون في مكة، فلعلها هي المقصودة.

والقول: بأن ذلك مما تكرر نزوله 22:

أولاً: يحتاج إلى إثبات.

ثانياً: يلزمه أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» قد خالف الحكم الإلهي الثابت، فاحتاج الله إلى تذكيره بأن موقفه هذا مخالف لنص تلك الآية التي لديه!!.

ثالثاً: قد روي عن ابن عباس في قوله: ﴿ ... فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ ... ﴾ 19قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله؛ ثم ذكر أنها نسخت ببراءة 23.

وعن ابن زيد، قال: كانوا قد أُمِروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال ذوو منعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذن الله لانتصرنا من هؤلاء الكلاب؛ فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد 24.

4 ـ إن قولهم: إنه «صلى الله عليه وآله» قد نهى في هذه المناسبة عن المثلة محل نظر؛ وذلك لما ورد عن سعيد، عن قتادة، عن أنس ـ فذكر حديث العرنيين ـ وفي آخره، قال: قال قتادة: وبلغنا أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان بعد ذلك يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة 25.

ويقول العسقلاني، عن ابن عقبة في المغازي: «وذكروا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي» 26.

فكلام قتادة السابق صريح في أنه «صلى الله عليه وآله» قد نهى عن المثلة بعد قضية العرنيين، وكانت بعد قصة أحد؛ لأنها كانت في حدود السنة السادسة 27.

أضف إلى ذلك: ما ذكره سعيد بن جبير، الذي أضاف في قصة العرنيين قوله: «فما مثل رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبل ولا بعد، ونهى عن المثلة» 28.

فمعنى ذلك هو أن رسول الله لم يمارس هذا الفعل الشنيع أصلاً، كما أنه قد نهى من كان بصدد ممارسته.

ونحن بدورنا لنا كلام في قصة العرنيين هذه، حيث إننا نرفض أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد مثل بهم، ولا سيما بملاحظة ما قدمناه آنفاً، عن سعيد بن جبير. وقد أنكر أبو زهرة ذلك أيضاً 29.

وكان علي بن حسين ينكر حديث أنس في أصحاب اللقاح: أخبرنا ابن أبي يحيى، عن جعفر، عن أبيه، عن علي بن حسين قال: لا والله، ما سمل رسول الله عيناً ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم 30.

ولكن ما يهمنا هنا: هو أن ما ذكروه في قصة العرنيين يتنافى بشكل ظاهر مع كونه «صلى الله عليه وآله» نهى عن المثلة في أحد. ولو أغمضنا النظر عن ذلك؛ فإن ما نقلناه عن العسقلاني آنفاً يدل على أن نهيه «صلى الله عليه وآله» عن المثلة، إنما كان في أواخر أيام حياته؛ لأن سورة المائدة قد كانت من أواخر ما نزل عليه «صلى الله عليه وآله».

نعم، يمكن أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد قطع أيدي وأرجل العرنيين من خلاف، لأنهم مفسدون في الأرض. وذلك هو الحكم الثابت لمن يكون كذلك. ثم زاد الرواة وأصحاب الأغراض على ذلك ما شاؤوا.

5 ـ إنهم يقولون: إن أبا قتادة جعل يريد التمثيل بقريش لما رأى من المثلة؛ فمنعه «صلى الله عليه وآله» 31.

وهذا هو المناسب لأخلاقه وسجاياه «صلى الله عليه وآله». أما أبو قتادة فإنه إن صح ما نقل عنه يكون قد تصرف هنا بوحي من انفعاله وتأثره، الناجم عن ثورته النفسية بسبب ذلك المشهد المؤلم.

كما أننا نشك في ما جاء في ذيل هذه الرواية، الذي يذكر: أنه «صلى الله عليه وآله» قد قرّظ قريشاً في هذه المناسبة، حتى قال: إنه عسى إن طالت بأبي قتادة المدة أن يحقر أعماله مع أعمالهم 32.

فإننا نعتقد أن هذه التقريظات من زيادات الرواة تزلفاً للحكام الأمويين ـ كما عودونا في مناسبات كثيرة ـ في مقابل علي «عليه السلام»، وأهل بيته، لفسح المجال أمام تنقصهم والطعن بهم، ويكفي أن نتذكر هنا موقف قريش من علي «عليه السلام» وأهل البيت؛ حيث نجده «عليه السلام» يصفها بأسوأ ما يمكن، بسبب موقفها السيئ هذا.

يقول أمير المؤمنين «عليه السلام»: «فدع عنك قريشاً، وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبلي؛ فجزت قريشاً عني الجوازي؛ فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن عمي» 33.

هذا ولا بد أن لا ننسى هنا: أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال لعلي «عليه السلام»: حربك حربي، وسلمك سلمي 34.

وقال علي «عليه السلام»: «اللهم إني أستعديك على قريش [ومن أعانهم]؛ فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري» 35.

وقال «عليه السلام»: «ما لي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم» 35.

ولأبي الهيثم بن التيهان كلام جيد حول موقف قريش من علي، من أراده فليراجعه 36.

وفيه يحلل أبو الهيثم سر عداء قريش لأمير المؤمنين «عليه السلام»، وأنه إنما كان بسبب بغيها وحسدها له، وعدم قدرتها على اللحاق به.

وقد ذكرنا شطراً كبيراً من النصوص الدالة على ذلك مع مصادرها في كتاب لنا بعنوان «الغدير والمعارضون».

هذا كله.. عدا عما كان في صدور قريش من حقد على بني هاشم عموماً، وعلى الأنصار أيضاً. وقد مر في جزء سابق من هذا الكتاب في فصل سرايا وغزوات قبل بدر إلماحة عن موقف قريش من الأنصار فليراجع ذلك هناك.

وأخيراً، قول: إن هذه كانت حالة قريش بعد طول المدة، فكيف يحقر أبو قتادة أعماله مع أعمالها ؟! وكيف يكون لها ذلك المقام المحمود عند الله تعالى ؟!.

ما هو الصحيح في القضية؟!

ولعل الصحيح هنا: هو قضية أبي قتادة المتقدمة، وإن كان قد تزيد الرواة فيها تزلفاً للحكام، كما أشرنا.

يضاف إلى ذلك: ما رواه غير واحد عن أبي بن كعب (رض)، قال:

لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة. فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا، لنربينّ عليهم.

فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ 19فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: نصبر، ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلا أربعة.

وحسب نص ابن كثير: عن عبد الله بن أحمد: فلما كان يوم الفتح، قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم؛ فنادى مناد: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أمن الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً، ناساً سماهم، فأنزل الله الخ.. 37.

وعن الشعبي، وابن جريج ما يقرب من هذا أيضاً باختصار 38.

وفي رواية: أن المسلمين لما رأوا المثلة بقتلاهم قالوا: لئن أنالنا الله منهم لنفعلن، ولنفعلن، فأنزل الله: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ... ﴾ 19 الآية، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: بل نصبر 39.

لكن ما تذكره هذه الروايات من أن الآية قد نزلت في هذه المناسبة محل نظر، وذلك لما قدمناه من كونها مكية، ويمكن أن يكون الرسول «صلى الله عليه وآله» عاد فذكرهم بالآية، مبالغة منه «صلى الله عليه وآله» في زجرهم عن ذلك، فتوهم الراوي: أن الآية قد نزلت في هذه المناسبة.

وأما القول بأن الآية قد شرعت المثلة، ولكنها رجحت الصبر عليها.. فهو غير صحيح؛ لأن المراد بالعقوبة هو ما بينته الآية الشريفة الأخرى التي تقول: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ... ﴾ 40 ثم جاءت الروايات التي تنهى عن المثلة لتؤكد هذا المعنى.

ب: هند وكبد حمزة

قد تقدم: أنه «صلى الله عليه وآله» لما بلغه محاولة هند أكل كبد حمزة فلم تستطع أن تسيغها، قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار، أو نحو ذلك.

قال الحلبي: «أي ولو أكلت منه، أي استقر في جوفها لم تمسها النار» 41.

وهو تفسير غريب وعجيب حقاً!! فإن ظاهر كلامه «صلى الله عليه وآله»: أن هنداً من أهل النار، وقد أبى الله أن يدخل شيئاً من حمزة النار.

ولو صح تفسير الحلبي مع حكمهم بأن هنداً قد أسلمت وستدخل الجنة، لكان اللازم أن تسيغ ما أكلته من كبده، ويستقر في جوفها، لأن هنداً ستدخل الجنة!! فلتكن تلك القطعة معها، لتدخل الجنة كذلك!!.

نعم وهذا ما يرمي إليه الحلبي، فإن له كلاماً طويلاً في المقام يدخل فيه هنداً الجنة. وقد دفعه هواه إلى تفسير كلام النبي «صلى الله عليه وآله» بصورة جعلته يصبح بلا معنى ولا مدلول.

ج: المنع من البكاء على الميت

لقد بكى النبي «صلى الله عليه وآله» على حمزة، وقال: أما حمزة فلا بواكي له.

وبعد ذلك بكى على جعفر، وقال: على مثل جعفر فلتبك البواكي.

وبكى على ولده إبراهيم، وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وبكى كذلك على عثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وزيد بن حارثة، وبكى الصحابة، وبكى جابر على أبيه، وبشير بن عفراء على أبيه أيضاً، إلى غير ذلك مما هو كثير في الحديث والتأريخ 42.

فكل ذلك فضلاً عن أنه يدل على عدم المنع من البكاء، فإنه يدل على مطلوبية البكاء، وعلى رغبته «صلى الله عليه وآله» في صدوره منهم.

ولكننا نجد في المقابل: أن عمر بن الخطاب يمنع من البكاء على الميت ويضرب عليه؛ ويفعل ما شاءت له قريحته في سبيل المنع عنه، ويروي حديثاً عن النبي «صلى الله عليه وآله» مفاده: أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه 43.

مع أننا نجد أنه هو نفسه قد أمر بالبكاء على خالد بن الوليد 44.

وقد بكت عائشة على إبراهيم 45 وبكى أبو هريرة على عثمان، والحجاج على ولده 46 وبكى صهيب على عمر 47 وهم يحتجون بما يفعله هؤلاء.

وبكى عمر نفسه على النعمان بن مقرن، وعلى غيره 48 وقد نهاه النبي «صلى الله عليه وآله» عن التعرض للذين يبكون موتاهم 49.

كما أن عائشة قد أنكرت عليه وعلى ولده عبد الله هذا الحديث الذي تمسك به، ونسبته إلى النسيان، وقالت: «يرحم الله عمر، والله، ما حدث رسول الله: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، لكن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه.

قالت: حسبكم القرآن: ﴿ ... وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ... ﴾ 50» 51.

وفي نص آخر، أنها قالت: «إنما مر رسول الله «صلى الله عليه وآله» على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنهم يبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» 52.

وأنكر ذلك أيضاً: ابن عباس، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن أراد المزيد، فعليه بمراجعة المصادر 53.

السياسة وما أدراك ما السياسة ؟!

ونشير هنا إلى ما قاله الإمام شرف الدين رحمه الله تعالى قال: «وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء عن البلد في نياحتها على أبيها «صلى الله عليه وآله»، وخروجها بولديها في لمة من نسائها إلى البقيع يندبن رسول الله، في ظل أراكة 54 كانت هناك، فلما قُطعت بنى لها علي بيتاً في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة، يدعى: بيت الأحزان. وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة» 55.

وأقول: إن من القريب جداً: أن يكون حديث: «إن الميت ليعذب ببكاء الحي» قد حرف عن حديث (البكاء على اليهودية المتقدم)؛ لدوافع سياسية لا تخفى؛ فإن السلطة كانت تهتم بمنع فاطمة «عليها السلام» من البكاء على أبيها.

فيظهر: أن هذا المنع قد استمر إلى حين استقر الأمر لصالح الهيئة الحاكمة، ولذلك لم يعتن عمر بغضب عائشة، ومنعها إياه من دخول بيتها حين وفاة أبي بكر، فضرب أم فروة أخت أبي بكر بدرته، وقد فعل هذا رغم أن البكاء والنوح كان على صديقه أبي بكر، وكان هجومه على بيت عائشة، وكان ضربه لأخت أبي بكر. وهو الذي كان يهتم بعائشة ويحترمها، وهي المعززة المكرمة عنده، ويقدر أبا بكر ومن يلوذ به، ويحترم بيته بما لا مزيد عليه.

نعم، لقد فعل كل هذا لأن الناس لم ينسوا بعد منع السلطة لفاطمة «عليها السلام» من النوح والبكاء على أبيها.

وناهيك بهذا الإجراء جفاء وقسوة: أن يُمنع الإنسان من البكاء على أبيه، فكيف إذا كان هذا الأب هو النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أعظم، وأكمل، وأفضل إنسان على وجه الأرض. ثم لما ارتفع المانع، ومضت مدة طويلة، وسنين عديدة على وفاة سيدة النساء «عليها السلام»، ونسي الناس أو كادوا، أو بالأحرى ما عادوا يهتمون بهذا الأمر، ارتفع هذا المنع على يد عمر نفسه، وبكى على النعمان بن مقرن الذي توفي سنة 21 ه‍ وعلى شيخ آخر، وسمح بالبكاء على خالد بن الوليد، الذي توفي سنة 21 أو 22 حسبما تقدم.

وهذا غير ما تقدم قبل صفحات عن مصادر كثيرة: من النهي عن خمش الوجوه، وشق الثياب، واللطم، والنوح بالباطل. فإنه غير البكاء وهياج العواطف الإنسانية الطبيعية. وذلك لأن الأول ينافي التواضع لله عز وجل والتسليم لقضائه؛ أما الثاني فهو من مقتضيات الجبلة الإنسانية، ودليل اعتدال سجية الإنسان. وشتان ما بينهما.

التوراة والمنع من البكاء على الميت

ويبدو لنا أن المنع من البكاء على الميت مأخود من أهل الكتاب؛ فإن عمر كان يحاول هذا المنع في زمن النبي «صلى الله عليه وآله» بالذات؛ ولم يرتدع بردع النبي له إلا ظاهراً.

فلما توفي «صلى الله عليه وآله» ولم يبق ما يحذر منه، صار الموقف السياسي يتطلب الرجوع إلى ما عند أهل الكتاب، فكان منع الزهراء «عليها السلام» عن ذلك، كما قدمنا.

وقد جاء هذا موافقاً للهوى والدافع الديني والسياسي على حد سواء.

ومما يدل على أن ذلك مأخوذ من أهل الكتاب: أنه قد جاء في التوراة:

«يا ابن، ها أنذا آخذ عنك شهوة عينيك بضربة؛ فلا تنح ولا تبك، ولا تنزل دموعك، تنهد ساكتاً، لا تعمل مناحة على أموات» 56.

د: حزن النبي صلى الله عليه و آله على حمزة

1 ـ إن من الثابت حسبما تقدم، أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد حزن على حمزة وبكى عليه، وأحب أن يكون ثمة بواكي له، كما لغيره.

وواضح: أن حزن الرسول «صلى الله عليه وآله» هذا ورغبته تلك ليسا إلا من أجل تعريف أصحابه، والأمة أيضاً بما كان لحمزة من خدمات جلى لهذا الدين، ومن قدم ثابتة له فيه، وبأثره الكبير في إعلاء كلمة الله تعالى.

ويدلنا على ذلك: أنه «صلى الله عليه وآله» قد وصفه ـ كما يروى ـ بأنه كان فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم الخ.. 57.

ولأن حزنه «صلى الله عليه وآله» عليه كان في الحقيقة حزناً على ما أصاب الإسلام بفقده، وهو المجاهد الفذ، الذي لم يكن يدخر وسعاً في الدفاع عن هذا الدين، وإعلاء كلمة الله.

وما ذلك إلا لأن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» لم يكن ليهتم بالبكاء على حمزة، ولا ليبكي هو «صلى الله عليه وآله» عليه لمجرد دوافع عاطفية شخصية، أو لعلاقة رحمية ونسبية، وإنما هو «صلى الله عليه وآله» يحب في الله وفي الله فقط، تماماً كما كان يبغض في الله، وفي الله فقط.

فهو «صلى الله عليه وآله» يحزن على حمزة بمقدار ما كان حمزة مرتبطاً بالله تعالى، وخسارته خسارة للإسلام. وإلا فكما كان حمزة عمه، فقد كان أبو لهب عمه أيضاً، وعداوة أبي لهب للرسول «صلى الله عليه وآله» لا تدانيها عداوة، فقد كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبي «صلى الله عليه وآله»، وأعظمهم إيذاء له.

وموقفه «صلى الله عليه وآله» من أبي لهب معروف ومشهور. ولكننا نجد في المقابل موقفه «صلى الله عليه وآله» من (سلمان) الذي كان «صلى الله عليه وآله» يحب أن يقال له: «سلمان المحمدي» بدلاً من: «الفارسي» 58.

وقد قال «صلى الله عليه وآله» في حقه: «سلمان منا أهل البيت» 59.

قال أبو فراس الحمداني:

كانت مودة سلمان لهم رحماً *** ولم يكن بين نوح وابنه رحم

2 ـ كما أن نفس كونه «صلى الله عليه وآله» شريكاً في المصيبة، من شأنه أن يخفف المصاب على الآخرين، الذين فقدوا أحباءهم في أحد، ولا سيما إذا كان مصابه «صلى الله عليه وآله» بمن هو مثل حمزة أسد الله وأسد رسوله.

حمزة الذي لم يكن ليخفى على أحد موقعه في المسلمين ونكايته في المشركين، ولم يكن ما فعلته هند وأبو سفيان بجثته الشريفة، وأيضاً موقف أبي سفيان من قبره الشريف في خلافة عثمان؛ ثم ما فعله معاوية في قبره وقبور الشهداء، بعد عشرات السنين من ذلك التاريخ ـ لم يكن كل ذلك ـ إلا دليلاً قاطعاً على ذلك الأثر البعيد، الذي تركه حمزة في إذلال المشركين، وإعلاء كلمة الحق والدين. حتى إن أبا سفيان وولده معاوية لم يستطيعا أن ينسيا له ذلك الأثر، وبقي ـ حتى قبره ـ الذي كان يتحداهم بأنفة وشموخ، كالشجا المعترض في حلقي الأب والابن على حد سواء.

لقد استطاع حمزة أن يحقق أهدافه حتى وهو يستشهد، لأن شهادته جزء من هدفه كما قلنا.

أما أعداء الإسلام فقد باؤوا بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة، وانتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا طلقاء هذه الأمة، وزعماء منافقيها، المشهور نفاقهم، والمعروف كفرهم.

ه‍: موقف أبي سفيان من قبر حمزة

وإن موقف أبي سفيان من قبر حمزة، ليعتبر دليلاً واضحاً على كفره، وأنه لا يزال يعتبر حربه مع النبي «صلى الله عليه وآله» حرباً على الملك والسلطان، والمكاسب الدنيوية.

وقد دخل أبو سفيان على عثمان، فقال له: قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار 60.

وكان أبو سفيان كهفاً للمنافقين، وكان يوم اليرموك يفرح إذا انتصر الكفار على المسلمين، ويحزن حين يرى كرة المسلمين عليهم 61.

وكفريات أبي سفيان معروفة ومشهورة، ولا مجال لاستقصائها، فمن أرادها فليراجع مظانها 62.

و: مواساة الأنصار للنبي صلى الله عليه و آله

وإن مواساة الأنصار للنبي «صلى الله عليه وآله» حتى في البكاء على حمزة، لهي في الحقيقة من أروع المواساة للنبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» فهم يواسونه بأموالهم وأنفسهم، وحتى في عواطفهم الصادقة، ومشاعرهم النبيلة.

وقد استمروا على صدقهم، ووفائهم، وإخلاصهم له ولرسالته، ولوصيه علي «عليه السلام»، وأهل بيته «عليهم السلام» إلى آخر لحظة، ولذلك نكبهم الأمويون، والحكام بعد النبي «صلى الله عليه وآله»، وأذلوهم، وحرموهم، كما تقدمت الإشارة إليه.

ز: صبر صفية

وإن صبر صفية، واعتبارها: أن ما جرى لحمزة قليل في ذات الله تعالى، إنما هو نتيجة للوعي الرسالي الرائد للإسلام، الذي لا يمكن اعتباره محدوداً ومقوقعاً ضمن طقوس وحركات، أو جذبات صوفية ونحوها.

فالإسلام حياة. ولا يطلب فيه الموت والشهادة إلا من أجل هذه الحياة.

والإسلام هو السلام حتى في حال الحرب، وهو الحياة فيما يراه الناس الموت، والراحة في ما يراه الناس التعب، والسعادة في ما يراه الناس الشقاء والآلام.

إنه سلام شامل وكامل؛ فإذا بلغ الإنسان هذا السلام الشامل، فهو المسلم الحق.

وهكذا كانت صفية رضوان الله تعالى عليها، حتى أصبح ما جرى لأخيها قليلاً في ذات الله، وصار سلاماً لها وعليها.

التعصب

ولما قتل حمزة رضوان الله عليه، بعث النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» فأتاه ببنت حمزة؛ فسوغها «صلى الله عليه وآله» الميراث كله 63.

وهذا يدل: على أنه لا ميراث للعصبة على تقدير زيادة الفريضة عن السهام إلا مع عدم القريب، فيرد باقي المال على البنت، والبنات، والأخت والأخوات، وعلى الأم، وعلى كلالة الأم، مع عدم وارث في درجتهم، وعلى هذا إجماع أهل البيت «عليهم السلام»، وأخبارهم به متواترة.

ويدل على ذلك أيضاً، قوله تعالى: ﴿ ... وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ 64 فعن الإمام الباقر «عليه السلام» في هذه الآية: «إن بعضهم أولى بالميراث من بعض؛ لأن أقربهم إليه رحماً أولى به.

ثم قال أبو جعفر «عليه السلام»: أيهم أولى بالميت، وأقربهم إليه ؟ أمه، أو أخوه ؟ أليس الأم أقرب إلى الميت من إخوته وأخواته» ؟! 65.

وللتوسع في هذا البحث مجال آخر.

الاختصام في ابنة حمزة

ويقولون: إن علياً وجعفراً ابني أبي طالب، وزيد بن حارثة، اختصموا في ابنة حمزة، فقال «صلى الله عليه وآله» لكل واحد منهم ما أرضاه 66.

ونحن نشك في الحديث من أصله، لأن جعفر كان في واقعة أحد في الحبشة، وقد جاء إلى المدينة في سنة ست من الهجرة.

ودعوى أن الاختصام قد حصل بعد رجوعه تطرح أمامنا سؤالاً عن السبب في سكوت زيد بن حارثة عن المطالبة ببنت حمزة كل هذه المدة 67.

