تاريخ
العمل السياسي الإسلامي: سياسة الأخلاق أم أخلاق السياسة؟!

السياسة في الإسلام يجب أن تكون حركة أخلاقية تسعى لبناء مجتمع تقوم روابطه على قيم الحق والفضيلة، وتعمل على رفض كل المظالم بما فيها الاضطهاد السياسي والاستئثار بالسلطة، وتسعى لتحقيق العدل والمساوة وإقامة الحقوق وتحقيق الرفاه والتنمية، والدفع بالأمم والمجتمعات الى الأمام، لتحقيق تكامل الإنسان وبناء حضارة الإسلام، وتتوسل السياسة في الإسلام لتحقيق ذلك بالصدق والإخلاص وكل قيم الفضيلة والأخلاق. وهذا الواقع الطموح أو الحقيقة المفترضة هي التي تنسجم مع الفهم الذي ينظر للإسلام بوصفه رسالة للحياة وليس فقط لتدبير شؤن الإنسان بعد الموت وعالم الآخرة. 

اما الوصف الموضوعي لواقع العمل السياسي بشكل عام يسير في الإتجاه المعاكس لهذا الطموح، فقد قامت كل التصورات السياسية على تكريس المصالح الآنية والدنيوية بعد أن أصبح الأفق الذي يتحرك فيه الإنسان لا يتجاوز حدود المادة، وأهمل في المقابل الجانب المعنوي والروحي الذي يُفهم في إطاره الإسلام كرسالة قيمية واخلاقية، كما أهمل بنفس المقدار الإنسان كذات قابلة للتكامل والسمو على صغائر المادة.

تلوث سياسي!

والحركات الإسلامية التي انخرطت في العمل السياسي في هذا الجو غير الصافي تلوثت به وأصبحت جزء من المشكلة الأخلاقية الكبرى التي تسود عالم اليوم، ولا نتجاوز الإنصاف اذا قلنا ان الإشكالية الكبرى التي تواجه الإنسانية اليوم هو هذا الانخراط السياسي للإسلاميين، وما أوجدوه من أزمة على مستوى الأمن الدولي، ولا يمكننا تبسيط الأسباب التي صنعت هذا التطرف الإسلامي بربط المسؤولية منفردة بهذه الجماعات الإرهابية كما يصنع كثير من المحللين، وانما المحيط والجو السياسي العالمي هو الذي خلق المناخ والبيئة المناسبة لنمو مثل هذه الحركات، فكل ظاهرة سياسية أو اجتماعية لا يمكن فهمها بعيداً عن المحيط التي وجدت فيه، والإرهاب كظاهرة هو مولود مشوه وغير شرعي لعملية سِفاح حضاري، فصراع الحضارات بل هيمنة بعض الحضارات وسياسة القطب الواحد ومصادرة حقوق الضعفاء ينتج حتماً وحشاً جريحاً لا يمكن ضبطه والتحكم في تصرفاته.

سياسة الأخلاق لا أخلاق السياسة

فما ينقص عالم اليوم هو حضور الأخلاق في عالم السياسة، وما يجب أن تسعى إليه الحركات الإسلامية -إن كانت جادة- هو سياسة الأخلاق لا أخلاق السياسة. وهذا ما لم تنجح فيه حتى الحركات المعتدلة عندما سعت الى السلطة مستعينة بأخلاقيات السياسة، فزادت الواقع تعقيداً كما شوهت حقيقة الإسلام، فعندما تكون في المعارضة ترفع شعار الحرية والتعددية وتطالب بالاستقلال وعدم الارتهان للقوى الدولية، كما تتحدث باسم المحرومين والفقراء، ولكنها تسير عكس كل ذلك إذا سنحت لها الظروف للوصول للسلطة في مكان ما، ولا نحتاج الى جمع شواهد من بعض التجارب المعاصرة فالكل شاهد على ما أحدثته الحركة الإسلامية بعد وصولها للسلطة سواء كان في أفغانستان أو في السودان، التي عملت على تدمير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والفكرية، ففي السودان بعد أن كانت تسير الحياة السياسية على نسق ديمقراطي تتنافس فيه الأحزاب السياسية في أجواء تتجه للتكامل والنضج في العمل السياسي الحر، جاءت الحركة الإسلامية للسلطة بانقلاب عسكري صادر هذه التجربة وما زالت مقاليد السلطة بيده، ناهيك عن الممارسات اللاأخلاقية في بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية مضافاً لتجاوز أبسط القيم الأخلاقية في التعامل مع المعارضة السياسية، والمتابع للتجارب الإسلامية لا يطالبنا بذكر شواهد تدلل على الأزمة الأخلاقية التي تعيشها هذه الحركات سواءً على مستوى العمل الحركي أو ممارسة الحكم والسلطة، وما تنقله وسائل الأعلام لممارسات داعش من قتل  وتفجير وغدر وخيانة كافي للحكم على انقلاب هذه الحركات على قيم الإسلام وتعاليمه السامية.

الاتجاه الدولي يتعارض مع قيمية الإسلام

إشكالية الرؤية السياسية الإسلامية في عالم اليوم هي هيمنة نموذج الدولة الحديثة على طبيعة التفكير السياسي عند الإنسان المعاصر، فقد وجد الإنسان المسلم نفسه في ورطة الحداثة التي لا يجد مفراً للخروج منها، ومسايرة الحركات الإسلامية لنموذج الدولة الحديثة قد يؤدي الى تخليها عن نظامها القيمي الذي تفرضه طبيعة الانتماء الى الإسلام، فقيام دولة إسلامية تحافظ على خصوصيتها القيمية في ظل مناخ دولي ضاغط في اتجاه واحد يتعارض مع النموذج الأخلاقي للإسلام، مما يجعل إقامة نظام إسلامي مهمة شبه مستحيلة. 

والخطاب الإسلامي اليوم بالفعل مبتلى بعقدة الحداثة، الأمر الذي يجعله بين خيارين: يمثل الخيار الأول البعد البراغماتي الذي يعمل على تبرير الخيارات ومداهنة الواقع ليتمكن من مسايرة الاتجاه العام. والخيار الآخر يمثل الأصولية المتحجرة الرافضة لكل منتجات الحداثة، وبين الخيارين تضيع الفرص لإنتاج رؤية أكثر واقعية تساهم في تكوين وعي سياسي يمكن أن نحتفظ فيه بأخلاقيات الإسلام في الوقت الذي يتاح فيه الاستفادة من مكتسبات الحداثة، وهذا الخيار يمثل طموحاً حالماً لا يمكن الوصول اليه في ظل التعقيد الذي يشهده الواقع وفي ظل خطاب إسلامي ينقصه الكثير لتجاوز التصور التاريخي للإسلام. 

وفي أحسن الحالات أصبح الإسلام مصدراً لقوانين الأحوال الشخصية في الدول الحديثة، حيث كتب في معظم دساتير الدول الإسلامية عبارة كون الإسلام مصدراً من مصادر التشريعات، في عبارات خادعة تعمل على إفراغ الإسلام عن محتواه الطبيعي المتفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي وحصره في بعض القوانين التي لا تؤثر على التوجه السياسي للدولة، بل قد وظفت الدولة بهذا العمل الإسلام لصالح مشروعها السياسي عندما تستخدم الإسلام كترضية للشارع الإسلامي بعد أن عملت على إعادة انتاج هذه التشريعات بالشكل الذي ينسجم مع الواقع الذي تفرضه سياسات الدولة. 

والحركات الإسلامية التي واجهت الدول القائمة اليوم مع اعتراف تلك الدول بالإسلام كمصدر لم تقدم تصور مقنع للعمل السياسي الإسلامي خارج حدود هذه التشريعات والقوانين الشخصية، وبعد وصول بعضها للسلطة نجد إنها حولت مفهوم الدولة الى مجرد حدود من قطع وبتر ورجم وجلد، في صور قشرية تتصادم بالطبع واليقين مع أبجديات الدولة الحديثة، فتجربة طالبان، وشريعة جعفر نميري في السودان، وبعض المناطق التي وقعت تحت حكم التيارات الإسلامية مؤخراً في سوريا والعراق، كشفت عن حجم التنافر الكبير بين محاولات إقامة دولة إسلامية وبين مفهوم الدولة الحديثة.

وهذا التعارض الذي صورناه بين الدولة الحديثة والدولة الإسلامية، لم يكن محل قبول الكثيرين فرفضت بعض قيادات العمل الإسلامي هذا التعارض بين المشروعين، وحاولت أن تقدم تصوراً يتحقق فيه هذا الانسجام،  وهو الخيار الذي يبدو أكثر تعقلاً وموضوعية، مع انه قد يفضي في خاتمة المطاف الى التنازل عن مشروع سياسي خاص بالإسلام، والانتصار لمشروع الدولة الحديثة مع بعض الرتوش التي تحاول إرضاء الطموح الإسلامي، فقد كتب دكتور عبد المنعم أبو الفتوح القيادي الإخواني السابق والمرشح المستقل للرئاسة في مصر مقالاً قال فيه: "وعندما نتأمل النصوص الإسلامية نجد إنها تخلو من أي شكل محدد للدولة، ونجدها تؤكد على القيم والمبادئ العليا التي يجب أن تستند اليها الدولة، تاركة شكل الدولة وطريقة إدارتها للمتغيرات الزمانية والمكانية. فالدولة باعتبارها ضرورة من ضرورات الاجتماع السياسي يجب أن تقوم للحفاظ على النظام وتنظيم شؤون الناس، أما شكلُها وطريقتها فهي متروكة للناس يطورون ويغيرون ويضيفون ويحذفون فيها بما تقتضيه مصالحهم التي تتغير من حين لآخر". 

