تاريخ
بين قادح ومادح.. ماذا تعرف عن الشيخية؟

الشيخية هم طائفة من الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ولقّبوا بهذا الاسم نسبة إلى شيخهم ومعلمهم الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، وهم لا يختلفون في أُصول الدين وأُمهات المسائل الشرعية عن سائر الشيعة الإمامية، وليسوا أخباريّين كما ربما يتوهّم، نعم لهم بعض الآراء والمعتقدات الخاصّة كما نشير إليها.

وهم اليوم موجودون في إيران والعراق والكويت والأحساء، وينقسمون إلى فرقتين: «الركنية» و «الكشفية»، ولكلّ فرقة آراؤها الخاصّة.

ومبدأ نشوء هذه الطائفة هو بعد بروز الشيخ أحمد الأحسائي في مطلع القرن الثالث عشر الهجري كعالم أوحد متميز له بعض النظريات والأفكار الجديدة في علم الفلسفة والعقائد الإسلامية، وحيث كان الشيخ ذا عبقرية فذة وعرف منه الزهد والإغراق في العبادة ـ هذا بالإضافة إلى مقامه العلمي الشامخ ـ لذا كان ذا جاذبية قوية ومؤثرة أدّت إلى وجود تيار جارف من الموالين والأنصار له، ومعظم أنصاره كان من إيران، وبعضهم من العراق ودول الخليج، وهؤلاء هم كانوا النواة والقاعدة الّتي تحوّلت فيما بعد إلى طائفة مستقلة تسمّى بـ «الشيخية».

لذا وقبل كل شيء لابد أن نعرج على سيرة وحياة الشيخ أحمد الأحسائي.

سيرة الشيخ أحمد الأحسائي : ( [1])

أحمد بن زين الدين بن إبراهيم بن صقر بن إبراهيم الأحسائي المطيرفي.

كان فقيهاً، إمامياً، حكيماً، مشاركاً في فنون شتى، له شهرة وأتباع أسّسوا ما يُعرف بفرقة الكشفية، ويقال لها أيضاً الشيخية.

ولد في المُطيرف (من قرى الأحساء) سنة ست وستين ومائة وألف .

وتلقّى مبادئ العلوم عن محمد بن محسن الأحسائي، وغيره .

وارتحل إلى العراق في سنة (1186 هـ)، فحضر في كربلاء على: محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني، والسيد محمد مهدي بن أبو القاسم الشهرستاني، والسيد علي بن محمد علي الطباطبائي، وفي النجف على جعفر كاشف الغطاء.

وأجاز له أساتذته الشهرستاني والطباطبائي وكاشف الغطاء، وآخرون مثل: السيد محمد مهدي بحر العلوم، وأحمد بن حسن الدمستاني، وحسين بن محمد العصفوري البحراني.

وقد أقام في البحرين مدّة أربع سنين، ثمّ سكن البصرة بعد أن زار العتبات المقدسة سنة (1212 هـ). وسافر إلى إيران، فلبث في يزد مدة ثمّ انتقل إلى كرمانشاه بطلب من محمد علي ميرزا بن السلطان فتح علي شاه القاجاري، وزار عدة مدن في إيران.

ثمّ ارتحل إلى العراق، فاستقرّ في كربلاء.

وكان مواظباً على المطالعة والبحث والتدريس، وعلى بثّ أفكاره ونشر طريقته بالخطابة والكتابة والتأليف والرحلات .

تتلمذ عليه وروى عنه جمع، منهم: ابناه محمد تقي، وعلي نقي، والسيد كاظم بن قاسم الرشتي وهو أشهر تلامذته وعميد طريقته، ومحمد باقر بن حسن النجفي صاحب الجواهر، وأسد الله بن إسماعيل التستري صاحب المقابس، ومحمد إبراهيم بن محمد حسن الكلباسي، والميرزا علي محمد الشيرازي الملقب بالباب، وحسين بن مؤمن اليزدي الكرماني، وغيرهم.

وصنف كتباً ورسائل جمّة، منها: الرسالة الحيدرية في الفروع الفقهية، الرسالة الصومية، شرح «تبصرة المتعلمين في أحكام الدين» للعلاّمة الحلّي لم يتم، أحكام الكفّار بأقسامهم قبل الإسلام وبعده وأحكام فرق الإسلام، شرح مبحث حكم ذي الرأسين من «كشف الغطاء»، ذكر فيه أحكامه من أوّل الطهارة إلى الديات، المسائل القطيفية، تحقيق القول بالاجتهاد والتقليد وبعض مسائل الفقه، جواز تقليد غير الأعلم وبعض مسائل الفقه، مباحث الألفاظ في الأُصول، أسرار الصلاة، تفسير سورة التوحيد وآية النور، شرح الزيارة الجامعة (مطبوع)، جوامع الكلم (مطبوع)، شرح «الحكمة العرشية» لصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بملا صدرا، كيفية السير والسلوك الموصلين إلى درجات القرب والزلفى، معرفة النفس، معنى الكفر والإيمان، بيان أحوال أهل العرفان والصوفية وطرائقهم وطرق الرياضات، رسالة في التجويد، رسالة في علم النجوم، شرح علم الصناعة، والفلسفة وأحوالها، وديوان شعر، وغير ذلك كثير.

توفّي حاجّاً بقرب المدينة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف، وحمل إليها، فدفن في البقيع.

اختلاف العلماء فيه :

وقد اختلف علماؤنا في صاحب الترجمة اختلافاً عظيماً، فمنهم من بالغ في مدحه والثناء عليه وتبيان علمه، ومنهم من أفرط في قدحه والتشنيع عليه وطعن في علمه ودينه وعقيدته، ونكتفي هنا بنقل نماذج من كلمات المادحين له والقادحين فيه :

قال المحدث النيسابوري: أحمد بن زين الدين الأحسائي القاري، فقيه محدّث عارف، وحيد في معرفة الأُصول الدينية، له رسائل وثيقة، اجتمعنا معه في مشهد الحسين (عليه السلام) ، لا شك في ثقته وجلالته.

أوّل من قدح في علمه ورد عليه معاصره الشيخ محمد إسماعيل بن السميع الاصفهاني المعروف بواحد العين، حيث قال في مقدّمة «شرح العرشية»: وقد تصدى لشرحها المولى الجليل... الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي... فشرحها شرحاً كان كلّه جرحاً، لعدم فهمه ما هو المراد من الألفاظ والعبارات، لعدم اطّلاعه على الاصطلاحات، وإلاّ فهو عظيم الشأن .

وقال السيد أبو تراب الخوانساري: إن الشيخ أحمد الأحسائي كان فقيهاً فدخل في علم الحكمة وأخذ يطالع كتبها حتّى مهر فيها وألّف فيها كتباً، وحيث لم يحضر فيها على أُستاذ ماهر زلّت أقدامه فضلّ وأضل.

ولعلّ أهم ما نسب إلى الشيخ من مؤاخذات هو الأُمور التالية:

1-إنكاره المعاد الجسماني ودعوى انّ هذا الجسم المادي لا يمكن أن يعود بكلّ ما فيه من كثافة وكدورة.

2-إنكاره المعراج الجسماني، أي انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعرج إلى السماء بجسمه المادّي بكل ما فيه .

3-إنكاره شق القمر المرئي الحقيقي معجزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتّفق عليها بين المسلمين، ودعوى انّ الّذي انشق انّما هو صورة القمر المنتزعة منه .

4-الغلو في شأن أهل البيت (عليهم السلام) وإعطاؤهم بعض المقامات الّتي لا تصحّ إلاّ لله تعالى، مثل القول بأنّ الله تعالى فوض كلّ ما في الكون إليهم من الخلق والرزق والحياة والممات وما إلى ذلك، والقول بأنّ علمهم حضوري وليس حصولي يعني انّهم يعلمون بكلّ ما كان وجميع ما يأتي على نحو يكون ذلك كلّه حاضراً في ذهنهم وذاكرتهم في كلّ حين كما يرون العين .

حقيقة الشيخية:

ولم يكن في بادئ الأمر شيء باسم الشيخية، ولا كان في نيّة الشيخ تأسيس فرقة جديدة أو الدعوة إلى مذهب جديد، ولكن المواجهة الحادة والجدال الّذي بلغ أوجه بين الشيخ ومعارضيه، واستمر بعد وفاته بين أنصاره ومخالفيهم أدى إلى تحيّز جمع من العلماء وطائفة من الناس إلى جانب الشيخ وتحمسّهم في الدفاع عنه والدعوة إليه، ثم تحول هؤلاء بشكل تدريجي إلى جماعة مستقلة منسوبة إلى الشيخ تتبنّى أفكاره وتنشر كتبه وتدعو إلى خطه، وعرفوا حينها باسم الشيخية.

وقد اتّسعت رقعة الشيخية بعد وفاة الشيخ وازداد أتباعها ومؤيّدوها، وكان الزعيم الأكبر لهم بعد الشيخ خليفته السيد كاظم بن السيد قاسم الحسيني الرشتي الّذي كان يتخذ من كربلاء مقراً لزعامته حتّى توفّي فيها

سنة 1259 هـ .

وكانت الشيخية في حياة السيد متفقة على زعامته ومرجعيته ولكن بعد وفاته انقسمت إلى فرقتين، فرقة تبعت الحاج محمد كريم خان الكرماني المتوفّى سنة 1288 هـ وعرفوا فيما بعد بالركنية، وفرقة تبعت الميرزا حسن گوهر الحائري ثم آل الاسكوئي من بعده فعرفوا بالكشفية.

الطائفة الركنية:

أمّا الركنية فتتلخص عقيدتهم في التالي: يعتقدون انّ الدين قائم على أربعة أركان: 1-معرفة الله 2-معرفة الرسول 3-معرفة الإمام 4-معرفة الفقيه الجامع للشرائط الذي يقوم مقام الإمام في زمن الغيبة .

وتجسد الركن الرابع في الشيخ أحمد الأحسائي، ثم في السيد كاظم الرشتي، ثم في الحاج كريم خان نفسه ولهذا سميت هذه الطائفة بالركنية.

قال صاحب الذريعة: ولمّا شدّد عليهم الأصحاب النكير بعدم ما يسمّى الركن الرابع في الإسلام، ألّف محمد كريم خان الكرماني رسالة عام 1279 هـ، أثبت فيها انّ الركن الرابع هم رواة الأئمة والعلماء جميعاً ولا تختص الركنية بشخص معين .

ومن الناحية العملية أصبح الركن الرابع منصب تتوارثه سلالة الكرماني حتّى اليوم، باعتبارهم المصداق الحقيقي لهذا الركن.

وكان مقر زعامتهم مدينة كرمان بإيران، حيث يتواجد أحفاد الكرماني والأكثرية من أتباعه، ولما قتل مرشدهم عام 1400 هـ ، انتقل مقر الزعامة إلى مدينة البصرة بالعراق أهم معقل لهم بعد كرمان، ولا زال زعيمهم الحالي في مدينة البصرة حتّى اليوم، والركنية أكثر أتباعاً من منافسيهم الكشفية، ويتمركز وجودهم في مدينة كرمان بإيران، ثم مدينة البصرة، ويوجد قليل منهم في الكويت وبعض مناطق إيران الأُخرى .

ويمكن التعرف على أفكارهم من خلال كتبهم، مثل «رجوم الشياطين» و «كشف المراد في علم المعاد» و «هداية الأطفال» و «هداية الصبيان» و «إرشاد العوام» و «الفطرة السليمة» و «الفلسفية» للشيخ أبو القاسم الكرماني.

الطائفة الكشفية :

أمّا الطائفة الكشفية فيعتقدون انّ الشيعة ينقسمون إلى قسمين: كاملي العقيدة، وناقصي العقيدة. والمعني بكاملي العقيدة هم الكشفية أنفسهم ومن يعتقد بعقيدتهم في أهل البيت (عليهم السلام) ; وأمّا ناقصي العقيدة فهم معظم الشيعة الإمامية. وتتلخص عقيدتهم في أهل البيت (عليهم السلام) بأمرين :

الأوّل: الاعتقاد انّ علم الإمام حضوري وليس حصولي، يعني أن يعلم بما كان وما سيكون إلى يوم القيامة بإرادة الله تعالى، بحيث تكون جميع هذه المعلومات حاضرة في ذهنه دائماً كمن يشاهد بالعيان .

الثاني: الاعتقاد بأنّ دم الإمام وجميع فضلاته طاهرة.

وعلى أساس هذا التقسيم للشيعة أصدر علماء الكشفية أحكاماً فقهية خاصّة منها:

انّه لا يجوز لمن كان كامل العقيدة أنّ يقلّد مرجعاً ناقص العقيدة أو يصلّي خلف إمام ناقص العقيدة، أي من كان يعتقد بطهارة دم الإمام وانّ علمه حضوري لا يجوز له أن يقلّد أو يصلّي خلف من لا يرى ذلك، فكمال العقيدة بهذا المعنى شرط في مرجع التقليد وإمام الجماعة.

ويعتقد أنّ تسميتهم بالكشفية لادّعاء علمائهم أنّ خفايا بعض الأُمور تُكشف إليهم ببركات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) .

ويتواجد الكشفية اليوم بشكل رئيسي في الكويت وهناك مقر زعامتهم، كما يتواجد بعضهم في مدينة الهُفوف وبعض القرى بالأحساء ولهم أيضاً بعض الأتباع في تبريز بإيران وبعض المدن الجنوبية بالعراق .

بقي أن نشير إلى أنّ كلاًّ من الركنية والكشفية يعتقد بانحراف الطائفة الأُخرى وضلالتها. ونكتفي بهذا التعريف الموجز للطائفة الشيخية. ( [2])

وقد ألّف حول الشيخية والطائفتين المنشقتين منها رسائل ومقالات، غير انّ ما كتبه الأُستاذ هاشم محمد الشخص من أوجز وأوثق ما كتب، في الموضوع وقد اقتبسنا في بيان ما يرجع إلى هذه الطائفة وفروعها من كتابه «أعلام هجر من الماضين والمعاصرين ».


الهوامش:

[1] . روضات الجنات: 1 / 88 برقم 22; مستدرك الوسائل (الخاتمة): 2 / 121; قصص العلماء: 47 ; هدية العارفين: 1 / 185 ; إيضاح المكنون: 1 / 205 ; أنوار البدرين: 406 برقم 8 ; أعيان الشيعة: 2 / 589 ; ريحانة الأدب: 1 / 78 ; الذريعة: 7 / 124 برقم 667 ; الكرام البررة: 1 / 88 برقم 180 ; الأعلام: 1 / 129 ; معجم رجال الفكر والأدب في النجف: 1 / 89 ; معجم المفسرين: 1 / 38 ; معجم المؤلفين: 1 / 228 ; فرهنگ بزرگان: 36 .

[2] . نقل من كتاب « أعلام هجر » بتلخيص وتصرّف، تأليف هاشم محمد الشخص .

2020/06/20

فجر الإمام الصادق (ع) مزّق ظلام الزعامات الزائفة

الأبعاد العلمية لدى الإمام الصادق “عليه السلام”.. الفقه وأصوله نموذجاً

كانت الحياة السياسية قد امتدت بخطوطها العامة لحرمان أهل البيت “عليهم السلام” من الحقوق الأساسية، فكان العزل المرجعي، والاضطهاد الاقتصادي، ومراقبة التحرك، بعض مظاهر إقصاء أهل البيت “عليهم السلام” عن قيادة الأمة، وإحلال البديل المتهافت سياسياً وفتوائياً بغية القضاء على الآثار التي تشير إلى أهل البيت “عليه السلام” قيادياً، وكان هذا الإقصاء قد أفضى بالضرورة إلى إقصاء فقه أهل البيت “عليهم السلام” عن الميدان، فكانت خسارة التشريع الإسلامي قد ارتفعت إلى مستوى الكوارث الإنسانية والنكسات المدمّرة.

حتى إذا نهد الإمام محمد الباقر “عليه السلام” بوضع الحجر الأساس لصرح جامعة أهل البيت، بدأت الملامح العامة للفقه الإمامي تتراءى بكثير من الحذر في الأفق الدامي، بعد أن حيل بينه وبين المسلمين قرناً من الزمان.

وما أن أطلّ الإمام الصادق “عليه السلام” بطلعته المباركة في الحياة الفكرية، حتى غطّى تلك الأضواء الخافتة البديلة في سماء التشريع التي تحاول حجب الرؤية المتألقة لتراث أهل البيت “عليهم السلام” فكان الفتح المبين، ویابی الله إلا أن يتم نوره.

ويأتي هذا الإشعاع في الإضاءة الجديدة على يد الإمام الصادق “عليه السلام” في ظروف صعبة المراس، وأجواء داكنة المناخ، واستطاع أن ينهض بكشف الحجب عن ذلك اللهيب المتوهج لتراث أهل البيت “عليهم السلام” ويمزق الستائر المهلهلة لتلك الزعامات الزائفة التي ادعت قيادة الأمة تشريعياً، ولا نصيب لها من ورع، ولا إثارة من علم.

قلنا في عمل سابق: «لقد تسلم منصة الإفتاء غير المؤهلين، ففسروا الكتاب بما لم ينزل به الله سلطاناً، وقالوا في السنة بالأهواء، وأنزلوا الشريعة منزل الرأي، وذهبوا إلى الاستحسان دون الاستنباط، وإلى القياس دون الاجتهاد، وكان الفقهاء الرسميون قد انتشروا في الممالك والأقاليم، ينفذون رغبة السلطان، ويفتون بما تملي عليهم ظروف الحاكمين، يفتعلون الأحاديث ويضعون الروايات، وينحلون السنن، إلا صبابة ضئيلة قد يمنعهم الوازع الديني عن العبث والإسراف».

وقد حسب الحاكمون أن الفراغ التشريعي يمكن له أن يملأ بهؤلاء المتنطعين، ولكنهم أخفقوا إخفاقاً فاضحاً، إذ استمدت المسائل الكثيرة في الفيء والخراج، والعتق والولاء، والغنائم والحقوق، وأفرزت الفتوح موجاً عارماً من الإشكاليات الفقهية، وقد ازدادت تعقيداً حينما لم تجد الحلول الشرعية الواقعية، لغياب القيّمين على الكتاب والسنة، وصدارة المتخلفين في الأداء والإفتاء الشرعيين..

وتعثرت الخطى، وتلكأت المسيرة، فجدّ الخلفاء الشعوبيون في طلب البديل بشكل جديد، إذ عمدوا إلى طائفة من فقهاء الموالي، فقلدوهم أمر العرب والمسلمين في القضاء والإفتاء، فنبغ على أيديهم سليمان بن یسار فأدار شؤون المدينة المنورة، وسليمان بن موسی الأشدق (ت ۱۱۹ھ) فتولى الإفتاء في الحجاز، ومكحول بني هذيل (ت ۱۳۰هـ) وإلى جنب هؤلاء من الموالي: عكرمة مولى ابن عباس، وسليمان بن طرخان واسماعيل بن خالد، ونافع مولى ابن عمر، وأبو حازم سلمة بن دینار الأعرج مولى بني مخزوم، حتى وصل الدور إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت 150ھ) ففتح باب القياس.

وهكذا أصبحت دائرة الفقه الإسلامي منحصرة بعلماء الموالي، وفقهاء البلاط، فنشأ جيل من الناس لا يعرف لأهل البيت رأياً، ولا لأئمتهم فقهاً.

وهنا يبرز الدور الريادي للإمام الصادق “عليه السلام” وهو يبدد السحب الكثيفة التي أحاطت بهذا المناخ القائم، فيستقطب الحركة الفكرية والعلمية في الإسلام، ويلقي بظلالها على الأفق البعيد، فينشأ جيل جديد من الفقهاء السائرين بركاب النبي وأئمة أهل البيت “عليهم السلام”، ويبزغ فجر متلألأ بكوكبة صالحة من تلامذة الإمام تحمل العلم لواءً، وبذلك تتوطد مدرسة أهل البيت جذوراً، وتتجمل طلائعها نضالاً، وتتسع على يد الإمام الصادق ”عليه السلام” مفرداتها ومناهجها ومعارفها، حتى سميت باسمه الشريف، وعاد المذهب الإمامي منتسباً إليه، ومستنداً عليه، فقيل: (المذهب الجعفري).

وأظهر الإمام من العلم المكنون ما ذاع صيته في الآفاق، وانتشر ذكره في الأقاليم، فأعاد نضارة الإسلام غضاً مشرقاً حيوياً كما بدأ.

وكانت هذه المدرسة ذات طابع استقلالي، اتسمت بالواقعية في التبليغ، فلم تنطبع بطابع رسمي، بل حرصت على تقديم الشريعة في معارفها وعلومها نقية حرّة، خالصة من الشوائب، لم تتأثر باتجاه سلبي في القول والعمل، ولم تألف التردد والتخاذل في الإفتاء، وكان سبيلها الإيجابية بلغة قاطعة.

ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى برهان، أن الإمام الصادق “عليه السلام” قد استوعب أبواب الفقه كافة، ففي كل مسألة له رأي، وفي كل معضلة له إفتاء، وفي كل شاردة له قول، وهذا ما جعل جمهرة المتعلمين على يديه غير منقطعين عنه في رواية أو دراية، وهم كالحلقة المفرغة في الإسناد والحديث والطريق إليه، حتى قال الحسن بن علي الوشا:

إني أدركت في هذا المسجد – يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد “عليهما السلام” (1).

وهذا يعني أن تسعمائة أستاذ يشرف على تسعمائة حلقة دراسية، تستلهم لباب النقول عن الإمام الصادق “عليه السلام” في مختلف التخصصات.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي (دام علاه): «واحتفى العلماء والفقهاء ورواة الحديث بالإمام الصادق “عليه السلام”، وهم يدونون ما يفتي به، ويرويه عن آبائه العظام.

وكان الإمام “عليه السلام” يشجعهم على تدوين الحديث والفقه، وسائر العلوم الإسلامية، وأكبر الظن أن جملة من الأصول الأربعمائة التي أخذت عن الإمام الصادق” عليه السلام”، قد دوّنت حينما كان مقيماً في الكوفة، وقد أغنى الإمام “عليه السلام” الفقه الإسلامي بفتاواه وآرائه التي تحمل الإبداع والأصالة، والتي هي المرجع الأعلى لفقهاء الإمامية فيما يفتون به” (2).

وكان هؤلاء العلماء أماثل تلامذة الإمام الذين حملوا علم أهل البيت، ودونوا مآثرهم الفقهية، التي عدّ منها الحرّ العاملي ستة آلاف وستمائة كتاب (۳).

وقد علل الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق هذه الظاهرة بمبدأ عصمة الأئمة، فقال: «ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوین الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم، أو ما يشبه العصمة، كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم» (4).

وقد استوعبنا الحديث عن مصادیق هذه الظاهرة الفذة في كتب الفقه بخاصة، وتكلمنا عن أهم الموسوعات الفقهية حتى العصر الحاضر (5) ولا حاجة بنا إلى إعادته، فما يقال هناك يقال هنا بالضبط، إلا أننا نشير هنا إلى أبرز السمات والخصائص التي يمتاز بها الفقه الإمامي وأهمها:

۱- استناده في الاستدلال إلى الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

۲- اتصاله المباشر بالرسول الأعظم وبأئمة أهل البيت “عليهم السلام”

3. استيعابه لمشكلات الحياة الفعلية والمستقبلية بفتحه باب الاجتهاد.

4. تمرسه بمختلف شؤون الفقه حتى الجزئيات، لكل واقعة حكم، ولكل حادثة قضاء.

5. سيرورته الريادية في مواكبة التطور الحضاري في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والصناعية.

6- دقته في اختيار الفتاوی طبق ضوابط علمية لا مكان معها للهوى والاستحسان.

۷- وضعه للأصول العامة في القواعد الفقهية ككليات يستند إليها في الجزئیات والفروع طياً للمسافات الواسعة في عملية الاستنباط.

۸- أصالته ومرونته في إطار موحّد لدى تخريج الفقهاء، وتجديد الأنظار في تراث موضوعي ضخم يستقبله الخلف عن السلف.

9- اتساعه لاستقبال مستحدثات المسائل في ضوء التقدم الطبي والتقني والفضائي، وتيسير الحكم الشرعي في مختلف المشاهد الجديدة.

۱۰- اعتماده الاستقلالية التامة في الإفتاء وطرح الآراء، فما اتفق ولا مرة واحدة أن أفتى بحكم شرعي في ضوء ضغط سياسي أو عنف سلطوي.

أصول الفقه

أما أصول الفقه، فهو العلم الذي يبحث فيه عن حجية الدليل الفقهي بالاستناد إلى حجية أدلته في استنباط الأحكام الفرعية.

وبهذا يتضح أن علم الأصول من قبيل المقدمة اللازمة لعلم الفقه.

ولمّا كان علم الفقه معنياً بإيراد الحكم الشرعي كان علم الأصول معنياً بإثبات دليل الحكم الشرعي، سواء أكان الحكم واقعياً أم ظاهرياً، وسواء أكان الدليل اجتهادياً أم فقهياً، وسواء أكان الدليل مستمداً من اللفظ أم مستخرجاً من التكليف الذاتي، فالأول ما تكشف عنه مباحث الألفاظ في أصل الخطاب في مدالیل ظواهرها المتعددة، والثاني ما تحققه الأصول العملية المناطة بالمكلّف کالاستصحاب، والاحتياط، والبراءة، والتخيير، وذلك عند فقدان الدليل الاجتهادي.