الهوامش: 1. راجع ما تقدم في: المغازي للواقدي ج1 ص286، والسيرة الحلبية ج2 ص243 و 244، وتاريخ الخميس ج1 ص439، والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص97، وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص204، والمواهب اللدنية ج1 ص97. 2. السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص97، والسيرة الحلبية ج2 ص243. 3. السيرة الحلبية ج2 ص244، وتفسير القرآن العظيم ج1 ص413 عن أحمد. 4. مسند الإمام أحمد ج1 ص463، وتفسير القمي ج1 ص117، ومجمع الزوائد ج6 ص110 عن أحمد، والبداية والنهاية ج4 ص41، والبحار ج20 ص55 عن القمي. 5. وليقارن بين الإشارة الخفية من علي «عليه السلام» هنا، وإخبار عمر لأبي سفيان صراحة بأن النبي «صلى الله عليه وآله» حي. فإن علياً «عليه السلام» يهدف بلا شك إلى الحفاظ على حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله». ولا نريد أن نتهم غيره ممن يدل على النبي «صلى الله عليه وآله» بما يخالف هذا.. فإن الله هو العالم بالحقائق. 6. راجع ما تقدم في: مغازي الواقدي ج1 ص289، وتاريخ الخميس ج1 ص441 و 442، وحياة الصحابة ج1 ص570 و 571، ومستدرك الحاكم ج3 ص198 و 199، وليراجع تاريخ الطبري ج2 ص208 و 207، والكامل لابن الأثير ج2 ص161 و 162، والسيرة الحلبية ج2 ص247 و 248، والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص101 و 103، وحياة الصحابة ج2 ص650 و 651، ومجمع الزوائد ج6 ص119 و 120 عن البزار والطبراني، وكنز العمال ج15 ص302. 7. شرح النهج للمعتزلي ج15 ص17، ومغازي الواقدي ج1 ص290، ومجمع الزوائد ج6 ص119 و 120. 8. راجع: تاريخ الخميس ج1 ص441 و 442. 9. تاريخ الخميس ج1 ص242. 10. نهج البلاغة بشرح عبده ج3 ص35. 11. السيرة الحلبية ج2 ص254، وتاريخ الخميس ج1 ص444 عن المنتقى، وليراجع كامل ابن الاثير ج2 ص167، وتاريخ الطبري ج2 ص210، وليراجع: العقد الفريد، والبداية والنهاية ج4 ص48، ومسند أحمد ج2 ص40 و 84 و 92، والإستيعاب ترجمة حمزة. ومسند أبي يعلى ج6 ص272 و 293 و 294، وفي هامشه عن المصادر التالية: مجمع الزوائد ج6 ص120، وعن الطبقات الكبرى ج3 قسم 1 ص10، وعن سنن ابن ماجة ج3 ص95 في السيرة وفي الجنائز الحديث رقم 1591، ومستدرك الحاكم ج3 ص195، وعن سيرة ابن هشام ج2 ص95 و 99. 12. راجع: تاريخ الخميس ج1 ص443 عن الصفوة والمنتقى، والمصنف ج3 ص547 وج5 ص277، والسيرة الحلبية ج2 ص250، وشرح النهج للمعتزلي ج14 ص264، ومغازي الواقدي ج1 ص267 و 268، وطبقات ابن سعد ج3 ص5 قسم 1 وقسم 2 ص78، وليراجع حياة الصحابة ج3 ص659 ـ 661، والبداية والنهاية ج4 ص43، ودلائل أبي نعيم ص499، وكنز العمال ج10 ص270 وج8 ص270، وعن ابن سعد وراجع: فتح الباري ج3 ص142، ووفاء الوفاء ج3 المجلد الثاني ص938 عن أحمد بسند صحيح، والدارمي كما في الأوجز ج4 ص108، ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص291. 13. ربيع الأبرار ج1 ص559. 14. قاموس الرجال ج10 ص89 وج5 ص116، والغدير ج10 ص83 كلاهما عن شرح النهج للمعتزلي ج4 ص51 ط قديم. 15. السيرة الحلبية ج2 ص248، وتاريخ الخميس ج1 ص441، ومغازي الواقدي ج1 ص289، ومجمع الزوائد ج6 ص119، ومستدرك الحاكم ج3 ص196. 16. دلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج3 ص288. 17. السيرة الحلبية ج2 ص246، وتاريخ الخميس ج1 ص441. 18. راجع: الدر المنثور ج4 ص135، ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية والسيرة الحلبية ج2 ص246، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج2 ص53، والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص101، والكامل في التاريخ ج2 ص161، وسيرة ابن اسحاق ص335. 19. a. b. c. d. e. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 126، الصفحة: 281. 20. راجع: الدر المنثور ج4 ص135 عن مصادر كثيرة وراجع: التفسير الكبير ج20 ص141، والجامع لأحكام القرآن ج10 ص201، وجامع البيان ج14 ص131، وغرائب القرآن (بهامش جامع البيان) ج14 ص132، والتبيان ج6 ص440، ومجمع البيان ج6 ص393، ولباب التأويل للخازن، ومدارك التنزيل (بهامشه) ج3 ص143، ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج3 ص388، ومجمع الزوائد ج6 ص119، ومستدرك الحاكم ج3 ص197، والسيرة الحلبية ج2 ص246، والسيرة النبوية لدحلان بهامش الحلبية ج2 ص53، والمواهب اللدنية ج1 ص97، والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص102، وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج2 ص529، والكامل في التاريخ ج2 ص161، وسيرة ابن اسحاق ص335، ومسند أحمد ج5 ص135، وتاريخ الخميس ج1 ص441، والروايات بهذه المعاني تجدها في مختلف كتب الحديث والتاريخ التي تتعرض لغزوة أحد، ولا يكاد يخلو منها كتاب كلاً أو بعضاً، فراجع. 21. راجع: السيرة الحلبية ج2 ص246 عن ابن كثير، والقول بأن الآية مدنية لا عبرة به لأنه يستند إلى هذه الرواية. 22. السيرة الحلبية ج2 ص246. 23. الدر المنثور ج4 ص135 عن ابن جرير، وابن مردويه. 24. الدر المنثور ج4 ص135 عن ابن جرير، وابن أبي حاتم. 25. راجع: صحيح البخاري (ط سنة 1309 هـ) ج3 ص31، ونصب الراية للزيلعي ج3 ص118 عن البخاري ومسلم وسنن البيهقي ج9 ص69، ونيل الأوطار ج7 ص151. 26. فتح الباري ج1 ص294. 27. راجع: المصنف ج9 ص259، والبخاري، ومسلم، وغير ذلك. 28. الإعتبار في الناسخ والمنسوخ ص208 ـ 211، وفتح الباري ج7 ص369. 29. أبو حنيفة لمحمد أبي زهرة ص250. 30. الأم ج4 ص162. 31. السيرة الحلبية ج2 ص241، وراجع: مغازي الواقدي ج1 ص290 و 291، وشرح النهج للمعتزلي ج15 ص17. 32. راجع المصادر المتقدمة. 33. راجع: نهج البلاغة، شرح عبده، باب الرسائل رقم 36، وباب الخطب رقم 212 و 32، وليراجع ص167 وغير ذلك. 34. راجع: مناقب الإمام علي «عليه السلام» لابن المغازلي ص50، وشرح النهج للمعتزلي ج18 ص24، وينابيع المودة ص85 و 71، وكنز الفوائد ج2 ص179 ط دار الأضواء، والبحار ج37 ص72 وج40 ص43 و 177 و 190 ط مؤسسة الوفاء، وروضة الواعظين ج1 ص113، وتلخيص الشافي ج2 ص135، وراجع ميزان الإعتدال ج2 ص75، وراجع لسان الميزان ج2 ص483 ففيهما حديث معناه ذلك أيضاً، وأمالي الطوسي ج1 ص374 وج2 ص100، وأمالي الصدوق ص343، وراجع إحقاق الحق (الملحقات) للمرعشي النجفي ج6 ص440 وج4 ص258 وج7 ص296 وج13 ص70 عن مصادر كثيرة. 35. a. b. راجع: الهامش ما قبل الأخير. 36. الأوائل لأبي هلال العسكري ج1 ص316 و 317. 37. الدر المنثور ج4 ص135 عن: الترمذي، وحسّنه، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والنسائي وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، وتفسير ابن كثير ج2 ص592. 38. تفسير ابن كثير ج2 ص592. 39. الدر المنثور ج4 ص135 عن ابن جرير، ومصنف ابن أبي شيبة، وراجع: البحار ج20 ص21 عن مجمع البيان. 40. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 45، الصفحة: 115. 41. السيرة الحلبية ج2 ص244. 42. راجع: النص والإجتهاد ص230 ـ 234، والغدير ج6 ص159 ـ 167، ودلائل الصدق ج3 قسم 1 ص134 و 136 عن عشرات المصادر الموثوقة، والإستيعاب (بهامش الاصابة) ترجمة جعفر ج1 ص211، ومنحة المعبود ج1 ص159، وكشف الأستار ج1 ص381 و 383 و 382، والاصابة ج2 ص464، والمجروحون ج2 ص92، والسيرة الحلبية ج2 ص89 وراجع ص251، ووفاء الوفاء ج3 ص894 و 895 وراجع ص932 و 933، وحياة الصحابة ج1 ص571، وطبقات ابن سعد ج3 ص396 وج2 ص313. 43. راجع المصادر المتقدمة والغدير وغيره عن عشرات المصادر الموثوقة، وكذا منحة المعبود ج1 ص158، وفي ذكر أخبار أصبهان ج1 ص61 عن أبي موسى، والطبقات لابن سعد ج3 ص209 و 346 و 362. وراجع: تأويل مختلف الحديث ص245. 44. التراتيب الإدارية ج2 ص375، والاصابة ج1 ص415، وصفة الصفوة ج1 ص655، وأسد الغابة ج2 ص96، وحياة الصحابة ج1 ص465 عن الاصابة، والمصنف ج3 ص559، وفي هامشه عن البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة، وتاريخ الخميس ج2 ص247، وفتح الباري ج7 ص79، والفائق ج4 ص19، وربيع الأبرار ج3 ص330، وراجع: تاريخ الخلفاء ص88، وراجع: لسان العرب ج8 ص363. 45. منحة المعبود ج1 ص159. 46. راجع: طبقات ابن سعد ج3 ط صادر ص81، وفي الثاني ربيع الأبرار ج2 ص586. 47. طبقات ابن سعد ج3 ص362، ومنحة المعبود ج1 ص159. 48. الغدير ج1 ص164 و 54 و 155، عن الإستيعاب ترجمة النعمان بن مقرن والرياض النضرة المجلد الثاني جزء 2ص 328 و 329 حول بكاء عمر على ابن ذلك الأعرابي حتى بل لحيته. 49. راجع الغدير عن المصادر التالية: مسند أحمد ج1 ص237 و 235 وج2 ص333 و 408، ومستدرك الحاكم ج3 ص190 و 381، وصححه هو والذهبي في تلخيصه، ومجمع الزوائد ج3 ص17، والإستيعاب ترجمة عثمان بن مظعون، ومسند الطيالسي ص351. وراجع: سنن البيهقي ج4 ص70، وعمدة القاري ج4 ص87 عن النسائي، وابن ماجة، وسنن ابن ماجة ج1 ص481، وكنز العمال ج1 ص117، وأنساب الاشراف ج1 ص157، وطبقات ابن سعد ج3 ص399 و 429، ومنحة المعبود ج1 ص159. 50. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 164، الصفحة: 150. 51. راجع صحيح البخاري (ط سنة 1039) ج1 ص146، ومستدرك الحاكم ج3 ص381، وإختلاف الحديث للشافعي هامش الأم ج7 ص266، وجامع بيان العلم ج2 ص105، ومنحة المعبود ج1 ص158، وطبقات ابن سعد ج3 ص346، ومختصر المزني هامش الأم ج1 ص187، والغدير ج6 ص163 عمن تقدم، وعن صحيح مسلم ج1 ص342 و 344 و 343، ومسند أحمد ج1 ص41، وسنن النسائي ج4 ص17 و 18، وسنن البيهقي ج4 ص73 و 72، وسنن أبي داود ج2 ص59، وموطأ مالك ج1 ص96. 52. صحيح البخاري ج1 ص147. 53. راجع الغدير، ودلائل الصدق، والنص والإجتهاد، وغير ذلك. 54. الأراك: نوع شجر. 55. النص والإجتهاد ص234. 56. حزقيال. الإصحاح 24 الفقرة 16 ـ 18. 57. راجع: المواهب اللدنية ج1 ص97، والسيرة الحلبية ج2 ص246، والسيرة النبوية لدحلان، بهامش الحلبية ج2 ص53، والاصابة ج1 ص354، وأسد الغابة ج2 ص48، والدر المنثور ج4 ص135، ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص288 ط دار الكتب العلمية، ومجمع الزوائد ج6 ص119، ومستدرك الحاكم ج3 ص197. 58. راجع: البحار ج22 ص327 و 349، وسفينة البحار ج1 ص646، وقاموس الرجال ج4 ص415. 59. مستدرك الحاكم ج3 ص598، وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص200 و 204، وذكر أخبار أصبهان ج1 ص54، والإختصاص ص341، وبصائر الدرجات ص17، والبحار ج22 ص326 و 330 و 331 و 348 و 349 و 374، وسفينة البحار ج1 ص646 و 647، والطبقات لابن سعد ج1 ص59، وأسد الغابة ج2 ص331، والسيرة الحلبية ج2 ص313، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج2 ص102، وتاريخ الخميس ج1 ص482، ومناقب آل أبي طالب ج1 ص51، وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص568، والمغازي للواقدي ج2 ص446، والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص235، وقاموس الرجال ج4 ص415 و 424، ونفس الرحمن ص34 و 35 و 29 و 43 عن مجمع البيان، والدرجات الرفيعة ص218. 60. الإستيعاب هامش الإصابة ج4 ص87، والكنى والألقاب ج1 ص86، وقاموس الرجال ج10 ترجمة أبي سفيان وج5 ص116 و 117، والغدير ج8 ص278 عن الإستيعاب، وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج10 ص58، ومروج الذهب ج2 ص343. 61. النزاع والتخاصم للمقريزي ص18. 62. راجع الغدير، ولا سيما ج8 ص278 و 279 وج10 ص79 ـ 84 لمعرفة رأي علي في معاوية، وفي أبيه، وقاموس الرجال ترجمة أبي سفيان، والإستيعاب وغير ذلك. 63. التهذيب ج6 ص311، والوسائل ج17 ص432. 64. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 75، الصفحة: 186. 65. الوسائل ج17 ص434. 66. التراتيب الإدارية ج2 ص149 وغير ذلك. 67. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005م. ـ 1425هـ. ق، الجزء السابع.
2023/05/06

كم مرة هدموا «قبور أئمة البقيع»؟!
إنَّ دينَ الوهابيّةِ قائمٌ على مُحاربةِ القبور، فما يرتبطُ بالقبور - ما عدا الزيارةِ - فهوَ محظورٌ عندَهم، إمّا بدعةً وإمّا كُفراً وإمّا شركاً.

[اشترك]

وعندَ مُطالعةِ تاريخِ الوهابيّةِ لا نجدُ غيرَ الغزوِ لبُلدانِ الإسلام، وتكفيرِ المُسلمين، واحتلالِ أراضي المُسلمين، وإراقةِ دمائهم المعصومةِ، وأوّلُ همّهم هوَ الإغارةُ على قبورِ المُسلمين والقبابِ التي بُنيَت عليها، فيقومونَ بهدمِها وتدميرِها، فنجدُ أوّلَ قبّةٍ قد هُدمَت هيَ القبّةُ الموضوعةُ على قبرِ زيدٍ بنِ الخطّاب، في اليمامةِ، بمقبرةِ الجبيلةِ، حيثُ قامَ محمّدٌ بنُ عبدِ الوهابِ بنفسِه بهدمِها، بمعونةِ حاكمِ العيينةِ عثمانَ بنِ حمدٍ بنِ معمر. (عنوانُ المجدِ في تاريخِ نجد، للمؤرّخِ الوهابيّ ابنِ بشر: 1 / 39).

وقد اعترفَ ابنُ عبدِ الوهابِ في رسالتِه لأهلِ مكّةَ التي أرسلَها سنةَ 1204 هـ أنّ ممّا نقمَ عليهِ المُسلمونَ وثارَت الفتُن لأجلِها هدمُه لقبورِ الصالحينَ. (عنوانُ المجد: 1 / 171).

وقد دوّنَ مؤرّخُهم الكبيرُ عُثمانُ بنُ عبدِ الله بنِ بشر (المولودُ سنةَ 1210 هـ ، والمتوفّى سنةَ 1290 هـ) كتابَ عنوانِ المجدِ في تاريخِ نجد، وكانَ مُعاصراً لظهورِ هذهِ الدّعوة، وأرّخَ لها مِن بدايةِ ظهورِها، إلى سنةِ 1268 هـ .

يقولُ عن هذهِ الدعوة: وسارَت عمّالُهم إلى جميعِ الأعراقِ في الشام، والعراقِ واليمنِ وأقصى الحجاز، إلى ما وراء الينبع، إلى دونَ مصرَ إلى عدن، وما دونَ البصرة، والبحرين وأقصى عُمان، وكذا ما احتوَت عليه هذه الجزيرةُ منَ العربان، فيقبضونَ منهم الزكاةَ بالكمالِ، ويضربونَ مَن تعدّى، أو تخلّفَ عن الجهادِ، ويأخذونَ مِن مالِه النكال، وهدموا القبابَ والمواضعَ الشركيّة في تلكَ الأقطار. (عنوانُ المجد: 1 / 28).

فمِن أوجبِ الواجباتِ وأهمِّ الأعمالِ عندَهم هدمُ القبابِ التي على القبور.

وقالَ عن سنةِ وفاةِ محمّدٍ بنِ عبدِ الوهاب ( 1206 هـ ) مُترجِماً له: وهدمَ المُسلمونَ ببركةِ علمِه جميعَ القبابِ والمشاهدِ التي بُنيَت على القبور، وغيرِها مِن جميعِ المواضعِ المُضاهيةِ لأوثانِ المُشركينَ في أقاصي الأقطارِ منَ الحرمينِ وتُهامة واليمنِ وعُمان والإحساءِ وقُرى نجد، وغيرِ ذلكَ منَ البلاد. (عنوانُ المجد: 1 / 182 – 183).

وفي هذا النصِّ نلاحظُ أنّه إلى زمانِ تأليفِ كتابِ عنوانِ المجدِ قد قامَ الوهابيّةُ بهدمِ القبابِ والقبورِ في جميعِ الأقطارِ الإسلاميّة التي كانَت تحتَ سيطرتِهم أو التي غزوها، حتّى القبابَ التي في مكّةَ والمدينةِ المنوّرة.

وفي سنةِ 1207 هـ: هجموا على الإحساءِ وهدموا جميعَ ما فيها منَ القبابِ، والمشاهدِ التي على القبور. (عنوانُ المجد: 1 / 202).

وفي سنةِ 1216 هـ: هجموا على كربلاءَ المُقدّسةَ عنوةً وقتلوا أغلبَ أهلِها في الأسواقِ وهدموا القبّةَ التي على قبرِ الإمامِ الحُسين (ع) وسرقوا ونهبوا جميعَ ما فيها، وسرقوا النصيبةَ التي على القبرِ وكانَت مرصوفةً بالزمرّدِ والياقوتِ والجواهر، وسرقوا ونهبوا كربلاء. (عنوانُ المجد: 1 / 257).

وفي سنةِ 1217 هـ: هدموا جميعَ القبابِ التي بُنيَت على القبورِ والمشاهدِ في مكّةَ المُكرّمة، وكانَت مكّةُ مليئةً بالقبابِ والمشاهدِ المُشرّفة، بحيثُ استغرقَت مُدّةُ الهدمِ بضعةَ عشرَ يوماً، يباكرُ الوهابيّةُ منَ الصباحِ في هدمِها إلى الليل. (عنوانُ المجد: 1 / 263).

وقالَ الجبرتي: إنَّ عبدَ العزيزِ بنَ مسعودٍ الوهابي دخلَ إلى مكّةَ مِن غيرِ حربٍ ... وأنّه هدمَ قبّةَ زمزمَ والقبابَ التي حولَ الكعبةِ والأبنيةَ التي أعلى منَ الكعبة. (عجائبُ الآثارِ للجبرتي: 2 / 585).

وفي سنةِ 1218 هـ: هجموا على مدينةِ البصرة، وهدموا جميعَ القبورِ والقبابِ التي في الزبير، ومِنها القبّةُ التي على قبرِ الحسنِ البصري، وطلحةَ بنِ عُبيدِ الله. (عنوانُ المجد: 1 / 280).

هدمُ قبورِ وقبابِ البقيعِ في المدينةِ المنوّرة:

الهدمُ الأوّل ( سنةَ 1220 هـ - 1805 م ):

ذكرَ جماعةٌ منَ المؤرّخينَ أنّ الوهابيّةَ والدولةَ السعوديّةَ الأولى، لمّا سيطروا على المدينةِ المنوّرة، بعدَ حصارٍ خانقٍ دامَ سنين، كما يقولُ ابنُ بشر، أو سنةٍ ونصف، كما يقولُ الجبرتي، فاضطرَّ أهالي المدينةِ المنوّرةِ إلى تسلميها لسعود، فأوّلُ فعلٍ قاموا به هوَ هدمُ جميعِ القبابِ والقبورِ في المدينةِ المنوّرة، ما عدا القبّةِ التي على قبرِ رسولِ الله (ص)! وذلكَ سنةَ 1220 هجري.