 والدولة المدنية كتعبير عصري عن الدولة الحديثة بما يتلائم مع المتغيرات الجديدة لا يتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لان الإسلام هو المرجعية العليا للأوطان الإسلامية أو هكذا يجب أن يكون الحال. فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية فلا يوجد ما يمنع من تطويرها والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة كمنتج إنساني عام يجب الإفادة منه لصالح تقدمنا وتطورنا. 

 وعلى الجانب الآخر فإننا يجب أن نُقر جميعاً بأن مفهوم الدولة الدينية "كمصطلح" لم يرد في الإسلام! بمعنى ان قيم ومبادئ الإسلام الأساسية لا تؤسس لحكم "ثيوقراطي"، ولو كان الإسلام يرى ان في ذلك صالح الناس لنصّ على ذلك صراحة، وهو الدين الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في تنظيم شؤون الناس إلاّ ونصّ عليها، من الزواج والطلاق.. إلى السلم والحرب. 

 ان ما دعا اليه الإسلام بهذا الشأن هو التزام الدولة كمؤسسة تنظيمية بمرجعية الإسلام، ومنع سنّ أي قانون مخالف لثوابته القطعية فقط..". ( ).

وإن كان هذا النص يحمل فكراً متقدماً لتجاوز الإشكال السابق إلاّ انه يُعد تنازلاً عن الشعار التقليدي للإخوان المسلمين، كما يُعد كفراً في نظر الحركات الراديكالىة التي ما زالت تقاتل من أجل هذا المشروع وهو (إقامة دولة إسلامية)، فإذا كان في نظره مصطلح الدولة الإسلامية لا وجود له في القرآن، فلماذا من الإساس يرفع شعار هذه الدولة؟ وإذا كانت الدولة وجدت لتحقيق مصالح الناس، فكيف نتفهم وجود سياسة إسلامية رسمت سلفاً لتحقق مصالح الناس في كل زمان؟ فما يجوز نسبته للإسلام هو ما صرح به الله ورسوله وطالما لم يصرحوا بشكل او بنظام الدولة فكيف ننسب اجتهادات الإسلاميين للإسلام؟ فليس هناك فرق بين القول (دولة إسلامية أو دولة الله ودولة رسول الله). فطالما لا يوجد بيننا من يمكنه الحديث نيابة عن الله لا يوجد كذلك من يمكنه الحديث عن دولة إسلامية، وبالتالي الإطار الذي يجب أن يفهم فيه العمل السياسي الإسلامي هو العمل الجماهيري الحزبي الذي يتنافس مع الأحزاب الأخرى بحسب برنامجه السياسي فكما ان بعض الأحزاب قد تتشكل ضمن رؤية اشتراكية مثلاً، كذلك الحال في الأحزاب الإسلامية التي اشتركت وتوحدت في بعض الرؤى التي تمثل اجتهاداتهم في الإسلام، وهي المساحة التي نحترم فيها هذا الخيار الجماعي وليس لكونه يمثل الإسلام أو مراد الخالق، وكل ذلك من أجل الاحتراز من مصادرة هذه الحركات الإسلامية حقوق الناس باسم الإسلام ونيابة على الله.

 فبالمقدار الذي فشلت فيه الحركات الإسلامية سياسياً فشلت أيضاً اخلاقياً، ولم تتمكن من تقديم صورة أخلاقية ناصعة سواء في العمل الحركي أو في إدارة الدولة، برغم ان حركة الإخوان المسلمين تحتفظ بأدبيات ضخمة في تربية الأفراد من تزكية وتعليم وترابط أخوي، إلاّ ان آثار هذا العمل لم تنعكس على مستوى الفعل الاجتماعي والسياسي ولم يظهروا بسلوك يميزهم كثيراً عن بقية المسلمين، فلا إخوان مصر كانوا نماذج متميزة ولا إخوان سوريا وتونس والسودان واليمن والأردن وبقية الدول العربية، وشعوب كل دولة من هذه الدول تحتفظ بملفات ضخمة لكثير من ممارسات الإخوان الغير أخلاقية سواء كانت في دور المعارضة أو السلطة، الأمر الذي يقودنا لتفهم نفور الكثير من شعوب المنطقة من العمل السياسي الإسلامي، ولكي تكسب الحركة الإسلامية ثقة الشارع الإسلامي لابد من العمل على تأسيس سياسة متشبعة بأخلاق الإسلام وقيمه النبيلة، ولا نقصد الأخلاق العامة التي هي تكليف يجب أن يتحلى بها كل مسلم من صدق وأمانة على المستوى الشخصي ..، وانما نقصد الأخلاق التي يحتاجها العمل الاجتماعي والسياسي من عدالة وإنصاف وحرية ومساوة والدفاع عن سيادة الأمة وكرامتها والتضحية من أجل مصالحها. وهذا مالم تنجح فيه حتى الحركة الإسلامية الشيعية في العراق.

-----------------

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2017/12/31

الحرب في الإسلام: من وصايا النبي (ص) ومنهج الإمام السجاد (ع)

كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ذا شخصية امتزجت فيها صفات النبي والرئيس والقائد والإنسان والمعلم. فلا نكاد نميز منه صفة من غيرها في أي جانب كان من سيرته المقدسة. فلم يكن في الدعوة نبياً وفي الدولة رئيساً وفي الحرب قائداً وفي علاقته بالآخرين إنساناً، ومعلماً في دوره كمثل أعلى. بل كان بكل صفاته معاً في المواقف كلها. لهذا كانت معاركه التي خاضها صورة منفردة لم ولن يعرف التاريخ البشري صورة مماثلة لها في الالتزام الأخلاقي والإنسانية. وقد وضع (صلى الله عليه وآله) للحرب في وصاياه شريعة سمحاء لا تقل روعة وإنسانية عن شريعته في السلم.    

لقد كانت للحرب عند النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلسفة تستمد مقوماتها من روح الرسالة الخاتمة التي تضمن للإنسان النظام الأصلح من خلال الانشداد إلى الله سبحانه وتعالى، فالمحارب الذي يعتمده الإسلام كواحد من جنده، عليه أن يجعل الله الغاية الأهم في جهاده ويكون قتاله في سبيله. عن ‏‏ابن عباس ‏قال: "‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ‏إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ ((اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّه لَا ‏تَغْدِرُوا ‏وَلَا‏ ‏تَغُلُّوا‏ ‏وَلَا‏ ‏تُمَثِّلُوا ‏وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ)). كما أوصى (صلى الله عليه وآله) عبد الرحمن بن عوف وقد أرسله إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل فقال له: ((اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم.))  وفي أثناء سير الرسول محمدٍ وصحبه إلى بدر، التحق أحد المشركين راغباً بالقتال مع قومه، فردّه الرسول وقال: ارجع فلن أستعين بمشرك. وكرّر الرجل المحاولة فرفض الرسولُ حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين"  

الله يمثل الخير والنور والعدل والحق، فإذا جعل الإنسان جهاده في سبيل الله كان جهاده في سبيل الخير والنور والعدل والحق. وإذا صلح فيه إيمانه وصَدق في الجهاد في سبيل الله، طمع فيما عند الله وهو الخير فزهد في كل مغنم زائل، والتزم بكل ما يرضي الله من صفات أخلاقية، وجعل هدفه من القتال نشر الدعوة الإسلامية الكفيلة بتحقيق الصلاح، فيقاتل لا لشيء إلا لأنه استنفد مع عدوه كل وسيلة لإصلاحه ولأن عدوه بات عائقاً حقيقياً لعملية الإصلاح التي تمثل القضية الأساس لدى المحارب المسلم. ولهذا نجد الإمام علياً بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي اعتمد ـ نتيجة التضييق الذي مارسه الأمويون حياله ـ أسلوب الدعاء في بث تعاليمه وإرشاداته التي هي المضامين الحقيقية للإسلام يقول في دعائه المعروف بدعاء الثغور "أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لاَ يُبْصِرُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَآئِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَلَوِّحْ مِنْهَا لأِبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَـةِ، وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتَّى لاَ يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالأدْبَارِ، وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَار.

وَأَيُّمَا غَاز غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ أَوْ مُجَاهِد جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الاعْلَى وَحِزْبُكَ الأقوَى وَحَظُّكَ الأوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الأمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الأصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الاهْلِ وَالْوَلَدِ وَأَثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ وَتَوَلَّه بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلاَمَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ فِيْكَ وَلَكَ. 

أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيْهِ فِيْ غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَة مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَاد، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَاد، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَآئِهِ حُرْمَةً. فَأَجْرِ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْن وَمِثْلاً بِمِثْل وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ، وَسُرُورَ مَا أَتَى به، إلَى أَنْ  يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إلَى مَا أَجْرَيْتَ لَـهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ. أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم أَهَمَّهُ أَمْرُ الإِسْلاَمِ وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ ألشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً أَوْ هَمَّ بِجهَـاد  فَقَعَدَ بِـهِ ضَعْفٌ أَوْ أَبطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إرَادَتِهِ مَانِعٌ، فَاكْتُبِ اسْمَـهُ فِي الْعَابِدِينَ وَأوْجبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ".

 

2017/12/23

الحركات الإسلامية السنية وحلم الخلافة
الفكر السياسي السني لا يمكن فصله عن واقع التجربة التاريخية، الأمر الذي يفسر لنا هوس هذه الحركات بمشروع الخلافة، بوصفه التصور السياسي الوحيد الذي يمكن أن تدعو اليه.