وعلى هذا فعلم الأصول بالإضافة إلى علم الفقه يكون من قبيل نسبة الحكم إلى موضوعه، أو المعلول إلى علته، وذلك أن علم الأصول یعنی بتشخیص جزئيات الأدلة التفصيلية، وتطبيق كبرياتها اللفظية أو العملية للوصول إلى الأحكام الشرعية النوعية.

وقد سبق لنا القول أن مصدر علم الأصول هو أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، القول: «إنما علينا أن نلقي الأصول، وعليكم أن تفرعوا (6).

وهي بادرة إلى قيام المصطلح بتسميته (الأصول) وهي دعوة أيضاً إلى أعمال الفكر وتجديد النظر، وهي رفض للجمود ومخلفاته.

يقول الإمام علي بن موسی الرضا (عليهما السلام): «علينا الأصول وعليكم الفروع» (7).

وما يدرينا، فلعلّ هذه الدعوة هي بداية البداية في الإذن بفتح باب الاجتهاد عندنا.

يقول الأستاذ محمد حسن آل یاسین (دام علاه): واستكمالا لمباحث الفقه وأحكامه أولى الإمام إهتماماً كبيراً بعلم أصول الفقه، تعليماً وشرحاً وتبياناً لقواعده الرئيسة واسسه الكبری، ودلالة للمتعلمين على ما يصح وما لا يصح الاعتماد عليه من ذلك.

وقد روى لنا الباحثون القدامى، وفي طليعتهم الحافظ ابو نعيم والشيخ الطبرسي مناقشات الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة النعمان بن ثابت فيما ذهب إليه من العمل بالقياس وعدّه من أصول الفقه وار كان استنباط الأحكام الشرعية، وتنبيه الإمام تلميذه على فساد ذلك وبطلانه (8).

وقد رأينا في عمل مستقل أن مصدر هذا العلم في التأسيس هو الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، وأن الإمام الصادق (عليه السلام) حذا حذو أبيه (عليه السلام) في إرساء دعائم هذا العلم، وتشييد صرحه الشامخ. (9)

وقد أوردنا في البحث أهم مصادره التأليفية، وكوكبة من جهابذة العلماء المشتغلين به، وتطور مباحثه وتوسع دلائله، وما يقال هناك يقال هنا، فهما يصدران عن رافد واحد، يستقي من شجرة مباركة زيتونة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.


الهوامش:

(1) المؤلف : الإمام محمد الباقر ، مجدد الحضارة الإسلامية ۲۳۲

(2) النجاشي : الرجال ۳۱.

(3) باقر شريف القرشي: حياة الإمام الصادق ۷/ ۹۸.

(4) ظ: الحرّ العاملي : وسائل الشيعة 3/ ۵۲۳.

(5) مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ۲۰۲.

(6) ظ : المؤلف: الإمام محمد الباقر مجدد الحضارة الإسلامية ۲۳۷-۲4۷.

(7) الحر العاملي : وسائل الشيعة 18/ 41.

(8) المصدر السابق.

(9) محمد حسن آل ياسين: الإمام جعفر الصادق ۱۲۱.

(10) ظ ، المؤلف: الإمام محمد الباقر مجدد الحضارة الإسلامية ۲6۳-۲۷۰.

المصدر: كتاب” الإمام جعفر الصادق (عج) زعيم مدرسة أهل البيت (ع) المؤلف: الدكتور محمد حسين علي الصغير /عدد الصفحات:537.

2020/06/18

بصبر اسطوري: هكذا تعامل النبي (ص) مع معارضيه

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لـ «موقع الأئمة الاثني عشر».

قد يحلو لأي قائد ان يحظى بالولاء المطلق ممن حوله، وان تكون استجابتهم كاملة لآرائه واوامره، فلا ينشغل باله برأي مخالف، ولا يعرقل شيئا من خططه وبرامجه موقف معارض.

لكن ذلك مما يستحيل حصوله عادة في المجتمعات البشرية، فمن يتصدى للقيادة والزعامة - دينية او سياسية -، لا يعدم مناوئا او مخالفا او منافسا، والامتحان الحقيقي لأي قيادة هو في التعامل مع مثل هذه الحالات.

ان النهج السائد المتبع عند الزعامات السياسية والدينية في المجتمعات غير الديمقراطية، هو رفض هذه الحالات وقمعها، بمختلف العناوين والمبررات، كالحكم عليها بالكفر والمروق، او ادانتها بالخيانة والانشقاق، او اتهامها بالإفساد والتخريب.

وينبثق هذه النهج من عقلية الاستبداد، وتضخيم الذات، وحب الهيمنة والاستحواذ، ويؤدي الى تهميش المجتمع، ووأد طاقاته وكفاءاته، كما يؤسس لحالات الانقسام والمواجهة والصراع.

والنبي كقيادة دينية وسياسية، واجه هذه الحالات داخل مجتمعه، الذي اسسه وكان يقوده، ليس على الصعيد الخارجي المتمثل في اليهود والكفار، فمعاناته منهم، ومواجهته لهم، وحروبه معهم، معروفة واضحة، وانما على الصعيد الداخلي المتمثل في التيارات المناوئة، والعناصر المخالفة، داخل المجتمع الاسلامي في المدينة المنورة.

حيث تشير آيات القرآن الكريم، والسنة الشريفة، وروايات السيرة النبوية، الى وجود مثل تلك التيارات والعناصر.

فكيف كان منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله معها؟

يصعب استقصاء كل الادوار والممارسات التي قام بها المنافقون في مناوأة حركة الاسلام، ومواجهة قيادة رسول الله، وكان يكفي اي واحد من تلك الادوار والمواقف، لتوجيه الضربات القاضية لرموزهم واتباعهم من قبل رسول الله، وقد اشار كبار الصحابة على النبي »صلى الله عليه وآله وسلم« باستخدام القوة لردع المنافقين في مواقف كثيرة.

كما ان آيات القرآن الكريم في فضح خطط المنافقين والتنديد بمؤامراتهم والتحذير منهم والامر بمجاهدتهم، كانت توفر للنبي فرصة مواجهتهم وقمعهم لو اراد ذلك، كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) 1، وتكررت الآية بنفس النص في سورة التحريم آية ٩.

لكن ما يثير الدهشة هو سعة صدر رسول الله، وعظيم احتماله لكل اساءاتهم الخطيرة، وممارساتهم العدائية.

لقد تعامل معهم بنفس طويل، وصبر عميق، ومارس معهم سياسة الاحتواء والاستيعاب، والتي يمكن قراءتها ضمن البنود التالية:

اولا: عدم اللجوء الى القوة والقمع، رغم استفزازاتهم وجرائمهم، فلم يتعامل معهم كأعداء محاربين، ولم يقتل منهم احدا، ولم يسجن احدا، ولم يجلد احدا، ولم يطرد احدا. ويؤكد الباحث محمد عزة دروزة على »عدم ورود روايات موثقة تتضمن ان النبي قد اعتبر المنافقين اعداء محاربين او عاملهم كذلك، او امر بقتلهم، او قتل بارزيهم، بسبب صفة النفاق، او بسبب موقف منبعث عنه من تلك المواقف الكثيرة التي حكتها الآيات التي نزلت في مختلف ادوار التنزيل عنهم، والتي احتوت صورا كثيرة من الاذى والكيد والسخرية بالله ورسوله وآياته، والتناجي بالاثم والعدوان ومعصية الرسول، والتثبيط عن الجهاد والختل فيه، ودس الدسائس واثارة الفتن والاحقاد، واشاعة الفاحشة والإرجاف بين المسلمين بما يثير قلقهم وفزعهم، والتعرض لنساء المسلمين، بل لنساء النبي بالاذى والكيد، والتضامن مع اعداء الاسلام وموالاتهم.

ان النبي قد اعتبر ما جاء في الآيات القرآنية بمثابة توجيهات متروك اليه امر تقدير ظروف تنفيذها، والسير فيها بما يوافق مصلحة الاسلام والمسلمين، لا سيما ان بعض الآيات الواردة في هذا الصدد قد تخللتها جمل تلهم معنى التعليق على شرط مثل جمل ( ... فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ... ) 2 و ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ ... ) 3. و ( ... فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ... ) 4 و ( ... إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ... ) 5. الخ - محمد عزة دروزه، سيرة الرسول ، ج٢ ص ٨٧.

ثانيا: لم يصادر اي حق من حقوقهم المدنية، فكانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة كسائر المسلمين، يحضرون المسجد، ويدلون بآرائهم في قضايا المجتمع، ويأخذون نصيبهم من الغنائم وعطاء بيت المال.

ثالثا: وأكثر من ذلك كان رسول الله يبذل لهم الاحسان، ويحوطهم بمداراته، ويشملهم بكريم اخلاقه.

فها هو يشفع للخائنين من يهود بني قينقاع الذين تقع منازلهم داخل المدينة، وقد عقد معهم النبي معاهدة سلام، على ان لا يمسوا المسلمين بسوء، ولا يمدوا يد عون لاعدائهم، لكنهم لم يلتزموا بالعهد، وصاروا يستفزون المسلمين ويؤذونهم، ونصحهم رسول الله وحذرهم، فلم يرتدعوا، وظهرت معالم استعدادهم لمواجهة المسلمين، فبادر النبي لحصارهم منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة، فاعتصموا بحصونهم خمس عشرة ليلة، ثم فاوضوا على الاستسلام دون قيد او شرط.

وكان عبد الله بن ابي يراهن على صمود بني قينقاع ومواجهتهم، فلما رأى استسلامهم خابت آماله، لكنه طلب من النبي العفو العام عنهم، باعتبارهم حلفاء الخزرج قبل الاسلام، قائلا: يا محمد احسن في مواليّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله، فقال له رسول الله: أرسلني - اي اتركني - وغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظُللا. ثم قال: ويحك! أرسلني! قال ابن ابي: لا والله لا ارسلك - لا ادعك - حتى تحسن في موالي، اربع مئة حاسر - اي لا درع له - وثلاث مئة دارع، قد منعوني من الاحمر والاسود، تحصدهم في غداة واحدة، واني والله امرؤ اخشى الدوائر! فقال رسول الله: هم لك. فاستجاب لطلبه الملح وعفا عنهم ليخرجوا جميعهم من يثرب سالمين. 6

الهوامش:


1. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 73، الصفحة: 199.

2. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 74، الصفحة: 199.

3. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 60، الصفحة: 426.

4. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 89، الصفحة: 92.

5. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 66، الصفحة: 197.

6. مكتب الشيخ حسن الصفار 16 / 4 / 2005م.

2020/06/17

بدأ بالتجديد وانتهى بادعائه النبوة.. ماذا تعرف عن «القاديانية» ومؤسسها؟

ظهرت القاديانية على يد الميرزا غلام أحمد القادياني (1252-1316 هـ) في إقليم البنجاب وعاصمتها لاهور وفي مديرية غوردا سفور من هذا الإقليم وفي قرية صغيرة فيها تسمّى قاديان، ولد فيها مؤسس المسلك ميرزا غلام أحمد القادياني، وإليها كانت نسبته وفيها نبتت نحلته.

سيرته الذاتية:

ولد الميرزا غلام أحمد القادياني عام 1839 م الموافق 1252 هـ في قرية قاديان، وكان والده يحترف الطب القديم في عهده ويجيده، ولمّا بلغ الميرزا سن التعليم شرع في تلقي مبادئ العلوم وقراءة القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية والفارسية إلى جانب معرفته بالأُردية، وتلقّى دروساً في المنطق والحكمة والعلوم الدينية والأدبية في مسقط رأسه «قاديان» والطب القديم على والده، وعرف بالعكوف على المطالعة والانقطاع إليها، وكان مهتماً بدراسة كتب التفسير والحديث والتدبّر في القرآن، وأُولع بمطالعة الأسفار القديمة من كتب الشيعة وأهل السنّة وكتب الأديان الأُخرى.

الظروف الّتي أحاطت بدعوته:

1-إنّ الهند بلاد مترامية الأطراف، نشأت بها منذ القدم أديان ومذاهب مختلفة، وشكّل هذا التنوّع الهائل في العقيدة قوام حياتها، وأساس نظمها وأكبر مؤثر في تاريخها قديماً وحديثاً، فإلى جانب الديانة الهندوسية، هناك الإسلام والبوذية والمسيحية وبجوار أُولئك مذاهب أُخرى لها من الأتباع القليل.

وفي بيئة كهذه حيث طغى عليها التنوّع والتسامح ظهرت القاديانية.

2-لقد تعرضت الهند إلى غزو الانجليز الذين لم يكتفوا بذلك، بل حرصوا على غزوها ثقافياً من خلال إرسال بعثات تبشيرية إليها.

وأثبت القساوسة والمبشرون في القرى والمدن ونشطوا في دعوتهم إلى المسيحية، مشنّعين على العقيدة الإسلامية، معلنين شامتين زوال دولة الإسلام وانقضاء عهده.

ولقد عمّقوا عن عمد الصراع الديني بين المسلمين وغيرهم من الطوائف كالهندوس، ممّا أدّى إلى إبطاء الزحف الإسلامي.

ولقد أثاروا شبهات وفتحوا جيوب مريبة، كلّ ذلك من أجل إضعاف المسلمين وتشتيت الفكر الإسلامي في عدة تيارات ينمّ كلّ منها عن هدف لهم مقصود.

ففي خضم هذه الأحداث، ظهرت دعوة الميرزا وكان النصر حليفها في نفس الإقليم، وذلك لأنّ طبيعة البيئة ساعدت إلى حد كبير إلى ظهور دعوته وانسياق الناس وراءها لاسيّما في ظروف كانت الشبهات الملحدة والدعوات التبشيرية تستهدف الإسلام والمسلمين.

نعم وراء ذينك العاملين، ثمة عامل ثالث وهو انّ دعوته تمت باسم الإسلام، وانّها دعوة إصلاحية يبغي وراءها نفض كثبان الجهل والخرافة عن وجه الدين، ففي ظل هذه العوامل الثلاثة ظهرت الدعوة القاديانية الّتي يعبر عنها أحياناً بالأحمدية، في القارة الهندية، ومنها انتشرت إلى سائر الأصقاع.

ومن الدلائل الواضحة على أنّه أخذ الإسلام غطاء وواجهة لنشر أفكاره ودعوته، هو انّه قام بترجمة القرآن الكريم في مرحلة من مراحل دعوته، وصار ذلك سبباً لانجذاب السذج من المسلمين إلى دعوته.

حقيقة دعوته:

إنّ دعوة الميرزا غلام أحمد القادياني مرت بمراحل ثلاثة يختلف بعضها عن بعض في المضمون والمحتوى، وربّما كانت المرحلة الأُولى من دعوته دعوة إصلاحية توافق الرأي العام الإسلامي، وقد أطلق على هذه المرحلة دعوى الإصلاح والتجديد، وقد بدأ دعوته في هذه المرحلة بتأليف كتاب «براهين أحمدية» عام 1879 م، ودار نشاطه فيها حول محور أبرزه وركز عليه هو انّ دعوته قائمة على إصلاح العالم والدعوة إلى الإسلام وتجديده.

وتناول في هذه المرحلة التعريف بالإسلام وإثبات فضله وبيان إعجاز القرآن وإثبات نبوة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأسهب في الرد على الديانات والنحل السائدة في الهند آنذاك. وكانت تلك المرحلة بمثابة إعلان أخرجه من الخمول والعزلة الّتي كان يعيش فيها إلى إلفات الأنظار وتجمّع بعض القلوب عليه وذيوع خبره في بلاد الهند.

ومع أنّ هذه المرحلة لم تكن تخلو عن الشطحات والإلهامات والمنامات الاّ أنّها بصورة عامّة كانت دعوة مطلوبة لأكثر الناس.

وأمّا المرحلة الثانية فتتميز عن سابقتها بأنّها تتضمن الدعوة إلى أُمور، هي كالتالي:

1-المسيح (عليه السلام) توفي في كشمير ودفن هناك، وان القبر المشهور بقبر بوذاسف في «حارة خان يار» هو قبر المسيح.

2-بما ان المسيح (عليه السلام) توفّي، فالمسيح الّذي وعد المسلمون برجوعه عند قيام المهدي هو الميرزا، وقد طرح تلك الفكرة عندما كانت فكرة المهدي والمسيح الموعود قد تغلغلت في المجتمع الإسلامي وتنتظر من يقوم بها ليجد أرضاً خصبة ونفوساً مستجيبة.

وقد أوّل نزول المسيح عند قيام المهدي بأن ليس المراد من النزول هو نزول المسيح، بل هو إعلام على طريق الاستعارة بقدوم مثيل المسيح، وانّ الميرزا مصداق هذا الخبر حسب الإلهام.

3-انّه قد أرسل لإصلاح الخلق ليقيم هذا الدين في القلوب من جديد وليدك عقيدة الصليب ويكسرها ويقتل الخنازير. وأمّا المرحلة الثالثة فقد أفصح عن نواياه عبر تكلّمه عن الإلهام والعلم الباطني والدعوة إلى النبوة في تلك المرحلة.

هذه عصارة المراحل الّتي طواها الميرزا في دعوته.

ولمّا كانت دعوته عبر هذه المراحل مختلفة في الاعتدال والتطرّف حيث تبتدئ من كونه رجل الإصلاح وتجديد الدين الإسلامي وتنتهي بالدعوة إلى النبوّة. اختلفت آراء العلماء في حقيقة الدعوة القاديانية، فمنهم من أنكر انّه ادّعى النبوة، ومنهم من أثبته وشنع عليه، وها نحن نذكر نماذج من أقوالهم:

فالأُستاذ العقاد يقول: لم يثبت انّه ادّعى النبوة، وانّما دعواه انّه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، وقد نقل عنه انّه قال: لا ادّعي النبوة وما أنا إلاّ محدّث. ( [1])

وعلى هذا الرأي محمد إسماعيل الندوي: من الواضح البيّن عندنا على ضوء قراءتنا لكتب القادياني انّه لم يدّع يوماً من الأيّام النبوة الحقيقية، ولم ينسب نفسه نبيّاً حقيقياً بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ينسخ رسالته ويبطل كونه خاتم الأنبياء، بل كل ما قاله انّه هو المهدي الموعود أو المسيح الموعود أو النبي وفق عقيدة التجسد. ( [2])

وهناك شخصيات يدّعون ان ميرزا غلام أحمد القادياني ادّعى النبوة بالمعنى الحقيقى التام، وقد صرح ميرزا غلام في كتبه بدعواه الرسالة والنبوة، فكتب: دعوانا: أنا رسول ونبي. كما كتب: أنا نبي، وفقاً لأمر الله وأكون آثماً إن أنكرت ذلك، وإذا كان الله هو الّذي يسمّيني بالنبي فكيف لي أن أنكر ذلك؟ إنّني سأقوم بهذا الأمر حتّى أمضي عن هذه الدنيا. ( [3])

ويرى الأُستاذ أبو الحسن الندوي انّ الميرزا قد بذر بذور ادّعائه النبوة في كتبه، ورسم الخطة لها من أوّل يوم، وكانت النتيجة الطبيعية لمنطقه ومقدّماته فيما كتب هي ادّعاؤه النبوة والتصريح بها في يوم من الأيّام، وقد كانت دعواه العريضة بذلك، إذ يقول: إنّني صادق كموسى وعيسى وداود ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أنزل الله لتصديقي آيات سماوية تربو على عشرة آلاف، وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول، وقد عيّن الأنبياء زمان بعثتي، وذلك هو عصرنا هذا.( [4])

ويعتبر الأُستاذ إقبال اللاهوري انّ القاديانية ثورة على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومؤامرة ضد الإسلام، وديانة مستقلة، وانّها محاولة منظمة لتأسيس طائفة جديدة على أساس نبوة منافسة لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانّها تريد أن تنحت من أُمّة النبي العربي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمّة جديدة للنبي الهندي.( [5])

عقائد القاديانية:

إنّ القاديانية كغيرها من المذاهب الإسلامية تحترم كثيراً من العقائد الإسلامية، وها نحن نذكر موجزاً عن عقيدة مؤسسها:

1-عقيدته في الإلوهية:

يقول: وممّا يجب على جماعتي اتبّاعه أن يعرفوا عن يقين انّ لهم إلهاً قادراً وقيوماً وخالقاً للكون كلّه، أزلي الصفات وأبديّها، لا يخضع للتطور، ولا يلد ولم يولد.

2-عقيدته في الرسول وشريعته:

إنّه ادّعى النبوة والرسالة على النحو الّذي بينّاه، ومع ذلك ادّعى انّ رسالته مؤيدة للإسلام لا ناسخة لشريعته، يقول: أمّا ما يطلب الله منكم من ناحية العقائد، هو ان تعتقدوا ان الله واحد لا شريك له، وان محمداً عبده ورسوله وهو خاتم الأنبياء وأفضلهم أجمعين فلا نبي بعده إلاّ من خلع عليه رداء المحمدية على وجه التبعية لأنّ الخادم لا يغاير مخدومه، ولا الفرع بمنفصل عن أصله.

3-عقيدته في القرآن الكريم:

قال: ألاّ تضعوا القرآن كالمهجور، لأنّ لكم فيه حياة، إنّ الذين يعظّمون القرآن سيلقون العزة والكرامة في السماء، وانّ الذين يفضّلون القرآن على كل حديث ورأي سيفضّلون في السماء.

4-عقيدته في العبادات:

فأقيموا صلواتكم الخمس في تضرع وانتباه كأنّكم في حضرته وأتمّوا صيامكم لله في صدق، ومن استحقت عليه الزكاة فليؤدّ زكاته، ومن وجب عليه الحج فليحج إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، قوموا بالعمل الصالح حذرين وانبذوا المنكر متبرّئين.

5-عقيدته في الجهاد:

لمّا ادّعى هو المسيح المنتظر فقد وضع الجهاد عن أتباعه، وقال: إنّ هذا الفتح المعذر للإسلام في آخر الزمان لا يتاح بالأسلحة المصنوعة بيد البشر، بل بالحرية السماوية الّتي تستعملها الملائكة.

أصدر عبد العزيز الدهلوي فتواه عام 1803 م ونادى فيها بوجوب الجهاد ضد الانجليز، وسانده العلماء في فتواهم، ثم كانت ثورة 1857 م وما انتهت إليه، وظل المستعمر في الهند آنذاك يخشى فكرة الجهاد والمجاهدين، لذا لجأ إلى بعض العلماء يصطنعهم لاستصدار فتاوى بشأن الجهاد في الهند، وهل يجوز أو لا؟

وفي هذا الظرف الّذي قام فيه المسلمون ضد الانجليز أصدر فيه الميرزا فتواه بوضع الجهاد عن أتباعه وانّ الجهاد قد انتهى واستنفد أغراضه.

وهذا هو السبب لاتّهام الرجل بالتعاون مع المستعمرين وتعاطفه معهم ويشهد له بعض كلماته في حق المستعمر.

***

وبما انّ الدعوة القاديانية كانت بمقربة من الدعوة البابية والبهائية، وكلتا الدعوتين تهدفان إلى إنكار ختم الرسالة والنبوة وتأويل قوله سبحانه: ( وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) بزينة النبيّين، يبعث الاطمئنان على أنّ الديانتين أو المسلكين كانا مؤيدين من قبل الاستعمار، فالبابية وليدة الاستعمار الروسي والقاديانية وليدة حماية الاستعمار الانجليزي.

هذا بحث موجز عن القاديانية، اقتبسناها ممّا أُلّف حولها من الكتب.( [6])

الهوامش:


[1]. انظر الإسلام في القرن العشرين: 144.

[2]. القاديانية: 110.

[3]. المسألة القاديانية: 28 و 29.

[4]. القادياني والقاديانية: 67 و 68.

[5]. القادياني والقاديانية: 9- 11.

[6]. راجع: القاديانية نشأتها وتطورها للدكتور عيسى عبد الظاهر ; القاديانية بقلم أبي الحسن علي الحسني الندوي وأبو الأعلى المودودي ومحمد الخضر حسين ; القاديانية والاستعمار الانجليزي للدكتور عبد الله سلوم السامرائي.

2020/06/10

جولة كونية في حدث تأريخي: ما الهدف من الإسراء والمعراج؟

لقد أسرى النبيّ محمّد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله بروحه وجسده من مكّة المكرّمة إلى بيت المقدس، كما في سورة الإسراء، وذلك في السنوات الأُولى من البعثة .

ثمّ عرج صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله بروحه وجسده من بيت المقدس إلى السماء، كما جاء في سورة الإسراء، ووردت بذلك الأخبار الكثيرة، وذلك في السنوات الأُولى من البعثة.

في هذا المقال القصير سنتعرف على أهم تفاصيل هذا الحدث التأريخي المهم.

ما هي أهداف الإسراء والمعراج؟

أوّلاً: إنّ حادثة الإسراء والمعراج معجزة كبرى خالدة، ولسوف يبقى البشر إلى الأبد عاجزين عن مجاراتها، وإدراك أسرارها، ولعلّ إعجازها هذا أصبح أكثر وضوحاً في هذا القرن العشرين، بعد أن تعرّف هذا الإنسان على بعض أسرار الكون وعجائبه، وما يعترض سبيل النفوذ إلى السماوات من عقبات ومصاعب .