ـ قالَ مؤرّخُ البلاطِ الوهابي عثمانُ بنُ عبدِ الله بنِ بشر (ت 1270 هـ): وفي أوّلِ هذهِ السنةِ - قبلَ مُبايعةِ غالب – بايعَ أهلُ المدينةِ المنوّرةِ سعوداً على دينِ اللهِ ورسولِه والسمعِ والطاعة، وهُدمَت جميعُ القبابِ التي وضعَها على القبورِ والمشاهد، وذلكَ أنّ آلَ مضيان رؤساء حربٍ وهُما بادي وبداي أبناء بدوي بنِ مضيان ومَن تبعَهم مِن عربانِهم، أحبّوا المُسلمينَ (ويقصدُ الوهابيّة) ووفدوا على عبدِ العزيزِ وبايعوه، وأرسلَ معهم عثمانَ بنَ عبدِ المُحسن أبا حسين، يعلّمُهم فرائضَ الدينِ ويقرّرُ لهم التوحيدَ! فأجمعوا على حربِ المدينة، ونزلوا عواليها، ثمَّ أمرَهم عبدُ العزيز ببناءِ قصرٍ فيها، فبنوهُ وأحكموه واستوطنوه، وتبعَهم أهلُ قبا ومَن حولهم وضيّقوا على أهلِ المدينة، وقطعوا عنهم السوابل، وأقاموا على ذلكَ سنيناً ! وأرسلَ إليهم سعودٌ وهُم في موضعِهم ذلكَ الشيخُ العالمُ قرناس بنُ عبدِ الرحمن صاحبُ بلدِ الرسِّ المعروفِ بالقصيم، فأقامَ عندَهم قاضياً مُعلّماً كلَّ سنةٍ يأتي إليهم في موضعِهم ذلك، فلمّا طالَ الحصارُ على أهلِ المدينة، وقعَت المكاتباتُ بينَهم وبينَ سعودٍ وبينَ حسن قلعي وأحمد الطبار والأعيانِ والقُضاة، وبايعوا في هذهِ السنة. (عنوانُ المجدِ لابنِ بشر: 1 / 288، حوادثُ سنة 1220هـ).

ـ وقالَ الجبرتي (ت 1237 هـ): وفيهِ وردَت الأخبارُ بأنَّ الوهابيّينَ استولوا على المدينةِ المنوّرةِ على ساكنِها أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم، بعدَ حصارِها نحوَ سنةٍ ونصف مِن غيرِ حرب، بل تحلّقوا حولَها وقطعوا عنها الواردَ، وبلغَ الأردبُ الحنطةَ بها مائةَ ريالٍ فرانسة، فلمّا اشتدَّ بهم الضيقُ سلّموها، ودخلَها الوهابيّونَ، ولم يُحدثوا بها حدثاً غيرَ منعِ المُنكرات، وشربِ التنباكِ في الأسواق، وهدمِ القبابِ ما عدا قبّةِ الرسولِ (ص). (عجائبُ الآثارِ للجبرتي: 3 / 91 ، وفي طبعةٍ أخرى: ص549، حوادثُ سنةِ 1220 هـ.)

وقالَ حسن الريكي واصفاً عهدَ سعود: ثمَّ إنّه رتّبَ في المدينةِ أحداً مِن آلِ سعود، وخرجَ إلى البقيعِ يريدُ نجداً، فأمرَ بتهديمِ كلِّ قبّةٍ كانَت في البقيعِ، وتلكَ القببُ قبّةُ الزهراءِ فاطمة بنتِ الرسولِ (ص)، وقبّةُ الحسنِ بنِ عليّ رضيَ اللهُ عنه، وقبّةُ عليٍّ بنِ الحُسين رضيَ اللهُ عنه، وقبّةُ محمّدٍ الباقرِ، وقبّةُ جعفرٍ الصادقِ، وقبّةُ عثمانَ رضيَ اللهُ عنهم جميعاً. ثمَّ سارَ إلى أحدٍ وهوَ جبلٌ يقربُ منَ المدينةِ على فرسخٍ مِن جهةِ الشرق، وهناكَ قبرُ الحمزةِ، عمِّ رسولِ الله (ص) وعليهِ قبّةٌ كبيرةٌ، ثمَّ أمرَ بتهديمِها. (لمعُ الشهابِ في سيرةِ محمّدٍ بنِ عبدِ الوهاب، ص187).

ـ ويصفُ المُستشرقُ بوركهارت حالَ مقبرةِ البقيعِ سنةَ 1815 م وذلكَ بعدَ عشرِ سنواتٍ مِن هدمِها حيثُ يقول: هذهِ المقبرةُ ليسَ فيها قبرٌ واحدٌ جيّدٌ، وليسَ فيها أيُّ شاهدٍ مِن شواهدِ القبورِ التي تحملُ النقوشَ والكتابات، ونجدُ بدلاً عن تلكَ الشواهدِ أكواماً منَ الطينِ لها حوافٌّ منَ الأحجارِ السائبةِ الموضوعةِ حولَ تلكَ الأكوام. الوهابيّونَ مُتّهمونَ بتشويهِ هذه المقابرِ، والشاهدُ على ذلكَ بقايا القبابِ الصغيرةِ والبناياتِ الصغيرة، التي كانَت مِن قبلُ تغطّي قبرَ عُثمانَ وقبرَ العبّاس، وقبرَ السيّدةِ فاطمة، وكذلكَ عمّاتِ النبيّ محمّد، اللاتي دُمّرَت قبورهنَّ بأيدي الوهابيّين، لكنَّ الوهابيّينَ لم يقربوا القبورَ البسيطةَ الأخرى المبنيّةَ منَ الحجر، وهذا هوَ ما فعلَه الوهابيّونَ أيضاً في كلٍّ مِن مكّةَ والأماكنِ الأخرى ... المكانُ كلّه عبارةٌ عن أكوامٍ غيرِ مُنتظمةٍ منَ الطين، وحفرٍ واسعةٍ، وأكوامٍ منَ النفايات، ولا يوجدُ في المقبرةِ كلّها حجرٌ واحدٌ مِن أحجارِ شواهدِ القبور. (ترحالٌ في الجزيرةِ العربية، جون لويس بوركهارت: 2 / 145، ترجمةُ: صبري محمّد حسن).

ـ ثمَّ وصفَ لنا مُشاهداتِه لجبلِ أحد، قالَ: وكانَ الوهابيّونَ قد أطاحوا بقبّةِ ذلكَ المسجد، لكنّهم أبقوا على القبرِ، والمسجدُ يضمُّ قبرَ سيّدنا حمزة، وقبورَ كبارِ رجالاتِه الذينَ قُتلوا معَه في معركةِ أحد، وبخاصّةٍ مصعبَ بنَ عُمير، جعفراً بنَ شمّاس، وعبدَ اللهِ بنَ جحش، المقابرُ موجودةٌ في فناءٍ مكشوف، وهيَ مثلُ مقابرِ البقيعِ عبارةٌ عن أكوامٍ منَ الطين، حولها بعضُ الأحجارِ السائبة ... معَ الاقترابِ أكثرَ مِن جبلِ أحد، توجدُ قبّةٌ صغيرةٌ تُحدّدُ المكانَ الذي رُميَ فيه محمّدٌ (ص) بحجرٍ في إحدى المعارك، الأمرُ الذي أدّى إلى إسقاطِ أربعٍ مِن أسنانِه الأماميّة، وجعلِه يسقطُ على الأرض، وظنَّت جماعةٌ أنّه قُتل، وعلى مقربةٍ مِن تلكَ القبّةِ التي جرى تدميرُها مثلُ سائرِ القبابِ الأخرى، توجدُ مقابرُ إثني عشرَ آخرينَ مِن أتباعِ النبي (ص) الذينَ قُتلوا معهُ في المعركة، هذهِ القبورُ جميعُها تكونُ أكواماً عدّةً منَ الأحجارِ والنفايات، التي لا يمكنُ تمييزُ القبورِ مِن خلالها. ( ترحالٌ في الجزيرةِ العربيّة، جون لويس بوركهارت: 2 / 148 - 149، ترجمةُ: صبري محمّد حسن).

ـ محاولةُ هدمِ القبّةِ النبويّة:

نقلَ بعضُ المؤرّخينَ المُعاصرينَ لتلكَ الحادثةِ أنَّ لسعودٍ الحاكمِ الوهابيّ محاولةٌ لهدمِ القبّةِ الموضوعةِ على قبرِ النبي (ص) ولكنّه لم يستطِع هدمَها، قالَ بوركهارت: قامَ سعودٌ بعدَ ذلكَ مباشرةً بزيارةٍ للمدينةِ المنوّرة، وأمرَ بتجريدِ قبرِ مُحمّدٍ (ص) منَ الأشياءِ الثمينةِ التي كانَت على القبرِ إلى ذلكَ اليوم، وحاولَ سعودٌ أيضاً تحطيمَ القبّةِ المُقامةِ فوقَ القبر. (ملاحظاتٌ عن البدوِ والوهابيين: 2 / 118).

ـ إعادةُ إعمارِ ما دمّرَه الوهابيّةُ في مكّةَ والمدينة:

تنصُّ الوثائقُ التاريخيّة أنّه بعدَ انتصارِ محمّد علي باشا، وتخليصِ مكّةَ والمدينة مِن سيطرةِ الوهابيّة، توجّهَ مجموعةٌ منَ الحرفيّينَ والصنّاعِ مِن استانبول إلى مكّةَ المُكرّمة والمدينةِ المنوّرة، لإصلاحِ التخريباتِ التي أحدثَها الوهابيّون. (العثمانيونَ وآلُ سعود في الأرشيفِ العُثماني، زكريّا قورشون، ص92).

وأعادَ المُسلمونَ بناءَ القبورِ والقبابِ التي هُدمَت في مكّةَ والمدينةِ، وقد جاءَ وصفُها في كتاباتِ العديدِ منَ الرحّالةِ والعُلماء، لاحِظ: رحلةَ بيرتون إلى مصرَ والحجاز، لريتشارد بيرتون، الجزءُ الثاني. وكتابُ مرآةِ الحرمين، لإبراهيم رفعت باشا: 1 / 425 – 426. وقد نصَّ في هذا على رحلتِه هذه التي كانَت سنة 1318 هجري، أنَّ جملةً مِن هذهِ القبابِ في البقيعِ بناها السُّلطانُ محمود سنةَ 1233 هجري. ولاحِظ كتابَ البقيعِ للمُهندس يوسف الهاجري، ص90 وما بعد.

الهدمُ الثاني: (8 شوّال 1344 هـ - 1925 م):

حيثُ هدمَ آلُ سعود بعدَ قيامِ دولتِهم الثالثة، القبابَ والمشاهدَ في مكّة والمدينة، بعدَ أن وجّهوا إلى المدينةِ قاضي القُضاة عبدَ اللهِ ابنَ بلهيد، وبدورِه وجّهَ سؤالاً إلى علماءِ المدينةِ يسألهم عن حُكمِ القبابِ المبنيّةِ على القبور؟ ليجعلَها ذريعةً لفعلِه، ويُعطيَ غطاءً شرعيّاً لفعلتِهم الشنيعة.

فهدموا جميعَ القبورِ والقبابِ في البقيع.

{ وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }

2023/04/29

لم تغمض عينه تلك الليلة: إليكم تفاصيل وأسباب اغتيال الإمام علي (ع)!
قال أنس بن مالك: مرض عليٌّ فدخلت عليه، وعنده أبو بكر وعمر، فجلست عنده، فأتاه النبيٌّ صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم فنظر في وجهه، فقال له أبو بكر وعمر: يا نبيَّ الله ما نراه إلّا ميِّتاً. فقال: «لن يموت هذا الآن، ولن يموت حتّى يُملأ غيضاً، ولن يموت إلّا مقتولاً» (۱). وممَّا رواه أبو زيدٍ الأحول عن الأجلح، عن أشياخ كندة، قال: سمعتهم أكثر من عشرين مرَّةً يقولون: سمعنا عليَّاً عليه‌ السلام على المنبر يقول: «ما يمنع أشقاها أن يخضّبها من فوقها بدمٍ»؟ ويضع يده على لحيته عليه‌ السلام (۲).

[اشترك]

واشتهرت الرواية عن عُثمان بن المغيرة، قال: كان عليٌّ عليه‌ السلام لمَّا دخل رمضان يتعشَّى ليلةً عند الحسن، وليلةً عن الحسين، وليلةً عند عبد الله بن جعفر، زوج زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌ السلام، وكان لا يزيد على ثلاث لُقم، فقيل له في ليلةٍ من تلك الليالي في ذلك، فقال: «يأتيني أمر الله وأنا خميصٌ، إنَّما هي ليلةٌ أو ليلتان». فلم تمضِ ليلة حتّى قُتل (۳).

سبب قتله: (٤)

وكان سبب قتله أنَّ نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكَّة، فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم، ثُمَّ ذكروا أهل النهر فترحَّموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمّة الضلالة وأرحنا منهم البلاد!

وقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ: أنا أكفيكم عليَّاً، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله التميمي الصُريمي: أنا أكفيكم معاوية. أمَّا عمرو بن بكر التميمي، فقال: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا على ذلك وأخذوا سيوفهم فسمُّوها، واتَّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كلٌّ منهم الجهة التي يريد.

فأتى ابن مُلجم الكوفة كاتماً أمره، فبينما هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب، فصادف عندهُ قطام بنت الأخضر التيميَّة .. وكان أمير المؤمنين عليه السلام قتل أباها وأخاها بالنهروان، فلمَّا رآها أخذت قلبه فخطبها، فأجابته إلى ذلك على أن يُصدِقها: ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً، وقتل عليٍّ!!

فقال لها: والله، ما جاء بي الّا قتل عليٍّ، فلكِ ما سألتِ!

قالت: سأطلب لك من يشدُّ ظهرك ويساعدك، وبعثت إلى رجلٍ من قومها اسمه: وردان وكلَّمته فأجابها..

وروي أنَّ الإمام عليه‌ السلام سهر في تلك الليلة التي قُتل فيها، وكان يكثر الخروج والنظر إلى السماء، وهو يقول: «والله ما كذبتُ ولا كُذبت، وإنَّها الليلة التي وُعدتُ بها» ثُمَّ يعاود مضجعه، فلمَّا طلع الفجر شدَّ إزاره وخرج وهو يقول:

«أُشدد حيازيمك للموت

فإنَّ الموت آتيك

ولا تجزع من الموت   

إذا حلَّ بواديك» (٥)

وأخذ ابن ملجم سيفه ومعه شبيب بن بَجَرة ووردان، وجلسوا مقابل السدَّة التي يخرج منها عليٌّ عليه‌ السلام للصلاة.. فضربه ابن ملجم أشقى الآخرين لعنه الله، ليلة تسعة عشر من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، في المسجد الأعظم بالكوفة، ضربه بالسيف المسموم على أُمِّ رأسه.

فمكث عليه‌ السلام يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها، وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من الليل ثُمَّ قضى نحبه شهيداً محتسباً صابراً وقد مُلئ قلبه غيضاً..

بتلك الضربة الشرسة التي ارتجَّ لها المسجد الأعظم، دوى صوت الإمام المظلوم بنداء: «فزت وربِّ الكعبة» لم يتلكَّأ ولم يتلعثم في تلك اللحظات التي امتُحن قلبه، وهو القائل «والله لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» هذا الإمام العظيم الذي طوى صفحات ماضيه القاسية بدمائه الزكيّة الطاهرة، أدرك في لحظاته الأخيرة أنَّه أنهى خطَّ الجهاد والمحنة، وكان أسعد المخلوقين في هذه اللحظات الأخيرة، حيث سيغادر الكفر والنفاق والغشَّ والتعسُّف.. سيترك الدنيا لمن يطلبها؛ ليلحق بأخيه وابن عمِّه ورفيق دربه في الجهاد في سبيل الله صابراً مظلوماً، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون..

اللَّهمَ احشرنا معهم واجعلنا من أتباعهم والمتوسِّمين خطاهم.. آمين.

وقيل: كان عمره يوم استشهد ثلاثاً وستِّين سنةً، وتولَّى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين بأمره، وحملاه إلى الغريَّين من نجف الكوفة، ودفناه هناك ليلاً، وعمَّيا موضع قبره بوصيّته إليهما في ذلك، لما كان يعلم من دولة بني أُميَّة من بعده، وإنَّهم لا ينتهون عمَّا يقدرون عليه من قبيح الأفعال ولئيم الخلال، فلم يزل قبره مخفيَّاً حتّى دلَّ عليه الصادق عليه‌ السلام في الدولة العبَّاسية، وزاره عند وروده إلى أبي جعفر وهو بالحيرة (٦).

الهوامش: ۱. إعلام الورى ١: ٣١٢، إرشاد المفيد ١: ١٠، وانظر الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٨. ۲. المستدرك ٣: ١٣٩، إعلام الورى ١: ٣١٠، الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤ باختلافٍ يسير. ۳. الإرشاد ١: ١٣، وانظر الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤. ٤. الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤، الإرشاد ١: ١٤ ـ ١٧، إعلام الورى ١: ٣٠٩، أُسد الغابة ٤: ٣٥. ٥. أنظر قصَّة قتله عليه ‌السلام في سير أعلام النبلاء ٢: ٢٨٤ وما بعدها، الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٤ ـ ٢٥٨، إعلام الورى ١: ٣٨٩ وما بعدها، إرشاد المفيد ١: ٩، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم. ٦. إعلام الورى ١: ٣١١. مقتبس من كتاب : الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ / الصفحة : ۲۲۰ ـ ۲۲۳
2023/04/12

3 جبهات تآمرت بخبث على الإمام علي (ع).. قصة الاغتيال!
كانت المؤشرات السياسية بعد النهروان تومي إلى تكتل ثلاث جبهات منظمّة معادية لأمير المؤمنين عليه ‌السلام.

[اشترك]

الأولى تتمثل في معاوية بن أبي سفيان وأنصاره من الشاميين والأمويين ومن سار بركبهم من الحاقدين على الإمام والموترين منه.

وتتمثل الثانية في الخوارج الذين فجعهم الإمام بقتلاهم جانب النهر، فهم يثيرون القلق، ويقاطعون الإمام، ويتجرؤون دون مسوغ شرعي أو قانوني، فيجبهون الإمام بشعارهم «لا حكم إلا لله» أو «الحكم لله لا لك يا علي».

وكان زعيم الخوارج صلفاً حينما يخاطب الإمام، وقد رأى من سياسته عدم الإكراه واللجاج، فيقول: «يا علي تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا».

والإمام يجيب «قد أردتكم على هذا فعصيتموني».

ويتمادى حرقوص بن زهير مشيراً إلى التحكيم: «ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه». ويحاججه الإمام في هذا المنطق، ويردّ عليه بلغة الدين، ويعود باللائمة على سواه، فيقول: «ما هو ذنب، ولكنه عجزٌ من الرأي، وضعفٌ من الفعل، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه».

هذا نموذج من لجاج زعيم الخوارج المقتول بالنهروان، وأمثاله وأمثال ذلك كثير.

والجبهة الثالثة جبهة المنافقين والمتربصين الدائرين بالإمام عليه‌السلام ممن اعتضدوا بعشائرهم، واهتبلوا الفرص مع معاوية فكاتبهم سراً، وأغدق عليهم بالمال وأغرقهم بالطرف، فشايعوه خفية، وعملوا لحسابه بإمعان، ويمثلهم الأشعث بن قيس الكندي، ويلتفّ حوله رعيل من المتمردين والوصوليين ممن لا ذمام لهم، ولا أمل في صلاحهم، فقد جبلوا على الإنتهازية، ومردوا على النفاق، وحليت الدنيا بأعينهم، وراقهم زبرجها، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم.

هذه الجبهات الثلاث فيما أحسب، قد التقت أهدافها في إرادة التخلص من أمير المؤمنين، وأجمعت أمرها لتدبير قتله أو اغتياله، وقد حدث هذا بالفعل، وتم لهم ما أرادوا فرادى ومجتمعين، وأمير المؤمنين بسبيل العودة إلى صفين، يعدّ لها العدة، ويهيئ لها ما استطاع من قوة.

ولم يكن أمير المؤمنين بمنأى عن أبعاد هذه المؤامرة، ولا ببعيد عن إبرامها، فقد لاحت أشراطها في الأفق القريب، وهو موعود بالقتل اغتيالاً على يد شقيق عاقر ناقة صالح بما أخبره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطالما قال اثناء وضوئه مراراً: لتخضبن هذه من هذا، مشيراً إلى كريمته ورأسه الشريف.

وقد ذهب إلى أبعد من هذا، فكان ينشد في رمضان الذي قتل فيه هذه الأبيات :

أشدد حَيازيمكَ للمَوتِ   

فإنَّ الموتَ لاقِيكَا

ولا تَجزَع من المَوتِ   

إذا حلّ بواديِكَا

كَمَا أضحَكَكَ الدَهرُ      

كَذَاكَ الدَهرُ يَبكِيكَا

وكان رعيل من الخوارج يشهدون الموسم في الحج، فتذاكروا ـ بزعمهم ـ شؤون المسلمين، وذكروا أمير المؤمنين، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وائتمروا فيما بينهم، أن يريحوا الناس من هؤلاء الثلاثة، وأن يثأروا من عليّ بخاصة لإخوانهم من الخوارج في النهروان.

وانتدب عبد الرحمن بن ملجم المرادي لقتل أمير المؤمنين، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصريمي لقتل معاوية، وانتدب عمرو بن بكير لقتل عمرو بن العاص، وإتعدوّا لذلك وقتاً معيناً لتنفيذ الاغتيال في اليوم التاسع عشر من رمضان فجراً عند خروجهم لصلاة الفجر من شهر رمضان لعام أربعين من الهجرة.

وأقام هؤلاء بمكة يتذاكرون الموعد، ويحبكون الخطة، مصممين على التنفيذ، حتى إعتمروا في رجب وتفرقوا لأداء المهمّة.

أما صاحب معاوية، فأقدم عليه ولم يبلغ منه شيئاً، ولا أصاب منه مقتلاً، فقبض عليه وقتل.

وأما صاحب ابن العاص، فأقدم عليه ولم يصبه، وكان قد مرض أو تمارض، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي، فقتل واجتمع عمرو بن العاص بالقاتل، فقال: إنما أردت عمراً، فقال عمرو: ولكن الله أراد خارجة. وقتله.

وأما عبد الرحمن بن ملجم، فذهب إلى الكوفة، وأقام بها يوثق الصلات بأعداء أمير المؤمنين، فكان يجتمع بالأشعث بن قيس تارة، ويتعد مع اثنين من الخوارج هما شبيب بن بحران ووردان بن مجالد تارة أخرى، وكان الأشعث متحمساً للفتك بأمير المؤمنين، وعبد الرحمن بن ملجم في ضيافته، يتعهده بالألطاف، ويبرّه في المأكل والمشرب.

ويروي أبو الفرج الأصبهاني أن الأشعث كلم الإمام في أمر، فأغلظ له الإمام وانتهره، فعرض له الأشعث أنه سيفتك به، وفهم الإمام تعريضه فقال :

«أبالموت تخوفني وتهددني، فوالله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ». وكان الإمام يستصغر قدر الأشعث، ويحتقر ذكره.

وحانت ساعة الاغتيال، فالتفت الأشعث إلى ابن ملجم وقال: النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح. مما يعني أن الأشعث كان ظالعاً بالمؤامرة مع الخوارج وسواهم دون شك، في إيوائه لابن ملجم، وفي تهديده للإمام، وفي علمه بالتوقيت، وفي إعجاله لابن ملجم على تنفيذ الاغتيال.