وهذا التصور الذي يحن الى الماضي ما هو إلاّ نتاجاً طبيعياً للإسلام الذي توارثته الأجيال، فقد عاشت الأمة في ظل الخلافة الإسلامية تسعمائة سنة وتحت إدارة قبيلة واحدة وهي قريش، وفي هذه الفترة اكتسبت الأمة وعيها الديني وتشكلت فيها مفاهيمها الإسلامية، ولم يكن من المسموح أبداً لهذه الأمة أن تفكر خارج حدود السلطة الحاكمة، فكانت البيعة للخليفة فرض، والسمع والطاعة له واجب، ومن خرج على ذلك قتل بسيف الإسلام، كما حدث لأهل المدينة من مجازر واستباحة للحرمات، وكما هدمت الكعبة على رؤوس المسلمين، وكما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء، وقتل الكثير من كبار الصحابة صبراً أمثال حجر بن عدي وسعيد بن جبير وآخرين، فلم ينعم المسلمون طوال هذه الفترة الطويلة بإسلامهم دون أن يكون على رأسهم خليفة يسوسهم وحاكم يتسلط عليهم، فتشبعت بذلك وربيت عليه ودرجت فيه حتى أصبح الحالمون بحكم الإسلام اليوم لا يرون سوى تلك الصورة التي حشيت بها كتب التراث وتفنن العلماء والفقهاء في نسج التبريرات الثقافية والفكرية لها، فبات من الصعب على المسلم أن يقارب الخلافة في التاريخ مقاربة سياسية بعيدة عن الدين والعقيدة، برغم ان ما حصل بالفعل هو عمل سياسي بامتياز، فلم تكن سقيفة بني ساعدة- وهي الخطوة الأولى في مشروع الخلافة- ولا آخر حكام بني العباس، يمثل فعلاً دينياً له علاقة بجوهر الإسلام وتعاليمه، انما هي السياسة التي مورست بكل أشكالها وأدبياتها. 

"النزاع على الخلافة أو السلطة هو الذي أحدث شرخاً لا يمكن تفسيره إلاّ بخروج في النزاع على السلطة وجعلها عملية ديمقراطية. ونبذ احتكار السلطة كما حدث في سقيفة بني ساعده، حينما أصر أبو بكر وعمر على حصر السلطة في قريش وأقصاء الأنصار الذين طالبوا أن يكون منهم الوزراء ومن قريش الأمراء. ومن هذا يؤرخ الكثير سبب الكوارث التي حلت في الدولة الإسلامية ، فهي نزعت وإلى الأبد أي شكل من المشاركة في السلطة. وحول هذا الحدث أختلف المفكرون والكتاب قديماً وحديثاً فالبعض عده امتداد لفهم الإسلام لشكل الحكم الذي يجب أن يسود في الدول الإسلامية. أي يجب أن يكون امتداد لحكم الخلافة، والذي يعتبر الخلافة جزء الحكم الإسلامي أو الديني. والسؤال طرحه بعض المفكرين العرب منذ فترة ليست بعيدة وهو هل كان عصر الخلفاء فترة حكم ديني يعبر عن روح الدين الإسلامي، أم انه حكم سياسي صرف يعبر عن المصالح الدنيوية لفئات وأشخاص في تلك الفترة؟" ([1]).

وبرغم بداهة الإجابة على هذا السؤال إلاّ اننا نجد أن الوعي الذي توارثته الأمة لا يسمح بمجرد التشكيك في مشروعية الخلافة الذي بداه كبار الصحابة وسار عليه التابعون، ومن هنا نجد قيادات العمل الإسلامي ترتكز عليه في مشروعها السياسي المعاصر.

الإخوان المسلمين والخلافة

كتب حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان (الإخوان المسلمون والخلافة): "ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك ان الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلى إنجازها.

والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن منهاجها، ثم ألغيت بتاتًا إلى الآن.

والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون ان ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وان الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات، لابد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، وان المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين، ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة لظاهرتان طيبتان، وخطوتان واسعتان في هذا السبيل، ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الاجتماع على (الإمام) الذى هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض" ([2]).

بهذه الكلمات يشير حسن البنا الى الهدف النهائي لمشروع الإخوان، وهو إنشاء حكومة واحدة للعالم الإسلامي، فهو لا يهدف بهذا الكلام تأسيس نظام إسلامي لحكم مصر، وانما يعمل على نظام يضم جميع دول المنطقة ليناط الحكم فيها لشخص واحد وهو الخليفة الذي يسمى أمير المؤمنين وخليفة المسلمين والحاكم بأمر الله، ولا يمكن إيجاد تفسير لهذا الكلام سوى هيمنة الرؤية التاريخية لطريقة التفكير السياسي لحسن البنّا.

ويقول أبو الأعلى المودودي في باكستان - وهو الأب الروحي للجماعات الإسلامية في الهند وباكستان - في كتابه «نظرية الإسلام»: "ان الدولة الإسلامية تقوم على أساس حاكمية الله الواحد، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب ولا حتى النوع البشري كله، وانما تكون لحاكم يقوم بوظيفته خليفة الله، فليس لأحد أن يأمر وينهي من غير أن يكون له سلطة من الله" ([3]).

والعجيب ان هذه السلطة الإلهية التي يشير اليها تتجسد في الحاكم الذي تدين له كل هذه الدول حتى لو كان بالقهر والغلبة، كما دانت لمعاوية وابنه يزيد وكل حكام بني أمية وبني العباس، وهذا هو التفسير المنطقي لما قاله طالما لم يبين كيف يكون للحاكم سلطة من الله ولم ينصبه الله بشكل مباشر لهذا المنصب؟.

ويقول رشيد علي رضا في كتابه «الخلافة أو الإمامة العظمى»: "الخلافة الإسلامية هي الحكومة المثلى التي بدونها لا يمكن أن يتحسن حال البشرية.. فهي خير دولة ليس بالنسبة للمسلمين فحسب ولكن بالنسبة لسائر البشر" ([4]). وهذا الادعاء العريض لا نجد ما يؤكده من واقع الخلافة التاريخية سوى النظرة القدسية لما أنجزه سلف الأمة.

وعلى نفس الطريقة يسير عمر عبد الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية الذي أفتى باغتيال أنور السادات، ومهاجمة مديرية أمن أسيوط التي سقط فيها 118 قتيلاً من ضباط ورجال الشرطة، يقول في كتابه (حتمية المواجهة): "الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالدين" ([5]).

ففكرة الخلافة في نظر الإسلاميين السنة هو الحلم الذي يتوقوا اليه، وهي المجد الذي يبكون على فواته، فهذا سليم العوا يتحسر على الخلافة العثمانية التي انتهت على يد أتاتورك، فيقول: "منذ انهارت الخلافة العثمانية تفرقت قوة المسلمين، وتمكن عدوهم من السيطرة على مقدرات بلادهم جميعاً" .

وقد وجدت هذه الدعوى طريقها للواقع الخارجي- وإن كانت في صور محدودة- إلاّ إنها تكشف عن السعي الجدي للوصول الى نموذج إسلامي معاصر يجسد دولة الخلافة، فادعى بعضهم منزلة الخليفة ودعاء الناس لمبايعته من أمثال شكري مصطفى زعيم جماعة التكفير والهجرة، وهي الجماعة المسؤولة عن اغتيال وزير الأوقاف حسن الذهبي عام 1977، حيث نصب نفسه «أميراً» وسمى جماعته (جماعة الحق في آخر الزمان)، وكان يسمي نفسه (طه المصطفى شكري أمير آخر الزمان). وكذلك الملا عمر في أفغانستان بعد أن بايعته حركة طالبان على إمارة المؤمنين، كما بايعه أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، وأخيراً ظهر مشروع الخلافة على السطح بشكل واضح وجلي في تنظيم (الدولة الإسلامية) التي تسمى اعلامياً (داعش) فقد أعلنوا دولتهم بعد أن استولوا على بعض أراضي العراق وسوريا، ونصب أبو بكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين، وأمروا الجميع بضرورة مبايعته، ولذا نجد عشرات الشباب من جميع أنحاء العالم تقاطروا لنصرة هذا المشروع، حتى أصبح ظاهرة تقلق العالم بأجمعه.