ثانياً: إنّ هذه القضية قد حصلت بعد البعثة بقليل، وقد بيّن الله سبحانه الهدف من هذه الجولة الكونية، فقال: ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا )[1] .

وإذا كان الرسول الأكرم صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله هو الأسوة والقدوة للإنسانية جمعاء، وإذا كانت مهمّته هي حمل أعباء الرسالة إلى العالم بأسره، فإنّ من الطبيعي أن يعدّه الله سبحانه إعداداً جيّداً لذلك، وليكن المقصود من قصّة الإسراء والمعراج هو أن يشاهد الرسول الأعظم صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله بعض آثار عظمة الله تعالى في عمليةٍ تربوية رائعة، وتعميق وترسيخ للطاقة الإيمانية فيه، وليعدّه لمواجهة التحدّيات الكبرى التي تنتظره، وتحمّل المشاق والمصاعب والأذى التي لم يواجهها أحد قبله ولا بعده .

ثالثاً: لقد كان الإنسان ولاسيّما العربي آنذاك يعيش في نطاق ضيّق، وذهنية محدودة، ولا يستطيع أن يتصوّر أكثر من الأُمور الحسّية، أو القريبة من الحسّ، التي كانت تحيط به، أو يلمس آثارها عن قرب .

فكان ـ والحالة هذه ـ لابدّ من فتح عيني هذا الإنسان على الكون الرحب، الذي استخلفه الله فيه، ليطرح على نفسه الكثير من التساؤلات عنه، ويبعث الطموح فيه للتعرّف عليه، واستكشاف أسراره، وبعد ذلك إحياء الأمل وبثّ روح جديدة فيه، ليبذل المحاولة للخروج من هذا الجوّ الضيّق الذي يرى نفسه فيه، ومن ذلك الواقع المزري الذي يعاني منه، وهذا بالطبع ينسحب على كلّ أُمّة، وكلّ جيل وإلى الأبد .

رابعاً: والأهمّ من ذلك: أن يلمس هذا الإنسان عظمة الله سبحانه، ويدرك بديع صنعه، وعظيم قدرته، من أجل أن يثق بنفسه ودينه، ويطمئن إلى أنّه بإيمانه بالله إنّما يكون قد التجأ إلى ركن وثيق، لا يختار له إلّا الأصلح، ولا يريد له إلّا الخير، قادر على كلّ شيء، ومحيط بكلّ الموجودات .

خامساً: إنّه يريد أن يتحدّى الأجيال الآتية، ويخبر عمّا سيؤول إليه البحث العلمي من التغلّب على المصاعب الكونية، وغزو الفضاء، فكان هذا الغزو بما له من طابع إعجازي خالدٍ، هو الأسبق والأكثر غرابة وإبداعاً، وليطمئن المؤمنون، وليربط الله على قلوبهم، ويزيدهم إيماناً.[2]

الهوامش:

[1] الإسراء: 1.

[2] الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم 3 / 34 .

2020/05/11

الصلح مع معاوية... هل يخلّ بعصمة الإمام الحسن (ع)​

لا يخفى على أحدٍ أن عصمة الأئمة والأنبياء (ع) من أهم عقائد الشيعة، وقد أثبتوها بالأدلة النقلية والعقلية في أمهات كتبهم وبحوث ومصنّفات علمائهم العظام، إلا أن هناك بعض الأسئلة التي تطرح تصطدم –ظاهراً- مع هذه العقيدة، مثالها، ونحن في يوم ولادة الإمام الحسن (ع):

  • فكيف تنازل الإمام الحسن المعصوم لمعاوية؟ هل يعني هذا أنّ خلافة معاوية شرعية؟ أم أنّ الحسن أخطأ -حاشاه-؟ وإذا كان مخطئاً كيف يتوافق هذا مع عقيدة العصمة؟ ثمّ كيف تنازل عن الخلافة وقد نالها بنصّ إلهي؟ ولماذا خرج الحسين لمقاتلة الأُمويين؟ وهو مخالف لما فعله الحسن من قبل، فأيّهما كان مصيباً، وأيّهما كان مخطئاً؟

وفي هذا المقال المقتضب، نرد سريعاً لدفع هذه التوهمات:

إنّ الشيعة لا تعتقد شيئاً إلاّ على أساس الأدلّة والبراهين العقلية أو النقلية، وتلتزم بأيّ مطلب يستدلّ عليه بالأدلّة الواضحة والجلية، ولا تخشى أيّ مانع في هذا المجال ؛ ولكن في نفس الوقت تتوقّع من الضمائر الحيّة والحرّة أن تنصف فيما تقول، ثمّ لها الخيار في الحكم في المقام.

وأمّا العصمة، فإنّها مورد اتفاق الشيعة، بما أنّها مستخرجة من الأدلّة القطعية من الكتاب والسنّة والعقل والإجماع، وبعبارة أُخرى:  إنّ دليل العصمة لم يكن دليلاً استقرائياً أو تمثيلياً، بل هو دليل منتج من العقل والنقل.

وعليه فلا يتوهّم ورود النقض عليه، إذ النقض لا يمكن وروده على الدليل القطعي، فنستنتج أنّ النقوض المتوهّمة ليست على ما هي، بل إنّها توهّمات خالية من الدلالة، ثمّ بعد الفحص عنها نرى ماهية هذه التوهّمات كما يلي: 

1 ـ إنّ صلح الإمام الحسن عليه ‌السلام لم يكن تنازلاً منه عن الإمامة الإلهية، بل كان عملاً مرحلياً لكشف زيف معاوية في المجتمع الإسلامي، فهو شبه مهادنة، أو مصالحة مؤقّتة، لأجل مصالح عامّة ـ قد ذكرت في مظانّها ـ ومعاوية لا يستحقّ الإمارة، فكيف يستحقّ الخلافة؟

ثمّ لا غرابة لهذا الموقف في سيرة المعصومين عليهم‌ السلام، فمثلاً بأيّ تفسير يجب أن نقتنع بصلح الحدبيية؟ أليس النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله كان معصوماً في أفعاله وتصرّفاته؟ وهل أنّ الصلح المذكور يقلّل ـ والعياذ بالله ـ من مرتبة النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله؟ أو أنّه يعتبر تنازلاً؟! فالصحيح أنّ أمثال هذه الموارد بأسرها هي من شؤون الإمام المعصوم عليه‌ السلام، وليس فيها أيّ إشعار أو إشارة بتنازل أو عدول عن الخطّ المستقيم.

2 ـ إنّ موقف الحسين عليه ‌السلام يختلف مع موقف أخيه الإمام الحسن عليه ‌السلام في الظروف التي واجهها، وذلك باختلاف معاوية عن يزيد في تصرّفاته، فإنّ معاوية كان يتظاهر بالشعائر والالتزمات الدينية بحدّ وسعه، لتغطية أفعاله الشرّيرة، وهذا كان يسبّب ـ إلى حدّ كبير ـ التمويه على المسلمين، فهم كانوا لا يعرفونه حقّ المعرفة، إلى أن عرّفه الإمام الحسن عليه السلام بتخليه الساحة له مؤقّتاً، حتّى يراه المسلمون كما هو، ويتّضح لهم ما كان وما يريد.

وعلى العكس فإنّ يزيد لم يكن يرى أيّ إحراج في إعلانه الفسوق والعصيان، وإظهاره شعائر الكفر والشرك علانية، فلا يبقى فرض مدّة أو طريقة لتعريفه لدى المسلمين، بل أنّ الواجب كان يلزم على الإمام الحسين عليه السلام أن يقوم في وجهه حفظاً لدين جدّه المصطفى صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله من التلاعب بيد الطغمة الظالمة، المتمثّلة في كيان الخلافة آنذاك.

وبعد ذلك ألسنا نرى التمايز في ظروف زمانهما الذي ولّد اختلاف موقف أحدهما عن الآخر عليهما‌ السلام.

2020/05/09

روايات تذمّ المختار الثقفي: ما موقف الأئمة (ع) منه؟​

ما حقيقة ما يتردّد حول المختار بن يوسف الثقفي رضي ‌الله‌ عنه - التي مرت ذكرى استشهاده أمس- من مزاعم؟ وما موقف الأئمّة عليهم ‌السلام منه؟

ذكر السيّد الخوئي قدس سره ترجمة المختار في كتابه « معجم رجال الحديث »، فقال: (والأخبار الواردة في حقّه على قسمين: مادحة وذامّة، أمّا المادحة فهي متضافرة، منها ... عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت، حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين »، وهذه الرواية صحيحة .

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: « لا تسبّوا المختار فإنّه قتل قتلتنا، وطلب بثأرنا، وزوّج أراملنا، وقسّم فينا المال على العسرة » .

وعن عمر بن علي بن الحسين: أنّ علي بن الحسين عليهما السلام لمّا أتي برأس عبيد الله بن زياد، ورأس عمر بن سعد قال: فخرّ ساجداً وقال: « الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى الله المختار خيراً »)[1] .

ثمّ ذكر السيّد الخوئي ثلاث روايات أُخرى في هذا المجال، ثمّ ذكر بعض الروايات الذامّة وقال: « وهذه الروايات ضعيفة الإسناد جدّاً » .

ثمّ نقل قدس‌سره قول المجلسي في « بحار الأنوار » فقال: « وقال المجلسي قدس سره: قال جعفر بن نما: أعلم أنّ كثيراً من العلماء لا يحصل لهم التوفيق بفطنة توقفهم على معاني الأخبار، ولا رؤية تنقلهم من رقدة الغفلة إلى الاستيقاظ، ولو تدبّروا أقوال الأئمّة في مدح المختار لعلموا أنّه من السابقين المجاهدين، الذين مدحهم الله تعالى جلّ جلاله في كتابه المبين، ودعاء زين العابدين عليه السلام للمختار دليل واضح، وبرهان لائح، على أنّه عنده من المصطفين الأخيار، ولو كان على غير الطريقة المشكورة، ويعلم أنّه مخالف له في اعتقاده، لما كان يدعو له دعاء لا يستجاب، ويقول فيه قولاً لا يستطاب، وكان دعاؤه عليه السلام له عبثاً، والإمام منزّه عن ذلك، وقد أسلفنا من أقوال الأئمّة في مطاوي الكتاب تكرار مدحهم له، ونهيهم عن ذمّه ما فيه غنية لذوي الأبصار، وبغية لذوي الاعتبار، وإنّما أعداؤه عملوا له مثالب، ليباعدوه عن قلوب الشيعة، كما عمل أعداء أمير المؤمنين عليه السلام له مساوي، وهلك بها كثير ممّن حاد عن محبّته، وحال عن طاعته، فالولي له عليه السلام لم تغيّره الأوهام، ولأباحته تلك الأحلام، بل كشفت له عن فضله المكنون، وعلمه المصون، فعمل في قضية المختار ما عمل مع أبي الأئمّة الأطهار … »[2].

والخلاصة: لم يكن المختار إلّا رجلاً أبلى في سبيل قضية أهل البيت عليهم السلام أحسن البلاء، فعمل أعداؤه على محاربته، من خلال وضع التهم والأكاذيب عليه، ولما كان خصومه هم الغالبون، وقد امتد نفوذهم بعده، فمن الطبيعي أن تصاغ هذه الأكاذيب في روايات مسندة، لتدخل التاريخ بوجه مشروع، حين يكون منهج المؤرّخ هو جمع الأخبار، دون التحقيق والتمحيص فيها، أو بوجه غير مشروع، حين تلتقي مع هوى المؤرّخ، أو تعينه على نصرة الاتجاه الذي يميل إليه، أو التنكيل بالاتجاه الذي يميل عنه.

الهوامش:


[1] معجم رجال الحديث 19 / 102 .

[2] بحار الأنوار 45 / 386 .

2020/05/09

قضية المؤاخاة: النبي (ص) يؤسس لمجتمع جديد

إن من الواضح: أن المهاجرين الذين أسلموا قد انفصلوا عن قومهم، وعن إخوانهم، وعن عشائرهم بصورة حقيقية وعميقة، وقد واجههم حتى أحب الناس إليهم بأنواع التحدي والأذى؛ فأصبحوا وقد انقطعت علائقهم بذوي رحمهم وصاروا كأنهم لا عصبة لهم، وقد يشعر بعضهم أنه قد أصبح وحيداً فريداً، وبلا نصير ولا عشيرة، فجاءت الأخوة الإسلامية لتسد هذا الفراغ بالنسبة إليهم، ولتبعد عنهم الشعور بالوحدة، وتبعث في نفوسهم الأمل والثقة بالمستقبل، وقد بلغ عمق تأثير هذه المؤاخاة فيهم أن توهموا: عموم المنزلة حتى في الارث.
لقد أريد للمسلمين المؤمنين أن يكونوا إخوة، وذلك بهدف السمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي وجعلها علاقة إلهية خالصة تصل إلى درجة الأخوة، وليكون أثرها في التعامل بين المسلمين أكثر طبيعية وانسجاماً، وبعيداً عن النوازع النفسية، التي ربما توحي للأخوين المتعاونين بأمور من شأنها أن تعقد العلاقات بينهما ولو نفسياً على أقل تقدير.
ورغم أن الإسلام قد قرر ذلك، وأكد على أن المؤمن أخو المؤمن أحب أم كره، وحمله مسؤولية العمل بمقتضيات هذه الأخوة، إلا أنه قد كان ثمة حاجة إلى إظهار ذلك عملياً، بهدف توثيق عرى المحبة وترسيخ أواصر الصداقة والمودة كما هو معلوم، وليكون الهدف السامي قد انطلق من العمل السامي أيضاً.
لقد كان الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بصدد بناء مجتمع جديد، يكون المثل الأعلى للصلاح والفلاح، قادراً على القيام بأعباء الدعوة إلى الله، ونصرة دينه، في أي من الظروف والأحوال.
سيما مع وجود الفوارق الكبيرة بين المهاجرين أنفسهم، والأنصار أنفسهم، والمهاجرين والأنصار معاً ـ الفوارق ـ الاجتماعية، والقبلية، والثقافية، والنفسية، والعاطفية، وحتى العمق العقيدي ومستوى الالتزام، فضلاً عما سوى ذلك، هذا بالإضافة إلى الظروف النفسية والمعيشية التي كان يعاني منها المهاجرون بالخصوص.
ومع ملاحظة حجم التحدي، الذي كان يواجه هذا المجتمع الناشئ الجديد، سواء في الداخل: من الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين كان الكثيرون منهم لا يزالون على شركهم، ثم من المنافقين، ومن يهود المدينة.
ومن الخارج: من اليهود، والمشركين في جزيرة العرب، بل والعالم بأسره.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار عظم المسؤولية التي يتحملها هذا المجتمع في صراعه من أجل إقامة هذا الدين الجديد والدفاع عنه.
مع ملاحظة كل ذلك، وحيث أصبح من المفترض بهذا المجتمع أن يكون بمثابة كتلة واحدة متعاضدة، ومترابطة، بعد أن كانوا أحزاباً وجماعات وأفراداً فكان لا بد من إيجاد روابط وثيقة تشد هذا المجتمع بعضه إلى بعض، وبناء عواطف راسخة، قائمة على أساس عقيدي، تمنع من الإهمال ومن الحيف على أي فرد من أفراد هذا المجتمع الجديد بحيث يكون الكل مشمولين بالرعاية التامة، التي تجعلهم يعيشون الحب والحنان بأسمى وأجل معانيه، كما أنها تمنع من ظهور تلك الرواسب النفسية، والعقد التاريخية ـ بل وتقضي عليها تدريجاً ـ بين أفراد هذا المجتمع، الذي أصبح أفراده مأخوذين بالتعامل مع بعضهم البعض، الأمر الذي يجعل خطر ظهورها ـ لأتفه الأسباب ـ أشد، وتدميرها أعظم وأوسع.
وكانت تلك الرابطة الوثيقة هي: «المؤاخاة» التي روعيت فيها الدقة، إلى الحد الذي يضمن معه أن يحفظ في هذا المجتمع الجديد معها التماسك والتعاضد إلى أبعد مدى ممكن وأقصى غاية تستطاع ؛ لا سيما وأنه كان يؤاخي بين الرجل ونظيره، كما أشرنا إليه.
وسر ذلك يرجع إلى أن هذه المؤاخاة قد أقيمت على أساسين اثنين:
الأول: الحق
فالحق هو القاسم المشترك بين الجميع، عليه يبنون علاقاتهم، وهو الذي يحكم تعاملهم مع بعضهم البعض في مختلف مجالات الحياة.
نعم، الحق هو الأساس، وليس الشعور الشخصي النفسي، ولا المصلحة الشخصية أو القبلية، أو الحزبية!!
وبديهي: أن الحق إذا جاء عن طريق الأخوة والحنان والعطف، فإن ذلك يكون ضمانة لبقائه واستمراره، والتعلق به، والدفاع عنه.
أما إذا فرض هذا الحق فرضاً عن طريق القوة والسلطة، فبمجرد أن تغيب السلطة، والقوة، فلنا أن نتوقع غياب الحق، لأن ضمانة بقائه ذهبت، فأي مبرر يبقى لوجوده، وبقائه ؟!.
بل ربما يكون وجوده وبقاؤه مثاراً للأحقاد والإحن التي ربما يتولد عنها الظلم والطغيان في أبشع صوره وأخزاها، وأسوأ حالاته وأقصاها.
الثاني: المؤاساة
فهذه الأخوة إذاً، ليست مجرد توهج عاطفة، أو شعور نفسي، وإنما هي أخوة مسؤولة ومنتجة، تترتب عليها آثار عملية بالفعل، يحس الإنسان فعلاً بجدواها وبفعاليتها، تماماً كالأخوة التي في قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... ).
حيث جعل مسؤولية الصلح بين المؤمنين متفرعة وناشئة عن الأخوة الإيمانية.
وإذا كانت أخوة خيرة ومنتجة، فمن الطبيعي أن تبقى، وأن تستمر، ومن الطبيعي أيضاً أن يستمر الاحتفاظ بها، والحفاظ عليها إلى أبعد مدى ممكن. وقد كانت لهذه المؤاخاة نتائج هامة في تاريخ النضال والجهاد.
وقد امتن الله على نبيه في بدر بقوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

2020/05/06

بعد وفاة خديجة: ما الحكمة في تعدد زوجات النبي (ص)؟

بيانُ حكمة تعدد زوجات نبينا محمد (صلَّى الله عليه و آله) و الدوافع التي دعته إلى تكثير زوجاته (صلَّى الله عليه و آله) بحاجة إلى دراسة موضوعية تحليلية عميقة و دقيقة حتى يتمكن الباحث من خلالها التعرف على الأسباب الحقيقية لتعدد زوجاته (صلَّى الله عليه و آله)، الأمر الذي حاول من خلاله بعض المغرضين و الحاقدين على الإسلام أن يسجل على النبي (صلَّى الله عليه و آله) ملاحظة غير واقعية محاولاً إثبات وجود رغبة جنسية جامحة لدى رسول الله كانت وراء تعدد زوجاته (صلَّى الله عليه و آله) .

لكن الباحث الذي يدرس هذا الأمر بعمق و وعي سرعان ما يتضح له زيف هذا الادعاء وبطلان هذا التصور الخاطئ .

و مع أن دراسة هذا الموضوع بحاجة ـ كما قلنا ـ إلى بحث عميق و مفصل، لكننا نحاول تسليط الضوء على النقاط الهامة و الرئيسية التي تمكن الباحث من الوصول إلى النتائج الصحيحة و الحقيقية، أما النقاط فهي:

الاتهام الباطل

قد يحلو لبعض المغرضين و الحاقدين:  بأن يتهم الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه و آله) بأنه إنما تزوج عدة نساءٍ استجابة لرغبة جنسية جامحة، كان يعاني منها .

و لكننا، إذا درسنا هذا الجانب من حياته المباركة (صلى الله عليه وآله) بعمقٍ و وعي، فإننا نخرج بنتيجة حاسمة تُثبت أن هذا الكلام محض خيال زائف ليس له منطق يساعده و لا دليل يتعمد عليه، و ذلك بملاحظة ما يلي:

1.إن حب الرجل للمرأة أمر طبيعي غير مستغرب و لا يتنافى مع مكانة الرجل و مقامه و مرتبته مهما علت و شمُخت، و لقد كان النبي (صلَّى الله عليه و آله) رجلاً إنساناً فطبيعي أن يميل إلى المرأة و يشعر بالمتعة معها، فرسول الله (صلى الله عليه و آله) حتى و لو كان زواجه بهذا العدد من النساء بدافع المتعة و الالتذاذ فهو أمر غير مستغرب، لكن دراسة الحياة الزوجية للنبي (صلَّى الله عليه و آله) تكشف لنا أن دافعه لم يكن المتعة و ذلك لأن أكثر زوجاته (صلَّى الله عليه و آله) كنّ ثيِّبات، إما مطلقات، أو ترمّلن من أزواجهن قبله (صلَّى الله عليه و آله) .

فلو كان (صلَّى الله عليه و آله) يهتم بأمور الجنس و المتعة لكان باستطاعته أن يتزوج خيرة الفتيات الأبكار، و لوجد أولياءهن يفتخرون بمصاهرته لهم، و هو الذي حثّ و حبَّذ و أثنى على الزواج بالأبكار، و رغّب فيه بشكل واضح و ملموس .

2.إنه (صلَّى الله عليه و آله) و هو في مكة بقي 25 سنة مع زوجته خديجة، المرأة الوفية، التي كانت تكبره سناً، كما يقولون، و لم يتزوج عليها في حياتها أحداً، مع أن تعدد الزوجات كان مألوفاً لدى الناس آنئذٍ .

3.إننا نجده يرفض عرض قريش عليه التزويج بأي النساء شاء، في مقابل أن يلين في موقفه، و يخفف من مواجهته لآلهتهم و عقائدهم .

4.إن زوجاته (صلَّى الله عليه و آله) كنّ على كثرتهنّ من قبائل شتى، لا تكاد تجد منهم اثنتين من قبيلة واحدة، إلا من اللواتي لم يدخل بهن .

5.إن جميع زوجاته باستثناء خديجة، إنما دخلن بيت الزوجية عنده حينما كان في المدينة المنورة، أي بعد تجاوزه سنّ الخمسين، و بعضهن تزوجهن (صلَّى الله عليه و آله) قبل وفاته بمدة قليلة .

6.إن هذا التعدد لم يشغل النبي (صلَّى الله عليه و آله) عن واجباته، و لا أخرجه عن اتزانه، و لا طغى على وقته و نشاطه، و تاريخ حياته (صلَّى الله عليه و آله) يشهد بأنه (صلَّى الله عليه و آله) لم يكن يهتم بهذه الأمور، بل كان مثال العفاف و الطُهر الرفيع، و لم يلوث نفسه بأيٍ عمل قبيح مما كانت الجاهلية تبيحه و تشيع في مجتمعه ممارسته، و لم يستطع أحد من أعدائه أن يعيره بشيء من ذلك .

7.أنه (صلَّى الله عليه و آله) قد خير زوجاته بين الرضا بحياة التقشف معه، و بين الطلاق و الفراق، فلو كان زواجه بهن بسبب طغيان الغريزة الجنسية لديه، لكان يجب أن يحتفظ بهن في جميع الأحوال، و لا يفرط بهن لمجرد حبّه لحياة التقشف و الزهد .

فهل استيقظ فيه (صلَّى الله عليه و آله) الشعور الجنسي في المدينة بالذات و بعد شيخوخته و في أواخر عمره ؟!

و هل استيقظ هذا الشعور على خصوص النساء اللواتي ترملن ؟ أو طلقهن أزواجهن ؟!

أو هل أراد حقاً أن يتذوق نساء القبائل المختلفة في الجزيرة العربية ؟!

و لماذا اختص ذلك بالعربية دون غيرها ؟!

الدوافع الحقيقية

و بعد ما تقدم، فإننا إذ نجيب على التساؤل حول السبب في كل ذلك و دوافعه و آثاره، نقول:

إن زواجه (صلَّى الله عليه و آله) المتعدد هذا، قد كان لدوافع سياسية، و أحكامية، و إنسانية، و انطلاقا من مصلحة الإسلام العليا .

و توضيح ذلك ـ قدر الإمكان ـ يكون من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولى: دوافع إنسانية

إن بعض موارد زواجه (صلى الله عليه و آله) كانت دوافعه إنسانية بحتة، لكون تلك المرأة قد أسلمت و هاجرت، ثم توفي أو قتل عنها زوجها، و لم يكن لها سبيل للرجوع إلى أهلها المشركين، لأنها لم تكن قادرة على مقاومة الضغوط النفسية و المادية القاسية و الوحشية التي كانت تفرزها تلك المجتمعات الجاهلية و لم تكن بمأمن من أن تتعرض لأنواع التعذيب الجسدي الوحشي فيما لو أرادت أن تحتفظ بدينها و عقيدتها و هي تعيش بينهم و في بيئتهم .

كما و أن بعضا من هذه النساء حتى لدى انتقالها الى المجتمع الاسلامي لم تكن قادرة على أن تمارس حياتها بصورة طبيعية من دون أي ما معيل و لا كفيل لها في هذا المجتمع الجديد، كما كان الحال بالنسبة لسودة بنت زمعة التي كانت مسنّة، و يزيد عمرها على الخمسين عاماً، و كذا الحال بالنسبة لزينب بنت خزيمة .