وأحسب أن الأشعث هذا، وأمثال الأشعث ممن لم يذكر التأريخ أسماءهم، كانوا يدبرون لهذا الاغتيال، بالاتفاق مع معاوية، ومعاوية يبذل لهم الأموال الطائلة يشتري بذلك دينهم وولاءهم وضمائرهم إن كانت لهم ضمائر، حتى أن قلها وزن يذهب: أن قتل الإمام علي قد تم على عدة بين ابن ملجم ومعاوية ونسبه إلى الطبري. ولا مانع لدى معاوية أن يستعين بابن ملجم والأشعث وسواهما لقتل الإمام.

وهناك نص أدبي يرويه أغلب المؤرخين، وهو عبارة عن أبيات لأبي الأسود الدؤلي صاحب الإمام، قد وجهها إلى معاوية، ينسب فيها قتل الإمام لمعاوية وأنصاره، يقول:

ألا أبلغ معاوية بن حـرب        

فلا قرّت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونا       

بخير الناس طراً أجمعينا

قتلتم خير من ركب المطايا      

وذللها، ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال ومن حذاها     

ومن قرأ المثاني والمئينا

ومما يتقدم يبدو أن المؤامرة قد أشرف على تنفيذها هذا الثلاثي الذي شكّل الجبهات الثلاث المعادية لأمير المؤمنين، وأن الخوارج لم يستقلّوا بذلك وحدهم، وإن كان لهم أمر التنفيذ.

ومهما يكن من أمر، فقد خرج الإمام لصلاة الصبح وهو ينادي بالمسلمين: الصلاة الصلاة، بما رواه أبو الفرج عن أبي مخنف عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصّلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره، إذ نظرتُ إلى رجال يصّلون قريباً من السدّة، قياماً وركوعاً لا يسأمون إذ خرج عليهم: علي بن أبي طالب عند الفجر، فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة، وبعدها رأيت بريق السيف، وسمعت قائلاً يقول: الحكم لله لا لك ياعلي. ثم رأيت بريق سيف آخر، وسمعت قائلاً يقول: لا يفوتنكم الرجل، وكان الأشعث بن قيس قال لابن ملجم: النجاء لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر.

هذه رواية شاهد عيان للحادثة، وغير هذه الرواية يتفق معها.

وقد عقب أبو الفرج على الرواية بقوله: «فأما بريق السيف الأول فإنه كان سيف شبيب بن بحران، وقد ضرب الإمام فأخطأه، ووقعت ضربته في الطاق، وأما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه على رأسه، فأثبت الضربة في وسط رأسه».

وكان ابن ملجم قد أمهل الإمام في صلاته الركعة الأولى، وقام الإمام الى الثانية، وأهوى الإمام إلى السجود، وحينما رفع جبهته من السجدة الثانية، أهوى عليه بالسيف، فعممه على رأسه، وبلغت ضربته الدماغ، وهو يقول: «الحكم لله يا علي لا لك» والإمام فيما يروي المؤرخون يقول: «فزت ورب الكعبة».

وكذلك يروون أن آخر كلام سمع منه قبل أن يموت هو تلاوته لقوله تعالى: ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١).

واضطرب الناس في مسجد الكوفة عند سماع أمير المؤمنين يقول: لا يفوتنكم الرجل، فشدوا على ابن ملجم من كل مكان فقبض عليه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وصرعه وأخذ السيف منه، وأدخل على أمير المؤمنين فقال: «النفس بالنفس» إن أنا متُ فاقتلوه، وإن سلمت رأيت فيه رأيي».

فقال ابن ملجم: لقد اشتريت سيفي بألف، وسممته بألف، فإن خانني فأبعده الله، وأحدق الناس بابن ملجم يريدون قتله، وهم يقولون: يا عدو الله ماذا صنعت، لقد أهلكت أمة محمد، وقتلت خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ساكت لا يتكلم.

واستدعى أهل الكوفة الأطباء للنظر في جرح الإمام، وفي طليعتهم الجراح العربي المعروف أثير بن عمرو بن هاني، وكان يداوي الجراحات الصعبة، فلما نظر في جرح الإمام بكى وقال :

اعهد عهدك يا أمير المؤمنين فإن ضربة اللعين قد وصلت أم رأسك.

فأستقبل الإمام النبأ باليقين والصبر الجميل، وكان الإمام في هذه اللحظات الحرجة متيقظاً تماماً فلم ينسَ النصح لأمة محمد، والتفت إلى أبنائه قائلاً من وصيته عند الموت:

«الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، الله الله فيما ملكت أيمانكم فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر ما أوصى به قال: أوصيكم بالضعيفين مما ملكت أيمانكم».

ومضى عليه السلام يقول: قولوا للناس حسناً كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم، وتدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواضع والتباذل، وإياكم والتقاطع والتفرق، وتهاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان».

وأوصاهم بأداء الصلاة وتلاوة القرآن.

وجمع إليه بنيه وأوصاهم بإطاعة الحسن والحسين لأنهما إمامان قاما أو قعدا، ونصّ على إمامة ولده الحسن عليه السلام.

وظل الإمام يعاني من ضربته تلك حتى قضى نحبه صابراً شهيداً محتسباً ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين من الهجرة.

ومضى علي عليه السلام شهيد عظمته، وقتيل مبادئه الصارمة، لم يخلف بيضاء ولا صفراء.

وجلل الحزن الجزيرة العربية والأقاليم الإسلامية، وتجاوب صدى الفاجعة في آفاق الدنيا، فبكاه القريب والبعيد، وحمل نعشه ليلاً الحسن والحسين وخلص أصحابه إلى النجف الأشرف من ظهر الكوفة، ودفن بين الذكوات البيض حيث مرقده الشريف وحيث ضريحه المقدس اليوم.

وبلغت وفاته عائشة فقالت:

فَألقَت عَصاها وإستقرَّ بها النَوى 

كَمَا قرّ عَينَاً بالأيابِ المُسافِرُ

ولست أعلم أكانت أم المؤمنين شامتة أم مؤبنّة.

مقتطف من كتاب: الإمام علي عليه السلام سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي
2023/04/12

ما حقيقة حمل الملائكة لـ «نعش» علي بن أبي طالب (ع)؟
مما يتمُّ تناقلُه أنَّ النعش الذي حُمل عليه أمير المؤمنين (ع) بعد استشهاده كانت الملائكة تحملُ مقدَّمه وكان الإمامان الحسن والحسين (ع) وسائر من كان معهما يحملون المؤخَّر فهل صحَّ ذلك؟

[اشترك]

الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

نعم نصَّت على ذلك العديدُ من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) وكذلك العديد من النصوص التأريخيَّة:

منها: ما أورده الشيخ الطوسي في كتابه تهذيب الأحكام بسنده عن سعد الإسكاف عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: إنَّه لمَّا أُصيب أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن والحسين صلوات الله عليهما: غسِّلاني وكفِّناني وحنِّطاني واحملاني على سريري واحملا مؤخَّره تُكفيان مقدَّمه، فإنَّكما تنتهيان إلى قبرٍ محفور ولحْدٍ ملحود، ولبنٍ موضوع فألحداني وأشرجا اللِّبن عليَّ وارفعا لبنةً مما يلي رأسي فانظرا ما تسمعان، فأخذا اللبنة من عند الرأس بعد ما أشرجا عليه اللبن فإذا ليس في القبر شيء وإذا هاتف يهتف: أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عبدا صالحا فالحقه الله بنبيِّه وكذلك يُفعل بالأوصياء بعد الأنبياء، حتى لو أنَّ نبيَّاً مات في المشرق ومات وصيُّه في المغرب لألحقَ اللهُ الوصيَّ بالنبيِّ"(1).

وأورد هذا الخبر الشيخ المفيد في المزار بسنده عن سعد الإسكاف عن أبي عبد الله (ع)(2)، وكذلك أورده إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (282ت:) في كتاب الغارات عن أبي عبد الله (ع)(3).

أقول: هذه الرواية صريحة في أنَّ الحسن والحسين (ع) ومن معهم مكلَّفون بحمل مؤخَّر السرير وأنَّ مقدَّمه لا يحمله أحد من البشر من هذا العالم، لأنَّه لو كان أحد من البشر يحمل مقدَّم السرير لكان الأولى بذلك هما الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) فقوله: تُكفيان مقدَّمه ظاهر في أنَّ المكلَّف بحمل مقدَّم السرير هم ملائكة الله تعالى، وأنَّهم مأمورون بالسير به إلى موضعٍ قد تمَّ تحديده لهم من قِبل الله جلَّ وعلا وأنَّ على مَن هم عند مؤخر السرير أنْ يسيروا حيث سار بهم حملَة المقدَّم كما هو ظاهر قوله (ع): "فإنَّكما تنتهيان إلى قبرٍ محفور ولحْدٍ ملحود" فثمة قبر محفور ولحدٌ ملحود قد اذخره الله تعالى لعليٍّ (ع) منذُ عهد نوح (ع) كما نصَّت على ذلك الروايات الأخرى.

ومنها: ما أورده الشيخ الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَه قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "لَمَّا غُسِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) نُودُوا مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ إِنْ أَخَذْتُمْ مُقَدَّمَ السَّرِيرِ كُفِيتُمْ مُؤَخَّرَه وإِنْ أَخَذْتُمْ مُؤَخَّرَه كُفِيتُمْ مُقَدَّمَه"(4).

ومنها: ما أورده الشريف المرتضى في خصائص الأئمة (ع) -وهو ظاهرا ذات الخبر الذي أورده الكليني- قال:ورُوي عن الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام): أنَّه لمَّا غُسِّل أميرُ المؤمنين (عليه السلام) نودوا من جانب البيت إنْ أخذتم مقدَّم السرير كفيتم مؤخره، وإن أخذتم مؤخره كُفيتم مقدَّمه. وأشار (عليه السلام) إلى أن الملائكة قالت ذلك"(5).

أقول: معنى ذلك أنَّ الملائكة نادتهم بعد الفراغ من تجهيز أمير المؤمنين (ع) بأنْ يختاروا إمَّا حمل مقدَّم السرير أو حمل مؤخّره، وقد نصَّت العديد من الأخبار أنَّهم اختاروا حمل المؤخَّر، وتولَّت الملائكة حمل المقدَّم دون أنْ يشاركهم أحدٌ من البشر.

ومنها: ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد عن عبَّاد بن يعقوب الرواجني قال: حدثنا حبَّان [حيَّان] بن علي العنزي قال: حدَّثني مولى لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام قال: لمَّا حضرتْ أميرَ المؤمنين عليه السلام الوفاة قال للحسن والحسين (عليهما السلام): "إذا أنا متُّ فاحملاني على سريري، ثم أخرجاني واحملا مؤخَّر السرير فإنَّكما تُكفيان مقدَّمه، ثم ائتيا بي الغريين، فإنَّكما ستريان صخرةً بيضاء تلمعُ نوراً، فاحتفرا فيها فإنَّكما تجدان فيها ساجةً، فادفناني فيها".

قال: فلمَّا مات أخرجناهُ وجعلنا نحمل مؤخَّر السرير ونُكفى مقدَّمه، وجعلنا نسمعُ دويَّاً وحفيفاً حتى أتينا الغريين، فإذا صخرةٌ بيضاء (تلمعُ نورا) فاحتفرنا فإذا ساجةً مكتوب عليها: "ممَّا أدَّخر نوحٌ لعليِّ بن أبي طالب ".

فدفناه فيها، وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله لأمير المؤمنين (عليه السلام) .."(6).

أقول: هذه الرواية تنصُّ على أنَّهم حملوا مؤخَّر السرير لأنَّ أمير المؤمنين (ع) أوصاهم بذلك وحملتِ الملائكةُ مقدَّم السرير، وكان يُسمع لهم دويَّاً وحفيفاً، وظلَّوا كذلك إلى أنْ بلغوا به موضع قبره الشريف في الغريين حيث العلامة التي أنبأهم عنها أمير المؤمنين (ع) وهي صخرةً بيضاء تلمعُ نوراً احتفروا تحتها فوجدوا ساجة مكتوب عليها: "مما أدخر نوحٌ لعليِّ بن أبي طالب"، فكان قبرُ عليٍّ (ع) معدَّاً لمثواه -بحسب الرواية- منذُ عهدِ نبيِّ الله نوح (ع).

ومنها: ما أورده إبراهيم بن محمد الثقفي في كتاب الغارات، قال: عن أبي عبد الله الجدلي قال: استنفر (عليٌّ عليه السلام) .. وقال: يا بني إنِّي ميِّتٌ من ليلتي هذه، فإذا متُّ فغسِّلني وكفِّني وحنِّطني بحنوط جدِّك صلَّى الله عليه وآله وسلم، وضعْني على سريري، ولا يقربنَّ أحدٌ مقدَّم السرير فإنَّكم تُكفونه، فإذا حُمل المُقدَّم فاحملوا المؤخَّر، فإذا وُضع المقدَّم فضعوا المؤخَّر، ثم صلِّ عليَّ فكبر سبعا فإنَّها لا تحلُّ لأحدٍ من بعدي إلا لرجلٍ من ولدي يخرجُ في آخر الزمان يُقيم اعوجاج الحق، فإذا صلَّيت فخطَّ حول سريري ثم احفر لي قبراً في موضعِه إلى منتهى كذا وكذا، ثم شقَّ لحدا فإنَّك تقع على ساجةٍ منقورة ادَّخرها لي أبي نوحٌ (عليه السلام)، فضعني في الساجة ثم ضع علي سبع لبنات .."(7).

أقول: هذه الرواية اشتملت أيضاً على الوصية بأنْ يحملوا مؤخَّر السرير بعد أن تحمل الملائكة مقدَّم السرير واشتملت على أنَّ علامة موضع قبره الشريف هو حينما تضعُ الملائكة مقدَّم السرير، فثمة موضع القبر الذي أمر الله ملائكته أن يدلُّوا عليه، وهذا لا ينافي ما ورد في خبر الشيخ المفيد في الإرشاد من أنَّ العلامة ستكون صخرة تلمع نوراً، فإنَّه لا محذور في تكون هذه علامة أخرى على موضع القبر المدَّخر لأمير المؤمنين (ع) منذ عهد نبيِّ الله نوح (ع) الذي أمره ربُّه جلَّ وعلا أنَّ يحتفر لأمير المؤمنين (ع) في ذلك الموضع ويضع له ساجة لتكون ظرفاً لجثمانه الشريف.

ومنها: ما أورده ابنُ شهراشوب في المناقب: قال: وعن منصور بن محمد بن عيسى عن أبيه عن جدِّه زيد بن عليٍّ الشهيد عن أبيه زين العابدين عن جده الحسين بن علي (ع) في خبرٍ طويل يذكر فيه: أوصيكما وصية، فلا تُظهرا على أمري أحدا فأمرهما أن يستخرجا من الزاوية اليمنى لوحاً وأن يكفِّناه فيما يجدان، فإذا غسلاه وضعاه على ذلك اللوح وإذا وجدا السرير يُشال مقدَّمُه يشيلان مؤخَّره وأنْ يصلي الحسن مرَّة والحسين مرَّة صلاة إمام، ففعلا كما رسمَ فوجدا اللوحَ وعليه مكتوب (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ذخره نوحٌ النبيُّ صلى الله عليه لعليِّ بن أبي طالب) وأصابا الكفن في دهليز الدار موضوعا فيه حنوط قد أضاء نورُه على نور النهار .. فلما قضيا صلاة العشاء الآخرة إذا قد شِيل مقدَّم السرير ولم نزل نتبعه إلى أن وردنا إلى الغري فأتينا إلى قبرٍ على ما وصف أميرُ المؤمنين ونحن نسمع خفقَ أجنحةٍ كثيرة وضجَّة وجلبة فوضعنا السرير وصلَّينا على أمير المؤمنين كما وصف لنا ونزَّلنا قبره فاضجعناه في لحده ونضدنا عليه اللبن.

وفي الخبر عن الصادق (عليه السلام) وإذا هاتف يهتف: أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فالحقه الله بنبيه وكذلك يفعل الأوصياء بعد الأنبياء حتى لو أن نبيا مات بالمشرق ومات وصيه بالمغرب لألحق الوصي بالنبي"(8).

أقول: وهذا الخبر المروي عن الإمام الحسين (ع) اشتمل أيضاً على ما أفادته الأخبار السابقة من وصية أمير المؤمنين (ع) بأنْ ينتظروا حمل الملائكة لمقدَّم السرير، فإذا حُمل المقدَّم صار عليهم حمل مؤخَّر السرير ويسيروا حيث تسير الملائكة بالنعش الشريف فيكون موضعُ القبرِ حيثُ تضعُ الملائكةُ مقدَّمَ السرير، وأفاد سيدُ الشهداء (ع) -بحسب الرواية- أنَّهم كانوا يسمعون خَفقَ أجنحة الملائكة وضجيجاً وجلَبة وأفاد بأنَّهم وجدوا اللَّوح الذي اذخره نوح النبيٍّ (ع) لمثوى أمير المؤمنين (ع) وأفاد بأنَّهم سمعوا بعد دفنه هاتفاً يقول: "أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فالحقه الله بنبيِّه وكذلك يفعل الأوصياء بعد الأنبياء حتى لو أن نبيَّا مات بالمشرق ومات وصيه بالمغرب لألحق الوصي بالنبي".

ومنها: ما أورده السيد عبد الكريم بن طاووس قال: ووجدتُ مرويَّا عن ابن بابويه علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي والد الشيخ الصدوق قال: حدَّثنا الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي بالكوفة، قال: حدَّثنا فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، قال: حدَّثني علي بن حامد الوراق، قال: حدثنا أبو السري إسماعيل بن علي بن قدامة المروزي، قال: حدَّثنا أحمد بن علي بن ناصح، قال: حدَّثني جعفر بن محمد الأرمني، عن موسى بن سنان الجرجاني، عن أحمد بن علي المقري، عن أمِّ كلثوم بنت علي قالت: آخر عهد أبي إلى أخوي (عليهما السلام) أنْ يا بني إذا انا متُّ فغسِّلاني ثم نشِّفاني بالبردة التي نشَّفتم بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة، ثم حنِّطاني وسجِّياني على سريري، ثم انظرا حتى إذا ارتفع لكما مقدَّم السرير فاحملا مؤخَّره، قالت: فخرجت أشيع جنازة أبي حتى إذا كنَّا بظهر الغري، ركن المقدَّم فوضعنا المؤخر، ثم برز الحسن بالبردة التي نشف بها رسول الله وفاطمة، فنشف بها أمير المؤمنين، ثم أخذ المعول فضرب ضربة فانشق القبر عن ضريح فإذا هو بساجة مكتوب عليها .. بسم الله الرحمن الرحيم -هذا قبر اذَّخره نوحٌ النبيُّ (صلى الله عليه) لعليٍّ وصيِّ محمد قبل الطوفان بسبعمائة عام.

قالت أم كلثوم: فانشقَّ القبر فلا أدري أغار سيدي في الأرض، أم أسري به إلى السماء، إذ سمعت ناطقا لنا بالتعزية يقول: أحسن الله لكم العزاء في سيدكم وحجة الله على خلقه"(9).

أقول: هذه الرواية اشتملت كذلك على أنَّ الملائكة حملت مقدَّم السرير وأنَّ موضع القبر الشريف كان بدلالة الملائكة حين ركنوا مقدَّم السرير وأفادت الرواية أنَّهم وجدوا اللوح الذي اذخره نوح النبيِّ (ع) وكتب عليه "بسم الله الرحمن الرحيم -هذا قبر اذَّخره نوحٌ النبيُّ (صلى الله عليه) لعليٍّ وصيِّ محمد قبل الطوفان بسبعمائة عام" وأفادت أنهم سمعوا ناطقاً يعزيهم يقول: أحسن الله لكم العزاء في سيدكم وحجَّة الله على خلقه".

ومنها: ما أورده ابن حاتم الشامي المشغري العاملي في (ت: 664) في الدر النظيم قال: حدَّث الحسن بن علي بن محمد الخزاز، عن المفضَّل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنَّه لما كانت الليلة التي قُبض فيها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قال لابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام): إني مفارقكم في ليلتي هذه، فإذا أنا متُّ فحطا موضع فراشي من الأرض ثم احملاني وغسِّلاني مع مَن يعينكما على غسلي، وكفِّناني وحنِّطاني وضعاني على السرير وخذا المؤخَّر واتبعا مقدَّمه حتى يأتيا به موضع الخطة، فاحفرا لي قعر الأرض فإنه ستبدو لكما خشبة من ساج محفورة، حفرها لي أبي نوح (عليه السلام)، فضعاني فيها وأطبقا علي اللبن، وتمهلا علي قليلا، ثم خذا اللبن فإنه سيبين لكما أمري. قال أبو عبد الله (عليه السلام): ففعلا ذلك، فلما حفرا موضع الخطة بدت لهما خشبة من ساج محفورة فوضعاه فيها ثم أطبقا عليه اللبن .."(10).

ومنها: ما أورده كذلك في الدر النظيم قال: حدَّث عبد الله بن محمد بن نهيك، عن زياد بن مروان، عن عبد الله بن سنان ومفضَّل بن عمر، جميعاً عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام) إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن والحسين (عليهما السلام): إذا أنا متُّ فكفِّنوني في أثوابي التي أدميت فيها، ثم ضعوني على سريري، وخذوا بمؤخَّر السرير تُكفوا مقدَّمه، فامضوا ما مضى السرير، فإذا وضع مقدم السرير فضعوا مؤخَّره، ثم علموا موضع قوائمه ثم نحوه واحتفروا تجدوا ساجة أو خشبة وضعها نوح (عليه السلام) علامة لقبري، فكان الذين قدام السرير يقولون: سبحانك اللهم أنت عزيز في سلطانك وأنت لا إله إلا الله، فصلى عليه الحسن (عليه السلام)"(11).

أقول: هذه الرواية والتي قبلها متقاربتان في المضمون مع الروايات السابقة، فهما قد اشتملتا على أنَّ الملائكة هي مَن تصدَّت لحمل المقدَّم لا يُشاركهم في ذلك أحد من البشر، وأنَّ موضعَ القبر يتحدَّد بوضع الملائكة لمقدَّم السرير، وكذلك اشتملت كلٌّ من الروايتين على أنَّ قبره الشريف كان مُعيَّناً منذُ عهد نوح النبيِّ (ع) وأنَّ ساجةً كان قد وضعها نبيُّ الله نوح لتكون موضعاً لجثمانه الطاهر، واشتملت الرواية الثانية على الإشارة إلى ما كانت تُسبِّح به الملائكةُ حين تشييع جثمان أمير المؤمنين (ع) وأنَهم كانوا يقولون: "سبحانك اللهم أنت عزيزٌ في سلطانك وأنتَ لا إله إلا الله".