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة

----------------

([1])  بقلم: هاني الحطاب - 21-05-2014 (صوت العراق): http://www.sotaliraq.com/mobile-item.php?id=159966#ixzz4HxRtxn2R ([2])  ويكيبيديا الاخوان المسلمين http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title ([3])  نظرية الإسلام: ص 71. ([4])  الخلافة أو الإمامة العظمى: ص 116 – 128. ([5])  حتمية المواجهة: ص 63.
2017/12/11

الحركات الإسلامية السياسية: إسلام اللاواقع أم واقع اللا إسلام؟

الكلام عن الاجتهاد السياسي للحركة الإسلامية، يقودنا من جديد الى ضرورة مراجعة العقلية الثقافية للمسلمين، ودراسة العوامل التي ساعدت في تكوينها، والمراجعة هي الطريق الوحيد الذي يسهم في الكشف عن الاتجاه العام للأمة، ومعرفة القيم التي تتحكم في مسيرها المستقبلي، والمشروع السياسي الإسلامي اليوم أمام منعطف خطير، وما زالت الفرصة أمامه لجمع أوراقه وترتيب أولوياته والعمل على بناء خطاب إسلامي يكون فيه أكثر تحرراً من الإسلام التاريخي، فالحركات الإسلامية أمام خيارين الأول: وهو العمل الدؤوب لرسم بوصلة جديدة للأمة ذات صبغة إسلامية تتصف بالأصالة والعصرنة مضافاً للنضج والفاعلية، والخيار الثاني: هو الجمود على الخطاب التقليدي ومسايرة الأمة واستغلال عواطفها الدينية لتحقيق مكاسب سياسية، وما يؤسف له ان الحركة الإسلامية اليوم أقرب للخيار الثاني، فلم تقدم تصوراً ناضجاً لنظام الحكم ينطلق من الإسلام، فنجدها مؤخراً تبنت الدولة المدنية كما هو الحال في مصر وتونس، الأمر الذي يكشف عن عدم جدية هذه الحركات في خيارها الإسلامي السياسي، فطالما الدولة المدنية هي الحل الأمثل لا يبقى مبرر لتشكيل أحزاب سياسية ذات صبغة دينية، وهذا الاستسلام والفشل نتيجة متوقعة؛ بسبب قصور الحركات وعدم قدرتها على تقديم تصور مقنع لنظام حكم إسلامي له قابلية الارتباط بالواقع، ومازالت الحركات بعيدة عن بلوغ مستوى يؤهلها لإعادة انتاج خطاب جديد يناسب الواقع الراهن، ويعود ذلك إلى صعوبات وتعقيدات لها علاقة بطبيعة الوعي والفهم الذي تختزنه الأمة لمعنى الإسلام، فقد تباين الإسلام بتباين المذاهب والتيارات حتى بات من الصعب تحديد معناً مشتركاً يمثل حالة إجماع بين أبناء الأمة، وما هو موجود بين المذاهب من تباينات، وما هو مطروح من قراءات يعقد الأمر ويضاعف الصعوبات. هذا مضافاً الى صعوبات أخرى تتعلق برصد الواقع وتقيمه والقدرة على التكيف والمواكبة، والتحدي الأكبر هو القدرة على تغيير مزاج الأمة ونفسيتها المأزومة.

يصف فرج فودة عجز العقلية الحركية في تقديم تصور إسلامي يتناسب مع العصر بأسلوبه الساخر فيقول: \اننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة، وبين النكوص والإقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب، والإسلام لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزي الباكستاني، ومصر لن يتألق وجهها الإسلامي الحضاري بمجرد أن يتنادى الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم الآخر باسم (خزعل) ويرد عليه الآخر التحية بأحسن منها فيدعوه (عنبسة)\.

الواقع أو التأريخ؟

والقصور الذي نصف به الحركة الإسلامية في تقديم وعي جديد للإسلام، واجتهاد سياسي معاصر، ليس من باب عجز العقلية المنظرة أو التشكيك في المقدرة العلمية للقيادات الحركية، وانما قصور تفرضه طبيعة الإسلام الموروث، فإذا كان من الطبيعي أن يكون لكل زمان إسلام له خطاب سياسي واجتماعي خاص، فمن الضروري أن يكون لإسلام الحاضر شخصيته التي تميزه عن إسلام الماضي، وهذا هو الأمر الذي غفلت عنه الحركات الإسلامية بتبنيها للإسلام بنسخته التاريخية، فأوقعت نفسها في تناقض من الصعب تجاوزه، فكلما تمسكت بالإسلام ابتعدت عن الواقع، وكلما انفتحت على الواقع ابتعدت عن الإسلام، فالحركة الإسلامية في تركيا اقتربت من الواقع فتنازلت عن الإسلام وتبنت العلمانية، وتمسكت طالبان وداعش بالإسلام فابتعدت عن الواقع، وهي ذاتها الخيارات التي تنتظر النهضة في تونس والإخوان في مصر، بعد أن سبقتهم الحركة الإسلامية في السودان بتبني الإسلام كمجرد شعار نتيجة الفشل الذي رافق كل مفاصل التجربة، والخوف ان الحكومة السودانية بعد تحالفاتها الجديدة مع السعودية، أن تعيد إنتاج نفسها بصورة أكثر سلفية.

العلمانية وأمل الحكم الإسلامي

ومع ان خيار العلمانية والدولة المدنية أصبح هو الخيار الأقرب للحركات الأكثر وعياً واعتدالاً، إلاّ ان الإسلام المتطرف سوف يكون أكثر حظوة وصعوداً في هذه المرحلة، لأنّه الخيار المتبقي أمام الشباب الطامح في حكم الإسلام، بعد أن فقدوا كل ثقة في الحركات المعتدلة في تقديم نموذج إسلامي غير مداهن للواقع المعاصر، وفي حال سقوط هذا الخيار المتطرف أيضاً -وهو المتوقع لأنّه يسير عكس عقارب الزمن- سوف ينتهي أي أمل لحكم إسلامي تقيمه حركات إسلامية، إلاّ أن يتدخل الغيب بشكل مباشر وتقام حكومة العدل الإلهية.

 ومن كل ما تقدم يمكننا التأكيد على ان البعد الجوهري الذي يمكن الارتكاز عليه في تقديم قراءة جديدة للإسلام، هو تجاوز النظرة التقليدية الجامدة التي تصور الإسلام كمنجز تاريخي، وهو التحدي الأكبر أمام الحركات الإسلامية، ولا أظن أنها قادرة على تحقيق ذلك؛ لأنّه ردة حقيقة عن الإسلام الذي تشكل وفق التجربة التاريخية، ومن الواضح ان هذه الحركات لم تحاول نقد هذا الموروث بل عملت على تلميعه والتوفيق بين متناقضاته.

ولا يمكن الحديث عن الاجتهاد وإعمال العقل ورصد المتغيرات للخروج برؤية سياسية تنتمي للواقع الراهن، وما زالت الأمة مترددة في فتح باب الاجتهاد الفقهي. والذي يكشف عمق ارتباط الإسلام السني بالتاريخ؛ هو البقاء في باب الأحكام الفقهية على المذاهب الأربعة، الأمر الذي يؤكد مدى تأثير السلطة السياسية التاريخية على عقلية الأمة، وإلاّ كيف يمكن تفسير أغلاق باب الاجتهاد ومنع الأمة من ممارسة الدور الذي مارسه الأسلاف، ولعدم منطقية هذه الفكرة ولمخالفتها الواضحة لشروط المعرفة تعالت النداءات لفتح باب الاجتهاد، وإن كانت هذه الدعوات تعمل على تحرر الأمة من هيمنة الماضي الفقهية، إلاّ إنّها قاصرة ومحدودة إذا لم تدعوا الى تحرير كل الفهم الإسلامي من تأثير التجربة التاريخية.

 وبرغم ان هذه الدعوى تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح إلاّ إنها مازالت تدور في فلك الأئمة الأربعة، حيث لم يكن من المسموح أن تأتي الاجتهادات الجديدة مخالفة للمذاهب الأربعة، وقد نلحظ ذلك في الدعوى التي أطلقها مجمع الفقه الإسلامي العالمي لضرورة فتح باب الاجتهاد حيث وضع من ضمن الشروط التي يجب الالتزام بها هو الاقتداء بسلف الأمة وما عمل عليه الائمة الأربعة.

وهنا أنقل قرار مجمع الفقه الإسلامي:

\أما بعد: فان مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، في دورته الثامنة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة في الفترة ما بين 27 ربيع الآخر 1405هـ و 8 جمادى الأولى 1405هـ الموافق 18-29 يناير 1985م قد نظر في موضوع الاجتهاد، وهو بذل الجهد في طلب العلم، بشيء من الأحكام الشرعية، بطريق الاستنباط من أدلة الشريعة. فالهيكل الأساسي للاجتهاد، يتطلب تمام المعرفة، باستجماع الشروط، فلا مجال للاجتهاد إلاّ بها، تحصيلاً لهذا الفرض الكفائي، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، فقد أفادت الآية، ان التفقه في الدين، يتطلب التفرغ له، فلابد في الاجتهاد من أخذ الحيطة الكاملة، للوصول إلى الفهم الفقهي الصحيح.

وأوضح السيوطي إيضاحا كاملاً، فرضية الاجتهاد، وانه لم ينقطع، وذلك في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل ان الاجتهاد في كل عصر فرض) فبابه لم يغلق، ولا يملك أحد إغلاقه، ولاسيما ان علماء الأصول- حين بحثوا مسألة جواز خلو الزمن عن مجتهد، أو عدم خلوه- اتفقوا على ان باب الاجتهاد مفتوح أمام من تتوافر فيه شروطه، وانما تقاصرت الهمم عن تحصيل درجة الاجتهاد، وهي التضلع في علوم القرآن، والسنة المطهرة، وأصول الفقه، وأحوال الزمن، ومقاصد الشريعة، وقواعد الترجيح، عند تعارض الأدلة، مع عدالة المجتهد، وتقواه، والثقة بدينه.

وينقسم الاجتهاد أربعة أقسام:

القسم الأول: المجتهد المطلق. كالأئمة المقتدى بهم.

القسم الثاني: المجتهد في المذهب، وله أربع أحوال ذكرها الأصوليون.

القسم الثالث: مجتهد الترجيح.

القسم الرابع: المجتهد في فن، أو في مسألة، أو مسائل، وهو جائز- بناء على ان الاجتهاد يتجزأ - وهو المختار.