هذا بالإضافة إلى أن كونها أيِّماً سيطلق الألسنة و الأهواء في حقها و في اتهامها، و يجعلها تتعرض لضغوط و إغراءات ربما لا تناسبها أو لا يتناسب و موقعها و مصيرها في هذا المجتمع الغريب، هذا إن لم يؤدّ ذلك إلى أزمات نفسية أو قَبَلية لا مبرر لها .

فخير كافل و خير معين و حافظ و ولي لها، هو النبي الأكرم (صلَّى الله عليه و آله)، إلا إذا رزقها الله زوجاً من بعض خيار أصحابه (صلَّى الله عليه و آله) إذا كان فيهم من يقدم على ذلك .

النقطة الثانية: مصلحة دينية

إن زواجه (صلَّى الله عليه و آله) بـ " جويرية " كان لمصلحة دينية، حيث قد نشأ عنه:  ـ كما يقولون ـ أن يُطْلِقَ المسلمون مئة من أهل بيتها، و عند دحلان مئتين من الأسرى من قبيلتها، فأسلم من قومها خلق كثير، على حد تعبير المؤلفين في السيرة النبوية 1، و لهذا وصفت بأنها كانت أكثر نسائه بركة ـ ما عدا خديجة ـ .

فهذا نوع من التأليف للناس على الإسلام، و الترغيب فيه، كما كان (صلَّى الله عليه و آله) يتألفهم بطرق أخرى كبذل المال لهم، و تزويجهم، و توليتهم بعض الأمور، و غير ذلك .

بل نجد عمرو بن العاص يذكر لنا نوعاً من التأليف للقلوب لم يكن يخطر على البال، يقول عمرو:  " كان رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) يقبل بوجهه و حديثه عليّ، حتى ظننت أني خير القوم ..." .

ثم ذكر أنه سأل النبي (صلَّى الله عليه و آله) عن نفسه، و فلان، و فلان، فأخبره:  أنهم أفضل منه، فيقول عمرو:  " فلوددت أني لم أكن سألته " 2 .

النقطة الثالثة: تشريع

إن زواجه (صلَّى الله عليه و آله) بـ " زينب بنت جحش " كان لضرورة اقتضاها التشريع الاسلامي، حيث إنه (صلَّى الله عليه و آله) كان قد تبنى زوجها زيد بن حارثة، و كان العرب يعتقدون أن آثار التبني هي نفس آثار البنوّة الحقيقية، فيحلّ للمتبني ما يحلّ من ولده الحقيقي و يحرم عليه ما يحرم عليه منه، و يرث، و يعامل ـ تماماً ـ كالابن الحقيقي بلا فرق .

و لم يكن مجال لاقتلاع هذا المفهوم الخاطئ إلا بالإقدام على عمل أساسي لا مجال للريب و لا للتأويل فيه .

فكان زواج النبي (صلَّى الله عليه و آله) من زوجة ابنه بالتبني بعد أن طلقها زيد هو الوسيلة الفضلى لقلع هذا المفهوم الخاطئ من أذهانهم، و هكذا كان .

النقطة الرابعة

لقد جاء الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه و آله) لهداية الناس و إرشادهم، و لا بُدَّ لهم من الإيمان به و التسليم لأمره و نهيه، بل لا بُدَّ أن تكون له مكانة و محبة في نفوسهم تزيد على محبتهم لكل شيء آخر، حتى المال، و الولد، و النفس، بنص القرآن الكريم:  (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) 3 .

و لكن، و بعد أن اضطر (صلَّى الله عليه و آله) إلى مواجهتهم بالحرب و قهرهم، و تمكّن من السيطرة عليهم، حدث بين كثير من القبائل ـ التي كان عدد من زوجاته (صلَّى الله عليه و آله) ينتمي إليها ـ و بين المسلمين، و النبي (صلَّى الله عليه و آله) على رأسهم، حروب و قتلى، و كانت لقضية الثأر و الدم عند العربي أهمية خاصة .

نعم بعد ذلك كله، مسّت الحاجة إلى إتباع أساليب كثيرة من أجل تأليفهم، و إيجاد علاقات من نوع معين، تفرض عليهم، أو على الأقل على الكثيرين منهم ـ و النبي (صلَّى الله عليه و آله) يهمه حتى الفرد الواحد ـ أن يرتبطوا به و يتعاملوا معه تعاملاً واضحاً، و من موقع الثقة المتبادلة، و يقطع الطريق عليهم في أتخاذهم لأي موقف سلبي منه و من دعوته .

و بعد أن يتمكن من شحنهم روحياً و عقائدياً، يكون قد مهد الطريق للقضاء على الأحقاد و الإحن، ليتسنى للمسلمين ـ من خلال ذلك ـ العمل يداً واحدة من أجل هدف واحد و في سبيل واحد .

و لهذا نجده (صلَّى الله عليه و آله) يتحمل من بعض تلك النسوة أذى كثيراً، و يواجه صعوبات جمة معها، و لكنه لا يبادر إلى قطع العلاقة معها نهائياً، لأنه يتعامل مع زوجاته من موقعه السياسي الحرج، لا من جوّ بيت الزوجية 4 .

النقطة الخامسة

و كشاهد على ما تقدم نذكر:  أن زواجه (صلَّى الله عليه و آله) بـ "حفصة " مثلاً كان ـ على ما يظهر ـ زواجاً سياسياً، و يمكن أن يتضح ذلك من كلام أبيها عمر لها، حين طلقها النبي (صلَّى الله عليه و آله)، و أراد طلاقها مرة ثانية، حينما تظاهرت هي و عائشة عليه (صلَّى الله عليه و آله)، و اعتزلهما، فقد قال عمر لابنته:  " و الله، لقد علمتُ أن رسول الله لا يحبك، و لولا أنا لطلقك رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) " 5 .

كما و يرى البعض:  أنه (صلَّى الله عليه و آله) أراد أن يساوي بين أبي بكر و عمر من جهة المصاهرة لكل منهما 6 .

و معنى كلامه هذا هو أن الدافع للزواج بحفصة كان سياسياً، و ليس هو الرغبة الجنسية الجامحة، كما يدَّعون .

و كذا الحال بالنسبة لزواجه بعائشة، حيث تزوجها من أجل الاحتفاظ بولاء أبيها و أبنائه إلى جانبه .

و حينما طلّق رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) حفصة في المرة الأولى، حثى عمر على رأسه التراب، و قال ما يعبأ الله بعمر، و ابنته بعدها، فراجعها النبي، رحمة لعمر 7 .

فهذا الموقف الشديد لعمر من طلاق ابنته، جعل النبي (صلَّى الله عليه و آله) يضطّر إلى مراجعتها من جديد!!

و قد ذكَّرها عمر بهذا الأمر حينما أراد (صلَّى الله عليه و آله) طلاقها في المرة الثانية فقال:  إنه قد كان طلّقك مرة، ثم راجعك من أجلي، أو قال:  إن النبي طلقك و راجعك من أجلي، أو نحو ذلك 8 .

و بعد ما تقدم يتضح:  أنه لا يصح قولهم:  إنه (صلَّى الله عليه و آله) إنما راجعها لأن جبرئيل أمره بمراجعتها، لأنها صوامة قوامة 9، خصوصاً و أن الصوامة القوامة لا تجعل النبي (صلَّى الله عليه و آله) يضطر إلى طلاقها مرتين، ثم يراجعها من أجل أبيها .

كذبة مفضوحة

و من الكذب الواضح هنا:  ما روي أنه لما طلقها النبي (صلَّى الله عليه و آله) اغتم الناس، و دخل عليها خالها عثمان بن مظعون، و أخوه قدامة، فبينما هو عندها و هم مغتمون، إذ دخل النبي (صلَّى الله عليه و آله) على حفصة، و قال:  يا حفصة، أتاني جبريل (عليه السَّلام) آنفاً، فقال:  إن الله يقرؤك السلام، و يقول لك:  راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، و هي زوجتك في الجنة .

و ثمة نص قريب من هذا، و رجاله رجال الصحيح 10 كما يدّعون .

و هذا من الكذب الواضح، فإن عثمان بن مظعون قد توفي قبل زواج النبي (صلَّى الله عليه و آله) بها بمدّة، و قضية الطلاق إنما حصلت في قضية لها مع مارية التي قدُمت إلى المدينة سنة سبع، أو ثمان .

و قد قلنا إن الصوامة القوامة لا يعهد منها أن تؤذي النبي إلى حد يضطر معه إلى طلاقها مرتين .

و التي تؤذي النبي لا يعقل أن تكون معه في الجنة، و الله تعالى يقول:  (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) 11 .

و قال عزَّ و جلَّ:  (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) 12 .

و بعد هذا، فلا يمكن أن نصدق:  أن يأتي جبرئيل فيأمره بمراجعة من هذه حالها، ثم يحكم ـ علاوة على ذلك ـ لها بالجنة 13 .

هل الزواج السياسي احتقار للمرأة ؟

ربما يقال:  إن الزواج السياسي من قبل النبي (صلَّى الله عليه و آله)، أو من قبل الإمام الحسن (عليه السَّلام) من جعدة بنت الأشعث، إهانة للمرأة، و تحقير لها، و امتهان لكرامتها كإنسان .

و الجواب:

أولاً:  إن النساء يختلفن من حيث الكرامة و القيمة باختلاف حالاتهن، و بمقدار التزامهن بخط الإسلام و الأحكام، ففاطمة و مريم، (عليهما السَّلام) و امرأة فرعون و خديجة، و أم سلمة (رحمهن الله)، لسن مثل امرأة نوح و امرأة لوط، فالمرأة التي ترضى لنفسها أن تكون في موقع الإهانة لا تكون إهانتها إهانة للجنس .

و ثانياً:  إنه إذا كان الزواج بامرأة ما سبباً لهداية جماعة من الناس، أو دفع ضرر عن الإسلام أو عن المسلمين، فإنه يكون تكريماً للمرأة، و تشريفاً لها، لا سيما إذا كان ذلك من نبي أو وصي .

فاعتبار ذلك إهانة للمرأة ليس له ما يبرره 14 .

الهوامش:


1.سيرة المصطفى / 467 .

2.مجمع الزوائد:  9 / 15، عن الطبري بأسناد حسن، و في الصحيح بعضه بغير سياقه، و حياة الصحابة:  2 / 706 عن الترمذي في الشمائل:  25 .

3.القران الكريم:  سورة التوبة (9)، الآية:  24، الصفحة:  190 .

4.يراجع:  حديث الإفك:  165، للعلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي .

5.صحيح مسلم:  4 / 165، و الجامع لأحكام القرآن:  18 / 190 .

6.مع المفسرين و المستشرقين في زواج النبي (صلى الله عليه وآله) بزينب بنت جحش:  104 .

7.أسد الغابة:  5 / 426، و الإصابة:  4 / 273، و الإستيعاب بهامش الإصابة:  4 / 269، و مجمع الزوائد:  9 / 244 عن الطبراني .

8.تراجع هذه النصوص في:  أسد الغابة:  5 / 426، و مجمع الزوائد:  9 / 244 عن الطبراني و رجاله رجال الصحيح، و الإصابة:  4 / 273 عن أبي يعلى .و راجع:  سيرة مغلطاي:  48 .

9.طبقات ابن سعد:  8 / 58 و 59، و مجمع الزوائد:  9 / 244 عن البزار و الطبراني، و أسد الغابة:  5 / 425، و الإستيعاب بهامش الإصابة:  4 / 269، و تهذيب الأسماء و اللغات:  2 .

10.يراجع:  مجمع الزوائد:  9 / 244 عن الطبراني في الأوسط، و في السند من لم يعرفهم، و في:  245 ما يقرب من هذا النص، و قال:  إن رجاله رجال الصحيح، و يراجع أيضاً:  تاريخ الخميس:  1 / 416 / 417، و طبقات ابن سعد:  8 / 58 .

11.القران الكريم:  سورة التوبة (9)، الآية:  61، الصفحة:  196 .

12.القران الكريم:  سورة الأحزاب (33)، الآية:  57، الصفحة:  426 .

13.يراجع بعض قضاياها في بيت النبي (صلى الله عليه وآله) في ترجمتها في كتاب قاموس الرجال، و كتاب عائشة للعلامة المحقق السيد مرتضى العسكري و غيرهما .

14.الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله):  5 / 253- 261، للعلامة السيد جعفر مرتضى العاملي:  طبعة دار السيرة، بيروت / لبنان .

2020/05/04

هل يتّهم علماء الشيعة زوجات النبي (ص) بالزنا والفجور؟

من الأمور التي أثارت جدلاً واسعاً بين الشيعة وخصومهم اتهام الشيعة بأنهم يطعنون في عرض رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتَّهمون خصوص عائشة بالزنا والفجور.

وهذا الطعن جعله خصوم الشيعة من أعظم الطعون في الشيعة وفي مذهبهم، ويظهر أنه اتهام قديم، لم يكن وليد هذا العصر. ولأجل ذلك فإن من المهم جدّا إيضاح هذه المسألة، وبيان عقيدة الشيعة في زوجات نبينا صلى الله عليه وآله من هذه الجهة، فأقول:

إن كلمات علماء الشيعة قديماً وحديثاً صرَّحت بأن جميع نساء الأنبياء عليهم السلام منزَّهات عن ارتكاب الزنا والفجور؛ ولم يدل دليل واحد على أن زوجة واحدة من زوجات الأنبياء عليهم السلام زنت، أو أقدمت على فاحشة، ونساء الأنبياء عليهم السلام وإن لم يكنَّ معصومات عن الزنا والفواحش، إلا أن الله تعالى صان كل نبي من أنبيائه عليهم السلام عن أن يقترن بعاهرة أو بزانية، كما أنه تعالى صان كل امرأة اقترنت بنبي عن أن تزني أو تفعل فاحشة؛ والسبب في ذلك أن زنا الزوجة يشين زوجها، ويعيبه، ويحط من قدره، والله تعالى نزَّه أنبياءه عن كل ما يعيبهم، وصانهم عن كل ما يقلل من مكانتهم عند الناس، ومنه زنا زوجاتهم وفعلهن الفواحش.

وهذا بخلاف ارتكاب الذنوب الموجبة للفسق، فإن الله تعالى لم يعصم نساء أنبيائه عن ذلك، وإلا لوجب القول بعصمتهن عن الذنوب والمعاصي، وهذا لم يقل به أحد؛ لأنه قد ثبت متواتراً أن بعض زوجات الأنبياء صدرت منهن بعض الذنوب والمعاصي.

وحال الكفر بالنسبة إليهن كحال الفسق، فإنه جائز أيضاً على نساء الأنبياء عليهم السلام؛ لأن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز مثالين لمن كفر من زوجات الأنبياء السابقين عليهم السلام، وهما زوجتا نوح ولوط عليهما السلام، فقال سبحانه: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) 1.

ومن الواضح أن فسق الزوجات أو كفرهن لا يعيب أزواجهن ولا ينقصهم، بخلاف زناهن وفحشهن، ولهذا صانهن الله تعالى عن الزنا، ولم يصنهن عن الفسق والكفر.

وهذا الذي قلناه من براءة نساء الأنبياء عن الزنا والفجور صرَّح به أعلام الشيعة قديماً وحديثاً في كتبهم وفتاواهم، وإليك بعضا منها:

(1) قال السيد علي بن الحسين العلوي المعروف بالشريف المرتضى قدس سره (ت 436هـ) في أماليه 1/503، في ردِّه على من زعم أن ابن نوح لم يكن ابناً له في الحقيقة، وإنما وُلد على فراشه: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يُنزَّهوا عن مثل هذه الحال، لأنها تَعُرُّ وتَشِين وتَغُضُّ من القدر، وقد جنَّب الله تعالى أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ما هو دون ذلك تعظيماً لهم وتوقيراً ونفياً لكل ما ينفِّر عن القبول منهم.

(2) قال شيخ الطائفة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ) في تفسير التبيان 10/52 في تفسير قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ... )1:

قال ابن عباس: (كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما، وما زنت امرأة نبي قط)؛ لما في ذلك من التنفير عن الرسول وإلحاق الوصمة به، فمن نسب أحداً من زوجات النبي إلى الزنا فقد أخطأ خطأً عظيماً، وليس ذلك قولاً لمحصِّل.

(3) وقال الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548هـ): (... فَخَانَتَاهُمَا ...) 1 بالنفاق والتظاهر على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه، وعن الضحاك: خانتاهما بالنميمة، إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور؛ لأنه نقيصة عند كل أحد، سمج في كل طبيعة، بخلاف الكفر؛ لأن الكفار لا يستسمجونه، وعن ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط؛ لما في ذلك من التنفير عن الرسول، وإلحاق الوصمة به2.

(4) وقال محمد علي بن يونس العاملي البياضي (ت 877هـ): وأما تولد كافر من النبي فلا محال فيه، وقد قيل: إن كنعان كان لنوح ربيباً، ولم يكن ابنا. وروي عن الحسن ومجاهد أنه وُلد على فراشه، وهذا بالإعراض عنه حقيق، قال ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط3.

(5) وقال المقدس أحمد الأردبيلي (ت 993هـ): ثم أشار إلى التمثيل بامرأة نوح وامرأة لوط، بأنه لا ينفع أحداً صلاح أحد حتى حفصة وعائشة وغيرهما صلاح النبي صلى الله عليه وآله كما في امرأتي هذين النبيين العظيمين، فإن امرأتيهما خانتاهما. قال في الكشاف والقاضي: بالنفاق، وقيل: بأن كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة من قوم نوح، وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما، فما بغت امرأة نبي، فكذا نبينا بالطريق الأولى، ولهذا قالوا: قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره4.

(6) وقال المولى محمد صالح المازندراني (ت 1081هـ): فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت قومه على ضيفانه، وليس المراد بالخيانة البغي والزنا، إذ ما زنت امرأة نبي قط5.

(7) وقال فخر الدين الطريحي (ت 1085): قوله: (... فَخَانَتَاهُمَا ...) 1 أي بالنفاق، والتظاهر على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه لمجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه. وقيل: خانتاهما بالنميمة، إذا أوحي إليهما أفشتاه إلى المشركين. ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، قال ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط، لما في ذلك من التنفير عن الرسول صلى الله عليه، وإلحاق الوصمة به6.

(8) وقال محمد إسماعيل بن الحسين المازندراني الخاجوئي (ت 1173هـ): فإن قلت: هل تجب عصمة نساء الأنبياء من الزنا، فلا يجوز ذلك عليهن، أم يجوز، ولكنه لم يقع منهن؟ قلت: لو لم يجز لكان على رسول الله صلى الله عليه وآله حين قذفت زوجته أن يخبر بأنه لا يجوز عليها، ولكنه بقي أياماً والناس يخوضون فيه إلى أن نزل الوحي ببراءتها، وكيف لا يجوز وقد قال الله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ...) 7 إلى قوله: (... فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ...) 8 الآيات؟ ولذلك لم يشترط أحد من العلماء عصمتهن عنه، ولكن اللائق بمنصب النبوة نزاهتهن عنه وسلامتهن منه، ولم يقع من واحدة منهن، فعن ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط9.

(9) وقال السيد محسن الأمين (ت 1371هـ): الشيعة تعلن لجميع الملأ أنها تعتقد أنه لا يجوز أن تكون زوجة النبي زانية، وأنه يجب تنزيه جميع أزواج الأنبياء عن ذلك، فلا يقبل منهم، وتلصق هذه التهمة بهم؟ إن هذا لعجيب.

وقال أيضاً: فيمكنني في هذه العجالة أن أبين لكم خلاصة عقيدة الشيعة المتفق عليها في نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة، وفي أمهات المؤمنين نساء النبي صلى الله عليه وآله خاصة.

إلى أن قال: فتحصل من ذلك أن زوجة النبي يجوز أن تكون كافرة، كما في امرأتي نوح ولوط عليهما السلام، ولا يجوز أن تكون زانية؛ لأن ذلك من النقائص التي تلحق النبي، فتوجب سقوط محله من القلوب، وعدم الانقياد لأقواله وأفعاله، وذلك ينافي الغرض المقصود من إرساله، وحينئذ فقوله تعالى في حق امرأتي نوح ولوط: (... فَخَانَتَاهُمَا ...) 1 يراد منه الخيانة بغير ذلك، ولا عموم في لفظ الخيانة10.

(10) قال العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402هـ) في الرد أيضاً:

وفيه: أنه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياء عليهم السلام، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم، وينزِّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة، ولا ظهور، فليس في القصة إلا قوله: )... إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ...( 11، وليس بظاهر فيما تجرَّؤوا عليه، وقوله في امرأة نوح: )... امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ... ( 1، التحريم: 10، وليس إلا ظاهراً في أنهما كانتا كافرتين، تواليان أعداء زوجيهما، وتسران إليهم بأسرارهما، وتستنجدانهم عليهما12.

وقال أيضاً: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه، فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا والفحشاء، وإلا لغت الدعوة، وتثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعاً لا ظاهراً فحسب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بهذه الحجة منا، فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك؟13.

(11) وقال المرجع الديني السيد محمد صادق الروحاني في رده على سؤال نصّه: هل زوجات النبي صلى الله عليه وآله معصومات عن الزنا؟ قال ما يلي: لم يكنَّ في أنفسهن معصومات عن ذلك، ولكن كرامة النبي صلى الله عليه وآله تقتضيه، فإنه أجل عند الله تعالى من أن تقترن به امرأة لا تتورع عن ارتكاب الفواحش14.

وأود أن أنبه القارئ العزيز إلى أن بعض علماء الشيعة السابقين، ألف كتاباً في تنزيه عائشة، وهو «الشيخ الواعظ نصير الدين عبد الجليل بن أبي الحسين بن أبي الفضل القزويني: [وهو] عالم، فصيح، ديِّن، له... كتاب البراهين في إمامة أمير المؤمنين، كتاب السؤالات والجوابات سبع مجلدات، كتاب مفتاح التذكير، كتاب تنزيه عائشة»15.

قال البحاثة آغا بزرگ الطهراني: (2039: تنزيه عايشة) للشيخ الواعظ نصير الدين عبد الجليل بن أبي الحسين بن أبي الفضل القزويني صاحب بعض المثالب المذكور في ج 3- ص 130)، نزَّه فيه عايشة عما اتهمت به، ذكره الشيخ منتجب الدين16.

وقد أعجبني إنصاف الألوسي في تفسير قوله تعالى (... فَخَانَتَاهُمَا ...) 1، حيث قال: نقل ابن عطية عن بعضٍ تفسيرَها بالكفر، والزنا، وغيره، ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا، فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد: (إن الحق منعها في حق الأنبياء عليهم السلام)، وما ينسب للشيعة مما يخالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم كذب عليهم، فلا تعول عليه وإن كان شائعاً، وفي هذا على ما قيل تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر والعصيان، مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة17.

فإذا تبين رأي الشيعة الإمامية في تنزيه زوجات نبينا صلى الله عليه وآله عن الفواحش والفجور، فإن كل من ينسب إلى الشيعة الإمامية خلاف ما قلناه فهو إما جاهل بمذهبهم، أو كاذب مفتر عليهم.

كما أن كل من قال خلاف ما أوضحناه من الشيعة الإمامية فهو مخطئ جزماً، وهو يعبِّر بقوله عن رأيه هو، لا عن رأي عموم الطائفة، وقوله مردود عليه، لا يصح نسبته إلى مذهب الشيعة الإمامية، ولم أجد فاضلاً من الشيعة قال: إن زوجة من زوجات نبينا صلى الله عليه وآله زنت أو ارتكبت فاحشة كما نقلناه عن شيخ الطائفة الشيخ الطوسي أنه قال: وليس ذلك قولاً لمحصِّل.

الهوامش:


1. a. b. c. d. e. f. g. القران الكريم: سورة التحريم (66)، الآية: 10، الصفحة: 561.

2. جوامع الجامع 3/597.

3. الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/354.

4. زبدة البيان: 574.

5. شرح أصول الكافي 10/107.

6. مجمع البحرين 1/715.

7. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 30، الصفحة: 421.

8. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 32 و 33، الصفحة: 422.

9. جامع الشتات: 38.

10. أعيان الشيعة 1/120.

11. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 46، الصفحة: 227.

12. الميزان في تفسير القرآن 10/235.

13. الميزان في تفسير القرآن 15/102.

14. أجوبة المسائل: 92.

15. فهرس منتجب الدين: 87.

16. الذريعة 4/457.

17. روح المعاني 28/162.

18. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي ال محسن حفظه الله.

2020/05/04

2020/05/01

كيف تعامل المسلمون تاريخيًا مع الأوبئة في شهر رمضان؟

- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع «الأئمة الإثني عشر»

يحلّ شهر رمضان المبارك على المسلمين في هذا العام، في أثناء جائحة عالميّة منذُ كانون الأول/ ديسمبر 2019.

ويُطرح سؤال عن تعامل المسلمين سابقًا في أثناء شهر رمضان مع الأوبئة،  وهنا تقرير رصده «موقع الأئمة الاثني عشر» عن تاريخ الأوبئة في العصور الاسلامية، خلال شهر رمضان المبارك.