ومنها: ما أورده الدمشقي الشافعي في جواهر المطالب، قال: فالتفت (أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن) وقال: يا حسن. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: إنِّي ميِّتٌ بعد ثلاث، فإذا متُّ فكفِّني بثياب بياض وحنِّطني بفضلة الحنوط الذي نزل به جبرئيل إلى جدِّك من الجنَّة، وضعوني على سريري واحملوا مؤخر السرير، فسيروا حيث سار بكم السرير، فإذا وقف قفوا، ثم احفروا فإنكم ستجدون ساجة اتخذها لي جدُّك (نوح) عليه أفضل الصلاة والسلام فضعوني فيها، وضعوا علي من اللبن سبعا.

قال أبو عبد الله (الجدلي): فأتيتُ اليوم الثاني والثالث؟ وقد تُوفي (عليه السلام) وغُسِّل وكُفِّن ووُضعَ على سريره رضي الله عنه، فلمَّا حُمِل المؤخَّر وإنَّ المقدم ليسير بنا؟ فلمَّا وقف السرير وقفنا وحفرنا فوجدنا ساجةً منقورة على مثال أمير المؤمنين فوضعناه فيها، ووضعناه عليه من اللبن سبعا .."(12).

أقول: معنى قوله: "فوجدنا ساجةً منقورة على مثال أمير المؤمنين فوضعناه فيها" أنَّ الساجة التي اتَّخذها نوح (ع) كانت بمقدار جثمان أمير المؤمنين (ع) هذا وقد نصَّت الرواية على ما نصَّت عليه الروايات السابقة من أنَّهم كانوا يسيرون بمؤخَّر السرير حيث كان يسير ويتوجَّه الملائكة بمقدَّم السرير، وأنَّهم احتفروا الموضع الذي وضعت الملائكةُ عنده مقدَّم السرير.

هذه مجموعة من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) وعددٌ من النصوص التأريخيَّة التي وقفتُ عليها سريعاً، وهي كافية للإثبات التأريخي.

الهوامش: 1- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج6 / ص107. 2- المزار -الشيخ المفيد- ص223. 3- الغارات -إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي- ج2 / ص845. 4- الكافي- الشيخ الكليني- ج1 / ص457. 5- خصائص الأئمة -الشريف المرتضى- ص64. 6- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص23، إعلام الورى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص394، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص136. 7- الغارات -إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي- ج2/ ص846. 8- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج2 / ص172. 9- فرحة الغري -السيد عبد الكريم بن طاووس- ص63، الغارات -الثقفي-. 10- الدر النظيم -يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي- ص420. 11- الدر النظيم -يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي- ص421. 12- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب- محمد بن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي- ج2 / ص113.
2023/04/11

رب مشهور لا أصل له: هل تزوجت السيدة سكينة مصعب بن الزبير؟!
البعض ينقل عن بعض النسابة الهاشميين زواج سكينة بنت الحسين (ع) من مصعب الزبيري، ويحتج بذلك على الإمامية، فما حقيقة هذا الزواج وهل تم فعلا؟

[اشترك]

من المعلوم لمن تصفح كتب التاريخ والأنساب وتعمق بها أنه يمكن ارسال مقولة لمؤلف من المتقدمين فيتلقفها المتأخرون وتكثر في الكتب وتُشتهر، وهي في حقيقتها تعود إلى قائلها الأول، وفي هذه الحالة ينبغي عدم التهويل بكثرة الناقلين، وعلو مقامهم وشهرة الحادثة، فرب مشهور لا أصل له، بل ينبغي الرجوع إلى أصل المقولة وتحقيقها.

أما النسابة الهاشمي الذي ذكروه فهو علي بن محمد العلوي العمري ( ت 490هـ) وهو من الإمامية، حيث قال : (وأما سكينة فخرجت الى مصعب بن الزبير وقتل عنها ، فلما جاءت الكوفة خرج إليها أهلها ، فقالت : لامر حبابكم يا أهل الكوفة أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة ) المجدي في أنساب الطالبين ، ص 92

ولنا ملاحظات نسجلها على كلام السيد العلوي:

ـ لا نجد في كتب الإمامية المتقدمة من أشار إلى زواج سكينة من مصعب غير السيد العلوي العمري.

ـ إن النسابة علي بن محمد العلوى صاحب النص أعلاه، قد ذكر كلامه دون اسناد، مع العلم أنه توفي في أواخر القرن الخامس الهجري ( 490هـ) فبينه وبين هذا الحدث مدة طويلة، فكلامه مرسل لا اعتبار له إلا إذا كانت له شواهد في كتب الإمامية الأخرى، في عصره أو قبل عصره وهي مفقودة.

ـ إن النسابة العلوي رحمه الله نقل عن الزبير بن بكار في كتابه (المجدي في أنساب الطالبيين) ص 340، نقل عنه عن عروة بن الزبير وكلاهما متهمان، وهذا يعني امكانية نقل صاحب كتاب المجدي زواج سكينة من مصعب عنه.

ـ إن نقل صاحب كتاب المجدي عن ابن بكار ولو في مورد واحد، يستلزم الحذر وتحقيق نصوصه قبل ردها أو قبولها.

ـ أنكر بعض محققي الإمامية ومنهم الشيخ عبد الرزاق المقرم زواج سكينة من مصعب في كلام له مفصل في كتابه حول حياة سكينة ع. قال رحمه الله : ( لقد تجلى لنا ونحن نسبر المدونات ونمحص الاحاديث ان اول من وضع الاحاديث الشائعة في ابنة الحسين (سكينة ) مصعب الزبيري المتوفي سنة 236 في كتابه ( نسب قريش ) لينصرف المغنون والشعراء عن ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير التي تجتمع مع ابن ابي ربيعة الشاعر والمغنيات يغنين لهم،

وزمر بها مرافقه في بغداد المدائني المتوفي سنة 225 وزاد عليها الزبير بن بكار وابنه وتلقاها المبرد المتوفي سنة 285 عن هؤلاء الوضاعين وعنه اخذها تلميذه الزجاجي وغيره من دون تمحيص فاضلوا كثيراً من الكتاب والمؤرخين حتى رووها بلا اسناد موهمين انها من المسلمات.

ثم جاء ابو علي القالي تلميذ الزجاجي الاموي الفكرة والعقيدة فسجل في اماليه ما تلقاه من استاذه قصداً للحط من كرامة البيت العلوي خصوصاً وقد تقلب في نعمة الناصر عبدالرحمن الاموي). السيد سكينة، المحقق السيد عبد الرزاق المقرم

ـ نقل المتأخرون من الإمامية زواج سكينة من مصعب في كتبهم، ومجرد النقل لا يدل على صحة الخبر بعد أن بينا ارساله وضعفه.

ـ إن كتاب المجدي في أنساب الطالبيين وإن كان معتمدا مشهورا، فهذا لا يعني صحة كل ما فيه، بل ينبغي تحقيق أقواله ومضامينه خاصة إن لم تكن متعلقة بالأنساب، فالكافي أكثر شهرة واعتمادا منه، مع ذلك يذهب البعض إلى تضعيف الكثير من أحاديثه.

ـ من يحاجج، فينبغي له أن يحتج بنص ثابت أو معتبر، ونص كتاب المجدي مرسل.

ـ لقد كذبوا على سكينة ع كثيرا ونسبوا لها ما لا يصدر عنها تشويها لسمعة الهاشميين وذريتهم، فهذا أبو الفرج الأصبهاني الزيدي يروي أنها راسلت الشاعر عمر بن أبي ربيعة هي وبعض النساء وسهرن معه حتى الصباح.

قال ابو الفرج : ( حديثه مع سكينة بنت الحسين وما قاله فيها من الشعر أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق عن أبي عبد اللَّه الزّبيريّ قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوّقن إليه وتمنّينه ، فقالت سكينة بنت الحسين عليهما السّلام : أنا لكنّ به . فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصّورين ، وسمّت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها ، فوافاهنّ عمر على راحلته ، فحّدثهنّ حتى أضاء الفجر...) الأغاني ، ج 1 - ص 146 - 147

هذا كلام لا ينبغي نسبته لبنات آل الرسول وهو من الاكاذيب، وحاشا سكينة من ذلك.

لقد كانت سكينة مثالا للعفة والطهارة ، قال الصحابي سهل بن سعد يصف الحال حين جاءوا بسبايا كربلاء إلى الشام : ( ورأيت نسوة مهتكات ، فجعلت انظر إليهن متأسفا ، فأقبلت جارية على بعير ، بغير وطاء ولا غطاء ، عليها برقع خز ، وهي تنادي : يا أخي ، يا خالي ، يا أبي ، يا جدي ، يا جدتي ، وامحمداه ، واعلياه ، واحسيناه ، واعباساه ، هلكت عصابة محمد المصطفى ، على يدي أبي سفيان وعتبة . قال سهل : فجعلت أنظر إليها ، فصاحت بي صيحة عظيمة ، وقالت : ويلك يا شيخ أما تستحي من الله تتصفح وجوه بنات رسول الله ؟ ! فقلت : والله يا مولاتي ما نظرت إليكم إلا نظر حزن وأنا مولى من مواليكم . فقالت : من أنت ؟ فقلت : أنا سهل بن سعد ، قد رأيت جدك رسول الله من أنت رحمك الله ؟ قالت : أنا سكينة بنت الحسين . ثم التفت ، فرأيت زين العابدين ، فبكيت ، وقلت : يا مولاي أنا من شيعتكم ، وقد استمنيت أن أكون أول قتيل قتل بين يدي أبيك هل من حاجة ؟ فقال : معك شئ من المال ؟ قلت : نعم ، ألف دينار وألف درهم ، فقال : ادفع منها شيئا إلى حامل الرأس ، وسله أن يبعد الرأس من بين يدي الحرم ، فتشتغل الناس بالنظر إليه عن حرم رسول الله ، وأن يحملنا في طريق قليل النظارة ، فقد أوذينا من أوغاد الناس) مدينة المعاجز،هاشم البحراني، ج4 ص 109 ـ 110

ـ سُئل العلامة الحلي (ت 726هـ) : (ما يقول سيدنا الإمام العلامة فيما ينقل عن سكينة بنت الحسين عليه السلام أنها كانت تراجع الشعراء وتكلمهم وتخبرهم ، فهل هذا صحيح أم لا ، وهل كانت تخاطبهم مشافهة أو على لسان أحد ، وفي فاطمة بنت الحسين عليه السلام هل صح أنها تزوجت بعبد اللَّه بن عمر وابن عثمان ، فان ذلك نقلا شائعا ويقولون أنها ولدت منه محمد الذي يكني بالديباج ، فهل هذا صحيح أم لا؟

الجواب: لا يجوز أن ينسب أحد من الذرية إلى ارتكاب محرم متفق على تحريمه ، واسناد النقص إلى الرواة أولى من إسناده إليهم عليهم السلام ) أجوبة المسائل المهنائية ، ص 39

ـ قال ابن قتيبة : ( وأما « إبراهيم بن عبد الرحمن ـ بن عوف ـ » ، فكان سيد القوم ، وكان قصيرا ، وتزوّج « سكينة بنت الحسين » ، فلم يرض بذلك بنو هاشم ، فخلعت منه ) المعارف ، ص 237

ونص ابن قتيبة يدل على أن لبني هاشم رأيا في تزويج بناتهم وهذا هو الصحيح، ونراهم يرفضون تزويج سكينة من إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فكذلك هم يرفضون تزويج سكينة من أحد ابناء الزبير مع ظهور عداوتهم وبغضهم لأهل البيت ع على افتراض تقدم الزبير للزواج منها.

ـ لو افترضنا صحة ما يُقال ، فإن الزواج من ظالم أو فاسق يجوز ما دام ظاهره الإسلام ولا يدل بالضرورة على المحبة وتدين صاحبه، فقد يكون رجل له سلطة وسطوة ، فيخشاه الناس ويزوجوه بناتهم إذا طلب منهم ذلك، هذه آسية امرأة فرعون، من نساء اهل الجنة وأفضلهن بعد فاطمة وخديجة ومريم ع، كانت متزوجة من كافر يدعي الألوهية، قال تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) التحريم، 11

نخلص بعد هذا السرد إلى عدم صحة هذا الزواج، لعدم ثبوته في المصادر الإمامية بسند معتبر.

2023/03/20

سجود استثنائي: لماذا سمي الإمام زين العابدين بـ ’السجّاد’؟
إن لقب "السجاد" من أشهرِ ألقابه (عليهِ السلام) وكلمة "السجاد" هي صيغة مُبالغةٌ، فكل إنسان يسجد هو ساجد، ولكن الإمام (عليهِ السلام) كانَ مُلَقَباً بالسجاد لكثرةِ سجوده!

[اشترك]

قال الباقر (عليه السلام): (إن أبي علي بن الحسين ما ذكر لله عز وجل نعمة عليه إلا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل فيها سجود إلا سجد، ولا دفع الله عز وجل عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد، ولا وُفّق لإصلاحٍ بين اثنين إلا سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسمي السجاد لذلك).

إن الإنسان عادةً يسجد في موضعين، هما: الصلاة الواجبة، وسجدة الشُكر بعد الانتهاء من الصلاة.

ولكن الإمام زين العابدين (عليهِ السلام) يعلمنا كيف نكونَ من الساجدين، كي تنطبق علينا هذه الآية المباركة: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾..

فالسجود حالةٌ ملازمةٌ للمؤمن، ولكن سجودنا نحنُ سجودٌ بَدني أما الإمام فلهُ سجودٌ من نوعٍ آخر، حيث أنه كان يعيشُ حالة من المعراجية في سجوده!.

فقد ورد في الحديث الشريف: أن (الصلاةُ معراج المؤمن)

ولكن في خصوص السجود، هُنالكَ معراج في معراج، وهو ما يؤكده قول الإمام الصادق (عليه السلام):

(أقرب ما يكون العبد إلى الله، وهو ساجدٌ باكٍ)!

*مقتطف من محاضرة لسماحة الشيخ حبيب الكاظمي
2023/02/26

هل شارك الإمام علي (ع) في حروب الخلفاء الثلاثة؟
الثابت تاريخياً أن الإمام علياً عليه السلام أشار على الخليفة الثاني في فتح بلاد فارس وفتح فلسطين، وذكر مجموعةً من الإرشادات والضوابط الإدارية والميدانية في تحقيق الفتح في هاتين الجهتين.

[اشترك]

والوجه في ذلك أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام  وإن لم تكن خلافة ما سواه موافقةً لأمر السماء إلا أن مقتضى إمرته للمؤمنين وولايته على المؤمنين وكونه الإمام المنصوص عليه من قبل الله عز وجل تحمله لمسؤولية حفظ الإسلام وإعزاز كيان الإسلام ودولتهن وحيث رأى  أن في فتح هذين البلدين إعزازاً للإسلام وتشييداً لسعة دولة الإسلام لذلك ذهب بنفسه إلى الخليفة الثاني ووضع هذه الخطط الإدارية والميدانية لإدارة الفتح في هاتين الجهتين، ولم يُنقل تاريخياً بمصدر صحيح أنه شارك في أي حرب من الحروب التي حصلت في أزمنة الخلفاء.

وأما الحسن والحسين فقد نقل أنهما شاركا في بعض الفتوحات ولم يثبت ذلك لنا بمصدر صحيح، لكنه لو صح فإن ذلك بأمر من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حفاظاً على إعزاز كيان دولة الإسلام، كما أمر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سلمان المحمدي بأن يتولى المدائن في عصر الخليفة الثاني؛ وذلك لثقته بعد فتح المدائن بأن الأجدر والأولى بإدارة شؤون المسلمين في تلك المنطقة هو سلمان المحمدي.

2023/02/18

كيف واجه الإمام الكاظم (ع) الإلحاد والحركات المنحرفة؟
انتشرت في عصر الإمام موسى بن جعفر الكاظم الكثير من الفرق والتيارات والمذاهب والنحل المنحرفة والضالة، وقد تصدى الإمام الكاظم لها من خلال بيان منهج أهل البيت المستقيم، وتوضح انحرافات بعض الفرق والمذاهب التي قامت على أسس مخالفة لخط الإسلام الأصيل.

[اشترك] 

وقد اعتمد الإمام الكاظم في التصدي للتيارات والفرق المنحرفة كالزنادقة والملاحدة وغيرهم على مناظرتهم ومحاورتهم بالأساليب العلمية القوية التي ينهزم أمامهم أصحب الفكر السقيم، ويعود بعضهم إلى الحق، كما اتبع الإمام الكاظم الاقناع بأدوات العقل والبديهة، وهو الأمر الذي لا سبيل لإنكاره من قبل أصحاب الأفكار المنحرفة.

ومن أهم الفرق والتيارات المنحرفة التي انتشرت في عهد الإمام الكاظم، والتي كان لها أتباع وأنصار تيار الإلحاد.

فقد انتشرت في عهد الإمام موسى الكاظم الحركة الإلحادية، وأخذت تدعو إلى التفسخ والتحلل من الأخلاق والدين، وإنكار الخالق تعالى، أو وجود بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، وعدم الإيمان بالأنبياء والرسل والأوصياء، وإنكار المعاد. وأخطر أشكال الإلحاد هو نكران وجود الله تعالى وهي الفكرة التي ترتكز عليها الشيوعية ومختلف أنواع التيارات الملحدة.

وقد تكاثرت الدعوة إلى الإلحاد والزندقة في العصر العباسي الأول، وتبنت أفكار الإلحاد والانحراف والزندقة مجموعة من التيارات الملحدة، ومنها:

1 - المانوية:

أصحاب «ماني بن فاتك» الحكيم، الذي ظهر في زمان «سابور بن أردشير» وقتله «بهرام بن هرمز بن سابور» وذلك بعد عيسى ابن مريم أحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح ولا يقول بنبوة موسى.

حكى «محمد بن هارون» المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذاهب القوم؛ أن الحكيم «ماني» زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور، والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا، ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين، حساسين، دراكين، سميعين، بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان. وفى الحيز:

متحاذيان تحاذى الشخص والظل 1 .

وقامت المانوية ببث الحركات الإلحادية في العصر العباسي، وكان من أعلامها ابن المقفع، فقد قام بترجمة كتب ماني، وابن ديصان، ومرقيون من الفارسية إلى العربية.

كما وضع كتاباً يبشر بالمانوية، ويحمل فيه على المبادىء الإسلامية، وقد افتتحه باسم النور الرحمن الرحيم.

وقال المهدي: ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع 2 .

وكانت المانوية من أكثر الأفكار الإلحادية انتشاراً في العصر العباسي الأول، وكان لها دعاة يروجون لها في مقابل الفكر الإسلامي، فبالرغم من ان المانوية تأسست قبل الإسلام بثلاثة قرون، إلا أن وجود أشخاص يدعون لها، وينشرون أفكارها بين المسلمين، ساهم في انتشارها بين البسطاء من الناس.

2 - المزدكية:

أصحاب «مزدك» ومزدك هو الذي ظهر في أيام «قباذ» والد «أنو شروان» ودعا «قباذ» إلى مذهبه، فأجابه، واطلع «انو شروان» على خزيه وافترائه، فطلبه فوجده فقتله.

حكى الوراق: أن قول المزدكية كقول كثير من المانوية في الكونين والأصلين؛ إلا أن مزدك كان يقول: إن النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق، والنور: عالم حساس، والظلام:

جاهل أعمى. وأن المزاج كان على الاتفاق والخبط لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار.

وكان «مزدك» ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة، والقتال ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء، والنار، والكلأ.

وحكى عنه: أنه أمر بقتل الأنفس ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة، ومذهبه في الأصول والأركان أنها ثلاثة: الماء، والأرض، والنار. ولما اختلطت حدث عنها مدبر الخير، ومدبر الشر، فما كان من صفوها فهو مدبر الخير، وما كان من كدرها فهو مدبر الشر3 .

وقد انتشرت هذه الفرقة في العصر العباسي الأول، لأنها تدعو للتحلل من الالتزامات الدينية، والقيم الاجتماعية، وتدعو للتحرر من كل القيود الأخلاقية، وتنكر القيم الدينية، فاعتنقها خلق من الناس للانسياق مع شهواتهم وأهوائهم، والتخلص من التزاماتهم الدينية.

3 - الزرادشتية:

وهم القائلون بأن في عالم الكون أموراً توصف بالخير والبركة، كما أن هناك أموراً توصف بالشرور والبلايا؛ فلا يصح إسناد كلا الصنفين من الأفعال إلى الخالق الحكيم، فيجب الاعتقاد بأن خالق الخير غير خالق الشر. وقد اخترعوا عقيدة خيالية وهي: إن الخير موجود يدعى ب‍ «يزدان» كما إن خالق الشر موجود يدعى ب‍ «أهريمن» وكلا الخالقين مخلوق لله سبحانه. وبهذه الفرضية الخيالية، تمكنوا من إقناع أنفسهم بحل مشكلة الشرور والبلايا في صفحة الوجود4 .

ويرى «زرادشت» أن الروح لا تفنى، وأنها تنعم أو تشقى بلذائذ الحياة، وأن محنتها ثلاثة أيام بعد الموت، وبعد ذلك تحملها الرياح حتى تصل إلى الصراط وتحاكم هناك ثلاثة أيام، والأرواح الخيرة تمضي إلى الجنة والأرواح الشريرة تساق إلى النار.

وقد راجت الزرادشتية في العصر العباسي الأول، واعتنقها خلق من البسطاء المغرر بهم، وقد عملت على محاربة القيم الإسلامية، وتفكيك الروابط الاجتماعية، وتحلل المسلمين من الخلق والآداب الإسلامية.

وعلى أي حال، فإن هذه المبادئ التي انتشرت في العصر العباسي تكشف لنا بوضوح عن الفراغ العقائدي، وضحالة التفكير، وسيادة الجهل، وعدم إحاطة المسلمين بواقع دينهم الذي يدعو إلى اليقظة الفكرية، والتحرر من جميع رواسب الجهل والجمود5 .

وقد كان للزرادشتية أنصار يدعون لها في العصر العباسي، وهو الأمر الذي جعل بعض الناس يتبعونها رغم وضوح عدم صحة الأفكار التي تدعو إليها، إلا أنه عادة إذا ما وجدت أي دعوة أو فرقة أو تيار من يدعو إليه، بحماس ونشاط، وكانت الأجواء السياسية والاجتماعية مساندة لنموها، فسرعان ما نجد من يتبعها ويسايرها، بل ويدعو إليها.

وكان من أبرز دعاة الإلحاد والزندقة في العصر العباسي وأشهرهم «يزدان بن باذان» الذي عرف بالكفر والزندقة.