لذلك كله قرر المجلس بالإجماع:

1- ان حاجة العصر إلى الاجتهاد حاجة أكيدة، لما يعرض من قضايا، لم تعرض لمن تقدم عصرنا. وكذلك ما سيحدث من قضايا جديدة في المستقبل فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل، على الاجتهاد، حين لا يجد نصّاً من كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم- وذلك حين قال معاذ (أجتهد رأيي، ولا آلو)- وحينئذ تحفظ للإسلام جدته وصلاحيته للعصور كلها، إذ تحل المشكلات في المعاملات، ونظم الاستثمارات الحديثة، وسواها من المشكلات الاجتماعية. وحبذا لو أقيم مركز يجمع ما يصدر عن المجامع، والمؤتمرات، والندوات، لينتفع بذلك، وتزود به كليات الشريعة، والدراسات العليا الإسلامية، وبذلك يشع الإسلام، وفي ذلك ضمان لحياة مستقيمة صالحة.

2- أن يكون الاجتهاد جماعيّاً، بصدوره عن مجمع فقهي، يمثَّل فيه علماء العالم الإسلامي، وان الاجتهاد الجماعي هو ما كان عليه الأمر في عصور الخلفاء الراشدين كما أفاده الشاطبي في الموافقات، من ان عمر بن الخطاب، وعامة خيار الصحابة، قد كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير قرن، وكانوا يجمعون أهل الحل والعقد من الصحابة، ويتباحثون ثم يفتون. وسار التابعون على غرار ذلك، وكان المرجع في الفتاوى إلى الفقهاء السبعة، كما أفاده الحافظ ابن حجر في التهذيب، ذكر انهم إذا جاءتهم المسألة، دخلوا فيها جميعًا، ولا يقضي القاضي، حتى يرفع اليهم، وينظروا فيها.

3- توافر شروط الاجتهاد المطلوبة في المجتهدين، لأنّه لا يتأتى اجتهاد بدون وسائله، حتى لا تتعثر الأفكار، وتحيد عن أمر الله تعالى، إذ لا يمكن فهم مقاصد الشرع، في الكتاب الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ بها.

4- الاسترشاد بما للسلف، حتى يقع الاجتهاد على الوجه الصحيح، فلا يسلك اليه حديثًا إلاّ بعد معـرفـة مـا سبق للسـلف، فـي كل شأن، والاستعانة بمــا قدمه الأئمة المقتدى بهم، وإلاّ اختلطت السبل، فان كتب الفقه الإسلامي المستنبط من الكتاب والسنة، أكبر عون على ما يعرض من المشكلات، إلحاقاً لها بنظائرها.

6- أن تراعى قاعدة انه (لا اجتهاد في مورد النص)، وذلك حيث يكون النص قطعي الثبوت والدلالة، وإلاّ إنهدمت أسس الشريعة.

كل ذلك يعد بادرة إيجابية تحتاج الى مزيد جهد وانفتاح حتى يتمكن المسلم المعاصر من انتاج وعيه الخاص، ومن المهم هنا الإشارة الى ان اصول الفقه السنية، تسمح للعقل السني بتحقيق تطور وانفتاح أكبر على الواقع، فالقياس، والاستحسان، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، والمقاصد، تجعل الفقيه السني أكثر تحرراً من غيره في إنتاج أحكام شرعية تنسجم مع روح العصر تحت عنوان فقه الضرورة، إلاّ انه لم يتمكن من اعطاء نفسه هذا الحق في نقد تجربة الخلافة وفهم السلف للتصور السياسي، وعند المحاولة لفهم هذه المفارقة نكتشف ان الانفتاح الفقهي كان تأسياً بعمل السلف أيضاً، ويرجع ذلك إلى ان تجربة الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اصطدمت بوقائع جديدة، لم يجد لها أثر في القرآن وأحاديث الرسول فاضطروا للعمل بهذه الأصول الظنية، من قياس، ومصالح، وغيرها ففتحوا الطريق بذلك للفقه السني في امتداد تاريخه، وقد استغل ذلك الفقهاء المعاصرين متمسكين بعمل الصحابة وسلف الأمة، وان كان ذلك اجتهاد وإعمال للعقل، إلاّ انه تقليد وإتباع طالما ارتكزوا على عمل السلف في شرعية ذلك، وهو ذاته الأمر الذي يفسر لنا توقفهم على المستوى السياسي على نظام الخلافة لأنّه الخيار الذي عمل به الصحابة.

 

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة
2017/12/10

هل استوعبت الأمة الخيار السياسي للإسلام؟

هناك تيارات حركية تنادي بالإسلام كمشروع سياسي، حتى وإن كانت متأخرة حيث بدأ التنظير الحقيقي لهذا المشروع منذ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وفي ما بعد حسن البنا، وما أسفرت عنه تلك الجهود من تشكيل حركات إسلامية، مثل الإخوان المسلمين، وما شاكلها من حركات سياسية وجهادية، وبرغم الحضور الواضح لهذه الحركات، إلاّ إنها لا ترتقي إلى مستوى تُمثِّل فيه خيار الأمة الإسلامية؛ لان الغالب الأعم بعيد عن هذا الخيار الحركي، وبالتالي لم تتمكن هذه الحركات من إقناع الأمة بعدُ، مما يعني ان الانتماء العام للإسلام يتوقف عند حدود الدائرة السياسية، وعلى أقل تقدير ان حالة الفهم والوعي في عقلية الأمة التي تشكل خلفية الارتباط بالإسلام لم تستوعب الخيار السياسي للإسلام.

الإسلاميون والسلطة

وما يؤكد على ان خيار الأمة كان بعيداً عن أي مشروع سياسي يسعى إلى تحقيق نظام إسلامي، ان كل الحركات الإسلامية التي حظيت بفرصة ترشيح حر وديمقراطي، وان كانت التجارب محدودة إلاّ إنها لم تتمكن من الوصول إلى السلطة عبر ترشيح الأمة، فالحركة الإسلامية في السودان عندما لم تتمكن من الاستفراد بالسلطة في انتخابات (1986) عادت واستلمت السلطة بانقلاب عسكري (1989) وما زالت مهيمنة على الوضع في السودان، وهكذا كل التجارب الديمقراطية في العالم الإسلامي مع قلة تلك التجارب إلاّ انها لم تُسفر عن وصول تيار إسلامي إلى السلطة، وما حققته حماس من فوز لم يكن السبب هو اقتناع الفلسطينيين بسلطة إسلامية، قدر قناعتهم بمشروع حماس المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، والدليل على ذلك ان التنافس الانتخابي بين حماس وحركة التحرير لم يكن حول شكل الدولة ونظامها السياسي، وانما كانت خيارات الشعب الفلسطيني بين حركة مقاومة وحركة يمكن أن تقود الشعب إلى حالة من التطبيع والتبعية الكاملة للكيان الإسرائيلي، أما الإسلاميون في تركيا فوصولهم إلى السلطة كان نتيجة عوامل كثيرة لم يكن واحد منها قناعة الأتراك في دولة شرعية، ولذا لم يستطع النظام السياسي في تركيا تغيير النمط العلماني للدولة.

فشل الإخوان المسلمين

ومؤخراً تمكن الإخوان المسلمين من الوصول الى السلطة في مصر بعد ثمانون عاماً من النضال، وقد كانت تجربة الانتخابات في مصر بعد ثورة 25يناير 2011م فرصة سانحة لهم، بوصفهم الجماعة الأكثر تنظيماً وقدرة على مخاطبة الشارع وتجييشه لصالح مشروعهم السياسي، فصمود الإخوان في ظروف الاقصاء التي مورست في حقهم، والتضحيات الجثام التي بذلت في سبيل هذا المشروع أوجدت نوعاً من التعاطف الشعبي، مضافاً الى الظروف الدولية التي أرادت أن تفتح لهم الطريق ضمن ترتيب جديد للمنطقة، وقد تصدت دولة قطر بكل ما عندها من امكانات للتسويق لهذا المشروع في دول الربيع العربي فدعمت الإخوان في كل من مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا، وقد جنب السودان من هذا الربيع لوجود الإخوان على رأس السلطة فيه، وبرغم ممانعة السعودية لهذا المشروع الإسلامي إلاّ ان قطر كانت تحظى بدعم كل من تركيا وصانع القرار الأوربي، وبعد فشل الإسلاميين في هذه البلاد عادت السعودية لتتموضع من جديد في كل هذه البلاد، وأصبحت البلد الأكثر تأثيرا فيها بما فيها السودان الذي اضطر للحوق بركب القطار السعودي.

وبرغم وصول الإخوان الى السلطة عبر صناديق الاقتراع في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير. والتي حصل فيها محمد مرسي على نسبة 51.73%. وفاز فيها على منافسه أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد حسني مبارك الذي حصل على نسبة 48.27%. إلاّ انهم لم يستطيعوا الحفاظ على هذه الفرصة الذهبية، نتيجة فشل واضح في إدارة المرحلة، وتراجعهم عن وعودهم التنموية، وانتكاس مشروع النهضة الذي بشروا به، ومحاولاتهم الغير موفقة لأخونة كل مرافق الدولة، هذا مضافاً إلى  ارتباكهم الواضح في سياستهم الخارجية التي غلب عليها الطابع الحزبي أكثر من الطابع الوطني.

وتحرك الشارع المصري من جديد في ثورة شعبية عارمة في 30 يونيو 2013م للإطاحة بحكم الإخوان، وبعد احتقان شديد في الشارع المصري تدخل الجيش مرة أخرى لصالح الشعب واستلم مقاليد السلطة من جديد، وبدأت بذلك مرحلة ثانية من تاريخ الإخوان، وما يهمنا التأكيد عليه هنا هو ان التجربة الإسلامية في مصر لا تحسب شاهد على نجاح الإسلاميين في تحويل مشروعهم في حكم الإسلام الى خيار تتبناه كل الأمة.