قال باحثون ومؤرخون إنه "مر على المسلمين جائحتان في شهر رمضان، أولاهما طاعون مسلم بن قتيبة في العصر الأموي بمدينة البصرة في العراق عام 131هـ، وثانيهما ما سمي الوباء العظيم، الذي وقع ببلاد الشام عام سنة 749 هـ، وانتقل إلى مصر.

وباء رمضان بالعصر الأموي

رصد الباحث أحمد العدوي في كتابهِ "الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية" وقوع نحو 20 طاعوناً ووباءً في العصر الأموي. وأشار إلى أن الطاعون الوحيد الذي ألم بالمسلمين في رمضان كان بالعصر الأموي عام 131ه/ 748م؛ موضحا أنه بدأ بمدينة البصرة في العراق، وأنه ظهر في شهر رجب، واستمر في شعبان ورمضان، وانتهى في شوال.

وقال إنه "كان يحصي كل يوم في سكة المربد بالبصرة ألف جنازة، وإن أشهر من ماتوا بهذا الطاعون أبو بكر أيوب بن أبي تميمة كيسان، الذي قيل عنه إنه سيد أهل البصرة"، على حد وصف الباحث.

وناقش أحمد العدوي ما تسبب به الطاعون من كوارث ديموغرافية كان لها انعكاساتٍ سياسيّة لاحقة، ولفت إلى أن عزوف خلفاء بني أميّة عن الإقامة في دمشق نظرًا لتوالي فورات الطاعون على المدينة، واتقاءً للوباء أيضًا.

"رمضان والوباء العظيم"

من جانبه، أشار رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة الأسبق، سعد عبدالرحمن، إلى ما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية"، عن موت الشاعر صلاح الدين الصفدي صاحب كتاب "التذكرة" في طاعون سنة 749ه/ 1391م، الذي اجتاح الشام وفلسطين ومصر، ووصل أوروبا، وسمي "الوباء العظيم".

وأضاف عبدالرحمن، عبر صفحته بـ"فيسبوك"، أن الصفدي مات في الطاعون الذي ضرب مصر إبان شهر رمضان عام 764ه/ 1362م، وقد أودى هذا الطاعون بحياة الآلاف من أهلها، خاصة طائفة اليهود.

قدم المؤرخ الصلابي سردًا لأشهر ما وقع من الأوبئة والطواعين بفترات التاريخ الإسلامي، قائلًا إن "طاعون عمواس بزمن (...) الثاني بالشام (18ه/ 693م)، وطاعون الجارف بزمن عبد الله بن الزبير بالبصرة (69ه/ 688م)، وطاعون الفتيات بالعراق والشام (87ه/ 705م)، وطاعون مسلم بن قتيبة بالبصرة لمدة ثلاثة أشهر، الذي اشتد في رمضان، وكان يحصى ألف جنازة يوميا (131ه/ 748م)".

وأوضح أن المسلمين طوروا طرق مواجهتهم للطاعون والأوبئة، وفي العهد المملوكي بنى بعض السلاطين والميسورين "البيمارستانات" والحوانيت أو مغاسل الموتى بالشام، وأغلقت حوانيت الخمر، وترك الناس الفواحش والمنكرات.

أين يذهب الناس في زمن الوباء؟

أكدت محاضرة التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، سمية فتحي، أنه "علينا طرح السؤال 'هل مرّ على المسلمين الأوبئة في شهر رمضان تاريخيًا؟' ويحتاج ذلك إلى بحث تاريخي عميق، ليس في المصادر التاريخية فحسب، بل في كتب الفقه وغيرها".

العصر المملوكي

وأضافت فتحي أنه "جاء في كتاب (السلوك) للمقريزي، عن طاعون سنة (749ه/1348م و787ه/ 1385م)، أن الناس هرعت للجوامع للصلاة والقنوت والتضرع إلى الله برفع البلاء، (...) والدعاء بعدها لرفع الطاعون".

وتابعت أنه "في طاعون سنة (833هـ)، جمع السلطان 40 شريفًا من الأشراف، وأجلسهم بالجامع الأزهر، فقرؤوا القرآن، ودعوا الله تعالى، ودعا الناس معهم وقد امتلأ الجامع بهم"، موضحةً أنه "كان الناس يخرجون للصحراء يصلون بها وراء أئمتهم، و يستصرخون الله رفع البلاء".

في هذا الصدد قال أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الدكتور سعد الحلواني، إن "النوازل والجوائح طالت الأرض جميعها عشرات المرات، وأطاحت في بعضها بالكثير من أهل الأرض، ومنها العالم الإسلامي".

وحول وقوعها في شهر رمضان، لفت إلى أن "بعضا منها بالفعل وقعت في رمضان، إلا أنها ورغم ذلك لم تغلق المساجد بقرارات الحاكم، بل إن الناس كانوا من أنفسهم يبتعدون عن المساجد، وتوجهوا إلى الجبال والصحراء حتى ينتهي الوباء".

وأوضح أنه "لم يثبت منع الصوم في ظل أي جائحة وقعت خلال شهر رمضان"، مضيفا أنه "حتى الحج والعمرة لم يثبت منعهما بسبب جوائح أو نوازل إلا في العام التالي لسرقة القرامطة للحجر الأسود من الكعبة المشرفة".


المصدر: وكالات

موقع الأئمة الاثني عشر

2020/04/25

هل ذكرت النصوص الشرعية ما هي مسؤوليات «الحاكم السياسي»؟

1. إنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن مسؤوليته تجاه الأُمّة الإسلامية الّتي يأخذ بزمام حكمها، فيقول: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته».

فالأمير الذي على الناس، راع عليهم، وهو مسؤول عنهم.

والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرجل، راعية على بيت زوجها وولدها، وهي مسؤولة عنهم.

«ألا فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».[1]

2. ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام علي (عليه السلام) الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي الأعلى تجاه الشعب وما على الشعب تجاه الحاكم، إذ يقول في وضوح كامل: «وأعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق; حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي، فريضةً فرض اللّه سبحانه، لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم، وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقُّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدّين، وتركت محاجُّ السُّنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذلُّ الأبرار، وتعزُّ الأشرار، وتعظّم تبعات اللّه عند العباد».[2]

ثمّ إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة، إذ يقول: «أمّا بعد، فقد جعل اللّه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم».

ثم يشير الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين، رؤوساء ومرؤوسين، وزراء ومستوزرين، وبذلك ينسف فكرة: أنا القانون، أو أنا فوق القانون، فيقول (عليه السلام): «... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له».

وعلى هذا فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الأُمّة العاديّين، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول: «النّاس أمام الحقّ سواء».

3. كما يمكن أن نعرف طبيعة الحكومة الإسلامية من خطبة الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) بعد نزوله بأرض كربلاء، فقال: «اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك».[3]

إنّ من أهمّ الوثائق التي ترسم لنا بوضوح معالم الحكومة الإسلامية الوثيقة التي كتبها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود يثرب بعد ما نزل المدينة المنوّرة، وقد رواه: ابن هشام في سيرته [4]، وأبو عبيد في كتاب «الأموال»[5]، وابن كثير في البداية والنهاية. [6]وهي وثيقة تاريخية مفصّلة، فمن أراد فليرجع إلى محالّه.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب، وهو كالأب الحنون لعامّة المواطنين حتّى اليهود والنصارى إذا عملوا بشرائط الذمّة، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم، ولا يقاتلونهم، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم، وإنّما يمنع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدهم، ترى كلّ ذلك في الآيتين التاليتين:

يقول سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّين ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين* إِنّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذينَ قاتلُوكُمْ فِي الدِّين وأَخرجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهرُوا عَلى إِخرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون).[7]

ويقول: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخذُوا بِطانَة مِنْ دُونكُمْ لا يأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضاءُ مِنْ أَفواهِهِمْ وما تُخفِى صُدُورُهُمْ أَكبرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون).[8]

ولعلّ النظرة الواحدة إلى تاريخ الحكومات الإسلامية يكشف لنا عفوهم وسماحتهم لكثير من الذمّيين من النصارى واليهود، وقد كانت الأقلّيات بين المسلمين يرجّحون الحياة تحت ظلّ الإسلام على العيش مع الدول الكافرة، نذكر هاهنا وثيقة تاريخية ذكرها البلاذري في هذا المجال. قال: "لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص وكانوا مسيحيّين: لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة  أي قسماً بالتوراة لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل  المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه من الظلم والحرمان، وإلاّ فانّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين، فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلّسين[9] فلعبوا وأدّوا الخراج»[10]

إنّ الحاكم الإسلامي، من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه، وفي آلامه وآماله لا أن يعيش في بروج عاجيّة، متنعماً في أحضان اللذة رافلاً في أنواع الشهوات، غير عارف بأحوال من يسوسهم.

يقول الإمام وهو يرسم ملامح الحاكم الإسلامي:

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها».[11]

الهوامش:


[1] كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلاّم بن القاسم المتوفى225هـ، ص 10.

[2] نهج البلاغة: الخطبة216، طبعة عبده.

[3] بحار الأنوار:100/80ـ 81، الحديث 37.

[4] سيرة ابن هشام:1/ 501.

[5] الأموال، ص 517، ط مصر .

[6] البداية والنهاية:2/ 224.

[7] الممتحنة:8 ـ 9.

[8] آل عمران: 118.

[9] التقليس: استقبال الولاة عند قدومهم بضرب الدّف والغناء وأصناف اللهو، راجع المنجد في اللغة.

[10] البلاذري( م279هـ)، فتوح البلدان، ص 143.

[11] نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.

2020/04/08

ما الذي قدمته المرجعية للعراقيين؟
حثّ الإسلام أفراد المسلمين عموماً على الاهتمام بشؤون المسلمين، حتى ورد أن من أصبح لايهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم[١]، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً[٢].

فإذا كان الاهتمام بأُمور المسلمين مطلوباً من افرادهم عموماً، فكيف بعلماء الدين ومراجع المسلمين الذين هم الأعرف بأحكام الإسلام وتعاليمه الشريفة، والأحرى بالجري عليها والأخذ بها. ولا سيما بعد إطلاعهم على مشاكل الأُمَّة بسبب احتكاكهم بالناس، وتعرفهم عليهم، وانشدادهم لهم بحكم مركزهم.

ويشهد على ما ذكرنا أمران معروفان من حال مراجعنا العظام وسيرتهم..

الأول: أن المرجع كثيراً ما يتخلى عن دروسه التقليدية وكثير من التزاماته الخاصة ـ في بعض عباداته والتزاماته ـ نتيجة انشغاله بشؤون المرجعية ومشاكل الناس ومتاعب الأُمَّة، لأنها بنظره أهمّ من تلك الالتزامات التي أفنى عمره فيها اهتماماً بها، وألفها في حياته طويلاً وأحبها.

الثاني: أن المرجع كثيراً مّا يتعرض للمحن والمضايقات من أعداء الأُمَّة والحاقدين عليها، ولولا اهتمامه بأُمور الأُمَّة، ومشاركته لها في آلامها وآمالها، وسعيه لخيرها، ودفاعه عنها، ومطالبته بحقوقها، لما تعرض لذلك.

بل كثيراً ما يكون هو في واجهة المحنة، وعليه ينصب الحقد والنقمة.

وكم وقف علماؤنا الأعلام ومراجعنا العظام من العتاة والظالمين موقف الخصم المدافع عن حقوق المؤمنين المظلومين، والساعي لدفع الظلامات عنهم، واهتموا بمعالجة مشاكلهم ومواساتهم في محنهم وإصلاح أمورهم، وسد حاجاتهم العامة والخاصة..

1 ـ فالمرجع الشهير كاشف الغطاء الكبير (قدس سره) [٣] قد تشفَّع عند السلطان فتح علي شاه في إطلاق سراح الأسرى العثمانيين[٤] من أجل تخفيف حدّة التوتر بين الدولتين، وتجنيب الشعبين المسلمين مآسي ذلك.

2 ـ كما أنه (قدس سره) قد صان النجف الأشرف ودفع عنه غارات الوهابيين التي كانت تقصده وتكاد تفتك به كما فتكت بكربلاء، فأعدّ العُدّة للدفاع بحمل أهل العلم والنجفيين على التدريب على حمل السلاح والدفاع عن البلد، وكان هو (قدس سره) وأولاده وأهل العلم يباشرون ذلك مع الناس[٥]، في وقائع مفصلة استفاضت في تفصيلها أحاديث المؤرخين، وتواترت عند الناس.

3 ـ وكان مفزعاً للمستضعفين وكهفاً لهم في الفتنة المعروفة بين فرقتي الشمرت والزكرت في النجف الأشرف[٦].

كما تحمل عن النجفيين بعض الضرائب الفادحة التي وضعها العثمانيون[٧].. إلى غير ذلك من أعماله الجليلة.

4 ـ وولده الشيخ موسى (قدس سره) [٨] ـ الذي خلفه في المرجعية ـ هو الذي منع الوالي العثماني داود باشا من فرض التجنيد الإجباري على النجفيين[٩]، وقد فرض شخصيته عليه، فكان يعظمه كثيراً[١٠].

5 ـ كما أنه أصلح بين الدولتين الإيرانية والعثمانية[1١]، وجنب الشعبين المسلمين محنة الخلاف بينهما ومآسيه.

6 ـ وسعى في حفظ خزانة العتبة المقدسة في النجف الأشرف، فسجلها ونقلها إلى الكاظمية احتياطاً عليها من غارات الوهابيين[1٢].

7 ـ وأخوه الشيخ حسن[1٣] قد دفع عن النجف الأشرف عادية الوالي العثماني نجيب باشا، حيث إنه بعد أن فتك بكربلاء توجه بجيشه للنجف، للفتك بها وتدميرها، فخرج إليه الشيخ حسن (قدس سره) وسيطر على مشاعره حتى ثناه عن عزمه، فدخل النجف سلماً في قصة طويلة[1٤].

8 ـ ودافع عن الشيعة في موقف له محمود مع علماء بغداد في عهد الوالي المذكور.

9 ـ وكان له موقف مشرف في إخماد فتنة الشمرت والزكرت التي أضرت بالنجف والنجفيين[1٥].

10 ـ والشيخ الجليل صاحب الجواهر (قدس سره) [1٦] قد عرف عنه أنه نهض للنجفيين عند هجوم الطاعون عليهم سنة (1247 هـ) ، وسارع لغوثهم ومواساتهم.

وكذلك كان موقف العَلَم المقدس السيد محمد باقر القزويني (قدس سره) [1٧] حيث وقف في ذلك الطاعون موقفاً مشرفاً لتنظيم أُمور الناس وسد حاجاتهم فيه، وكان آخر من توفى بالطاعون المذكور[1٨].

11 ـ كما أنه قد جدّ واجتهد في مشروع إيصال ماء الشرب للنجف الأشرف حتى أشرف على إنهائه، إلا أن الأجل لم يمهله لإكماله، فبقي معطلاً مدة طويلة، ثم أكمله السيد الجليل السيد أسد الله الرشتي (قدس سره) [١٩].

12 ـ ولما اشتد الغلاء سارع السيد الشيرازي الكبير (قدس سره) لتخفيف وطأته عن أهالي النجف الأشرف، فعين لكل محلة من محلات النجف ولكل فئة من سكانها جماعة يوزعون الحبوب على المحتاجين، واستمر على ذلك حتى حلّ موسم الحصاد الجديد، وارتفعت الشدة عن الناس[2٠].

13 ـ وكان (قدس سره) يعطي فيفضل، وينيل فيجزل، وكان يجمع للفقراء وأهل القرى والبوادي ما يحتاجون إليه من ألبسة وأطعمة في السنة مرتين[2١].

14 ـ ولما ذهب إلى سامراء نصب جسراً من القوارب على نهر دجلة أمامها بلغت كلفته ـ فيما قيل ـ ألف ليرة عثمانية، لتسهيل العبور على الناس والزوار، وله منشآت خدمية مهمة في سامراء[2٢].

15 ـ ولما رأى المرحوم الشيخ محمد الشربيان  ي (قدس سره) [2٣] ما يتعرض له الحجاج على الطريق البري من النجف الأشرف على جبل «حايل» من مخاطر ومهالك، ونصب وعطب، جهد في منع الطريق، وحرّم سلوكه حفاظاً على أرواح المؤمنين، مما اضطر الحكومة الإيرانية إلى منع حجاجها منه.

ووافقه بقية العلماء لما استبان لهم صحة وجهة نظره بالتجربة، فانقطع الطريق تماماً في بعض السنين[2٤].

16 ـ وقد أنشأ المرحوم المقدس المرجع الديني الشيخ محمد طه (طاب ثراه) خاناً كبيراً في الهندية ينزله الزائرون للإمام الحسين (عليه السلام) في طريقهم الى كربلاء ، من أجل تخفيف معاناتهم.

17 ـ ثم تتابعت الأحداث التي بذل فيها العلماء أنفسهم للدفاع عن الإسلام والمسلمين، وتدبير أمورهم، من أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى أواسط القرن الرابع عشر[2٥].

18 ـ ولما اصطدم الأتراك بالنجفيين في أواخر أيامهم في العراق ووجهوا مدافعهم نحوهم فأصابت بعض القذائف الصحن الشريف وألحقت بعض الأضرار به، أبرق المرحوم المرجع الكبير السيد محمد كاظم اليزدي (قدس سره) للأستانة محتجاً على ما حصل من التعدي على الصحن الشريف وعلى الناس[2٦].

19 - وأنشأ السيد اليزدي المذكور (قدس سره) خاناً كبيراً في النجف الأشرف في محلة العمارة للزائرين ينزله من لايتيسر له المأوى منهم، وبقي هذا الخان الى أيامنا حتى تعطّل، فراجع بعض أولاده سيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) فجعله مدرسة دينية بعد أن غير فيه وحوّر ، وأنفق سيدنا الجدّ (قدس سره) نفقات باهضة من أجل ذلك لكنه هُدّم في الأعوام القريبة في ضمن ما هدم من محلة العمارة.

20 ـ وعرض المرجع الشهير السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) في أواسط القرن المذكور على الوصي حين اجتمع به ـ فيما بلغنا ـ أن يضع جسراً على نهر دجلة مقابل سامراء لتسهيل الأمر على الزائرين، حيث استهلك الجسر الذي صنعه السيد الشيرازي (قدس سره) قبل نصف قرن، وكان العبور منحصراً بالطريق النهري آنذاك لكنه لم يتمّ له ما أراد.

21 - كما أنه حاول التخفيف عن معاناة الناس كافة، في النجف الأشرف لما ظهرت بوادر أزمة الحنطة بسبب الحرب العالمية الثانية، حيث يقول المتحدث : «فأخذ على عاتقه جلب الأطعمة الى النجف وأمر بزيادة الأفران ومضاعفة الترفيه حتّى صارت الحرب من وسائل النعمة والاغداق على كثير من الفقراء»[٢٧].

22 ـ وقد طالب المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدس سره) وجماعة من أهل العلم بحقوق الشيعة في العراق في العهد الملكي، واستقطب جمعاً كثيراً في ذلك، إلا أن الناس الذين نهضوا معه خذلوه، ولم يستطع أن يحقق شيئاً; بل عانوا الكثير من الدولة في أعقاب ذلك.

23 ـ وقد كان سيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) في عهد مرجعيته الطويل الذي عشناه ملجأ للمؤمنين في العراق وخارجه، وكان دأبه القيام بحلّ مشاكلهم، والمطالبة بحقوقهم، ودفع الظلامات عنهم، والاهتمام بشؤونهم، وبتثقيفهم دينياً، وجمع كلمتهم، وإصلاح ذات بينهم.. إلى غير ذلك مما لا يزال الناس يذكرونه به ويشكرونه له، في مختلف البلاد الإسلامية.

وجاء مَن بعده ليؤدوا ما عليهم في هذا الجانب ضمن قدراتهم المحدودة وظروفهم الصعبة، والأوضاع المعقدة التي مضوا فيها بصبر وحكمة، وليس لهم إلا الله تعالى، وعليه جزاؤهم.

هذا غيض من فيض مما قامت به المرجعيات في العراق في العصور القريبة. ولا يتيسر لنا استعراض ما قامت به في العصور الأسبق، ولا ما قامت به المرجعيات في الأقطار الأخرى، ولا سيما إيران حيث تكون المرجعيات فيها أوسع قدرة وأعم نشاطاً. لعدم تيسر مصادر الكثير منه لنا، ولئلا يطول المقام بنا.

24 ـ على أن من المعروف من سيرة المرجعيات في العهود الطويلة وإلى اليوم بذل قسط من الحقوق الشرعية التي تصلهم لإقامة المشاريع العامة النافعة، كالمساجد والحسينيات، وأماكن ايواء المسافرين وغيرها، كما تقوم ببذل قسط آخر منها للمعوزين والفقراء، وتتفقدهم وتحسن إليهم.

وهذا أمر لا يمكن تجاهله وإنكاره، وقد تقدم بعضه. وإن اختلف سعة وضيقاً باختلاف المراجع، تبعاً لاختلاف قدراتهم، ووجهات نظرهم. ولكثير منهم في ذلك مواقف مثالية. ولا مجال لإطالة الكلام فيه وفي ذكر الأمثلة له بعد وضوحه وشيوعه وكثرته، بنحو يتعذر استقصاؤه أو الإحاطة بأكثره، فضلاً عن استيفائه كله.


الهوامش: 

 [١] راجع الوسائل: 11 باب 18 من أبواب فعل المعروف .

[٢] صحيح البخاري: 1 / 123 .

[٣] الشيخ جعفر الشيخ خضر كاشف الغطاء (1154 ـ 1227 هـ) تولى الزعامة الدينية في عصره ، ولد ونبغ وتوفي في النجف الأشرف وكان معروفاً بالعلم والورع، دافع عن النجف دفاعاً مستميتاً ضد الغزاة وكانت داره مشجباً للاسلحة وثكنة للجنود والمتطوعين .

من آثاره «شرح قواعد العلامة الحلي» ، «غاية المأمول في علم الاصول» ، «أحكام الاموات».

لمزيد من التفاصيل اُنظر: روضات الجنات: 2 /200 .

ماضي النجف وحاضرها: 3 / 131. وأعيان الشيعة: 15 / 306 وغيرها .

[٤] معارف الرجال: 1 / 151 .

[٥] معارف الرجال: 1/ 151 . وماضي النجف وحاضرها: 3 / 137 .

[٦] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 138 .

[٧] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 138 .

[٨] الشيخ موسى الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1180 ـ 1243 هـ) من مراجع التقليد فى النجف الاشرف ولد ونبغ وتوفي فيها،يعرف في العراق وايران بالمصلح بين الدولتين المسلمتين ايران وتركيا.

من مؤلفاته: «احكام الصلاة» و «بغية الطالب» و «كتاب اللقطة والغصب والقضاء».

لمزيد من التفاصيل اُنظر أعيان الشيعة: 49/ 42. ريحانة الادب: 5 / 26. الكنى والالقاب: 3 / 103 وغيرها .

[٩] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 201 .

[١٠] معارف الرجال: 3 / 27. وماضى النجف وحاضرها: 3 / 201.

[١١] معارف الرجال: 3 / 26. وماضي النجف وحاضرها: 3 / 201 .

[١٢] معارف الرجال: 3 / 28 .

[١٣] الشيخ حسن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1180 ـ 1243 هـ) من مراجع التقليد في عصره . جند وعبأ وسلَّح النجفيين للذود عن حياض مدينتهم المقدسة ضد المعتدين .

من مؤلفاته: «أنوار الفقاهة» ، «شرح أصول كاشف الغطاء» ، «تكملة بغية الطالب».

لمزيد من التفاصيل اُنظر: الاعلام: 2/ 201. أعيان الشيعة: 21 / 133. معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: 3 /1040 وغيرها .

[١٤] معارف الرجال: 1 / 213. وماضي النجف وحاضرها: 3 / 148 .

[١٥] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 148 .

[١٦] اُنظر: ص 127 هامش 2 .

[١٧] السيد محمد باقر السيد أحمد القزويني المتوفى عام 1246 هـ من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف الاشرف ، نظَّم أمور الناس في حارات النجف أيام اجتياح وباء الطاعون للمدينة . وهيأ ما يحتاجون اليه من اسعافات وعلاج وأقام أماكن عزل للمصابين وتولى تكفين وتجهيز ودفن حوالي أربعين ألفاً ممن ماتوا به وتولى كفالة أطفالهم وعيالهم . وحين أتم كل ذلك على أحسن وجه قدّر الله له أن يكون آخر من توفي بالطاعون.

له «جامع الرسائل في الفقه» ، «حواشي على كشف الامام» و«الوسيط في الطهارة» .

لمزيد من التفاصيل اُنظر: أعيان الشيعة: 13 / 132. الكنى والالقاب: 3/ 62. معارف الرجال: 1 / 123 وغيرها.

[١٨] معارف الرجال: 1 / 124 .

[١٩] معارف الرجال: 2 / 228. وماضي النجف وحاضرها: 1 / 197 .

[٢٠] لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث: 3 / 88 .

[٢١] معارف الرجال: 2 / 235 .