وكان من أعلام الإلحاد: بشار بن برد، الذي تمادى في الدعوة إلى الكفر والإلحاد، وكان يدعو إلى عبادة النار! وكان مصراً على عقيدته حتى قتل بسببها.

وكان من أعلام الإلحاد والزندقة: صالح بن عبد القدوس، وكان من كبار الزنادقة، وقد أمر المهدي بقتله لزندقته.

ومن أعلامهم الحمادون الثلاثة: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد الزبرقان. ومنهم أيضاً: ابن المقفع، ويونس بن أبي مزوة، ومطيع بن أياس، وعبدالكريم بن أبي العوجاء، وعلي بن الخليل، ويحيى بن زياد الحارثي.

وقد أشار المترجمون لسيرتهم إلى بدعهم وأضاليلهم التي تدل على كفرهم وزندقتهم، ومروقهم من الدين. يقول العلامة الشيخ باقر شريف القرشي «رحمه الله»: «عمد هؤلاء الملحدون إلى إفساد المجتمع الإسلامي، وإشاعة الفوضى والتحلل بين المسلمين، كما عمدوا إلى تشويه الإسلام، وذلك بافتعال الأخبار الكاذبة التي تحط من كرامة الإسلام، وقد اعترف عبد الكريم بن أبي العوجاء بذلك، فقد صرح قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام، فقال: «لئن قتلتموني فلقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوب».

وعملوا على إفساد الأدب العربي وتشويهه، وقد قام بذلك خلف الأحمر وحماد الرواية.

ويقول عنه السيد المرتضى: «إن حماد مشهور بالكذب في الرواية، وعمل الشعر وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسه في أشعارهم، حتى أن كثيراً من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعته، فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم».

وهكذا استهدفوا إفساد الدين واللغة وسائر مقومات الأمة العربية والإسلامية، ووقف المد الإسلامي من الانتشار في ربوع العالم» 6 .

لكن يجب أن نشير إلى نقطة هامة جداً هنا وهي: إن الاتهام بالزندقة والكفر والإلحاد لم يكن دائماً اتهاماً حقيقياً؛ بل كان في بعض الأحيان يستخدم لأهداف سياسية، فقد استخدم بعض حكام بني العباس الاتهام بالزندقة كوسيلة للقضاء على الخصوم من الهاشميين وغيرهم من المعارضين لحكمهم، لذلك يجب التمييز بدقة بين الزنادقة والملاحدة الذين تبنوا هذا الفكر وأولئك الذين ألصقت بهم تهمة الزندقة للقضاء على الخصوم السياسيين.

مواقف الإمام الكاظم من التيارات الملحدة

اتخذ الإمام موسى بن جعفر الكاظم مواقف حازمة تجاه الملاحدة والزنادقة، وتبيين فساد معتقداتهم وانحرافاتهم العقائدية والفكرية، وذلك بالمنطق العلمي، واتباع المنهج العلمي في الرد عليهم، وبيان انحرافاتهم، كما كان للإمام الكثير من المواقف في التبرؤ منهم، ولعنهم، وتحذير المسلمين من التأثر بهم، وأهمية الابتعاد عنهم، وعدم مجالستهم أو مؤاكلتهم أو مناكحتهم؛ حتى لا يتأثروا بفكرهم المنحرف.

وقد ذكر العلامة الطبرسي في كتابه القيم الاحتجاج، بعض احتجاجات ومناظرات الإمام الكاظم مع الزنادقة والملاحدة، والتي بينت زيف وضعف أفكارهم، ورد الشبهات التي كانوا يبثونها بين الناس، وخصوصاً في الحقل العقائدي والكلامي.

وبهذه المواقف الحازمة من التيارات الملحدة دافع الإمام الكاظم عن العقيدة الإسلامية الصحيحة، ورد شبهاتهم وانحرافاتهم، وأنقذ المسلمين من فساد أفكارهم ومعتقداتهم الباطلة.


الهوامش: 1. الملل والنحل، الشهرستاني، المكتبة العصرية، بيروت، طبع عام 1428 هـ - 2007 م، ج1، ص209. 2. موسوعة سيرة أهل البيت: الإمام موسى بن جعفر، باقر شريف القرشي، دار المعروف، قم، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م، ج 29، ص 129 - 130. 3. الملل والنحل، الشهر ستاني، المكتبة العصرية، بيروت، طبع عام 1428 هـ - 2007 م، ج1، ص 213. 4. الإلهيات، الشيخ جعفر السبحاني، الدار الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989 م، ص401. 5. موسوعة سيرة أهل البيت: الإمام موسى بن جعفر، باقر شريف القرشي، دار المعروف، قم، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م، ج 29، ص132. 6. موسوعة سيرة أهل البيت: الإمام موسى بن جعفر، باقر شريف القرشي، دار المعروف، قم، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م، ج 29، ص135.
2023/02/16

هل تبحث عن كتب تتحدث عن حياة المعصومين (ع)؟
كثيرةٌ هي الكتب التي تتحدَّثُ عن حياة المعصومين – عليهم السَّلام – ومنها القديمة ومنها الحديثة، ومنها ما يتحدَّثُ عن حياتهم كمجموعة، ومنها ما يتحدَّثُ عن حياتهم كأفراد، ومنها ما يكون في مناقبهم عامَّة، وأخرى ما يكون في معاجزهم خاصَّة، وفيها ما تناول أحاديثَهم وحكمهم وأقوالهم، وفيها ما فيه غير ذلك.

[اشترك]

وهناك كتب متخصصة في وقائع معيَّنة من حياة المعصومين – عليهم السلام – كمعاركهم وحروبهم وحيواتهم كالسير النبويَّة، وككتب "الجمل -النّصرة لسيد العترة" و " مقاتل الحسين – عليه السلام" وغير ذلك.

وهناك كتبٌ تخصَّصت في مكاتيبهم – عليهم السَّلام - ومن الكتب ما سطرها مؤلّفوها للذود عن حياض الولاية والكفاح عن حريم الإمامة، فهي - على نحوٍ ما - تُعدُّ من كتب السيرة بهذا المقدار؛ لأنَّها تُسلّط الضوء على جانبٍ من حقوقهم التي كانت لهم في حياتهم ولزمتهم بعد استشهادهم.

كتبٌ في المعصومين بأقلام الآخرين

ومن هذه الكتب ما ألَّفه غيرُ علماء الشيعة، وهذه تكون قراتُها غير صحيحةٍ بالمرَّة لحياة المعصوم – عليه السَّلام – لأنها تفتقد الشرط الأهم للكتابة في حياة المعصوم – عليه السَّلام - ألا وهو النظرة لحياته من خلال منظار العصمة، فهي تكتب عنه إما بعنوان الصحابيّ كما في أمير المؤمنين والزهراء والسبطين – عليهم السلام، أو كونه من التَّابعين كما في الإمام زين العابدين – عليه السَّلام – أو صاحب مدرسةٍ ومذهبٍ فقهيٍّ في قبال المدارس والفقهاء الآخرين كما كُتِب عن حياة الإمام الصادق – عليه السلام -.

وما يُخيَّل للبعض أن بعض دراساتهم موضوعية فتلك قراءةٌ تاريخيَّة تعتمد على رؤية المؤلّف للأحداث وتحليله لها من خلال هذه الرؤية غير المُتحيزة، ولكنَّ غير المتحيز – لو أحسنَّا به الظنَّ مادام لا يأخذ عصمة المعصوم بنظر الاعتبار – فمن الممكن جداً أن يقع في خطأ التحليل.

نعم، هناك بعضٌ من كتبهم القديمة التي تُعدُّ مصادر تصلح للاحتجاج عليهم وإلزامهم بما في مضمونها، فيحسن مطالعتها من هذا الجانب لا أكثر.

أما كتب علمائنا فهي تكتب عن المعصوم من خلال كونه معصوما مستهدين بمصابيح تعاليمهم، مستنطقين بيانات أحاديثهم.

وهذا سردٌ للكتب التي تناولت حياة المعصومين عليهم السلام، على نحو المجموع، أو الأفراد، سيرةً، وأحاديث، وكتباً، ورسائل ومعاجز، وكراماتٍ، وأخلاقاً، وعقيدةً وردَّ شبهة، والنّصوص الدَّالَّة عليهم، وطبّهم، وأدعيتهم؛ ليكون النَّفع أعم والفائدة أتمّ.

قائمة الكتب

كتاب سليم بن قيس الهلالي، وهو من المؤلَّفات التاريخيَّة القديمة التي أصحرت بظلامة أهل البيت - عليهم السَّلام -

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد للشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي.

الجمل و النصرة لسيد العترة في حرب البصرة، للشيخ المفيد أيضاً.

علام الورى بأعلام الهدى، للشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي

مناقب آل أبي طالب - للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن شهرأشوب السروي المازندراني

موسوعة عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الأيات والأخبار والأقوال ، ومستدركاتها.للشيخ عبدالله بن نور البحراني.

بحار الأنوار - خصوصاً المجلَّدات المتعلّقة بسيرة المعصومين - عليهم السّلام - للشيخ محمد باقر المجلسيّ.

إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات -للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي.

مدينة المعاجز المؤلف: السيد هاشم البحرانيّ

السيرة النَّبوية برواية أئمَّة أهل البيت - عليهم السَّلام - للشيخ علي دعموش العامليّ.

السيرة النبوية برواية أهل البيت - عليهم السلام - للشيخ علي الكوراني العامليّ.

الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم - صلى الله عليه وآله - للسيد جعفر مرتضى العامليّ

خاتم النبيين - صلى الله عليه وآله - الإدارة، الثقافة البيانية، المبادئ · المؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم

سيد المرسلين - صلى الله عليه وآله - دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية، للشيخ جعفر السبحانيّ

في رحاب الرسول - صلى الله عليه وآله - للشيخ محمد حسن آل ياسين

سيرة المصطفى - صلى الله عليه وآله - "نظرة جديدة" للسيد هاشم معروف الحسينيّ

مكاتيب الرسول - صلى الله عليه وآله - للشيخ علي الأحمدي الميانجي

البشرى ببعثة البشير. للشيخ عبد الواحد المظفر

حياة المحرر الاعظم الرسول الاكرم محمد - صلى الله عليه وآله - للشيخ باقر شريف القرشى

الحق المبين في معرفة المعصومين للشيخ علي الكورانيّ من بحوث الشيخ الوحيد الخراسانيّ

أهل البيت -عليهم السلام- تنوع أدوار ووحدة هدف، للسيد محمد باقر الصدر

مكاتيب الأئمة - عليهم السلام - - للشيخ علي الأحمدي الميانجي

الصحيح من سيرة الإمام علي - عليه السلام - "المرتضى من سيرة المرتضى" للسيد جعفر مرتضى العاملي.

الإمام علي - عليه السلام - من المهد إلى اللحد، للسيد محمد كاظم القزويني

مناهج حكومة الإمام أمير المؤمنين -عليه السلام - للشيخ باقر شريف القرشي

عليٌّ - عليه السَّلام - إمام البررة، نظم السيد الخوئيّ، شرح السيد محمد مهدي الخرسان

الغدير في الكتاب والسُّنَّة للشيخ أحمد عبد الحسين الأمينيّ

المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدّين

موسوعة سيرة أهل البيت - عليهم السلام - الإمام علي بن أبي طالبٍ - عليهما السَّلام - للشيخ باقر شريف القرشي

صوت الإمام علي - عليه السلام - في نهج البلاغة للسيد حسن القبانجي

ولأي الأمور تُدفن سراً بضعة المصطفى ويُعفى ثراها، للسيد مرتضى الرضوي

مأساة الزهراء للسيد جعفر مرتضى العاملي

خلفيات كتاب "مأساة الزهراء" للسيد جعفر مرتضى العاملي

إشراقات فكرية في شرح الخطبة الفدكية للشيخ حبيب الهديبي

حياة الزهراء - عليها السلام - بعد أبيها الرسول - صلى الله عليه وآله - للشيخ فضل علي القزويني

سيرة الأئمة الاثني عشر - عليهم السلام - للسيد هاشم معروف الحسني

سيرة الأئمة الاثني عشر - عليهم السلام - للشيخ محمد حسن ال ياسين

قادتنا كيف نعرفهم؟ للسيد محمد هادي الحسيني الميلانيّ

صلح الإمام الحسن - عليه السلام - للشيخ راضي آل ياسين

حياة الإمام الحسن بن علي - عليهما السلام - للشيخ باقر شريف القرشي

سيرة الإمام الحسن - عليه السلام - في الحديث والتاريخ للسيد جعفر مرتضى العاملي

ثورة الإمام الحسن - عليه السلام - لسيد محمد الحسيني الشيرازي

الحسن بن علي - عليهما السلام - رجل الحرب والسَّلام - للسيد محمد علي الحلو

فاجعة الطف للسيد محمد سعيد الحكيم

سيد الشهداء - عليه السلام - للسيد عبد الحسين دستغيب

السياسة الحسينية للشيخ عبد العظيم الربيعي رحمه الله.

مقتل الإمامِ الحسين - عليه السلام - للسيد عبد الرزاق المقرَّم المقرم رحمه الله.

مع الركب الحسينيّ في ستة أجزاء لستة مؤلفين.

اتفاق الحسن وكربلاء الحسين - عليهما السلام - للشيخ عبد العزيز المصلي،

- الإمام الحسين - عليه السلام - وأصحابه للشيخ فضل علي القزويني.

رجوع الركب بعد الكرب للسيد محمد علي القاضي الطباطبائي.

السياسة الحسينية للشيخ محمد كاشف الغطاء

مقتل الإمام الحسين عليه السلام للسيد محمد تقي بحر العلوم

الثورة الحسينية جذورها ومعطياتها للسيد حسين بحر العلوم

نافذة على التاريخ في ربع قرن، للسيد محمد مهدي الخرسان، يتناول حياة الأئمة الثلاثة الأوائل

حياة الامام زين العابدين عليه السلام، للسيد عبد الرزاق المقرَّم

جهاد الإمام السجاد - عليه السلام - للسيد محمد رضا الجلالي

الإمام زين العابدين: صاحب الصحيفة الربانية وحامل الآلام المضيئة، للسيد هادي المدرسي

حياة الإمام زين العابدين ؛ دراسة وتحليل للشيخ باقر شريف القرشي

شرح رسالة الحقوق، للسيد حسن القبانجيّ

الإمام محمد الباقر - عليه السلام- قدوة و أسوة، للسيد تقي المدرسي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل، للشيخ باقر شريف القرشي

الإمام محمد بن علي خامس الوصيين و باقر علم النبيين عليه السلام، يوسف فخر الدين

معالم مشعّة من حياة الإمام الباقر عليه السلام، للدكتور حسين إبراهيم الحاج حسن

الإمام الصادق - عليه السلام - والمذاهب الأربعة، للشيخ أسد حيدر

الإمام الصادق - عليه السلام - من المهد إلى اللحد للسيد محمد كاظم القزويني

الأخلاق عند الإمام الصادق - عليه السلام - للشيخ محمد أمين زين الدين

الإمام جعفر بن محمد الصادق - عليهما السلام - للشيخ محمد الحسين المظفر

في رحاب الإمام الصادق - عليه السلام - للشيخ فوزي آل سيف

موسوعة الإمام الكاظم - عليه السلام - للسيد محمد الحسينيّ القزوينيّ

القول المعتبر في مولد الإمام موسى بن جعفر - عليهما السلام - ، للسيد محمد باقر موحد الأبطحي

الإمام موسى الكاظم - عليه السلام - وعيٌّ و تربيةٌ ونضال، للسيد مهدي الحسيني

فرحة الأعاظم بمولد الكاظم -عليه السلام - للشيخ أمين حبيب آل درويش

حياة الامام موسى بن جعفر - عليهما السلام- دراسة وتحليل، للشيخ باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام الرضا - عليه السلام - للسيد محمد الحسيني القزويني

الرّضا -عليه السلام - والمأمون و ولاية العهد، للسيد حسن الأمين

الإمام علي الرضا وولاية العهد، اسحق شاكر العيشى

حياة الإمام الرضا - عليه السلام - للشيخ باقر شريف القرشي

الحياة السياسية للإمام الرضا - عليه السلام - للسيد جعفر مرتضى العاملي

الإمام الجواد - عليه السلام - من المهد إلى اللحد للسيد محمد كاظم القزويني

موسوعة الإمام الجواد - عليه السلام - بإشراف الشيخ إبي القاسم الخزعلي

حياة الإمام الجواد - عليه السلام - دراسةٌ وتحليل، للشيخ باقر شريف القرشي

الإمام الجواد - عليه السلام - سيرةٌ وتاريخ، للسيد عدنان الحسينيّ

الإمام الجواد - عليه السلام - الإمامة المبكرة وتداعيات الصراع العباسي للسيد محمد علي الحلو

في رحاب الإمامين الجواد والهادي - عليهما السلام - للشيخ فوزي آل سيف

حياة الإمام الهادي - عليه السلام - دراسة وتحليل للشيخ باقر شريف القرشي

الإمام الهادي - عليه السلام - من المهد إلى اللحد للسيد محمد كاظم القزويني

حياة الإمام الهادي - عليه السلام - للشيخ محمد جواد طبسي

الإمام علي الهادي - عليه السلام - سيرة وتاريخ،علي موسى الكعبي

الحياة السياسية للإمامين العسكريين - عليهما السلام - للشيخ محمد السند

الإمام العسكري - عليه السلام - من المهد إلى اللحد للسيد محمد كاظم القزويني

موسوعة الإمام العسكري - عليه السّلام - بإشراف الشيخ أبي القاسم الخزعلي

حياة الإمام العسكري - عليه السلام - للشيخ محمد جواد الطبسي

حياة الإمام العسكري - عليه السلام - للشيخ باقر شريف القرشي

إلزام النَّاصب في إثبات الحجة الغائب للشيخ علي اليزدي الحائري

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي الكلبيكاني

من هو المهدي - عليه السلام -؟ للشيخ أبي طالب التجليل التبريزي

ولادة الإمام المهدي - عليه السلام - للشيخ بشير النَّجفي

الامام المهدي (عليه السلام) بين التواتر وحساب الاحتمال. للشيخ محمد باقر الايرواني

عمر الإمام المهدي - عليه السلام - للسيد علي السبزواري

بحث حول المهدي - عليه السلام - للسيد محمد باقر الصدر

الغيبة والانتظار للسيد محمد علي الحلو

2023/02/08

لماذا نحيي ذكرى وفاة أم البنين وهي ليست من المعصومين؟ (فيديو)

كانت أم البنين تحب الحسين ( عليه السَّلام ) و تتولاه إلى حدّ كبير يفوق المألوف ، و مما يدلّ على ذلك موقفها البطولي لدى وصول خبر إستشهاد الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) إلى المدينة ، الموقف الذي لا ينمحي من ذاكرة التاريخ أبداً ، هذا الموقف الذي رفع من شأنها و منحها منزلة رفيعة في قلوب المؤمنين .

[اشترك] 


يقول المامقاني في تنقيح المقال : و يستفاد قوّة إيمانها و تشيّعها من أنّ بشراً بعد وروده المدينة نعى إليها أحد أولادها الأربعة .
فقالت ما معناه : أخبرني عن أبي عبد الله الحسين ( عليه السَّلام ) ، فلمّا نعى إليها الأربعة .
قالت : قطّعت نياط قلبي ، أولادي و مَن تحت الخضراء كلّهم فداء لأبي عبد الله الحسين ( عليه السَّلام ) ، فإنّ عُلْقَتِها بالحسين ليس إلاّ لإمامته ( عليه السَّلام ) ، و تهوينها على نفسها موت مثل هؤلاء الأشبال الأربعة إن سَلِمَ الحسين ( عليه السَّلام ) يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة ، و إنّي اعتبرها لذلك من الحسان إن لم نعتبرها من الثقات.

المزيد في الفيديو أدناه:

2023/01/06

أول مقتل للزهراء (ع) قرأه أبوها (ص)!
أعظم الله لكم الأجر بشهادة الصديقة الكبرى مولاتنا وشفيعتنا الزهراء عليها السلام.

[اشترك]

فهل تعلم أن أول ( مقتل ) متكامل يصف حالتها بعد فقد أبيها إلى حين وفاتها كان من قراءة أبيها النبي صلى الله عليه وآله، حيث بدأ ببيان فضائلها ثم مصائبها.

وهذا النص موجود في واحد من أقدم وأفخم كتبنا وهو أمالي الصدوق رضوان الله عليه، وإن المأمول من الخطباء والراوديد الكرام قراءة هذا النص في لحظات العزاء ولوعة البكاء.

وأما النص النبوي فهو على جزئين.. فضائل ورثاء:

الفضائل:

(وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية.

 متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض.

ويقول الله عز وجل لملائكته يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النار.

الرثاء:

وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتا وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسرت جنبتها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث.

فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة.

فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة "إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين" يا فاطمة "اقنتي لربك واسجدي واركعي من الراكعين ".

ثم يبتدى بها الوجع، فتمرض فيبعث الله عز وجل إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علتها، فتقول عند ذلك: يا رب إني قد سئمت الحياة، وتبرمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي، فيلحقها الله عز وجل بي فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي.

 فتقدم على محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك " اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلل من أذلها، وخلد في نارك من ضرب جنبيها، حتى ألقت ولدها " فتقول الملائكة عند ذلك آمين.

اللهم اجعلنا من الحب الجيد.. ولا تجعلنا من الحب الرديء

2022/12/27

قصة الهروب إلى الخلاص.. من هم أصحاب الكهف؟!
قصّةُ أصحاب الكهف، تَعرض نَموذجاً للإيمان في النُفوس المُؤمنة، كيف تَطمئِنُّ به، وتُؤثِرُه على زينة الأرض ومتاعها، وتَلجَأَ به إلى الكهف حين يَعُزّ عليها أنْ تَعيش به مع الناس، وكيف يَرعى الله هذه النُفُوس المُؤمنة، ويَقيها الفِتنة، ويَشملها بالرحمة.

[اشترك]

مَن هُم أصحاب الكهف؟

ما هي تلك المدينة التي هَرَب منها الفتية ولَجأُوا إلى الكهف؟

متى كان هذا الهُروب واللجوء؟

وفي القصّة روايات شتّى وأَقاويل كثيرة، فقد وَرَدَت في بعض الكُتُب القديمة وفي الأساطير بصور شتّى، ولكن يَجب الوقوف فيها عند حدِّ ما جاء في القرآن، فهو المَصدر الوحيد المُستَيقَن، ولتُطرح سائر الروايات والأساطير التي اندسّتْ في التفاسير بِلا سندٍ، وبخاصّة أنّ القرآن الكريم قد نَهى عن استفتاءِ أحدٍ فيهم، وعن المِراء والجَدل رَجماً بالغيب ﴿ ... فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ 1.