القومية.. جهود محدودة

وعجز الحركات الإسلامية في أقناع الساحة بخيار إسلامي في الحكم، لا يعود فقط للأسباب النفسية التي أشرنا لها سابقاً، وانما هناك دوافع ثقافية لها علاقة بالبنية الدينية داخل المجتمعات الإسلامية، فقد توارثت الأمة على مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمن شكل واحد للحكم، يتمثل في الخلافة الإسلامية التي سقطت آخر أشكالها في بداية القرن الماضي، وقد قُدم الإسلام في طوال هذه الفترة بالشكل الذي لا يتناقض مع هذا النظام، الأمر الذي ساعد على إبعاد الأمة عن الشأن السياسي وإيكال الأمر إلى من يسمى بخلفاء الله ورسوله، فتبلدت وتجمدت عقلية الأمة سياسياً، وأصبح من الصعب انتاج تصور سياسي ينتمي الى الإسلام في الوقت ذاته ينتمي الى الواقع الراهن، وبعد سقوط هذا النموذج ودخول الاستعمار وتجزية العالم الإسلامي، تبدد حلم الخلافة الإسلامية ووقعت الأمة في حيرة جعلتها عرضة للاستسلام أمام كل التيارات السياسية الجديدة، فبرزت ثقافة كان أساسها القومية والحكومات القطرية، وقد ساهم أتاتورك الذي أقام نظامه العلماني على أنقاض الخلافة العثمانية على تكريس هذه الثقافة، وبدأت موجة القومية تجتاح العالم الإسلامي، وتشكلت حكومات قومية قوية في مصر وسوريا والعراق، ولولا هزيمة العرب في حرب 67 التي اعتبرت هزيمة للتيار القومي لكان قضي تماماً على أي جهود لإقامة نظام إسلامي في الحكم، فتراجع المشروع القومي وإخفاقه في تأسيس دول حديثة على غرار الدول الغربية وتقاعسه أمام القضية الفلسطينية، فسح الباب للحديث عن تصور سياسي إسلامي للمنطقة مستفيداً من الجهود العلمية التي أسس لها جمال الدين ومحمد عبده في القرن الثامن عشر، وحسن البناء في الاربعينات من القرن المنصرم، إلاّ انها تظل جهود محدودة لا ترتقي الى مستوى المنافسة في تلك الفترة.

الدولة العثمانية مفترىً عليها!!

فسقوط الخلافة العثمانية كشف عن فراغ كبير في الخطاب السياسي الإسلامي، قد نجده واضحاً في عشرات الكتابات التي تصف الواقع الإسلامي بعد سقوط الخلافة، بحيث أصبحت الحسرة والبكاء على أطلال الخلافة الضائعة هي الميزة الواضحة لهذه الكتابات، جاء في كتاب محمد فريد الدولة العلية: \ان العناية الصمدية تداركتهم بلم الشعث ورتق الفتق فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني وأمدته بالنصر والعون الرباني، فقامت الدولة العلية بحراسة هذا الدين وحماية الشرقيين، ودعت الى الخير وأمرت بالمودة ونهت عن المنكر فكانت من المفلحين\ ([1]).

 وبرغم ان الكاتب ليس إسلامياً إلاّ انه يكشف عن هشاشة التصور الإسلامي في الأمة، فهذه الكلمات التي مدح بها الدولة العثمانية بوصفها حامية الإسلام والمسلمين وبكونها مؤيدة من الله، تدلل على الآمال الساذجة التي كانت معلقة بمشروع الخلافة الإسلامية، وقد حاول الدكتور عبد العزيز الشناوي أستاذ التاريخ في جامعة الأزهر الدفاع عن الدولة العثمانية في موسوعته (الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) في أربعة أجزاء، فقد كرس جهده في الدفاع عن الدولة العثمانية متهماً قوة غربية في تشويه صورتها، وقال فيه: \مبلغ علمي انه لم تتعرض دولة في العالم لمثل ما تعرضت له هذه الدولة من حملات عنيفة ضارية، استهدفت التشهير بها والنيل منها، وقامت بهذه الحملات المكثفة قوتان عالميتان عاتيتان هما الاستعمار الأوروبي والصهيونية واتخذت هذه وتلك من المؤلفات التاريخية والبحوث العلمية والتصريحات الرسمية ومن مجموعة الوثائق التي نشرتها بعض الحكومات الأوروبية مجالاً لإذاعة ما راق لها أن تنشره عن الدولة تحاملاً عليها\ ([2]).

[ذات صلة]

 وتعليق الفشل والسقوط الكبير لمشروع الخلافة على العوامل الخارجية، هي محاولة أقل ما يقال عنها بأنها استعطاف للشارع الإسلامي الذي يعاني من أزمات عدة تسببت فيها الهيمنة الغربية والصهيونية، فنسبة التشويه الى الاستشراق هو شبيه بنسبة كل اخفاقاتنا الفكرية والثقافية في الأمة للاستشراق أيضاً، وقد وسع الشناوي هجومه للكُتاب العرب الذين اعتبرهم طابوراً خامساً يردد ما يقوله المستشرق، يقول: \وقد ردد بعض المؤرخين والباحثين العرب عن جهالة أو تجاهل أو حقد تلك الآراء الخاطئة والظالمة معاً في مؤلفاتهم\ ([3]).

وأنا هنا لست في صدد تقييم الكتاب ومدى موضوعيته في تقييم التجربة العثمانية، وقد أشار المصنف بنفسه في الجزء الرابع للأخطاء التي وقعت فيها الخلافة العثمانية، وانما الذي يهمني هو التدليل على حجم الفراغ الذي تركه سقوط الدولة العثمانية في نفسية الأمة، ووجود كتاب بهذا الحجم خير شاهد على ما أقول.


[1])  تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد، نشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة مدينة  نصر،  سنة النشر2012 ، ص 11 من المقدمة.

([2])  الدولة العثمانية دولة اسلامية مفتري عليها، عبد العزيز محمد الشناوي، طـ مكتبة الانجلو المصرية مطبعة جامعة القاهرة 1980 م، ص 5

([3])  المصدر السابق .

 

 

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة
2017/11/28

من الواقع.. خيارات سياسية اجترار لتجارب تاريخية قاسية

إذا بدأنا من تحليل عام للمشهد السياسي في البلدان الإسلامية، وحاولنا الاقتراب من الخلفية السياسية للمجتمعات الإسلامية، سوف يبدو لنا المشهد؛ قد استبعد الإسلام كنظام سياسي من إدارة الدولة، وحينها يصح لنا أن نصف الحالة العامة: بأنها تبتعد عن أي دور يُفعَّل فيه الإسلام على مستوى الساحة السياسية.

وقد يقال: ان الأمة اكتفت بجعل الإسلام ضمن حدود الشعار الذي لا يتجاوز الهوية المجتمعية، وهذا الوصف يقر بالإسلام كإطار عام للانتماء، دون الاقتراب من المحتوى والجوهر، وكل ما يحتاج اليه تشكيل هذا الإطار هو التأكيد على المبادئ العامة المتمثلة: في مجرد الإقرار بالعقائد الإسلامية، والالتزام بالأحكام الشرعية، في حدود العبادات، وبعض المعاملات. أما المحتوى الذي يمثل العمق الفلسفي لهذه العقائد، ومدى انعكاسها على الواقع الثقافي والسياسي للأمة، فانه الجانب المهمل، أو المغيب، أو المشوه أحياناً. وكذلك الحالة بالنسبة للأحكام الشرعية؛ التي تحولت الى مجرد طقوس، لا تتفاعل مع أهدافها العامة، وقيمها التشريعية، ومن هنا افتقدت الأمة الإسلامية- في الحالة العامة- كل تصور يمكنه التفاعل مع تطلعات الناس، وحاجاته الحياتية، وبكلمة مختصرة: ان المشهد المهيمن على الواقع الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، لا يرتقي أن يكون تعبيراً صادقاً عن نظام الإسلام في الحكم والإدارة.

من دولة الخلافة إلى العلمانية

فمنذ انهيار الصورة الكلاسيكية للإسلام السياسي، أو ما يسمى بالخلافة الإسلامية، وبخاصة بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية (1924م) تشكلت كل دويلات العالم الإسلامي على أساس نظم سياسية لا توصف بكونها إسلامية، ومازالت تلك الحالة، حتى أصبح النمط السائد في الحكم، هو الحالة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة أو نسبتها فقط للعوامل والأبعاد الخارجية، بعيداً عن حقيقة الوعي الذي تختزنه عقلية الأمة حول الإسلام، فلو كان الإسلام في عمق وعي الأمة يمثل خياراً للعمل السياسي، ومشروعاً للحكم، وبرنامجاً حضارياً متكاملاً، حينها يصح لنا القول: ان الأمة أصبحت تعيش حالة من الردة الحقيقية عن الإسلام؛ لأنها تمسكت بخيارات سياسية بعيدة عنه.

فلم نجد في نفسية الأمة أي حالة من التناقض، بين طبيعتها الإسلامية، وبين تبنيها لتصورات سياسية يسارية، أو يمينية، فكل الأفكار السياسية، والإنسانية، وجدت طريقها إلى واقع الأمة الإسلامية وتفاعلت معها، من غير أن تشعر بأي تناقض بين إيمانيتاها الإسلامية الخاصة، وبين هذه التيارات الدخيلة، والمستحدثة.