[٢٢] لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث: 3 / 9 .

[٢٣] الشيخ محمد ابن المولى مفضل علي الشربياني(1245 ـ 1322 هـ) من مراجع التقليد في النجف الأشرف عرف برعايته الخاصة للأرامل والأيتام والزوار والفضلاء، شيَّد مدرسة للطلاب وتوفى بلا دار ولا عقار وعليه دين جسيم .

من مؤلفاته: «حاشية فرائد الاصول» ، «حاشية المكاسب» وكتاب في أصول الفقه .

لمزيد من التفاصيل اُنظر: أحسن الوديعة: 1/ 176. أعيان الشيعة: 46/ 188. ماضي النجف وحاضرها: 3 / 554 وغيرها .

[٢٤] معارف الرجال: 2 / 373 .

[٢٥] لمزيد من التفاصيل اُنظر ص 47.

[٢٦] موسوعة العتبات المقدسة قسم النجف الاشرف: 1 / 251 .

[٢٧] مجلة الدليل العدد: 3 ، 4 وهو العدد الخاص بمناسبة وفاته (قدس سره) :135.

2019/10/11

حروب الإسلام: لا تغدروا.. لا تغلوا.. لا تمثلوا

كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ذا شخصية امتزجت فيها صفات النبي والرئيس والقائد والإنسان والمعلم. فلا نكاد نميز منه صفة من غيرها في أي جانب كان من سيرته المقدسة. فلم يكن في الدعوة نبياً وفي الدولة رئيساً وفي الحرب قائداً وفي علاقته بالآخرين إنساناً, ومعلماً في دوره كمثل أعلى. بل كان بكل صفاته معاً في المواقف كلها. لهذا كانت معاركه التي خاضها صورة منفردة لم ولن يعرف التاريخ البشري صورة مماثلة لها في الالتزام الأخلاقي والإنسانية. وقد وضع (صلى الله عليه وآله) للحرب في وصاياه  شريعة سمحاء لا تقل روعة وإنسانية عن شريعته في السلم.   

     لقد كانت للحرب عند النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلسفة تستمد مقوماتها من روح الرسالة الخاتمة التي تضمن للإنسان النظام الأصلح من خلال الانشداد إلى الله سبحانه وتعالى, فالمحارب الذي يعتمده الإسلام كواحد من جنده, عليه أن يجعل الله الغاية الأهم في جهاده ويكون قتاله في سبيله. عن ‏‏ابن عباس ‏قال: "‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ‏إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ ((اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّه لَا ‏تَغْدِرُوا ‏وَلَا‏ ‏تَغُلُّوا‏ ‏وَلَا‏ ‏تُمَثِّلُوا ‏وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ)). كما أوصى (صلى الله عليه وآله) عبد الرحمن بن عوف وقد أرسله إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل فقال له: ((اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم.))[1] وفي أثناء سير الرسول محمدٍ وصحبه إلى بدر، التحق أحد المشركين راغباً بالقتال مع قومه، فردّه الرسول وقال: ارجع فلن أستعين بمشرك. وكرّر الرجل المحاولة فرفض الرسولُ حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين"[2]

     الله يمثل الخير والنور والعدل والحق, فإذا جعل الإنسان جهاده في سبيل الله كان جهاده في سبيل الخير والنور والعدل والحق. وإذا صلح فيه إيمانه وصَدق في الجهاد في سبيل الله, طمع في ما عند الله وهو الخير فزهد في كل مغنم زائل, والتزم بكل ما يرضي الله من صفات أخلاقية, وجعل هدفه من القتال نشر الدعوة الإسلامية الكفيلة بتحقيق الصلاح, فيقاتل لا لشيء إلا لأنه استنفد مع عدوه كل وسيلة لإصلاحه ولأن عدوه بات عائقاً حقيقياً لعملية الإصلاح التي تمثل القضية الأساس لدى المحارب المسلم. ولهذا نجد الإمام علياً بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي اعتمد ـ نتيجة التضييق الذي مارسه الأمويون حياله ـ أسلوب الدعاء في بث تعاليمه وإرشاداته التي هي المضامين الحقيقية للإسلام يقول في دعائه المعروف بدعاء الثغور ((أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لاَ يُبْصِرُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَآئِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَلَوِّحْ مِنْهَا لأِبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَـةِ، وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتَّى لاَ يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالأدْبَارِ، وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَار.

وَأَيُّمَا غَاز غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ أَوْ مُجَاهِد جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الاعْلَى وَحِزْبُكَ الأقوَى وَحَظُّكَ الأوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الأمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الأصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الاهْلِ وَالْوَلَدِ وَأَثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ وَتَوَلَّه بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلاَمَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ فِيْكَ وَلَكَ.

أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيْهِ فِيْ غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَة مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَاد، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَاد، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَآئِهِ حُرْمَةً. فَأَجْرِ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْن وَمِثْلاً بِمِثْل وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ، وَسُرُورَ مَا أَتَى به، إلَى أَنْ  يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إلَى مَا أَجْرَيْتَ لَـهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ. أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم أَهَمَّهُ أَمْرُ الإِسْلاَمِ وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ ألشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً أَوْ هَمَّ بِجهَـاد  فَقَعَدَ بِـهِ ضَعْفٌ أَوْ أَبطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إرَادَتِهِ مَانِعٌ، فَاكْتُبِ اسْمَـهُ فِي الْعَابِدِينَ وَأوْجبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)).


[1] السيرة النبوية بن هشام ج2ص631

[2] أكرم ضياء العمري السيرة النبوية الصحيحة ج2 ص355

2019/09/21

«الغدير» في التراث الإسلامي
أسانيد حديث الغدير التي وصلتنا تنتهي الى نحو المائة وعشرين (120) صحابيا ولاشك ان في سائر الصحابة من سمع الحديث ورواه لكن لم يصلنا، وبعضهم الآخر سمعه لكن كتمه كما يظهر من (أخبار المناشدة)، كتموه حسدا أو بغضا او خوفا، ففي الغدير وقف أمام النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" نحو المائة وعشرين ألفا (120000) من الناس وقد سمع الحديث جلّهم، ففي سنن النسائي (ت303هـ) قال أبو الطفيل لزيد بن أرقم بعد إن روى الثاني حديث الغدير: هل "سمعته من رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"

قال زيد: "ما كان في الدوحات أحدٌ إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه" وفي التاريخ الكبير للبخاري (ت256هـ) عندما طلب احدهم من ابي سعيد الخدري (ت74هـ) ان يروي له منقبة للامام علي "عليه السلام" حدثه بحديث الغدير وقال: "إذا حدثتك فسل المهاجرين والأنصار وقريشا" اي ان هؤلاء كلهم او جلُّهم قد سمعوا هذا الحديث .

لذا من غير المستغرب ان يصلنا الحديث بأسانيد تنتهي الى (120) صحابيا وهو رقم لم يتكرر مثله او ما يدانيه في اي حديث آخر إطلاقا ..

أما تدوين وتوثيق حديث الغدير فيرجع الى القرن الأول من الهجرة، فعندما كان الخلفاء الثلاثة وبعض الامويين يمنعون تدوين أحاديث النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ويحرقون كل ما وقع بأيديهم من الصحف الموثقة لسنّة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" حتى أحرقوا صحف عدد من الصحابة، وعندما كان تدوين الحديث لا سيما مناقب اهل البيت "عليهم السلام" جريمة يُعاقب عليها القانون، كان أهل البيت "عليهم السلام" يحثون أصحابهم على الاهتمام بالتدوين والكتابة بل جسدوا ذلك عمليا فكتب الامام علي "عليه السلام" بنفسه كتاب (الجامعة) وكتبت فاطمة "عليها السلام" (المصحف)، وكتب اخرى توارثها اهل البيت "عليهم السلام" جيلا بعد جيل..

فلم يكن بدُ أمام أصحاب الأئمة من الكتابة رغم ما قد يعرضهم ذلك له من مخاطر ومساءلة أمام السلطة سواء ايام خلافة الثلاثة او ايام الأمويين وقد وصَلَنَا عدد من تلك الكتب ككتاب سُليم بن قيس (من أصحاب الامام علي ع) وكتب اخرى بينما أتلف بعضها في خضم الفتن الكثيرة التي تعرض لها علماء الامامية وكم من مرة قامت السلطة او غوغائيون من سائر المذاهب بإحراق مكتباتهم، وكيف كان فإن هذا الاتصال بالقرن الأول هو ما يميز روايات الإمامية عن سواهم من المذاهب حيث بدأت حركة التدوين عند الآخرين بعد قرن كامل من منع كتابة الحديث وحرق واتلاف المكتوب منه، ولهذا السبب ذاته يرى السيد السيستاني حفظه الله ان روايات سائر المذاهب لا تقاس بروايات الامامية في القوة والمتانة فأنى لك قياس أخبار اتصل توثيقها بمنبعها الأصل بأخرى بدأ تدوينها بعد قرن من الزمن!

ونظرا لأهمية حديث الغدير وكثرة من سمعه ورواه عن النبي ص أفرد العلماء من القرون الأولى كتبا تخصصت في ذكر طرق واسانيد وشروح هذا الحديث، واذا اردنا استقصاء المصادر والمراجع التي وثقت الغدير لكان الرقم مهولا بدءا من كتاب سليم بن قيس الهلالي في القرن الاول والى يومك هذا ..

 

أما الكتب المتخصصة بطرق حديث الغدير وشرحه فقد أحصى منها المحقق البارع السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله في كتابه "الغدير في التراث الإسلامي" ما يقرب من 180 كتابا يتألف بعضها من عشرات المجلدات، وقد توزعت على مختلف الأجيال بدءا من القرن الهجري الثاني وحتى القرن الخامس عشر وكانت حصة القرن الثاني كتابا واحدا من تأليف الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) صاحب المقولة الشهيرة في الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين ع "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على انه إمام الكل"..

وفي القرن الثالث صنّفَ الطاطري كتابا في حديث الغدير بعنوان (كتاب الولاية) وفي هذا القرن أيضا صنَّف ابو جعفر البغدادي كتابا في حديث الغدير.

أما في القرنين الرابع والخامس فحيث راج العلم ونشطت الحركة العلمية في مجمل البلاد الاسلامية كان نصيب حديث الغدير (25) خمسة وعشرين كتابا يتألف بعضها من عدة مجلدات منها:

كتاب (الولاية) لمحمد بن جرير الطبري (ت310هـ) المفسر والمؤرخ السني المعروف، وهو كتاب ضخم يقع في مجلدين تتبع فيه طرق واسانيد حديث الغدير، والطبري هذا وان كان روى حديث الغدير في تفسيره المعروف وروى فيه ايضا بيعة ابن الخطاب للإمام علي ع في الغدير لكنه اغفل هذا الحديث في تاريخه ومن ثم صنف هذا الكتاب في الرد على بعض منافسيه (ابن ابي داوود) الذي قال بضعف حديث الغدير فصنف الطبري هذا الكتاب نكاية بخصمه واظهارا لعلمه ! ..

ومنها ايضا كتاب خصائص الغدير للشيخ الكليني (ت329هـ) ومنها كتاب الولاية ومن روى غدير خم لابن عقدة الكوفي (ت333هـ) وهو زيدي المذهب لكنه ثقة عند السنة والشيعة.

وهكذا يتابع السيد الطباطبائي في كتابه المذكور ما صنفه العلماء في الغدير حتى اواخر القرن الخامس عشر فيحصي ما يقرب من 180 كتابا، وأجدد التذكير مرة اخرى بانه في صدد تتبع الكتب المتخصصة في الغدير فقط وليس مصادر ومراجع الحديث التي ذكرت الغدير ضمنا والا لكان الرقم مهولا جدا فقد نال هذا الحديث من الاهتمام والتوثيق ما لم ينله اي حديث آخر إطلاقا.

2019/08/20

نزاع سياسي أم خلاف فقهي: لماذا يتمسّك الشيعة بالإمامة؟!
على الرغم ممّا يجمع المسلمين من اتفاق حول کليّات الدين، کالأصول، والعقائد، والأخلاق، والأحكام (سواء ما کان منها متعلّقاً بالمناسك العباديّة أو ما يختصّ بالأحكام المدنيّة، والحقوقيّة، والقوانين القضائيّة، والجزائيّة، والسياسيّة، وما إلى ذلك من الشؤون الإسلاميّة)، إلاّ أنّهم يختلفون في جانب ثانويّ من العقائد وبعض تفاصيل الأحكام والقوانين، الأمر الذي جعلهم أتباع فِرَق ومذاهب شتّى.

[اشترك] 

اِنّ من الممكن تلخيص هذه الخلافات في محورين أساسيّين؛ الأوّل: محور العقائد المرتبط بعلم الكلام، والثاني: محور الأحكام (بمدلوله العام) الذي يستند إلى علم الفقه. النموذج البارز للخلاف حسب المحور الأوّل هو الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسائل الکلاميّة. أما النموذج في نطاق المحور الثاني فهو الخلاف في المسائل الفقهيّة بين المذاهب السنيّة الأربعة.

اِنّ أحد أشهر الخلافات بين المذاهب الإسلاميّة هو ذلك القائم بين الشيعة والسنّة في قضيّة الإمامة، حيث يعتقد الشيعة (الإماميّة) اَنّ عليّ بن أبي ‌طالب (عليه السلام) هو الإمام بعد رحيل النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله) والخليفة من بعده، في حين لا يعتبر أهل السنّة عليّاً سوى أنّه الخليفة الرابع من بعد الرسول (صلى الله عليه و آله). في واقع الأمر إنّ الميزة الرئيسيّة التي تميّز مذهب الإماميّة هي الاعتقاد بإمامة الأئمّة الاثني عشر مع حيازتهم لثلاث خصال: العصمة، والعلم الموهوب من الله، والتنصيب من قبل الله تعالى.

هنا يطرح سؤال وهو: هل إنّ أصل هذا الخلاف مرتبط بحقل العقائد والکلام، واِنّ الخلافات الفقهيّة ذات الصلة به لا تعدو أن تکون سوى مسألة فرعيّة ليس إلاّ؟ أم إنّه خلاف فقهيّ صِرف1؟ أم هو نزاع سياسيّ أشبه ما يکون بذلك الذي ينشب بين حزبين سياسيّين على انتخاب مرشّح الرئاسة لکلّ منهما؟

الحقيقة هي أنّ هذه المسألة ـ على الأقلّ من وجهة نظر التشيّع ـ هي مسألة عقائديّة کلاميّة، واِنّ ابعادها الفقهيّة والسياسيّة لها جنبة فرعيّة لا غير. بعبارة أخرى: اِنّ للنظام العقائديّ عند الشيعة حلقات مرتّبة ومتناسقة والإمامة تشکل واحدة من تلك الحلقات، وبحذفها تفقد هذه السلسلة انسجامها وکمالها. من أجل أن يزداد هذا المطلب وضوحاً يتعيّن علينا أن نلقي نظرة إجماليّة على النظام العقائديّ للشيعة، لتتّضح لنا مكانة الإمامة من هذا النظام المتسلسل ويتبيّن السبب من وراء اهتمام الشيعة بهذه القضيّة والدليل على ضرورتها.

إنّ الحلقة الاُولى في النظام العقائديّ للإسلام هي الاعتقاد بوجود الإله الواحد، ومن ثمّ الاعتقاد بصفاته الذاتيّة والفعليّة. اِنّه، ووفق الرؤية الإسلاميّة، فإنّ الله تعالى، کما اِنّه الخالق لکلّ ظاهرة في الوجود، فهو الربّ والمدبّر والمدير لها کذلك، ولا موجود على الإطلاق هو خارج عن مملکة خالقيّته وربوبيّته. والله سبحانه وتعالى لم يخلق أيّ شيءٍ باطلاً أو عبثاً، بل اِنّ الکلّ قد خُلق وفق نظام حکيم، وکلّ الموجودات، التي تنتظم في سلاسل طوليّة وعرضيّة، وبسعة تمتدّ منذ الأزل وحتّى الأبد، تشکّل معاً نظاماً واحداً متناسقاً تتمّ إدارته ـ بمقتضى الحکمة الإلهيّة ـ بواسطة قوانين العليّة.

ومن بين مخلوقات الباري تعالى، التي لا تُحصى ولا تُعد، هو الإنسان الذي يمتاز بصفات من قبيل الشعور، والتعقُّل، والإرادة، والإختيار، الأمر الذي يجعل أمامه مسيرين: أحدهما يتّجه نحو السعادة، والآخر يقوده نحو الشقاء الأبديّ. لهذا السبب فالإنسان مشمول بربوبيّة خاصّة ـ زائدة على تلك الربوبيّة التي تشمل کل ظواهر الوجود غير المختارة ـ ألا وهي الربوبيّة التشريعيّة. أي اِنّ مقتضى الربوبيّة الإلهيّة الجامعة، بالنسبة للإنسان، هو أن توفّر له الأسباب والمقدّمات للسير الاختياريّ والتي من بينها تعريفه بالهدف وتشخيص معالم الطريق الذي سيطويه للوصول إليه، کي يتيسّر له الاختيار عن تعقّل ووعي. على هذا الأساس فإنّ مقتضى الحکمة الإلهيّة هو ترميم النقص الحاصل في ادراکاته الحسيّة والعقليّة عن طريق علوم الوحي.

يتّضح مما تقدّم مدى أهميّة مجموعة الوحي والنبوّة في هذا المضمار. لأنّ الله تبارك وتعالى لو أنّه أوکل الإنسان إلى نفسه ولم يرسل له الأنبياء ليدلّوه على الصراط المستقيم للوصول الى السعادة الأبديّة، لكان کالمضيف الذي يدعو ضيفه للقيام بضيافته ثمّ لا يدلّه على دار الضيافة!

اِنّ تعاليم الأنبياء کانت تشکو ـ تحت تأثير عوامل شتّى ـ التغيير والتحريف، العمديّ منه وغير العمديّ، بمرور الوقت إلى الحدّ الذي كانت تفقد معه خاصيّتها في الهداية، الأمر الذي کان يستدعي بعثة نبيّ آخر لکي يحيي التعاليم الماضية ويأتي ـ إذا لزم الأمر ـ بتعاليم أخرى تضاف إلى سابقاتها، أو تحلّ محلّها.

لعلّ سؤالاً يطرح هنا، وهو: هل اِنّ هذا المنوال سيستمرّ اِلى أبد الآبدين؟ أم اِنّ من الممكن اَن تأتي شريعة متكاملة تبقى مصونة من آفة التحريف فتنتفي الحاجة بذلك إلى بعثة نبيّ آخر؟ اِنّ الإجابة التي يطرحها الإسلام على هذا السؤال هي الخيار الثاني. فكلّ المسلمين متفقون على أنّ الإسلام هو آخر شريعة سماويّة، وأنّ نبيّ الإسلام هو خاتم الأنبياء، واَنّ القرآن الكريم، الذي هو المصدر الأساسي لهذه الشريعة، قد وصل اِلى أيدينا سالماً، خالياً من التحريف وسيبقى کذلك.

غير أنّ القرآن الکريم لم يُبيّن کلّ ما تحتاجه البشريّة من تعاليم بشكل تفصيلي، وأوکل هذه المهمّة الى النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله)، فقد جاء في القرآن ما نصّه: ﴿ ... وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ... ﴾ 2. ويُستدلّ من ذلك على اَنّ المصدر الثاني لمعرفة الإسلام هو «السنّة». اِلاّ اَنّ هذا المصدر ليس مصوناً (من التحريف) کما کان القرآن مصوناً منه. فنفس النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله) قد تنبّأ ـ والشواهد التاريخيّة القطعيّة متوفّرة ـ على انّ أفراداً سينسبون، کذباً، اِلى النبيّ ما لم يقُله وسينقلون عن لسانه أقوالاً عاريةً عن الصحّة.

هنا يأتي سؤال آخر مفاده: ما هو المشروع الذي رسمته الربوبيّة الإلهيّة في سبيل تأمين هذه الحاجة الملحّة بعد رحلة الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله)؟ في هذه النقطة بالذات يُلاحظ اَنّ هناك حلقة مفقودة في سلسلة التشکيلة الفكريّة والعقائديّة لأهل السنّة على خلاف التشكيلة العقائدية للشيعة حيث تسطع ـ في هذا المجال ـ حلقة غاية في الوضوح ألا وهي «الإمامة». بمعنى: اِنّ تبيين أحكام الإسلام وقوانينه وتفسير عموميّات القرآن الكريم ومتشابهاته بعد النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله) قد أوکل الى أفراد يتمتّعون بعلم أفاضه الله عليهم، ومَلَکةٍ منحهم ايّاها وهي العصمة، وکذا جميع المقامات والمزايا التي کانت للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه و آله) ـ باستثناء النبوّة والرسالة ـ کمقام الولاية والحكومة. بتعبير آخر: اِنّ ربوبيّة الله التکوينيّة قد اقتضت وجود مثل هذه الشخصيّات في هذه الأمّة، واِنّ ربوبيّته التشريعيّة قد اقتضت فرض طاعة هؤلاء على الناس.

إذن حلقة الإمامة هي في الحقيقة استمرار لمجموعة الرسالة، واِنّ عترة الرسول الأکرم (صلى الله عليه و آله) هم الذين واصلوا الطريق وقاموا بمهمّة الرسول (صلى الله عليه و آله) من بعده، حيث أنّهم ـ ومن دون تمتّعهم بمقام النبوّة ـ حفظوا ميراث هذا الرجل العظيم وبيّنوه للأجيال القادمة، وهم قد نُصّبوا ـ ضمناً ـ من قبل الله جلّ وعلا، لإدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، والتصدّي لمقام الحكومة والولاية على الاُمّة، على الرغم من اَنّ هذا الأمر لم يدخل حيّز التنفيذ اِلاّ لفترة وجيزة، کما اِنّه لم يكن قد تيسّر اِلاّ لبعض الأنبياء فقط وفي برهة محدودة من الزمن.

استناداً اِلى ما تقدّم أصبح من الجليّ أنّ مسألة الإمامة أصلاً هي مسألة کلاميّة ولابد اَن تُبحث من باب أنّها قضيّة عقائديّة، لا اَن تُناقش على اَنّها مجرّد فرع من فروع الفقه أو بعنوان أنّها قضيّة سياسيّة أو تاريخيّة.


1. راجع: شرح المقاصد، ج 2، ص 271 . 2. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 44، الصفحة: 272.
2019/08/15

«خير للمرأة ألّا ترى رجلاً».. هل يتقاطع هذا الحديث مع واقعنا؟!

كيف نجمع بين ما يؤسس له منطوق حديث: خير للمرأة ألا ترى رجلاً.. وبين الواقع الاجتماعي للمرأة و الواقع التاريخي للزهراء (ع)؟، هذا هو السؤال المركزي للمقال.

الحديث وإشكالية المعارضة:

في العادة، يحضر نص الحديث في الأوساط الشعبية والفكرية مترافقاً مع مشكلتين أو واحدة منها، وقاسمهما المشترك هو التعارض مع مضمون الحديث:

أـ إمّا المعارضة مع فعل الزهراء (ع) فقد خرجت مع بعض النسوة من بني هاشم لمسجد النبي تحاجج أبي بكر في شأن فدك وألقتْ خطبتها في جماعة من المهاجرين والأنصار، مضافاً إلى اللقاء الذي حصل بينها وبين الشيخين حين جاءا يسترضياها بعد حادثة الهجوم على الدار...إلخ.

ب ـ أو المعارضة مع واقع المرأة المسلمة اليوم؛ فكيف لها أن تأخذ بمضمونه وتعمل به، والمطلوب منها: التعلّم لدينها أو دنياها، وأحياناً: إعالة أبنائها ورعايتهم، أو رعاية نفسها وعلاجها.. إلخ.

لفظ الحديث وصيغه:

الحديث يروى على صيغتين:

 الأولى: «خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها»

عن علي بن أبي طالب أنّ النبي سألَنا ذات يوم: أي شيءٍ خير للمرأة؟ فلم يكن عندنا لذلك جواب، فلما رجعت إلى فاطمة قلتُ: يا بنت محمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنا عن مسألة فلم ندر كيف يجيبه. فقالت: وعن أي شيء سألكم؟ فقلت: قال: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ قالت: فما تدرون ما الجواب؟ قلت لها: لا، فقالت: ليس خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها،  فلما كان العشي جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إنك سألتنا عن مسألة فلم نجبك فيها، ليس للمرأة شيء خير من أن لا ترى رجلا ولا يراها. قال: ومن قال ذلك؟ قلت: فاطمة. قال: صدقت، إنها بضعة مني.

الثانية: «أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر دارها»

إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دخل على الزهراء، وبه كآبة شديدة فقالت فاطمة يا علي ما هذه الكآبة؟ فقال علي: سألنا رسول الله ص عن المرأة ما هي قلنا عورة، فقال:  فمتى تكون أدنى من ربها فلم ندر فقالت فاطمة لعلي ع ارجع إليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها فانطلق فأخبر رسول الله بما قالت فاطمة فقال رسول الله إن فاطمة بضعة مني.