والكهف: المَغارَة الواسعة، والرقيم، قيل: إنّه مُعرَّب (أركه =  Arke) اليونانيّة أحد أسماء مدينة (بطرا) 2 هي قَصَبَة الأَنباط، كانت مدينةً صخريّةً قائمةً في مُستوٍ من الأرض، تُحيط بها الصُّخور كالسُّور المَنيع، وهي واقعة في (وادي موسى) عند مُلتَقى طُرُق القوافل بين (تدمر) و (غزّة).

وقد عَمُرَت في إبّان دولة الأَنباط وكَثُرَت فيها الأَبنية، فلمّا ذهبت الدولة تَخَرَّب مُعظمُها، وبقيَ منها إلى الآن أَطلال لا تَفنيها الأيّام ولا يؤثِّر فيها الإقليم، منها (خزنة فرعون) وهي بِناء شامخ مَنقور في صَخرٍ ورديّ اللّون، على وِجهتِه نُقُوش وكتابات بالقلم النَّبطي، وبجانبها مسرح مَنقور في الصَّخر أيضاً، ويُستطَرق مِن هناك إلى سَهلٍ واسع فيه عَشَرات من الكُهوف الطبيعيّة أو المَنقورة، ولبعضها وِجهات مَنقوشة وجُدران أَكثرُها ظُهوراً مكان يُقال له (الدير)، وكانت هذه الكُهوف مساكن الحوريّين القُدماء، ويَلجأَُ إليها اليوم بعضُ المارّة، فِراراً مِن المَطر أو البَرد.

ومدينة بطرا، أو الرقيم أنشأها الأنباط ـ في الجنوب الشرقي من فلسطين ـ مدينة عربيّة قَبْلَ القَرن الرابع قبل الميلاد، وظلّت قائِمةً إلى أَوائل القَرن الثاني بعده، إذ دَخَلت في حَوزة الرّومان سنة 106 م.

وبطرا لفظ يوناني معناه الصَّخر، وقد سُمّي البلد بذلك ؛ لأنّ مبانيَه مَنحوتةٌ في الصَّخر، واسمها القديم سَلْع وسالع، ويعني أيضاً الصَّخر، ولا زالت أَطلالُه إلى اليوم في وادي موسى في الأُردن، ويُسمّى أيضاً وادي السيق.

والعرب شاهَدوا آثارَ هذه المدينة بعد الإسلام وسَمّوها (الرقيم) وهو تعريبُ أَحد أسمائها اليونانيّة ؛ لأنّ اليونانيّين كانوا يُسمّونها أركه ـ كما تقدّم ـ فحرّفه العرب وقالوا: الرقيم 3.

وقال المقريزي في عَرْضِ كلامِه عن التَيه: (إنّ بعضَ المَماليك البحريّة هَرَبوا من القاهرة سنة 652 هـ فمرّت طائفةٌ منهم بالتَيه فَتاهوا خَمسَةَ أيّامٍ، ثُمّ تراءى لهم في اليوم السادس سوادٌ على بُعْدٍ فَقَصَدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سُور وأبواب كلّها من رُخَام أخضر، فَدَخلوا بها وطَافوا، فإذا هي قد غَلَب عليها الرَّمل حتّى طمَّ أَسواقَها ودُورَها، ووجدوا بها أواني ومَلابِس.

وكانوا إذا تَنَاولوا منها شيئاً تَناثر مِن طُول البِلى، وَوَجدوا في صينيّة بعض البزّازينَ تِسعةَ دنانير ذهباً عليها صورة غَزال وكتابة عِبرانيَة، وحَفَروا مَوضعاً فإذا حَجَر على صهريجِ ماءٍ، فشربوا ماءً أَبرد مِن الثلج، ثُمّ خَرَجوا ومَشوا ليلةً فإذا بطائفة من العُربان، فحَملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارِفة... ودفع لهم في كلِّ دينار مِئة درهم... وقيل لهم: إنّ هذه المدينة لها طُوفان رَمل يزيد تارة ويَنقص أخرى لا يراها إلاّ تائِهٌ 4.

ولعلّ في هذا الوَصْفِ اختلاطاً للحقيقة بالخيال، وأنّ المماليك شاهدوا أَطلال بطرا ـ كما احتمله زيدان ـ وَوَجَدوا الدنانير، إمّا مِن ضَرْبِ اليهود أو النبطيّينَ، وقد زَارَ المدينة غير واحد من المُستشرقينَ في القَرن الماضي (19) وقرأوا ما عليها من نقوش نبطيّة 5.

مَن هُم أصحاب الكهف؟

قد ذَكَر المُؤرِّخونَ والمُفسِّرونَ عن أهل الكهف شيئاً كثيراً، أَورده الطبري في التأريخ وفي تفسيره، ويتّفق أكثر الروايات على القول بأنّ عدداً من الفتية نَبَذوا عبادةَ الأوثان واعتنقوا التوحيدَ في مدينة (أَبْسُس) 6 ثُمّ فَرّوا مِن تلك المدينة وأَوَوا إلى كهفٍ وكان معهم كَلب عَجَزوا عن إبعاده، وناموا في هذا الكهف، ثُمّ جاء المَلِك الوَثَني داقيوس (ويُسمّى أيضاً داقينوس وداقيانوس) ومعه أَتباعُه للقبض عليهم، ولكن لم يستطع أيُّ واحدٍ منهم دُخولَ الكهفِ، فَبَنَوا عليهم بابَ الكهفِ ؛ ليموت الفتية جُوعاً وعَطشاً، ونَسيَ الناسُ أمرَهم بعد ذلك.

وفي يوم من الأيّام بَعَثَ أحدُ الرُّعاةِ برجاله وأَمَرَهم بفتحِ فَمِ الغار ليتّخذه حَظيرةً لغنمِهِ، ولمّا دخلوا لمَ يَروا أَوّل الأمر الفتيةَ الذين بَعثهم الله في الأَجل الذي ضَرَبه ليَقظَتِهم، وعندما استيقظوا كانوا لا يَزالون يَملؤُهم الفَزَعُ والرُّعبُ مِن الخَطر الذي نَجَوا منه، فَعَمدوا إلى الحِيطة وبعثوا بأَحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، ولم يَعرف بائعُ الطعام النقود التي دفعها إليه الفتى، فَسَاقَه إلى المَلِك وهناك تبيّن كلّ شيء: فقد نام الفتية ثلاثمِئة سَنة وتسعاً، وكانت الوثنيّة قد انقرضت خلال هذه المُدَّة وحلّ محلّها التوحيد، وفَرِح المَلِك بأصحاب الكهف فَرَحاً عظيماً ؛ لأنّ بَعْثَهُم أَيّدَ عقيدةً دينيّةً كان البعض يَشكّ في صحّتها، وهي أنّ الناس يُبعثون كما هم بالجَسَد والروح معاً.

ولم يَكد الفتى يعود إلى الكهف ثانيةً حتى ضَرَب الله على آذانهم مرّةً أخرى، فجاء الناس وشَيَّدوا هناك ـ على المَغارة ـ مَسجِداً، تَبرُّكاً بهم.

وهنا عدة أسئلة أخرى: ما هي تلك المدينة التي هَرَب منها الفتية ولَجأُوا إلى الكهف؟

يقول ابن عاشور: والذي ذَكَره الأكثر أنّ في بَلدٍ يُقال له: (أَبْسُس) ـ بفتح الهمزة وسكون الباء وضمّ السين، بعدها سين أخرى ـ وكان بَلداً مِن ثُغور طرسوس 7 بين حَلَب وبلاد أرمينيّة وأنطاكيّة.

قال: وليست هي (أفسس) بالفاء، المعروفة في بلاد اليونان بشُهرةِ هَيكَلِ المُشتري فيها، فإنّها من بلاد اليونان، وقد اشتبه ذلك على بعض المُؤرِّخينَ والمُفسِّرين، وهي قريبة من (مَرْعَش) 8 مِن بلادٍ أرمينيّة 9.

وأَبْسُس هذه هي مدينة (عَرْبَسُوس) 10 القديمة في (كبادوشيا)، وكانت تُسمّى أيضاً (أَبْسُس)، وتُسمّى اليوم (بربوز) 11.

فهل كانت مدينة (أَبْسُس) هذه هي المَسرح الذي وَقَعت فيه تلك الحوادث بما فيها مِن غرائبٍ؟

أمّا (ده غوى) فيُؤيِّد هذا الرأي مُعتَمِداً على براهين اسمتدّها مِن النُصوص، وفي الحقّ إنّ بعض الرَحّالة قالوا: إنّهم رَأَوا في مدينة (أَبْسُس) هذه كَهفاً كان به جُثَث ثلاثة عشر رجلاً قد يَبِسَت 12.

قال ياقوت: أَبْسُس، اسم لمدينةٍ خراب قُرب (أَبُلُسْتَين) من نواحي الروم، يُقال: منها أصحاب الكهف والرقيم، وقيل: هي مدينة دقيانوس، وفيها آثار عجيبة مع خَرابِها 13.

وفوقَ هذا فقد تَضمَّنت مجموعةُ النُصوص المُتعلّقة بتأريخ السَّلاجقة ما يَنصّ على أنّ (عَرْبَسوس) هي مدينة أصحاب الكهف والرقيم، وربّما كان اكتشاف هذه الجُثث الثلاث عشرة هو الأصل لهذا القول، ثُمّ حَرَّف الناسُ (أبسس) فيما بعد إلى (أفسس) ! 14.

وقيل: هي البتراء (بطرا) مدينة أَثريّة في الأُردن وفيها المَسرح الكبير، حسبما تَقدّم، ولعلّه المُراد فيما أُثِر عن ابن عباس، قال: الرقيم، وادٍ دونَ فلسطين قريب من أيلة 15.

متى كان هذا الهُروب واللجوء؟

والأكثر على أنّه كان بعد ظُهور النصرانيّة ولعلّه في بدايتها، كانت الدِّيانة النصرانيّة دَخَلت في تلك الجِهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأوثان على الطريقة الروميّة الشرقيّة قبل تَنْصُّر قسطنطين، فكان مِن أهلِ (أَبْسُس) نفرٌ مِن صالحي النصارى يُقاومون عبادة الأصنام، وكانوا في زَمن الإمبراطور (دقيانوس) الذي مَلَك في حُدود سنة 237 م، وكان مُتعصِّباً للديانة الرومانيّة وشديد البُغْض للنصرانيّة ؛ ولذلك تَوعَّدهم بالتعذيب، فاتّفقوا على أنْ يَخرجوا من المدينة إلى جبلٍ بينه وبين المدينة فَرسخان يقال له: (بنجلوس) أو (أنخيلوس).

وتقول الروايات: إنّ المَلِك الوَثني الذي اضطهدَ النصارى كان يُسمّى (داقيوس) الذي مَلَك مابين (249 ـ 251 م)، أمّا المَلِك النصراني الذي بُعِث الفتية في عهده فهو المَلِك (تيودوس) الثاني (408 ـ 450 م)، فتكون مدّة مُكُوثِهم في الكهف ما يَقرُب من (200) سنة، وهذا لا يتّفق مع ما وَرَد في القرآن مِن أنّ أصحاب الكهف ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ 1617.

يقول الدكتور عبد الوهّاب النجّار ـ مُعلِّقاً على ذلك في الهامش ـ: الذي أُلاحِظُه، أنّ عبارة دائرة المعارف الإسلاميّة كعبارة أكثر المُفسّرينَ، تَعتَبِر أنّ قوله تعالى ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ 16خبر عن مُدّة مَكثِ أهل الكهف في كهفهم مُنذ دَخَلوه إلى أنْ استيقظوا !

ولكنّي أفهم غير ذلك وأقول: إنّ قوله ﴿ وَلَبِثُوا ... ﴾ 16 معمولٌ لقوله ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ ... ﴾ 1فهو مِن مَقول السائلينَ وليس خبراً من الله تعالى، ولذا أُتبع ذلك القول بقوله ﴿ ... قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ... ﴾ 1، وكذا هنا أُتبع قوله ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ ... ﴾ 16بقوله ﴿ ... اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... ﴾ 18.

فالقرآن ساكت عن عَدَدِهم وكذا عن مِقدار لَبْثِهم ؛ إذ لا غَرض يترتب على الهدف الذي سَاقَه القرآن.

وقد وَرَد هذا القول عن ابن عباس وتلميذِه قتادة.

قال ابن عباس: إنّ الرجل لَيُفسّر الآية يَرى أنّها كذلك، فَيَهوي أبعد ما بين السماء والأرض !

ثُمّ تلا: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... ﴾ 16قال: لو كانوا لَبِثوا كذلك لم يَقُل الله: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ ... ﴾ 16، لكنّه حكى مَقالةَ القوم في العَدَد وفي المُدّة، وردَّ عليهم بأنّه تعالى أَعلم.

وقال قتادة: في حرف (أي قراءة) ابن مسعود: (وقالوا لبثوا في كهفهم...) يعني إنّما قالَهُ الناس، أَلا ترى أنّه قال:﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ... ﴾ 18.

وفي رواية أُخرى عنه أيضاً: هذا قولُ أهل الكتاب، فردَّ الله عليهم ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ ... ﴾ 1619.

قلت: قصّة أصحاب الكهف، حَسبما جاءت في القرآن، قصّة قديمة مُوغِلة في القِدَم، يَرجع عَهدُها إلى ما قَبلَ الميلاد، ولعلّه بقُرون، ولأنّها بقضيّة يهوديّة أشبه منها أن تكون قضيّة مسيحيّة.

روى مُحمّد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: إنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط، أَنفَذَهُما قريش إلى أَحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن مُحمّد، وَصِفا لهم صفته، وَخَبِّراهم بقوله، فإنّهم أهلُ الكتاب الأَوّل وعندهم من عِلم الأنبياء ما ليس عندنا، فَخَرجا حتّى قَدِما المدينة فَسَأَلا أَحبار اليهود عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقالا لهم ما قالت قريش.

فقالَ لهما أَحبار اليهود: اسأَلوه عن ثلاث، فإنْ أَخبَرَكم بهنّ فهو نبيّ مُرسَل، وإنْ لم يَفعل فهو رجل مُتقوِّل، فَرَأُوا فيه رأَيَكم، سَلُوه عن فتية ذَهَبوا في الدهر الأَوّل، ما كان أَمرُهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب، وسَلُوه عن رجلٍ طوّاف قد بَلَغ مَشارق الأرض ومَغاربها، ما كان نَبأُه؟ وسَلُوه عن الرُوح ما هو؟

وفي رواية أخرى: فإنْ أَخبَرَكم عن الثنتين ولم يُخبِرْكم بالروح فهو نبيّ.

فانصرَفا إلى مكّة، فقالا: يا معاشر قريش، قد جِئناكم بفَصلٍ ما بينكم وبين مُحمّد، وقصّا عليهم القصّة فجاءوا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فَسَأَلوه، فاستمهَلَهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتّى يَأتيَه الوحي، فَمَكث أُسبوعينِ حتّى نزلتْ الآيات بشأن أصحاب الكهف وذي القرنَينِ وبشأن الرُوح: إنّه مِن أَمر ربّي ولم يُبيّن 20.

وفي هذا الوصف الذي جاء في رواية ابن إسحاق، دلالة واضحة على أنّ حديث الفِتية حديث قديم يَرجع عَهدُه إلى الدهر الأَوّل، وربّما يعني ذلك: العَهد القديم السابق على عهد موسى وبني إسرائيل، فقد كان حديثاً شائعاً يَتَداولُه أبناء الأديان القديمة وتَوارَثَها المُتأخِّرون ومنهم اليهود، ولعلّه كان مِن شارات أصحاب الأديان، هي معرفة هكذا قَصَص دينيّة فيها اضطِهاد وفيها الصبر والأَناة والمقاومة تجاه الإلحاد، وفي النهاية: النصر والظَفَر... فهو حديث غَلَبة الحقّ على الباطل، وظُهور السلام على العَسْف والطغيان في أيّ زمان ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ... ﴾ 21، جاءت الآية حديثاً عن مواضع الأنبياء الظافرة.

إذن فقد كان حديث الفِتية رَمزاً قديماً لانتصار التوحيد على الشرك كلّه، وشِعارَاً لائِحاً بمَحَجّة الدِّين الظاهرة والدائِمة على مَدى الدهر.

وجاءت القصّة في الأوساط المسيحيّة بعنوان (نُوّام أَفَسُس 22 السبعة) نُشِرت لأَوّل مرّة في الشرق في كتاب سرياني يَرجع تأريخه إلى القَرن الخامس بعد الميلاد 23، وَوَردت عند الغربيّينَ في كتاب (ثيودوسيوس) 24 عن الأرض المُقدّسة. وقصّة أصحاب الكهف مشهورة ذائِعة في الآداب الشرقيّة والغربيّة على حدّ سواء 25.

غير أنّ فكرة تَقادم القصّة في أوساط سابقة على المسيحيّة، قد شَغَلت أذهان المُحقّقينَ، حتّى عَثَر بعضهم على آثار مُشابِهة في مصادر يهوديّة ويونانيّة وغيرهما، منها: قصّة (أُنياس) ـ حوني ـ التي جاءت في كتاب (تعانيت) في فُصول مِن كتاب (التلمود)، وكان قد استغرق نومُه 70 سنة.

وهكذا قصّة (هلني) والنُوّام التسعة بساردينيا، التي أشار إليه (أرسطو)، وغير ذلك مِمّا ذَكَروه بهذا الصدد 26 27.

الهوامش: 1. a. b. c. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 22، الصفحة: 296. 2. يقول عنها العرب: البَتراء، مدينة أثريّة في الأُردن، هي سَلْع القديمة أو الصخرة، أَهم آثارها قَصرُ فرعون والبوّابة الأثريّة والمَسرح الكبير وقبور بيترا وهيجرا. 3. العرب قبل الإسلام، ص 83 ـ 84. 4. الخطط المقريزيّة، ج 1، ص 376. 5. العرب قبل الإسلام، ص 85. 6. بلدة رومانيّة من ثغور طرسوس بين حلب وأنطاكية. 7. مدينة في جنوبيّ تركيا الآسيويّة (قيليقيا)، وفيها وُلِد بولس وَفَتَحها المأمون سنة 788 م وفيها دُفن. 8. مدينة في جنوب تركيا على حدود سوريّة. 9. تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، ج 15، ص 21. 10. عَرْبَسُوس: بلد من نواحي الثُغور قُرب المِصْيَصة (مدينة على شاطئ نهر جيحان قُرب طَرَسوس ـ تركيا). 11. دائرة المعارف الإسلاميّة المُتَرجَمة، ج 2، ص 242. 12. ليس في ذلك دليل ؛ لأنّ العُثور على جُثَث مُتَيبِّسة في الكُهوف، كان أمراً شائِعاً ذلك العَهد، وَوُجِد من ذلك الكثير وليس هذا وحده. 13. مُعجم البُلدان، ج 1، ص 73. 14. دائرة المعارف الإسلاميّة المُتَرجَمة، ج2، ص 243. 15. الدُرّ المنثور، ج 5، ص 362. وأيلة: ميناء أُردني في شمال العَقبة على البحر الأحمر يقوم على أنقاض أيلة الرومانيّة. 16. a. b. c. d. e. f. g. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 25، الصفحة: 296. 17. راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المُتَرجَمة، ج 2، ص 242. 18. a. b. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 26، الصفحة: 296. 19. الدرّ المنثور، ج 5، ص 379. 20. مجمع البيان، ج 6، ص 451 ـ 452. 21. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 18، الصفحة: 323. 22. مدينة قديمة في آسيا الصُغرى على بحر إيجة، تقع أنقاضها بالقُرب مِن (سلجوق) الحاليّة (تركيا)، كانت مركزاً تجاريّاً عامراً مُنذ القَرن الثامن قبل الميلاد. 23. نُشِرت على يد الأُسقف السرياني يعقوب السروجي (451 ـ 521 م) شاعر سرياني كبير، وُلِد في (كرتم) (ما بين النهرين) ودَرَس في مدرسة (الرها) الشهيرة، أُسقف بطنان المونوفيزي 519. 24. بطريرك الإسكندريّة (535 ـ 566 م)، كان مونوفيزيّاً فَنُفي إلى القسطنطينيّة 537، له مؤلّفات دينيّة. 25. راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المُتَرجَمة، ج 2، ص 243. 26. راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكُبرى للبجنوردي، ج 9، ص 141. 27. شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم، تأليف: الأُستاذ محمّد هادي معرفة، تحقيق: مؤسّسة التمهيد ـ قم المقدّسة، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ص 461 ـ 468.
2022/12/25

أين كان الإمام علي (ع) عندما هاجموا الدار وضربوا فاطمة (ع)؟
أوّلاً: وقوع الحادثة بعد دفن النبيّ (صلى الله عليه وآله): إن جملة من الروايات الواردة في حادثة الهجوم على دار السيّدة الزهراء (عليها السلام) واضحة في أنّ الحادثة وقعت بعد تجهيز وتغسيل ودفن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

[اشترك]

 من جملتها:

ما رواه سليم بن قيس الهلاليّ في [كتابه ص249]، عن عبد الله بن عبّاس قال: « توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم توفي، فلم يوضع في حفرته حتّى نكث الناس وارتدّوا وأجمعوا على الخلاف، واشتغل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته، ثمّ أقبل على تأليف القرآن، وشغل عنهم بوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن همّته الملك؛ لما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره عن القوم، فافتتن الناس بالذين افتتنوا به من الرجلين، فلم يبقَ إلا عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير. فقال عمر لأبي بكر: يا هذا، إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته، فأقسم عليه فجلس، ثم قال: يا قنفذ، انطلق فقل له: أجب أبا بكر، فأقل قنفذ فقال: يا علي، أجب أبا بكر، فقال علي (عليه السلام)، إني لفي شغل عنه، وما كنت بالذي أترك وصية خليلي وأخي وأنطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور. فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر، فوثب عمر غضبان، فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً، ثم أقل حتى انتهى إلى باب علي، وفاطمة (عليهما السلام) قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)... إلى آخره ». ومنها: ما رواه الطبريّ الإماميّ في [المسترشد ص381] عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: « لمّا خرج أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) من منزله، خرجت فاطمة (عليه السلام) والهة، فما بقيت امرأة هاشمية إلّا خرجت معها حتى انتهت من القبر، فقالت: خلوا عن ابن عمي، فوالذي بعث محمداً بالحق لئن لم تخلوا عنه، لأنشرن شعري، ولأضعن قميص رسول الله ت الذي كان عليه حين خرجت نفسه ـ على رأسي، ولأصرخن إلى الله، فما صالح بأكرم على الله من ابن عمي، ولا الناقة بأكرم على الله مني، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي ». نعم، انتهز الغاصبون فرصة اشتغال أمير المؤمنين (عليه السلام) بتجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وغصبوا الخلافة وأخذوا البيعة من المسلمين.