حتى الأحزاب السياسية ذات الأبعاد الإلحادية، وجدت لها طريق وسط الأمة وتفاعلت معها الأجيال المسلمة: كالحزب الشيوعي الذي أصبح خياراً سياسياً وازن في كل الأقطار الإسلامية على الأقل في بعض المحطات السياسية من تاريخ العالم الإسلامي. الأمر الذي يؤكد حالة الانفصام بين الهوية الإسلامية الأصيلة، وبين خيارات الأمة السياسية.

ولا أظن اننا نجانب الحقيقة إذا أشرنا لوجود خلل في طبيعة الوعي الذي تختزنه الأمة للإسلام، فحصر الاهتمام بالإسلام ضمن حدود الهوية والإطار فقط، دون الاهتمام الواضح بمحتوى الإسلام الثقافي، والحضاري، والسياسي يؤكد هذا الخلل. مما يجعل من الضروري إيجاد معالجات معرفية حقيقية تستوعب الإسلام كنص مازال متفاعلاً مع حاجات الإنسان وطموحاته في كل آن، وليس الإسلام كحقيقة تاريخية موجودة في الماضي لا يتحقق الانتماء له إلاّ بالرجوع الدائم الى الماضي، وإذا تحقق هذا الوعي يكون حينها من الطبيعي السؤال عن نظام حكم إسلامي لواقعنا المعاصر، أما بدونه لا يمكن تصور نظام سياسي للواقع الراهن من خلال وعي تاريخي، ومن هنا كان من الطبيعي أن تتبنى الأمة خيارات سياسية ذات وعي ينطلق من الواقع حتى لو لم تكن إسلامية.

الإسلام.. فردانية العلاقة مع الله

هذه المعضلة المعرفية أفرزت نمط من التفكير عمل على تأصيل هذه النظرة السطحية للإسلام، فقدمت بعض القراءات اليسارية والليبرالية الإسلام كإطار شخصي فردي ضمن علاقة خاصة بين الإنسان وبين الخالق، كبعد وجداني عاطفي لا علاقة له بواقع الإنسان الاجتماعي والثقافي، فدعموا بذلك النظرة التقليدية، وأشادوا بالتجربة الصوفية كتجربة انعزالية لا تتدخل في الشأن الحياتي للإنسان، في الوقت الذي دعوا الأمة إلى مزيد من الانفتاح على التجربة الإنسانية وبخاصة في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

 وبرغم وجود بعض المحاولات في مواجهة كل ذلك إلاّ ان المشروع السياسي للإسلام مازال غامضاً وغير واضح المعالم، وقد انعكس ذلك في التباينات بين الحركات الإسلامية التي اهتمت بهذا المشروع، كما انعكس في فشل هذه الحركات بإقناع الأمة بالخيار السياسي للإسلام، فنحن أمام وعي سياسي يمثل الأغلبية، والطابع العام للعالم الإسلامي، استطاع أن يستوعب كل الخيارات السياسية، في الوقت الذي لم يحقق التفاعل المطلوب مع الخيار الإسلامي، مع ان الحالة الطبيعية للمسلمين تستوجب بروز التيار الإسلامي كعنوان سياسي، يعبر عن مدى الانتماء لهذا الدين، ذلك هو الأمر الذي يقودنا من جديد إلى النظر في طبيعة الانتماء، الذي يقبل بالآخر وإن كان ذو مرجعية معرفية بعيدة عن الإسلام، ولا يتفاعل بالمستوى المطلوب مع الخيار الذي يجب أن ينعكس من طبيعته الذاتية.

تناقضات

بهذا الوصف يمكننا الكشف عن الدوافع التي حركت بعض تيارات الأمة لتبني مشروع الإسلام السياسي، ويمكن تلخيصها: في رفض الواقع بما فيه من تخلف ورجعية وحرمان، مضافاً الى الكفر بإسلام الأمة التي تبنت كل الخيارات ما عدا خيار الإسلام في الحكم، ومن هذه الزاوية يمكننا تتبع نشوء التفكير المتطرف الذي حاول تبرئة الإسلام، في الوقت الذي اتهم فيه فهم الأمة محملاً إياه كل المسؤولية، ولكي تبرئ هذه التيارات الإسلام كدين من ساحة الاتهام، لجأت إلى التاريخ كعمق وجداني، وكتجربة ناجحة- على الأقل في مخيلة الأمة- لتستعير منه فهم الإسلام، ولتحاكم به الفهم المعاصر، وبذلك تتحقق القطيعة بين إسلام التجربة التاريخية، وبين إسلام التجربة الراهنة، ودخلت بذلك الأمة في مرحلة جديدة من التناقضات، فمضافاً الى حالة التناقض التي يفرزها الواقع المعاصر، أصبحت الأمة أيضاً ملزمة أن تعيش تناقضات الماضي، فلم تصبح خيارات الإنسان المعرفية هي مجرد تحقيق وعي يتفاعل مع الواقع، وانما تحقيق وعي يمكنه الالتفات إلى الوراء في الوقت الذي يسير قدماً الى الإمام، في عملية صعبة ومعقدة تصل في أكثر الأحيان الى الكفر بالواقع أو الكفر بالماضي.

ومن المؤكد ان الإيمان بإسلام الماضي والتأكيد عليه لا يتحقق إلاّ بعد الكفر بإسلام الحاضر، ومن أجل ذلك تم التأكيد على نظام الخلافة كحل لأزمة الحكم في المجتمعات الإسلامية، والكفر بالديمقراطية كشكل معاصر للحكم.

ومشروع الخلافة الإسلامية برغم انه يحمل دلالة الانتماء للإسلام، إلاّ انه في الواقع يكشف عن حالة تناقض أو انفصام؛ فالإشادة بالتاريخ هي إدانة للواقع، والأيمان بما كان عليه السلف من إسلام، يقابله تشكيك بما عليه المسلم اليوم من إسلام، بحيث لا يستطيع المسلم المعاصر أن يقول: (أنا مسلم لأني أعيش اليوم إسلامي وأعبر بتجربتي عن إيماني). والإسلام وإن كان مساهماً فعلياً في صنع التاريخ إلاّ انه لم يحقق ذلك في الحاضر، فكل الخيارات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية... هي منجزات ليست إسلامية، فإذا أراد المسلم المعاصر الإسلام انفصل عن الواقع وإن أراد الواقع انفصل عن الإسلام.

وقد كرس الخطاب السلفي هذه الحالة وتفنن في نقل أمجاد الماضي وتسويقها، حتى أصبح الخطاب الأعلى صوتاً والأكثر حضوراً هو الإسلام التاريخي، الأمر الذي يفسر لنا بروز بعض الظواهر الطالبانية والداعشية وغيرها من الحركات الراديكالية، التي تعبر عن نفسية مأزومة همشها الحاضر فهربت نحو الماضي، ومن هنا لا يمكننا استبعاد الحالة النفسية عند تحليل هذه الظواهر، في الوقت الذي لا نستبعد تأثير الجو الثقافي الذي عزز هذه الحالة، كما لا يجوز استبعاد العامل السياسي الذي وظف هذه الظواهر.

تجربة إسلامية قاسية تاريخياً

ولتقديم قراءة سياسية معاصرة للإسلام تستمد شرعيتها من النص الديني، لابد من مواجهة الوعي التاريخي للإسلام، فعملية النقد للتجارب التاريخية هي الخطوة الأولى لتجاوز التركة الثقيلة التي جعلت الأمة مستسلمة أمام ما أُنجز تاريخياً، ومن المفارقات المدهشة ان هذه الأمة تستبعد الخيار الإسلامي في الحكم لقصور التجربة التاريخية التي مثلت كارثة حقيقية لتجربة الحكم في الإسلام، وبخاصة العهد الأموي والعباسي، ولكن في الوقت نفسه تنظر بعين القداسة لتلك التجارب التاريخية، ولا تجد في نفسها الجرأة لتقديم أي تصور معارض لها، وذلك بسبب الربط الذي حصل بين الإسلام كدين وبين تجربة سلف الأمة، والأعجب من ذلك ان بعض الحركات الإسلامية أسست كل تصوراتها على تلك التجربة وبدأت في الدعوة إلى الخلافة الإسلامية تأسياً بتجربة الأمويين والعباسيين والعثمانية مثل حركة التحرير.

ويمكننا القول: ان هذه الأمة قد خضعت لتجربة إسلامية قاسية، وعلى أقل تقدير منذ قيام الدولة العصبية ابتداءً من الدولة الأموية مروراً بالعباسية وانتهاء بسلاطين الدولة العثمانية، وقد سطَّر لنا التاريخ أبشع أشكال الاستغلال السياسي باسم الدين، مما أوجد حالة في الشعور أو في اللاشعور تستدعي النفور من النظم السياسية ذات الصبغة الدينية، وقد يفسر لنا هذا وجود هذه الأنظمة التي تحكم بسياسات لا ترتكز على الدين في مشروعها السياسي، حتى أحزاب المعارضة في أغلبها الأعم لا تعارض تلك السلطة لكونها لا تحكم بالإسلام، الأمر الذي يؤكد ان خيارات الأمة في السياسة ليست إسلامية، ووجود هذه الأنظمة كان نتاجاً طبيعياً لثقافة الأمة، وليس كما يقال ان الأنظمة الحاكمة قد تمكَّنت من رقاب الأمة بمعونة خارجية بعيداً عن رضاها.