والصياغتان متقاربتان جداً، كما هو واضح من سياق وظرف صدورهما،  وتختلف الاضافات في ذيل الحديث ففي بعضها: فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض، وبعضها الآخر: صدقت، إنّها بضعة مني...وهكذا، كما أن الصياغة الأولى قد تنقل مختصرة بأن سأل النبي الزهراء مباشرة: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ فأجابت: ألّا ترى رجلاً...إلخ.

مصدر الحديث واسناده

وأول ما ينبغي البحث والسؤال عنه هو: المصادر الإسلامية التي روته، سلسلة رواته، ليتسنى بعد ذلك الحديث عن مضمونه وترتيب الآثار عليه والتثقيف لفحواه وما يؤصّله، فما هي مصادره الأولى؟ وهل له إسناد، وإذا كان له اسناد فهل رواته ثقاة؟!.

وعمدة المصادر الشيعية ـ فيما أعلمُ ـ  التي روته ونقلته، أربعة مصادر أوليّة، ومعظم المصادر الأخرى المتأخرة تنقل عنها، وهي كالتالي:

كتاب دعائم الإسلام(ج 2 ص: 215، ح793)، للفقيه الاسماعيلي: النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي(ت 363 هـ)، وثانياً: كتاب: مناقب آل أبي طالب (ج: 3 ص: 341) لابن شهرآشوب المازندراني(ت 588هـ)، ويشترك هذان المصدران في رواية الحديث بصيغته الأولى عن أمير المؤمنين مرسلاً، من غير إسناد.

وأمّا الصيغة الثانية للحديث فنقلتْ في كتاب: (النوادر، ص14)، للسيد ضياء الدين، فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسيني، المعروف  بالراوندي ( من أعلام القرن السادس، توفي بحدود سنة: 570هـ)، وهو وإن رواها مرسلة عن الصادق 8 من غير إسناد، بيد أنّ معظم روايات النوادر مأخوذة من الجعفريات، وقد جاء الحديث بصيغته الثانية مسنداً غير مرسل(ص95، من النسخة المتداولة).

وكتاب: (الجعفريات) أو (الأشعثيات) عنوانان لكتاب واحد، فإذا نسب لراويه :محمّد بن محمّد بن الأشعث سُمي(الأشعثيات) وإذا نسب للمروي عنه: الإمام جعفر الصّادق 8 سمي(الجعفريات)، لمحمد بن محمد بن الأشعث، والحديث بصيغته الثانية وإن جاء فيه مسنداً كما أسلفنا، لكن للتحقيق مجال واسع جداً: في اعتبار أصل كتاب الأشعثيات ومطابقة النسخة المتداولة مع الأصلية، وفي الطريق إليه، وغيرها من جهات تختلف فيها الأنظار والتحقيقات والمباني. (ينظر: أصول علم الرجال،ج2، ص15،للداوري).

وقد رأى بعضٌ أنّ  للحديث شواهد تقوّي معناه وتؤدي مضمونه، من بينها وأقواها ما ورد مكرراً في مناسبات وموارد شتى تجمعها عبارة:  إن لم يكن يراني فأنا أراه، أو: إن لم يركما فإنكما تريانه، وقد رويت عن الزهراء تارة، وعن النبي مع عائشة وحفصة أخرى، ومع أم سلمة وميمونة ثالثة، وقصة صدورها في جميع الحلات الثلاث واحدة، وهي أنّ رجلاً أعمى (تحدده بعض المرويات بابن أم مكتوم) استأذن  لدخول بيت النبي، فبادرتْ الزهراء للاحتجاب، فسألها النبي عن سبب الاحتجاب والحال أنّ المقُبل أعمى، فقالتْ تلك العبارة، وفي حالة غير الزهراء كان النبي هو الآمر بالاحتجاب، وهنّ السائلات.

الدلالة وحل المعارضة

إن لم تثبت صحة الحديث لا بالإسناد ولا بالقرائن انتفت المعارضة بشقيها، أمّا إن صحّ، فطريق الحل يكمن في دلالة ألفاظه، وتحليل مفرداته، ومجمل القول: إنّ في حديث: (خير للمرأة ألا ترى رجلاً..) مفردتين تستحقان الوقوف والتأمل: الخيرية – الرؤية.

أمّا الخيرية فتعني الإرشاد لحكم أخلاقي،  لا تعني بالضرورة تأسيس حكم شرعي يفيد الطلب والحث ـ وجوباً أو استحباباً ـ، فالحديث لتأسيس قاعدة أخلاقية وأصل إرشادي، يعمل ويُطلب تفعليه في الحالة الطبيعية التي تخلو من موجبات أو محرّمات رؤية الرجال والخروج من البيت، ويفيد أنّ  كفّة الترجيح والأفضلية في تلك الحالة هي لعدم الخروج، ولا يقصد من الحديث حرمة الخروج جزماً، بحيث تُؤثم المرأة لو خالفته، ولو كان هذا هو المقصود، فكيف نفسّر ثبوت الأحكام الشرعية التي تقتضي خروجها ورؤيتها الرجال أو رؤية الرجال لها، ولا أوضح من: وجوب الحج، وصلاة الجمعة، وصلة الأرحام.. على أنّ هذه الخيرية مرنة غير صلبة، فسواء فسّرت بالإرشاد والأولوية كما أسلفنا أو فسّرت بإنشاء حكم شرعي طلبي يقضي باستحباب مكوث المرأة في بيتها، فهي خيرية محكومة بقواعد التزاحم وتقديم الأولويات، شأنها شأن خيرية كل شيء، فصيام غير الواجب للمرأة خير لها، والخيرية هنا تعبّر عن حكم مستحبٍ، بيد أنّها محكومة بعدم مزاحمة حق الزوج، وإلا انقلبتْ، وبهذا يعرف أنّ عدم خروج المرأة المسلّمة في زماننا قد يكون مصداقاً للخير الكثير والفضل الوفير بل قد يمثّل تكليفاً شرعياً، وهكذا الحال بالنسبة للزهراء (ع)، وهي الأعرف بتكليفها وتشخيصه، والزبدة: تلك الخيرية والأفضلية القاضية بعدم الظهور أمام الرجال تجري على طبق الأصل الذي يؤسسه الحديث، ما لم  يزاحم بالأقوى ملاكاً ومصلحة، كما وقع لمريم: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم: 26]، ويجرنا هذا للوقوف على ثاني المفردتين (الرؤية)، فالذي يبدو منها أنّ معناها، ليس مجرّد النظر و المشاهدة البصرية، وإنّما الرؤية المصاحبة للمحادثة واللقاء من ثمّ قد تكون تعبير كنائي عن الاختلاط والمحادثة وتبادل الكلمات، وإلا لو كانت الرؤية لا تعبّر إلا عن المشاهدة البصرية وحسب، كيف ساغ الانتقال في الآية المباركة منها (ترين) إلى الأمر بالقول (فقولي)، وليس ذلك بعزيز على الأسلوب الوحياني والقرآني الراقي والمؤدب، فهو الذي كنّى عن الجماع باللمس، وهو الناهي عن الخضوع والترقيق في صوت المرأة بما يوجب الفتنة: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32]، فذيل الآية يفيد أن موضوع النهي هو الخضوع في القول، وليس القول، و لو كان يريد النهي عن ذلك لقال: فلا تقلن، بدلاً من: لا تخضعن بالقول، والمعارضة بفعل الزهراء غير واردة أصلاً، وعلاوة على ما تقدم، فإنّ النصوص التاريخية لا تصرّح بأكثر من خطبتها وحديثها، على العكس، يفيد بعضها، أنّها لمّا خطبتْ في المهاجرين والأنصار قد نيطت دونها ملاءة، و(لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها" وهلمّ جراً.

2019/07/25

نقل الفتوى في زمن النبي والأئمة (ع).. هل اختلف «الاجتهاد» في وقتنا الحالي؟

إن الفقاهة والاجتهاد في العصور الماضية لا يختلفان عن الفقاهة والاجتهاد في عصرنا الحالي، ويخطئ من يقول إنهما في الماضي كانا فقط مجرد نقل الفتيا والحكم الشرعي من مصدرها المتمثل بالمعصومين عليهم السلام، وأما هذا الاجتهاد الموجود في زماننا فلم يكن له أثر ولا عين.

ومن هنا قالوا:  لا دلالة للآية المباركة ﴿فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ على حجية إنذار الفقيه بالمعنى المصطلح لتدل على حجية فتواه، وإنما تدل على حجية النقل والرواية فقط  فيكون إنذار الفقيه ـ المذكور في الآية الكريمة السابقة - هو مجرد نقله للحكم الشرعي عند سماعه من النبي صلى الله عليه وآله ولا ينطبق على المجتهدين في زماننا!!

لكن الآية الكريمة قد أخذت عنوان الفقاهة في موضوع وجوب التحذر، وبعبارة أوضح: إنها بينت وجوب الإنذار على صنف خاص من الناس وهم الفقهاء، والراوي لا يجب أن يكون فقيهاً. فلا يشترط أن يكون الراوي منتبهاً وفاهماً الى المراد من الرواية بل يشترط أن يكون الناقل للرواية ثقة حافظاً فقط.

وحتى لو كان الراوي ملتفتاً وفاهماً للمراد من الرواية فأنه حينئذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه، لضـرورة أن العلم بحكم أو بحكمين لا يكفي في صدق عنوان الفقاهة عليه.

ومن جهة أخرى فلأنه كما قلنا إن الاجتهاد والفقاهة في الماضي غير مختلف عنهما في هذا الزمان بل هما أمر واحد حيث أن المعنى المراد منهما هو:

 معرفة الأحكام بالدليل، ولا اختلاف في ذلك بين العصور، نعم يتفاوت الاجتهاد في تلك العصور مع الاجتهاد في مثل زماننا هذا في السهولة والصعوبة حيث أن التفقه في الصدر الأوّل إنما كان بسماع الحديث، ولم تكن معرفتهم للأحكام متوقفة على تعلم اللغة، لكونهم من أهل اللسان، ولو كانوا من غيرهم ولم يكونوا عارفين باللغة كانوا يسألونها عن الإمام عليه السلام فلم يكن اجتهادهم متوقفاً على مقدمات، أما اللغة فلما عرفت، وأمّا حجية الظهور واعتبار الخبر الواحد وهما الركنان الركينان في الاجتهاد فلأجل أنهما كانا عندهم من المسلّمات. وهذا بخلاف الأعصر المتأخرة لتوقف الاجتهاد فيها على مقدمات كثيرة، إلاّ أن مجرد ذلك لا يوجب التغيير في معنى الاجتهاد، فإن المهم مما يتوقف عليه التفقه في العصور المتأخرة إنما هو مسألة تعارض الروايات، وقد كان يتحقق في تلك العصور أيضاً، لذا كان الأصحاب يسألون الأئمة عليهم السلام عمّا إذا ورد عنهم خبران متعارضان. إذن التفقه والاجتهاد بمعنى إعمال النظر متساويان في الأعصار السابقة واللّاحقة وقد كانا متحققين في الصدر الأول أيضاً. ومن هنا ورد في مقبولة عمر بن‏ حنظلة: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا...» ([1]) وفي بعض الأخبار ورد الأمر بالإفتاء صريحاً.

فدعوى أن الفقاهة والاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه لا عين ولا أثر له في الأعصار السالفة مما لا وجه له. ومعه لا موجب لاختصاص الآية المباركة بالحكاية والإخبار، لشمولها الإفتاء أيضاً كما عرفت. فدلالة الآية على حجية الفتوى وجواز التقليد مما لا مناقشة فيه.


(([1] الكافي للشيخ الكليني قدس سره 1: 67، و7: 412؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 3: 5؛ وكتاب التهذيب للشيخ الطوسي 6: 301؛ وكتاب الاحتجاج للطبرسي: 194.

2019/07/16

شواهد: تقليد الفقهاء كان موجوداً في زمن الأئمة (ع)

الرجوع للعلماء وسؤالهم عن الأحكام الشرعية العملية مما جرت عليه سيرة الشيعة وجميع المسلمين من الصدر الأول، وعرف في كل عصر جماعة ممن يتصدى للفتوى.

وقد تضمَّنت النصوص تصدِّي بعض علماء الشيعة لذلك، مثل أبان بن تغلب، الذي قال الشيخ الطوسي في حقه  ـ بعد أن مدحه وعظَّمه ـ: «وقال له أبو جعفر الباقر (عليه السلام): اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أُحب أن يُرى في شيعتي، مثلك، فجلس»[1].

ومثل معاذ بن مسلم النحوي فقد روى في حديثه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعولون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك.

قال: فقال ليّ: اصنع كذا، فإني كذا أصنع»[2].

لكن الفقه الشيعي لم يكن متميزاً بنفسه وبفقهائه في الصدر الأول بسبب الفتن والمآسي التي مرَّت على الشيعة، والتي كانت السبب في تركيزهم على الجانب السياسي، واهتمامهم بتسنم أهل البيت (صلوات الله عليهم) السلطة واستلامهم دفة الحكم من دون أن تتضح لهم معالم الخلاف بين أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم في الفقه، وربما كانوا يستفتون العامَّة ويأخذون الأحكام منهم غفلةً عن مخالفتهم لأهل البيت (عليهم السلام) فيها.

وبعد فاجعة الطف حيث قضي على أمل استلام أهل البيت (عليهم السلام) السلطة في الزمن القريب المنظور، وحيث تجلت ظلامة أهل البيت وظهر حقهم، واتضحت معالم الضلال والباطل في الجانب الآخر، اتجه الشيعة لأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) من أجل أخذ دينهم منهم في عقائدهم وفقههم وباينوا غيرهم وأعرضوا عنهم.

ورأى الأئمة (صلوات الله عليهم) الأرضية الصالحة والظرف المناسب لتركيز مفاهيمهم في شيعتهم وبث تعاليمهم لهم في العقائد والفقه ومعايير الحب والبغض والتولي والتبري، وجهدوا في قيام كيان علمي لهم يحمل تلك التعاليم ويبثها فيهم، ليستغنوا به عن غيرهم.

ويبدو اهتمام الإمام الباقر (عليه السلام) بهذا الجانب من وصيته للإمام الصادق (عليه السلام)، ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر، فلا يسأل أحداً»[3].

وقام (صلوات الله عليه) بما وعد، وبدأ الشيعة يقصدون علماءهم ويرجعون إليهم، وتصدَّى جماعة منهم للفتيا، كما أرشد الأئمة (عليهم السلام) إلى جماعة منهم.

ففي صحيح شعيب العقرقوفي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي. يعني أبا بصير»[4].

وفي صحيح عبد الله بن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه. فقال: ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»[5].

وفي حديث علي بن المسيب: «قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا. قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عن ما احتجت إليه»[6].

وفي معتبر عبد العزيز بن المهتدي: «سألت الرضا (عليه السلام): إني لا ألقاك في كل وقت، فعن من آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن»[7].

كما ورد الإرجاع إلى جماعة آخرين، مثل الحارث بن المغيرة، وزرارة بن أعين، والمفضل بن عمر، والعمري وابنه، في أحاديث كثيرة لا يسعنا استقصاؤها[3][8].

الإمام المهدي (عج) يرجع الشيعة للعلماء

كما ورد الارجاع للعلماء عامة من دون تعيين لشخص خاص في نصوص كثيرة منها: التوقيع الشريف المشهور الصادر من الإمام المنتظر صاحب الزمان (عجل الله فرجه) في أواسط عصر الغيبة الصغرى أو أوائلها:

«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»[9]. ومنها ما يأتي عن الإمام الهادي (عليه السلام).

وتكامل للشيعة فقههم واستغنوا عن غيرهم. ففي معتبر محمد بن حكيم: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم من الناس، حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه [إلا] يحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ الله علينا بكم...»[10].

وفي كتاب الإمام الهادي (عليه السلام) لأحمد بن حاتم وأخيه: «فاصمدا في دينكما على كل مُسِنٍّ في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى»[11].

بل ربما كان غيرهم يرجع إليهم في معضلات المسائل، لعلمهم بأنهم قد أخذوا أحكامهم من عين صافية لا تنضب. ففي موثق محمد بن مسلم: «إني لنائم ذات ليلة على السطح، إذ طرق الباب طارق... فأشرفت فإذا امرأة، فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلق، فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرك في بطنها، يذهب ويجيء، فما أصنع؟ فقلت: يا أَمة الله سُئل محمّد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال: يشق بطن الميت، ويستخرج الولد، يا أمة الله أفعلي مثل ذلك. أنا ـ يا أمة الله ـ رجل في ستر، من وجّهك إلي؟ قال: قالت لي: رحمك الله، جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال: ما عندي في هذا شيء، ولكن عليك بمحمد بن مسلم الثقفي، فإنه يَخبر، فما أفتاك به من شيء فعودي إلى فأعلمينيه. فقلت لها: امض ِ بسلام. فلما كان الغد خرجت إلى المسجد وأبو حنيفة يسأل عنها أصحابه، فتنحنحت. فقال: اللهم غفراً. دعنا نعيش»[12].

وعن السياري قال: «روي عن ابن أبي ليلى أنه قدم إليه رجل خصماً له، فقال: إن هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً، وزعمت أنه لم يكن لها قط، قال: فقال له ابن أبي ليلى: إن الناس يحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به، فما الذي كرهت؟ قال: أيها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به. قال: اصبر حتى أخرج إليك، فإني أجد أذى في بطني، ثم دخل وخرج من باب آخر، فأتى محمد بن مسلم الثقفي، فقال له: أي شيء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟ فقال محمد بن مسلم: أما هذا نصاً فلا أعرفه، ولكن حدثني أبو جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)

أنه قال: كلما كان في أصل الخلقة، فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى: حسبك. ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب»[13].

الأئمة (ع) يحثون شيعتهم على كتابة العلم

وقد أكد الأئمة (عليهم السلام) على كتابة العلم والحديث من أجل أن يحفظ العلم وينتفع الناس به، خصوصاً في عصر الغيبة، حيث لا مفزع للناس إلاّ كتب الحديث، ففي معتبر أبي بصير: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام): اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»[14].

وفي موثق عبيد بن زرارة: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها»[15].

وفي حديث المفضل بن عمر: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم»[16].

وبدأ فقهاء الشيعة يؤلِّفون الكتب في الأحكام الشرعية لعمل الناس التي هي أشبه بالرسائل العملية، يحضرنا منها كتاب (يوم وليلة) ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الرضا (عليه السلام)، الذي ورد عنهم (عليهم السلام) في نصوص كثيرة الثناء عليه، وإقرار العمل به[17].

وكذا كتاب يوم وليلة المعروف بكتاب (التأديب) لتلميذه أحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانبة، ورسالة علي بن بابويه القمي والد الصدوق المتوفى في عصر الغيبة الصغرى.

وكتاب (المتمسك بحبل آل الرسول) لابن أبي عقيل العماني المعاصر له، وكتاب (المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي) لابن الجنيد المقارب لهما.

وما كتاب (من لا يحضره الفقيه) ـ الذي ألّفه الصدوق في أوائل الغيبة الكبرى ـ إلاّ رسالة عملية يرجع إليها من لا يتيسَّر له سؤال الفقيه، وهي تتضمن فتاوى الصدوق.

ثم تتابعت الرسائل للعلماء طبقة بعد طبقة، كـ(المقنعة) للشيخ المفيد، و(جمل العلم والعمل) للسيد المرتضى، و(النهاية في مجرد الفقه والفتوى) للشيخ الطوسي، (قدس الله أسرارهم الزكية)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.

 


[1] الفهرست: 17.

[2] وسائل الشيعة: 18 / 108.

[3] الكافي : 1 / 306.

[4] اختيار معرفة الرجال: 1 / 400.

[5] وسائل الشيعة: 18 / 105.

[6] وسائل الشيعة: 18 / 106.

[7] وسائل الشيعة: 18 / 107.

[8] اُنظر رجال الكشي: 357، 483، 595. ورجال الشيخ الطوسي: 509. ووسائل الشيعة: 18 / 103ـ111.

[9] وسائل الشيعة: 18 / 101.

[10] وسائل الشيعة: 18 / 61.

[11] وسائل الشيعة : 18 / 110.

[12] رجال الكشي: 146.

[13] وسائل الشيعة: 12 / 410.

[14] وسائل الشيعة : 18 / 56.

[15] وسائل الشيعة: 18 / 56.

[16] وسائل الشيعة: 18 / 56.

[17] وسائل الشيعة: 18 / 71 ـ 72.

2019/06/18

حكومة النبي (ص): ما هي أبرز ملامح تأسيس الدولة؟

إنّ وجود الدولة في الحياة البشرية ليس أمراً تقتضيه الحياة المعاصرة التي اشتدت فيها الحاجة إلى الحكومة، بل هي حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون.

فإذاً الدولة حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يُعدّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها: إمّا متوحشاً ساقطاً، أو موجوداً يفوق الموجود الإنساني.

انّ استعراض ما قام به الباحثون والمفكّرون من تبيين ضرورة الحكومة في المجتمع الإنساني، وانّه لولاها لانهارت الحياة وانفصمت عقد الاجتماع وعادت الفوضى إلى المجتمع الإنساني، ممّا لا تسعه هذه الرسالة ولنتركها لمحلها. ولكن المهم لنا هو تبيين سيرة الرسول في تأسيس الحكومة الإسلامية بعدما استّتب له الأمر، وهو يعرب عن أنّ الحكومة تعد بنى تحتيّة لإجراء عامّة الأحكام الإسلامية، وانّه لولاها لتعطلت الأحكام، وتوقّف إجراء الحدود والتعزيرات، وبالتالي سادت الفوضى على الحياة، فلذلك نقتصر في المقام على بيان سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزوله المدينة المنورة فنقول:

من تتبع سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)   يقف على أنّه قام بتأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، فقد مارس ما هو شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأُخرى، وتنظيم الشؤون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظم ذو طابع قانوني، وصفة رسمية، وصيغة سياسية، واتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأُمور وهو  المسجد، وتعيين مسؤوليات إدارية، وتوجيه رسائل إلى الملوك والأُمراء في الجزيرة العربية وخارجها، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)  أوّل مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده، واتسعت وتطورت وتبلورت، واتخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات وإن كانت الأُسس متكاملة في زمن المؤسس الأوّل (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن ملامح تأسيس حكومته قيامه بأُمور تعد من صميم العمل السياسي والنشاط الإداري الحكومي، نذكر من باب المثال لا الحصر:

1. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأُخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقية وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلامية.

2. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم)   جهز الجيوش وبعث السرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة، وقاتل المشركين وغزاهم، وقاتل الروم، وقام بمناورات عسكرية لإرهاب الخصوم، وقد ذكر المؤرخون أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنية 85 حرباً بين غزوة وسريّة.

3. بعد ان استَّتب له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكة وطرد اليهود لتآمرهم ضد الإسلام والمسلمين من المدينة وما حولها وقلع جذورهم، توجه باهتمام خاص إلى خارج الجزيرة، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة، فراح يراسل الملوك والأُمراء ويدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظل دولته والقبول بحكومته الإلهية.

4. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء وكان عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية، وهذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلّها سدى.

5. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نصب القضاة وعيّن الولاة، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة، فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام، وتعليم القرآن الكريم، وجباية الضرائب الإسلامية كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزين، وما شابه ذلك من المصالح العامة، وفصل الخصومات بين الناس، وحلّ مشاكلهم) والقضاء على الظلم والطغيان، وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسؤوليات الإدارية والاجتماعية.

6. انّ من قرأ سورة الأنفال والتوبة ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلامية وبرامجها ووظائفها. فهي تشير إلى مقومات الحكومة الإسلامية المالية، وأُسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها، وتعاليم في الوحدة الإسلامية التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلامية، وكذا غيرها من السور والآيات القرآنية فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أوّل مؤسس للحكومة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكة.

إنّ من سبر الأحكام الإسلامية من العبادات إلى المعاملات إلى الإيقاعات والسياسات،  يقف على أنّها بطبعها تقتضي إقامة حكومة عادلة واعية لإجراء كلّ ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانّه لولاها لأصبحت تلك القوانين حبراً على ورق من دون أن تظهر في المجتمع آثارها، فانّ الإسلام ليس مجرّد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فردية يقوم بها كلّ فرد في بيئته ومعبده، بل هو نظام سياسي ومالي وحقوقي واجتماعي واقتصادي واسع وشامل، وما ورد في هذه المجالات من قوانين أو أحكام،  تدلّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترضَ وجودَ حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها، لأنّه ليس من المعقول سنّ  مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذية تتعهد بإجرائها وتتولّى تطبيقها مع العلم بأنّ  سنّ  القوانين  وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات، وإلى هذا الدليل  يشير السيد المرتضى بقوله:

إنّه سبحانه وتعالى  يأمرنا بالاستجابة للّه وللرسول إذا دعا لما فيه حياتنا، يقول سبحانه: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا استَجيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذا دعاكُمْ لِما يُحييكُمْ).[1]

وفسّرت الآية  بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كان الأمر والنهي كما تُوحي هذه الآيات مبدأ للحياة وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ويقيم فيهم الحدود، ويجاهد فيهم العدو، ويقسم الغنائم، ويفرض الفرائض ويحذِّرهم عمّا فيه مضارهم، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا، وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد، ولف سد التدبير، أو كان ذلك سبباً لهلاك العباد.[2]


[1] الأنفال: 24. 