وقد جاء في كتاب [الهجوم على بيت فاطمة ص484ـ 485]: « وأمّا ما توهّمه بعض الناس من وقوع الهجوم حين اشتغالهم بتجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فيرد عليه:

أوّلاً: تصريح ما ورد في الهجوم الأوّل بكونه بعد دفن النبيّ (صلى الله عليه وآله) [الاحتجاج ص73].

ثانياً: احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على القوم في الهجوم الأوّل بقوله: « أفكنت أدع رسول الله مسجّى لا أواريه وأخرج أنازع سلطانه؟». [الاحتجاج ص74]

ثالثاً: الروايات الدالة على اشتغاله (عليه السلام) حين الهجوم بجمع القرآن.

رابعاً: التصريح بمضيّ أيام في بعض الروايات. [الاحتجاج ص80] ».

وثانياً: وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدار، وتكليم الزهراء (عليها السلام) العصابة:

إنّ النصوص الواردة في حادثة الهجوم على الدار تدل على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان داخل البيت آنذاك لا خارجه، وأنّ السيدة الزهراء (عليها السلام) كان قاعدة خلف الباب عند مجيء العصابة إلى عند الباب، فلمّا اقبلوا أغلقت الباب في وجوههم، فطلبوا منها فتح الباب لإخراج أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأبَتْ ذلك عليهم وخوّفتهم وأنذرتهم، لكن القوم كانت همّتهم أخذ البيعة ولو بقتل أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وإفناء سلالته الطاهرة، فهجموا على الدار وكسروا الباب، وضربوا البضعة الطاهرة (عليها السلام) وفعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة والفظائع الشنيعة، فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخذ بتلابيب عمر وصرعه وهمّ بقتله، فذكر وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقبل عمر يستغيث.

فالفترة الزمنية ما بين كلام الزهراء (عليها السلام) معهم وبين هجومهم وفعلهم الشنائع لم تكن فترة طويلة، بل وقع الهجوم بعد الكلام مباشرة، كما أنّ مدة الحادثة لم تكن طويلة، بل قصيرة جداً، وسرعان ما خرج الإمام (عليه السلام) ووضع الرداء على الزهراء (عليها السلام)، ولنذكر بعض الروايات الواردة:

منها: ما رواه سليم بن قيس الهلالي في [كتابه ص250] عن عبد الله بن عباس قال: « فوثب عمر غضبان، فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً، فأمرهما أن يحملا حطباً وناراً، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب عليّ، وفاطمة (عليها السلام) قاعدة خلف الباب قد عصّبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقبل عمر حتى ضرب الباب، ثم نادى: يا ابن أبي طالب، افتح الباب، فقلت فاطمة (عليها السلام): يا عمر، ما لنا ولك، لا تدعنا وما نحن فيه؟ قال: افتحي الباب وإلّا أحرقنا عليكم، فقال: يا عمر، أما تتقي الله عز وجل تدخل على بيتي وتهجم على داري؟ فأبى أن ينصرف، ثم عاد عمر بالنار، فأضرمها في الباب، فأحرق الباب، ثم دفعه عمر، فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وصاحت: يا أبتاه، يا رسول الله، فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت، فرفع السوط فضرب به ذراعها، فصاحت: يا أبتاه، فوثب علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ بتلابيب عمر، ثم هزّه فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهم بقتله، فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصى به من الصبر والطاعة، فقال: والذي أكرم محمداً بالنبوة ـ يا ابن الصهاك ـ لولا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي، فأرسل عمر يستغيث.. إلى آخره ».

ومنها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص82 وما بعده] عن سلمان الفارسي قال: « فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء؟ ثم أمر أناساً حوله بتحصيل الحطب وحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي (عليه السلام) ـ وفيه علي وفاطمة وابناهما ـ، ثم نادى عمر حتى أسمع علياً وفاطمة: والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك النار، فقامت فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: يا عمر، أما تتقي الله تدخل على بيتي؟ فأبى أن ينصرف ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل، فاستقبله فاطمة (عليها السلام) وصاحت: يا أبتاه يا رسول الله، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت: يا أبتاه، فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر، فوثب علي (عليه السلام) فأخذ بتلابيبه فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمّ بقتله، فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصاه به، فقال: والذي كرّم محمداً بالنبوة ـ يا ابن الصهاك ـ، لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلمت أنك لا تدخل بيتي، فأرسل عمر يستغيث، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار.. إلى آخره ».

ومنها: ما رواه العياشي في [التفسير ج2 ص66ـ68]عن أبي المقدام عن أبيه، قال: « .. فقام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وقنفذ وقمت معهم، فلمّا انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة (صلوات الله عليها) أغلقت الباب في وجوههم، وهي لا تشكّ أن لا يُدخَل عليها إلّا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله فكسره، وكان من سعف، ثم دخلوا فأخرجوا علياً (عليه السلام) ملبّباً... إلى آخره ».

أقول: هذه النصوص وغيرها واضحة أنّ الزهراء (عليها السلام) كانت وراء الباب عند مجيء العصابة إلى الدار، وأنّها أغلقت الباب بوجوههم عند مجيئهم، لا أنّها فتحت الباب وخرجت لهم، ولو افترضنا أنّها كانت داخل البيت وجاءت لتكلمهم دون أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهذا هو المناسب؛ إذ إنّ القوم يريدون أن يأخذوا أمير المؤمنين (عليه السلام) لأخذ البيعة منه، فهو طرف في القضية، ومجيء الزهراء (عليها السلام) للكلام معهم إنّما هو للحيلولة دون وقوع ذلك؛ لأنّها ابنة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبضعته ومكانتها لا تخفى على أحد، فكلامها مع القوم يكون أكثر تأثيراً وأقوى حجّةً، وفي رواية متقدمة: (وهي لا تشكّ أن لا يُدخَل عليها إلّا بإذنها)، لعظمة مكانتها في الإسلام، بل حتى أن بعضهم قال لعمر عند إرادته إحراق الباب: (إن في البيت فاطمة)، وذلك لترسّخ مكانتها وحرمتها في وجدان المسلمين، لكن عمر قال: (وإنْ)، استخفافاً منه بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونجد الزهراء (عليها السلام) تصرّ على تنبيههم أنّها ابنة النبيّ، وأنّها بضعته وفلذة كبده، وأنّ حرمتها حرمة رسول الله، ليرتدع القوم ويخافوا ويتّقوا، لكن عميت بصائر القوم وصمّت آذانهم، فهجموا على الباب وكسروه وعصروا البضعة الطاهرة بين الباب والجدار.

ثمّ إنّ في بعض الروايات أنّها كانت بلا خمار حينئذٍ؛ لأنّها في بيتها، ومن الطبيعيّ أن لا تتستّر المرأة وهي في بيتها، يقول سليم: « قلت لسلمان: أدخلوا على فاطمة بغير إذن؟ قال: إي والله، وما عليها خمار، فنادت: يا أبتاه، يا رسول الله، فلبئس ما خلّفك أبو بكر وعمر... الخبر »، بل إنّها (عليها السلام) بيّنت للقوم وذكرت لهم أنّها حاسرة، وذلك إعظاماً للأمر عليهم ليرتدعوا ولا يهتكوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد روى إبراهيم الثقفيّ عن زائدة بن قدامة: « وعاد إلى الباب واستأذن، فقالت فاطمة (عليها السلام): عليك بالله إنْ كنت تؤمن بالله أن تدخل بيتي، فإنّي حاسرة، فلم يلتفت إليها مقالها وهجم، فصاحت: يا أبه، ما لقينا بعدك من أبي بكر وعمر.. »، وقد روى ابن طاوس في [الطرف ص19] عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: « ألا إنّ فاطمة بابها بابي، وبيتها بيتي، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ر، قال الراوي: فبكى أبو الحسن [الكاظم] (عليه السلام) طويلاً، وقال: « هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله يا أمّه »، فما أشنع صنيع القوم، يعلمون أنّ بضعة النبيّ حسرى بلا خمار ويهجمون على بابها! فما أجرأهم على الله وعلى رسوله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القوم لم يهجموا على البيت مرة واحدة، بل كان ذلك أكثر من مرة، لكن لم يجسروا على كسر الباب وضرب الزهراء وارتكاب الفظائع إلا في الهجمة الأخيرة، فإنّهم في المرات السابقة عليها كانوا يأتون ويتكلمون ثم يرحلون خائبين، إلى أن جاء رأسهم وجرّأهم على الزهراء (عليها السلام) بكسر الباب وإضرام النار، ففعلوا حينئذٍ ما فعلوا مما هو منقول ومعروف.

ثمّ لمّا كسروا الباب وثب أمير المؤمنين (عليه السلام) كالأسد من داخل البيت، إذ كان دخولهم البيت فجأة وبغتة، فأخذ بتلابيب عمر وهمّ بقتله، لكن ذكر وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فما قتله.

وهنا أظهر الإمام (عليه السلام) مدى انقياده وإطاعته لله ولرسوله بحفظ الوصية والعمل بها، فإنّ التهوّر والتسرّع رذيلة، والفضيلة تكون بالصبر والتحمّل، وقد كانت آثار إيجابيّة عظيمة متوقّفة على صبر الإمام (عليه السلام) وسكوته وتحمّله الأذى وعدم رفعه راية الجهاد على القوم، مع ما في الصبر من المشقة العظيمة.

وقبل بيان بعض هذه الأمور، يجب أن يُعلَم

أوّلاً: أنّ الإمام (عليه السلام) معصوم مطهّر، مع أنّه عالم حكيم لا يفعل إلّا ما فيه حكمة وعلّة موجبة له، فلا بدّ أن يكون لفعله وجه راجح، وبدورنا يجب علينا التسليم له وقبول تصرّفاته جميعها؛ إذ المعصوم لا يفعل إلّا الصواب، ولا ينطق إلّا الصدق، وفي أفعاله وسكناته مصالح راجحة، سواء أدركنا وجهها أو لا، هذا هو تكليفنا تجاه تصرّفات المعصوم (عليه السلام).

وثانياً: إنّ لكلّ واحد من الأئمّة (عليهم السلام) تكاليف خاصّة من الله تبارك وتعالى، نزل بها جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وسلّمها لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ سلّمها لابنه الحسن (عليه السلام) وهكذا إلى سائر الأئمّة (عليهم السلام).

وقد عقد الشيخ الكلينيّ لهذا باباً في كتابه [الكافي ج1 ص279] بعنوان (باب أنّ الأئمّة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً إلّا بعهد من الله عزّ وجلّ وأمر منه لا يتجاوزونه) ونقل فيه عدّة روايات..

منها: ما رواه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « إنّ الله (عز وجل) أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله) كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمد، هذه وصيتك إلى النجبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل؟ فقال: علي بن أبي طالب وولده (عليهم السلام)، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأمره أن يفك خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففك أمير المؤمنين (عليه السلام) خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، ففك خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام)، ففك خاتماً فوجد فيه: أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلا معك واشر نفسك لله (عز وجل)، ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ففك خاتماً فوجد فيه: أن أطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمّد بن علي... إلى آخره ».

ومنها: ما رواه عن عيسى بن المستفاد الضرير، عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، عن أبيه الصادق (عليه السلام) قال: « نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلاً، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصيك، ليقبضها منا وتشهدنا بدفعك إياها إليه ضامنا لها - يعني علياً (عليه السلام) -، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإخراج من كان في البيت ما خلا عليا (عليه السلام)، وفاطمة فيما بين الستر والباب، فقال جبرئيل: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي ـ يا محمد ـ شهيداً، قال: فارتعدت مفاصل النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا جبرئيل ربي هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام، صدق عز وجل وبر، هات الكتاب، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: أقرأه، فقرأه حرفاً حرفاً، فقال: يا علي، هذا عهد ربي تبارك وتعالى إليّ شرطه علي وأمانته وقد بلغت ونصحت وأديت، فقال علي (عليه السلام): وأنا أشهد لك ـ بأبي وأمي أنت ـ بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلت ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي، فقال جبرئيل (عليه السلام): وأنا لكما على ذلك من الشاهدين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، أخذت وصيتي وعرفتها وضمنت لله ولي الوفاء بما فيها، فقال علي (عليه السلام): نعم ـ بأبي أنت وأمي ـ علي ضمانها وعلي الله عوني وتوفيقي على أدائها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي إني أريد أن أشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة، فقال علي (عليه السلام): نعم أشهد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم عليك، فقال: نعم، ليشهدوا وأنا - بأبي أنت وأمي - أشهدهم، فأشهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان فيما اشترط عليه النبي بأمر جبرئيل (عليه السلام) فيما أمر الله عز وجل أن قال له: يا علي، تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم على الصبر منك وعلى كظم الغيظ وعلى ذهاب حقك وغصب خمسك وانتهاك حرمتك؟ فقال: نعم يا رسول الله، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد سمعت جبرئيل (عليه السلام) يقول للنبي: يا محمد عرفه أنه ينتهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي، وقلت: نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومزق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط صابراً محتسباً أبداً حتى أقدم عليك، ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة والحسن والحسين وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين، فقالوا مثل قوله فختمت الوصية بخواتيم من ذهب، لم تمسه النار، ودفعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).

فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): بأبي أنت وأمي، ألا تذكر ما كان في الوصية؟ فقال: سنن الله وسنن رسوله، فقلت : أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقال: نعم والله شيئاً شيئاً، وحرفاً حرفاً، أما سمعت قول الله عز وجل: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}؟ والله لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام): أليس قد فهمتما ما تقدمت به إليكما وقبلتماه؟ فقالا: بلى، وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا »، انتهى.

إذن: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ إضافة إلى علمه وعصمته ـ مأموراً مكلّفاً بتكاليف خاصّة من الله تبارك وتعالى، بلزوم الصبر على المشاق وتحمّل الأذى ولو على انتهاك الحرمة.

ولنذكر الآن بعض الآثار المترتبة على سكوت الإمام (عليه السلام) وصبره وتحمّله على ما حصل:

الأمر الأوّل: حفظ الدين وحفظ الإسلام وحفظ عقائد الإنسان وإبقاؤهم على ظاهر الإسلام، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمره بالسكوت ونهاه عن القيام مع عدم المعين لئلّا ينهدم الدين برأسه ويخرب البنيان من أسّه فلا يبقى منه شيء، وقد صرّحت بذلك جملة من الروايات:

منها: ما رواه الشيخ الكلينيّ في [الكافي ج8 ص295] بالإسناد عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: « إنّ الناس لمّا صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر، لم يمنع أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن يدعو إلى نفسه إلّا نظراً للناس وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الإسلام، فيعبدوا الأوثان، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وكان الأحبّ إليه أن يقرّهم على ما صنعوا من أن يرتدّوا عن الإسلام ».

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في [علل الشرائع ج1 ص149] عن علي بن حاتم بإسناده عن زرارة قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما منع أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يدعو الناس إلى نفسه؟ قال: خوفاً من أن يرتدّوا » قال علي بن حاتم: وأحسب في الحديث: « ولا يشهدوا أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) رسول الله ».

ومنها: ما رواه الصدوق أيضاً في [علل الشرائع ج1 ص150] بالإسناد عن بعض أصحابنا، قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لِمَ كفّ عليّ (عليه السلام) عن القوم؟ قال: مخافة أن يرجعوا كفّاراً ».

ومنها: ما نقله سليم بن قيس في [كتابه ص305] عن أمير المؤمنين (عليه السلام): « .. ثم قال (صلى الله عليه وآله): .. واعلم أنك إن لم تكف يدك وتحقن دمك إذا لم تجد أعوانا أتخوف عليك أن يرجع الناس إلى عبادة الأصنام والجحود بأني رسول الله ، فاستظهر الحجة عليهم وادعهم ليهلك الناصبون لك والباغون عليك ويسلم العامة والخاصة . فإذا وجدت يوما أعوانا على إقامة الكتاب والسنة فقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.. ».

ومنها: ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزليّ في [شرح نهج البلاغة ج20 ص326]: « لامته فاطمة (عليها السلام) على قعوده وأطالت تعنيفه، وهو ساكت حتى أذن المؤذن، فلما بلغ إلى قوله: (أشهد أن محمدا رسول الله)، قال لها: أتحبين أن تزول هذه الدعوة من الدنيا؟ قالت: لا، قال: فهو ما أقول لك ».

أقول: لا يخفى على المؤمنين أنّ كلام السيّدة الزهراء (عليها السلام) ليس لوماً حقيقياً؛ إذ إنّها (عليها السلام) تعلم يقيناً أنّ تكليف الإمام (عليه السلام) هو السكوت والقعود مع قلّة الأعوان والأنصار، وإنّما هو لوم صوريّ ظاهريّ، ليُعلم وجه سكوت مولانا (عليه السلام)، ومن باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو تحريض وملامة للأمّة حقيقة لا للإمام (عليه السلام)، كما جاءت آيات قرآنيّة ظاهرها أنّها تلوم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بينما اللوم حقيقة للأمّة لا له (صلى الله عليه وآله).

الأمر الثاني: حفظ الأمة من التفرقة: فإنّ قيامَ الإمام (عليه السلام) بالسيف مع قلّة الأنصار سيتسبّب في إيجاد التفرقة بين المسلمين واختلال أمورهم بحيث يطمع الكفّار والمشركون فيهم، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلماته:

منها: ما ذكره في كتاب له (عليه السلام) في جواب معاوية: « وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني في الوقت الذي بايع الناس فيه أبا بكر، فقال لي: أنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك، وأنا يدك على من خالفك، وإنْ شئت لأملأنّ المدينة خيلاً ورجلاً على ابن أبي قحافة... فلم أقبل ذلك، والله يعلم أنّ أباك قد فعل ذلك فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام » [بحار الأنوار ج29 ص632].

منها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص215] عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال ـ في جواب سؤال الأشعث بن قيس ـ: « .. وأخبرني (صلى الله عليه وآله) أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له موسى: {يا هارون، ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}، وقال: {يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}، وإنما يعني: إن موسى أمر هارون - حين استخلفه عليهم - إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم، وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمَ فرّقت بين الأمة ولم ترقب قولي، وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك؟ ».

الأمر الثالث: حفظ الودائع المؤمنة في الأصلاب الكافرة، فإنّ الله تعالى قدّر أن يولد بعض المؤمنين من أصلاب الكافرين، والإمام (عليه السلام) يلاحظ هذه القضية عند إرادته الإجهاز على شخص ما، وقد جاءت جملة من الروايات تبيّن أنّ هذه القضية كانت من الأمور التي منعت أمير المؤمنين (عليه السلام) من عدم رفع السيف على القوم الظالمين..

منها: ما رواه الشيخ الصدوق في [علل الشرائع ج1 ص147] بالإسناد عن محمد بن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « قلت له: ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل فلاناً وفلاناً وفلاناً؟ قال: لآية في كتاب الله عز وجل: {لو تزيلوا لعذابنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عليه السلام) لن يظهر أبداً حتى تخرج ودائع الله تعالى، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله فقتلهم ».

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في [علل الشرائع ج1 ص147] بالإسناد عن إبراهيم الكرخي قال: « قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ـ أو قال له رجل ـ: أصلحك الله، ألم يكن علي (عليه السلام) قوياً في دين الله عز وجل؟ قال: بلى، قال: فكيف ظهر عليه القوم؟ وكيف لم يدفعهم؟ وما منعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل منعته، قال: قلت: وأي آية؟ قال: قوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} إنه كان لله عز وجل ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن علي (عليه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرج الودائع ظهر عليّ على من ظهر فقاتله، وكذلك قائماً أهل البيت لن يظهر ابدا حتى تظهر ودائع الله عز وجل فإذا ظهرت ظهر على من ظهر فقتله ».

الأمر الرابع: حفظ نفس الإمام، وحفظ سلالة النبي (صلى الله عليه وآله)؛ إذ من الواضح أنّ الإمام (عليه السلام) لو أراد أن يواجه القوم ويحاربهم ـ مع قلّة الناصر ـ لقتلوه وقتلوا معه أنصاره وأهل بيته (عليهم السلام)، وهذا غاية آمال الخليفة وأعوانه، فيضيع بذلك جميع ما تحمّله النبي (صلى الله عليه وآله) في إقامة الدين.

والروايات الواردة في وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله) بلزوم حفظ نفسه كثيرة قد مرّ ذكر بعضها، ومنها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص215] عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال ـ في جواب سؤال الأشعث بن قيس ـ: « .. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمَ فرّقت بين الأمة ولم ترقب قولي، وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك؟ ».

ومنها: ما رواه سليم بن قيس في [كتابه ص134] عن سلمان المحمديّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: « قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل؟ فقال لك: إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً فبايع واحقن دمك، فقال علي (عليه السلام) [وخطابه موجه لأبي بكر وعمر وأعوانهما]: أما والله، لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله، ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة ».

ولو قلتَ: لماذا لم يصدر من أمير المؤمنين (عليه السلام) آنذاك أمراً إعجازياً خارقاً للعادة، فيقاتلهم بما له من قدرة تكوينيّة ولو مع قلّة الأنصار؟

قلت: الإمام (عليه السلام) كالنبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يستعمل الأمور الخارقة للعادة إلّا بموارد محدودة معيّنة، فالمعصومون (عليهم السلام) لم يكونوا مأمورين بالإعجاز في جميع أمورهم، بل فيما أذن الله لهم، وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يصبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ويتجرّع مرارة ما جرى، كما شاء أن يستشهد سيّد الشهداء (عليه السلام) بكربلاء دون أن يستعمل ولايته التكوينيّة، كما شاء أن يستشهد كثير من الأنبياء ويذوقوا مرارة العذاب والقتل دون أن يستعملوا ولايتهم التكوينيّة، مع ملاحظة أنّ مرارة التحمل والصبر تزداد فيما لو كان الإنسان قادراً على ردّ الاعتداء ولو بطريق إعجازيّ، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية إلى صعوبة الحال عليه بقوله: « .. فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى.. »، وقال (عليه السلام): « فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمرّ من طعم العلقم »، فسلام الله عليه ما أعظم صبره.

نكتفي بهذا المقدار، والكلام في ذلك طويل الذيل لا يمكننا قضاء الوطر منه في هذا المقام.

والحمد لله رب العالمين.

2022/12/08