وما يعزز هذه الحالة ان المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، يتمحور معظم خطابها حول التربية والتهذيب والالتزام بالأحكام الشرعية، بل حتى بضرورة السمع والطاعة للحاكم، ولا نجد خطاباً يطالب بالحكم الإسلامي إلاّ ضمن الحركات الإسلامية، وهي دوائر محدودة داخل الأمة، كما إنها متهمة من تيار عريض بكونها تستغل الدين لتحقيق مآرب خاصة.

*مقتطف من كتاب \دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات\ - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة

 

2017/11/26

النبي محمد (ص).. شهيد الأمة

كثيرة هي الشمائل النبوية المذكورة في القرآن الكريم، وهنا نحاول ان نقف عند واحدة منها، لما للتعرف على خصائصه  من أثر مهم في معرفة عظم المصيبة التي ابتلي بها المسلمون برحيله حتى ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: وإذا أصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فإن الخلق لم يصابوا بمثله قط([1]).

فعظم الشعور بالفقدان يتوقف على عظم المفقود.

وما نريد ان نتوقف عنده في هذه المقالة مقام الشهادة الذي وصف الحق تبارك وتعالى نبيه به في كتابه فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}([2])، فما معنى الشهادة في هذه الآية الكريمة؟

إن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}([3])، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}([4])، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ}([5])، والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، وعلى تبليغ الرسل أيضا، كما يومىء إليه قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}([6])، وظاهر الآيات إن هذه الشهادة ليست في الآخرة ويوم القيامة فقط كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} ([7])، بل في الحياة الدنيا ايضا يشير اليها قوله تعال حكاية عن عيسى (عليه السلام): {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ([8]).

ثم لنا ان نسأل ان هذا الشهيد شهيد على صور الأعمال فقط ام على حقيقتها وباطنها والمقصود من حقيقة الاعمال المعاني النفسانية من الكفر و الإيمان و الفوز و الخسران، و كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان؟

والجواب: بما ان الآيات مطلقة فهي تفيد ان الشهيد عالم ومطلع على حقائق الاعمال وليس صورها فحسب، بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، وانقياد وتمرد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شيء، حتى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

ولا يخفى أن هذه الحقائق القلبية النفسانية هي مدار الثواب والعقاب في الآخرة فعليها يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}([9])، فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ([10]).

الشهادة.. كرامة خاصة

و من المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم، و أما من دونهم من المتوسطين في السعادة، و العدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الأجلاف الجافية، و الفراعنة الطاغية من الأمة، بل هؤلاء هم من أشار اليهم الحق تعالى بقوله {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}([11])، ومن خلال الآية المتقدمة يتضح تلازم مقام الشهادة مع الشفاعة حيث أنها نفتها عن غير الشهداء، وبما أنهم ـ اي الشهداء ـ من الذين أنعم الله عليهم بمقتضى قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}([12])، فيكونون هم أصحاب الصراط المستقيم لقوله: اهدنا الصراط المستقيم

فهم أصحاب الصراط المستقيم، لقوله تعالى \صراط الذين أنعمت عليهم\: فاتحة الكتاب - 7.

فالمراد بكون الأمة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه و منه، فكون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس و يشهد الرسول عليهم.

ومما تقدم نعلم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) محيط بإحاطة ملكوتية بالجميع وان الاعمال كذلك تعرض عليه، ففي بعض الروايات كل صباح ومساء وفي روايات كل اثنين وكل خميس فهل يمكن ان نقبل شهادة من ليس له اطلاع على الاعمال المراد شهادته عليها.

ومقامات النبي’ في القيامة عظيمة وهي اعلى من باقي الانبياء والرسل بل جميع الخلق ومنها هذه الرواية اللطيفة في تفسير العياشي:

«عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم: في قول الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس، فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم إبراهيم على موسى، ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى فيقول:

عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ والله أعلم فيقول محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه ويستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا»([13]).

قال علي بن أبي طالب عليه السلام:

\يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقام الرسل فيسأل فذلك قوله لمحمد’: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) وهو الشهيد على الشهداء، والشهداء هم الرسل\([14]).

قال أمير المؤمنين عليه السلام: \ما برأ الله نسمة خيراً من محمّد’\([15]).

 ----------------------------------

([1]) الوسائل: ج3، ص267.

([2]) البقرة: 143.

([3]) النساء: 41.

([4]) النحل: 84.

([5]) الزمر: 69.

([6])الأعراف: 6.

([7]) النساء: 159.

([8]) المائدة: 117.

([9]) البقرة: 225.

([10]) الزخرف: 86.

([11]) النساء: 69.

([12]) النساء: 69.

([13]) الميزان، الطبطبائي، ج ١، ص ١٧٥.

([14]) بحار الانوار مجلد: 7 ص 313 .

([15]) الكافي الشريف ج1، ص440.

 
2017/11/19

في ذكرى رحيل النبي.. هكذا يرى علي (ع) محمداً (ص)

توسمت شخصية الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) بكمالات حيرت أرباب العقول وكل قاصد لمعرفته، وأنى لنا معرفته وهو القائل: (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا)[1] ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.

لذا لو أردنا أخذ نزر من معرفة هذه الشخصية العظيمة يحدونا العقل الى أعتاب باب مدينة علمه وأعرف الخلق به علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) والوقوف على بعض درره في وصف النبي (صلى الله عليه وآله) في عدة وقفات:

1-    في طفولته وكهولته:

قال عليه السلام : (خير البريّة طفلا، وأنجبها كهلا)[2]

فعن عمه أبي طالب قال في النبي (صلى الله عليه واله) : لم أرَ منه كذبة قط، ولا جاهلية قطّ، ولا رأيته يضحك في غير موضع الضحك، ولا يدخل مع الصبيان في لعب، ولا التفت إليهم، وكان الوحدة أحبّ إليه والتواضع..)[3]

والكهل: الرجل الذي يتجاوز الثلاثين.

فقد جاء في الخبر: (لمّا بنت قريش الكعبة، وتنازعوا في رفع الحجر ووضعه في محلّه، وحكّموا النبيّ (صلى اللّه عليه وآله) فحكم بينهم بما ارتضوه، قال قائل متعجّبا من انقياد شيوخ قريش لشابّ وكان يومئذ ابن خمس وثلاثين: أما واللات والعزّى ليفوقنّهم سبقا، وليقسمنّ بينهم حظوظا وجدودا، وليكوننّ له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم)[4]

2-   نزر من سيرته:

وقال عليه السلام: (سيرته القصد، وسنّته الرّشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل)[5]

القصد هو التوسط والاعتدال، وضده التجاوز عن ذلك، وبعبارة أخرى القصد هو منهج لا افراط فيه ولا تفريط، فقد بين الامام علي (عليه السلام) اعتدال سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في جميع مجالات حياته المباركة عباديا واخلاقيا وسياسيا واقتصاديا.. حتى وصفه القران الكريم: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[6]، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[7].

فقد كان (صلى اللّه عليه وآله) يقسم لحظاته بين جلسائه، ولا يتكلّم إلاّ في ما رجا ثوابه، فإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير، ولم يكن المسلمون وحدهم في دهشة من كمالاته، بل وقف غيرُهم متحيرا من عظمة شخصيته وعلو مقاماته.

فقد صرح برنارد شو الفيلسوف العالمي بقوله: (ان دين محمد هو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنه حائز على أهلية الهضم لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جاذبا لكل جيل ... ان محمدا يجب أن يدعى منقذ الانسانية، وأعتقد أنه لو تولى رجل مثله زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشاكله بطريقة تجلب إلى العالم السعادة والسلام، ان محمدا أكمل البشر من السابقين والحاضرين، ولا يتصور وجود مثله في الآتين)[8]

3-   في أفضليته على جميع الخلائق:

وقال عليه السلام: (وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله وسيّد عباده)[9] (لا يوازى فضله)[10] (المجتبى من خلائقه... والمصطفى لكرائم رسالاته)[11] (أرسله بالضّياء، وقدّمه في الاصطفاء)[12]، (فهو إمام من اتّقى، وبصيرة من اهتدى)[13]

تلألأت هذه الكلمات بمقامات النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) التي لا يدانيه فيها احد، فقوله: (سيد عباده) و (المجتبى من خلائقه) و (قدمه في الاصطفاء) و (امام من اتقى) و (لا يوازى فضله).. كل هذه بيانات بان مقام النبي (صلى الله عليه وآله) وفضله لا يدانيه فيه أحد من خلق الله طرا بلا استثناء، فهو أول من خلقه الله تعالى

ومنه خلق كل خير كما ورد في كتب الفريقين.

إننا نعتقد، أن مسير مئات الآلاف إلى مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) إحياءً لذكرى رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، في الـ 28 من صفر الخير، ما هو إلا تجسيد حي للمودة في القربى، الذي أمر به الله تبارك وتعالى في قوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[14].

 

[1]  روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ج5 ص492.

[2] نهج البلاغة : خطبة 105.

[3] المناقب لابن شهر آشوب: ج1 ص37 .

[4] الطبقات لابن سعد: ج1 ص94.

[5] نهج البلاغة : خطبة 94.

[6] يس: 3- 4.

[7] القلم: 4.

[8] في ظلال نهج البلاغة: ج1 ص63 نقلا عن جريدة الجمهورية المصرية عدد 14 مايو « أيار » سنة 1970.

[9] نهج البلاغة : خطبة 214.

[10] نهج البلاغة : خطبة 151.

[11] نهج البلاغة : خطبة 178.

[12] نهج البلاغة : خطبة 212.

[13] نهج البلاغة : خطبة 94.

[14] الشورى: 23.

 
2017/11/18