[2] المحكم والمتشابه، للسيد المرتضى: 50. 

2019/06/10

متى بدأ «الاجتهاد» لدى الشيعة؟

بينّا في مقال تحت عنوان "ما هو التقليد ومنذ متى بدأ؟" ان الأئمة (عليهم السلام) أرجعوا شيعتهم الى بعض الفقهاء في زمانهم (عليهم السلام)، والذي يعد تطبيق حقيقي لمسألة التقليد، وبعد ان اتضح المسار التاريخي للتقليد، وابتداءه من زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ثم امتداده لزمن باقي الأئمة (عليهم السلام)، والذي يمثل سيرة مُقَرّة ومُمْضاة منهم (عليهم السلام)، لابد من ذكر ولو أجمالي لتاريخ الاجتهاد، فقد كانت اللبنة الأولى للاجتهاد تتمثل باعتماد الفقيه بصورة رئيسية على روايات الأئمة (عليهم السلام) والتفريع عليها، وفق فهمه لمداليلها على هدي ما يحمل من ثقافة لغوية عربية وأخرى شرعية اسلامية، متمثلة بتلكم القواعد والضوابط التي أفادها الفقهاء مما ألقاه عليهم الأئمة (عليهم السلام)، فعن الصادق (عليه السلام): "إنما علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا"([1])، وعن الرضا (عليه السلام): "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع"([2]).

وهذه الأصول هي أمثال:

-" من كان على يقين فأصابه شك فليمضِ على يقينه فإن اليقين لا يدفع بالشك"([3]).

-  "الناس مسلطون على أموالهم"([4]).

- "كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك"([5]).

- "المسلمون عند شروطهم"([6]).

- "لا ضرر ولا ضرار"([7]).

فكانت تفريعات هؤلاء الفقهاء على الأصول التي كانوا يتلقونها من الأئمة الخطوات الأولى في طريق الاجتهاد الأمامي([8]).

مدرستي "الرأي" و "الحديث"

وفي بداية الغيبة الكبرى نشأت مدرستان في الوسط الفقهي الإمامين تشبهان الى حدٍ ما المدرستين السنيتين في الفقه (مدرسة الرأي) و(مدرسة الحديث)، وهاتان المدرستان الأماميتان، هما:

أولاً: مدرسة الصدوقين:

علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت329).

وابنه: محمد بن علي الصدوق (ت381).

 كانت هذه المدرسة تعتمد الحديث الشريف المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهاد فيه، لاستخلاص الحكم الشرعي منه، بأقل كلفة من التفكير، وفي حدود الفهم اللغوي العرفي، وبعيداً عن استخدام المبادئ العقلية المعروفة (بأصول الفقه).

وتمثل هذا واضحاً في كتابين من كتب الصدوقين، هما:

  1. رسالة الشرائع لعلي بن بابويه (الصدوق الأول):

وهي مجموعة لمتون أحاديث صنفها وفق التبويب الفقهي، أي انها من نوع ما يعرف الآن بالفقه المأثور.

  1. كتاب من لا يحضره الفقيه، لمحمد بن علي الصدوق (الصدوق الثاني):

وهو مجموع أحاديث اجتهد في اختيارها بمعيار ما يوافق فتواه، من منطلق فهمها فهماً لغوياً عرفياً لم يستخدم فيه القواعد والضوابط العقلية التي تعرف بأصول الفقه.

وكان مقر هذه المدرسة مدينة قم التي عرفت في ذلك الوقت بكثرة الرواة وأهل الحديث فيها، كثرة ملحوظة.

ثانياً: مدرسة القديمين:

الحسن بن ابي عقيل العماني المعاصر للصدوق الأول على بن بابويه.

وتلميذه: احمد بن الجنيد الإسكافي البغدادي (ت381هـ) المعاصر للصدوق الثاني محمد بن بابويه.

كانت هذه المدرسة تعتمد الاجتهاد في فهم النص الشرعي لاستنباط الحكم الشرعي منه وفق القواعد والضوابط العقلية المعروفة بأصول الفقه.

وعرف هذا عنهما مما نقله الفقهاء من كتاب (المتمسك بحبل آل الرسول) لابن ابي عقيل وكتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) لابن الجنيد، ومما قاله علماؤنا في حقهما، فقد قال السيد بحر العلوم في ابن ابي عقيل أنه: أول من هذب الفقه، واستعمل النظر، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى. وقال في ابن الجنيد: وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة والرئاسة وعظم محله قد حكي عنه القول بالقياس([9]).

وكان مقر هذه المدرسة مدينة بغداد التي عرفت آنذاك بأنها ملتقى الفكر العقلاني.

ثم التقت هاتان المدرستان عند الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المتوفي سنة 413هـ) حيث كان أبرز تلامذة الشيخ الصدوق وأبرز تلامذة الشيخ ابن الجنيد.

وبسبب ما كان يتمتع به الشيخ المفيد من شخصية علمية عالية، ومنزلة قيادية مرموقة، واهتمام كبير بأمر التشيع، وعناية فائقة بحركة الفكر التشريعي الإسلامي، في إطار مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والعمل باحتياط واعٍ، على تهيئة الجو العلمي النظيف الذي يوفر له اصالته وجديته، ويفتح الطريق أمامه لعطاء مثمر مفيد.

وبسبب ما رآه من بوادر لانشقاق الصف الشيعي العلمي الى هذين الاتجاهين بما يحمل أولهما من جمود يعوق مسيرة التطور الفكري التشريعي، وما يحمل ثانيهما من انطلاق تجاوز حدود الدائرة المذهبية.

لهذا وذاك رأى ان يسلك طريق البين بين، فلا جمود ولا انطلاق، ولكن أمر بين الأمرين، يحفظ للتشريع أصالته، ويعطيه المجال للتطور داخل إطار تلكم الأصالة.

فجمع أمره وحشد كل ما يملك من طاقات فكرية وقيادية للقيام بالمهمة.

وتجسد عمله بالتالي:

  1. ألف رسالته الفتوائية المعروفة بـ (المقنعة) في أصول الدين وفروعه، ولم يلتزم في كتابتها وعرضها متون الأحاديث.

وأقام فتواه  فيها على ما ذكره من مصادر للتشريع في كتابه (أصول الفقه)، وهي: الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، فيكون بهذا قد رفض القياس، ولم يجمد على حرفية التعبير بمتون الأحاديث([10]).

وضع الشيخ المفيد العقل موضعه حيث اعتبره الدليل على حجية القرآن وحجية ظهورات الألفاظ.

كما وضع اللغة في موضعها حيث اعتبرها الطريق لمعرفة معاني الكلام أو قل: مرادات المتكلمين.

واعتبر الأخبار الطريق لاستقاء الأصول (القواعد) من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة (عليهم السلام)([11]).

ورسالته في أصول الفقه تضمنت ـ على صغر حجمها ـ منهجه في الاجتهاد كاملاً وواضحاً.

وقد تعاهد كبار تلامذته علماً وزعامة مدرسته بالعناية والرعاية فكملت جميع متطلباتها على يديها، وهما الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وزملاؤهم وطلابهم.

إلا أن الشريف المرتضى ربّع مصادر التشريع، فعدها وسلسلها في أحد أجوبته، بالكتاب والسنة والأجماع والعقل.

وألف كتابه (الذريعة الى أصول الشريعة) وفي الوقت نفسه ألف الشيخ الطوسي كتابه (العدة في أصول الفقه) منهجاً للبحث الفقهي = الاجتهاد.

ومشى الوضع الاجتهادي على هذا حتى أخريات القرن العاشر الهجري وبدايات القرن الحادي عشر حيث ألف الميرزا محمد أمين الاستربادي كتابه الموسوم بـ (الفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد) وحدد فيه مصادر الحكم الشرعي ومنهج البحث عن الحكم الشرعي.

ومن حينه انقسمت المدرسة التي أرسى أسسها الشيخ المفيد الى مدرستين:

  1. المدرسة الأصولية:

وهي التي التزمت خط مدرسة الشيخ المفيد فاعتمدت أصول الفقه العقلي المستقاة أصوله من مبادئ العقل ومعطياته.

  1. المدرسة الأخبارية:

وهي التي اعتمدت أصول الفقه النقلي المستقاة أصوله من أقوال أهل البيت (8) والمأثور عنهم.

ومشت في موقفها من رصيفتها المدرسة الأصولية تقترب حيناً، وحيناً تبتعد، حتى ضاقت الفروق بينها وانحصرت في التالي:

  1. مصادر التشريع: فهي اربعة عند الاصوليين: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، واثنان عند الاخباريين: الكتاب والسنة.
  2. الشبهة الحكمية التحريمية: حيث يرجع فيها الأخباريون الى قاعدة الاحتياط، ويرجع فيها الأصوليون الى قاعدة البراءة([12]).

 


([1])  الوسائل، الباب 6 من ابواب صفات القاضي، ح 52.

([2])  الوسائل: ج27، ص63.

([3])  الوسائل: ج20، ص274.

([4])  مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج 4، ص: 356.

([5])  الوسائل: ج17: ص89.

([6])  الوسائل: ج18، ص16.

([7])  الوسائل: ج18، ص32.

([8])  دروس في فقه الأمامية: ص197.

([9])  انظر: كتاب تاريخ التشريع الاسلامي: عبد الهادي الفضلي - عهد ابتداء الغيبة الكبرى.

([10])  أنظر: تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الهادي الفضلي – عهد ابتداء الغيبة الكبرى.

([11])  م. ن.

([12])  نقلاً عن كتاب التقليد والاجتهاد، للعلامة المرحوم عبد الهادي الفضلي.

2019/05/20

دور «الفقهاء» في زمن الغيبة

يتأكد دور العلماء في زمن غيبة الإمام صاحب الزمان (ع)، ففي الرواية عن الإمام الهادي (ع): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (ع) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دين الله»([1]).

وورد أنّ الإمام محمد التقي (ع) قال: «إنّ من تكفل بأيتام آل محمد (ص)، المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين بردْ وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربّهم، ودليل أئمتهم، ليفضلون عند الله على العباد بأفضل المواقع، بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرض والكرسي والحجب، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»([2]).

وفي (أصول الكافي) عن معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد الله (ع) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلَ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيَهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»([3]).

ومن ذلك ما حدث به السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي (ره)، بسنده عن ابي محمد الحسن بن علي العسكري (ع)، قال حدثني أبي عن آبائه (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: «أشد من يتم اليتيم الذي انقطع من أمه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألاّ فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى» ([4]).

وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال: قال الحسين بن علي(ع): «من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عز وجل: أيها العبد الكريم المواسي لأخيه أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم» ([5]).

وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (ع) قال: «قال الحسين ابن علي فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها» ([6]).

وعنه (ع) بالإسناد المتقدم قال: «قال موسى بن جعفر (ع): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فلذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة» ([7]).

وعنه (ع) قال: «قال محمد بن علي الجواد (ع): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العباد بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء» ([8]).

وعنه (ع) قال: قال علي بن محمد (ع): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم(ع) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل»([9]).


([1]) ميزان الحكمة جزء 3، صفحة 2087.

([2])  تفسير الإمام العسكري (ع): 116.

(([3]  تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) ص 116.

([4]) الاحتجاج: 1 / 6 .

(([5] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع): 341 ح 218، الاحتجاج 1: 16، بحار الأنوار 2: 4 ح 5، و 8: 180 ح 137، أشار إلى بعض الحديث.

([6]) بحار الانوار: ج2/ ص3.

([7]) الاحتجاج : 1 / 8 .

([8]) الاحتجاج : 1 / 9 .

(([9] نفس المصدر.

2019/05/12

ماذا تعرف عن «غزوة بني قريظة»؟

غزوة بني قريظة من الفعاليات العسكرية التي حفظها لنا التاريخ فيما حفظ من السيرة النبوية الشريفة، وتتلخص احداثها في أن يهود بني قريظة، الذين ارتبطوا مع النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، بعهود ومواثيق في مقدمة ما تلزمهما به عدم اعتداء طرف على طرف آخر، وان لا يكون في حرب عليه، خانوا العهد في معركة الاحزاب حين جاء سيدَهم كعب بن أسد حيي بن اخطب سيد بني قينقاع، الذين سبق وأن أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله عن المدينة لما قاموا به من اعتداء على المسلمين، وأقنعه بالانضمام الى المشركين والغدر بالمسلمين ونكث العهود معهم. قال حيي بن اخطب: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر، وببحر طامٍ. جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنختهم بالمدينة. وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها. وقد عاهدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. فتأبّى كعب، وقال: جئتني بذل الدهر، بجهام هراق ماؤه، وبرعد وببرق ليس فيه شيء. فلم يزل يفتله في الذروة وفي الغارب، حتى أعطاه عهداً من الله وميثاقاً أن يكون معه، على أنه إن رجعت تلك الجموع خائبة ولم يقتلوا محمداً أن يرجع معه إلى حصنه، يصيبه ما أصابه. ونقض كعب ما بينه وبين رسول الله، وبرئ مما كان عليه له ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد (السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص231 و 232)، وقد أضرت هذه الخيانة بالنبي صلى الله عليه وآله ومن معه من المسلمين بضرر شديد، حيث ان يهود بني قريضة قد فتحوا جبهة داخلية تسببت بنشر الخوف، وقد جاء في وصف ذلك الخوف على لسان ام سلمة حيث قالت قد شهدت مع رسول الله مَشاهِد فيها قتال وخوف لم يكن من ذلك شيء أتعب لرسول الله ولا أخوف عندنا من حرب الخندق وذلك أنّ المسلمين كانوا مثل الحرجة (الشجرة ذات الأغصان الكثيرة) وأن قريظة لا نأمنها على الذراري والمدينة تُحرَس حتى الصباح، يُسمع تكبير المسلمين فيها حتى يُصبِحوا خوفاً.

كما ان بني قريضة قد قامت بمراسلة المشركين المحاصرين للمدينة تطلب منهم أن يمدوها بألف من قريش والف من غطفان ليُغِيروا بهم على المسلمين (الواقدي، ج1، ص 467 – 468)، كما انها في احدى الليالي ارسلت نفرا من شجعانها بما يشبه الغارة فتصدى لهم بعض المسلمين في البقيع واجبروهم على الفرار.

 وما إن انهزم الأحزاب حتى جاء المسلمين النداء من النبي صلى الله عليه وآله: "لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة". وكان هذا النداء من الله (عز وجل) فما إن عاد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ووضع السلاح واغتسل وقد عصب رأسه الغبار حتى جاءه جبرائيل عليه السلام فقال له: وضعت السلاح فو الله ما وضعته ؟! فقال رسول الله فأين ؟ قال: ها هنا، وأومأ إلى بني قريظة.

فاستعد المسلمون لقتال بني قريظة ومعاقبتهم على خيانتهم العظيمة وغدرهم بهم فبعث النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام قائداً على سرية وتبعه النبي فحاصرهم خمسة وعشرين يوماً، وكان حيي بن أخطب معهم في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان، وكان يحرضهم على قتال النبي ولما أيقن بنو قريظة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يتركهم حتى يقاتلهم، عرض عليهم كعب بن أسد اتّباع النبي فقال لهم:

يا معشر اليهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض أن نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فقالوا: لا نفارق حكم التوراة ولا نستبدل به غيره.

ولما طال الحصار عليهم، واشتد البلاء قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فهو حليفنا ولن يخذلنا وكان سبب نزولهم هذا خوفهم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فعندما شاهدوا أمير المؤمنين وقد ركز الراية عند الحصن قالوا لقد جاء قاتل عمرو بن عبد ود فأصابهم الرعب وكان النبي قد أرسل قبل علي عدداً من الصحابة لكنهم انهزموا أمام اليهود.

وما إن وصل أمير المؤمنين إلى الحصن حتى صاح: لأذوقنّ ما ذاق عمي حمزة أو لأفتحن حصونهم، فلمّا رأوه وهو كالليث الضاري وقد عرفوه من هو، تملكهم الخوف والرعب منه وأيقنوا بالهلاك، وقالوا: يا محمد رضينا بحكم سعد.

فأرسل من يحضر سعدا فجيء به وهو جريح فقال له النبي : إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم. فقال النبي : حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبع سموات. فقتل رجالهم وكان عددهم بين الأربعمائة والستمائة ولم ينج منهم إلا من أسلم فحقن إسلامه دمه، وسُبيت نساؤهم وذرياتهم.

ومع هذه الاحداث التاريخية للواقعة تستوقفنا نقطة هامة وهي الحكم الذي قضى بقتل رجال بني قريظة واعتبار ذلك، من قبل المتخندقين ضد الاسلام، دليلا نابضا على دموية الاسلام ووحشيته، فنقول لهؤلاء المتخندقين في معرض الرد:

1-      إن يهود بني قريظة وقينقاع وبني النظير قد وقعوا مع النبي معاهدات جاء فيها أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا سلاح ولا بكراع في السر والعلن، لا بليل ولا نهار، الله بذلك عليهم شهيد. فإن فعلوا فرسول الله في حل من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم. (بحار الانوار ج19 ص 110ـ 111).

2-      لقد كان جيش الأحزاب عازماً على إبادة المسلمين واستئصال شأفتهم. ولو كان قدّر لهم ذلك لكان لبني قريظة المشاركة الفعالة في هذه المجزرة بحق المسلمين

3-      إن تجربة النبي مع بني القينقاع أثبتت، بشكل قاطع، أن عملية التهجير لا تؤدي إلا لتحشيد القوى ضد المسلمين.

4-      لقد برهن اليهود من خلال عدد لا يحصى من المواقف أنهم أهل غدر وخيانة ولاعهد لهم، وأنهم لن يتوقفوا عن الكيد للإسلام ومحاربته. لهذا فإن الرسول الأكرم الذي طالما عفى وصفح، سيكون تسامحه مع يهود بني قريظة بمثابة تهاون وتقصير في مهامه كقائد تقع على عاتقه مسؤولية حماية المسلمين. إن أي تسامح مع رجال بني قريظة وأي صفح عنهم هو بمثابة إعطائهم فرصة جديدة ليلتحقوا فيها بالجهات المعادية للمجتمع الإسلامي ومحاربته. وماقام به بنو قينقاع ـ الذين عفا عنهم ـ من إشعال لمعركة الأحزاب دليل أكيد على ذلك.

5-      الحاكم عليهم بالقتل هو سعد بن معاذ وبطلب من بني قريظة في أن يكون هو الحاكم، ولما جيء بسعد وقد كان لايقدر على المسير لجرح اصابه في معركة الاحزاب، وصار بين المسلمين واليهود قيل له ‏:‏ يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك‏ فقال: وحكمي نافذ عليهم ‏؟،‏ فقال اليهود ‏:‏ نعم ،‏ قال ‏:‏ وعلى المسلمين‏ ؟ ،‏ قالوا‏:‏ نعم ، قال‏ :‏ وعلى من هاهنا‏ ؟ ،‏ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله إجلالاً له وتعظيمًا‏ ، قال‏:‏ ‏نعم، وعلي ‏،‏ فأوضح‏ :‏ فإني أحكم فيهم أن يُقتل الرجال ، وتسبي الذرية ، وتُقسم الأموال ، فقال رسول الله : ‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات،‏ وعليه فإن النبي الاكرم ص غير مسؤول عن الحكم فلو حكم سعد بالعفو عنهم لأقره النبي ص لما ألزم به نفسه من رضا بحكم سعد وقضاءه.

6-      حكم سعد بن معاذ بما تنص به شريعة اليهود أنفسهم، أي أن اليهود لو تعرضوا الى خيانة خائن غدر بميثاق معهم، لرجعوا الى شريعتهم التي يؤمنون بانها شرعة الله العادلة وحكموا على الخائنين

فقد ورد في الكتاب المقدس ما نصه:

حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ،

فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ.

وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا.

وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ.

وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.

هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. (الكتاب المقدس سفر التثنية الإصحاح 20 الفقرات من 10 ــ 16).

بل انه قد جاء في التوراة ـ في مواضع اخرى ـ ما يزيد على هذا الحكم بقتل جميع السكان دون استثناء للنساء والأطفال وكذلك إحراق كلّ ما في المدينة لتكون تلّا إلى الأبد (الكتاب المقدس، سفر التثنيه، الإصحاح 13، فقرات 12 – 16.

أضف الى كل هذا، ما أورده الباحثون من تشكيكات ومباحث تطعن بكون رواية الحكم على بني قريظة بقتل رجالهم، أمرا حقيقيا. يقول السيد جعفر شهيدي في كتابه (تاريخ تحليلي اسلام، ص 88-90)، ما يشير الى اضطراب الرواية في كتاب المغازي، كما أنها مختلفة عمّا جاء على لسان ابن إسحاق والطبري والزهري (51 - 124 ه)، حيث أن الأخير لم يصرّح إلا بقتل حيي بن أخطب؛ فالرواية قد تكون مدسوسة من قبل أناس من الخزرج بعد مُضيّ سنين من وقوع الغزوة، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك كان هو الحطّ من منزلة الأوس لدى النبي مقابل الخزرج وإثارة الحمية التي ظهرت علاماتها بوفاة النبي في سقيفة بني ساعدة بينهم واتخذها معاوية و بنو امية مثاراً للتلاعب بتاريخ الإسلام إلى سنة أربعين للهجرة وتشويه صورته، حتى ذكروا أنه قام ص بقتل حلفاء الأوس دون حلفاء الخزرج من بني قينقاع وبني النضير، وأنّ زعيم قبيلة الأوس لم يُراعِ جانب حلفائه في غزوة بني قريظة، بل حكم بقتل جميع الرجال.

2019/04/15

2019/04/03

العقر عند القبور واللواذ بها عند العرب

كان للخيال الخصب والعاطفة الجياشة عند العرب في الجاهلية أثراً كبيراً في خلق وإفراز سنن وعادات كثيرة أقرّ الإسلام ما هو صالح منها ورفض ما هو غير صالح. فمن تلك العادات والسنن التي تأثرت وأُثِر قسط كبير منها عن الأديان السالفة والحضارات الماضية، مسألة احترام الموتى، والارتباط بالقبور وتخليد مآثرهم.

إذ كانوا يعقرون عليها جِمالهم وينشدون عندها الأشعار ويعوجون عليها، إحساساً منهم بوجود المدفون معهم روحاً ومآثره وإنه يرتبط أو أنهم يرتبطون معه بنحو من أنحاء الارتباط، قال ابن كثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. (البداية النهاية، ج: 2 ص: 366) وزاد الزمخشري على هذا القول: وقيل ليطعمها السباع، فيدعى مضيافاً حياً أو ميتاً. (الفائق في غريب، الحديث ج: 2، ص: 178 ــ 179)، وقال مثل ذلك ابن منظور (لسان العرب، ج: 4، ص: 593).

فالعقر على القبر عند العرب يعبّر عن معنى الكرم والجود والعطاء، وفيه محاولة إدامة إطعام الميت للفقراء والأضياف والنازلين وهذا ما جعلهم يعدّون ذلك من المفاخر الحميدة والمآثر الفريدة.

وكان لاعتقادهم الخالص هذا أثراً في نسج القصص والأساطير حول كرامات الميت من ذلك ما رواه ابن قتيبة الدينوري: وقد ذكرت طيء إن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مرّ بقبر حاتم فنزل به وبات يناديه: يا أبا عدي أقرِ أضيافك. فلما كان في السحر وثب أبو الخيبري يصيح: وارحلتاه فقال له أصحابه: ما شأنك ؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا قد والله قراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا فبينما هم كذلك في مسيرهم طلع عليهم عَدِي بن حاتم ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره فقال: إن حاتماً جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه وأنه قراك وأصحابك راحلتك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها علي حتى حفظتها وهي:

أبا الخيبريِّ وانت أمرؤٌ   ***   حسودُ العشيرة لوّامُها

فماذا أردت الى رمّةٍ   ***   بداويةٍ صخبٍ هامُها

أتبغي أذاها وأعسارها   ***   وحولك عوفٌ وأنعامُها

وأمرني بدفع جمل مكانها إليك فخذه، فأخذه ! (الشعر والشعراء، ص147 ـــ 148).

وقد نقل هذه القصة أيضاً الزبير بن بكار (الموفقيّات ص 408 ــ 410)، وأبو الفرج الأصفهاني (الأغاني، ج: 17، ص: 374 ــ 375) والبغدادي في خزانة الأدب (خزانة الأدب، ج: 1، ص: 494 ــ 495) وإلى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن حاتم:

أبوك أبو سفّانة الخير لم يزلْ   ***   لدنْ شبَّ حتى مات في الخير راغبا

به تضربُ الامثالُ في الشعر ميّتاً   ***   وكان له إذ ذاك حيّاً مصاحبا

قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به   ***   ولم يقرِ قبرٌ قبله الدهرَ راكبا

وسواء أكانت قصة حاتم من مختلقات طيء وورثة حاتم أم من الجن كما يقول الزبير بن بكّأر فإن مما لا ريب فيه هو أن العرب كانت تعقر عند القبور وترى لصاحب القبر حرمة وكرامة وتعدّ العقر والقرى عند قبر الكريم فخراً ما بعده فخر، فقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري عمرو بن الحارث الغساني والغساسنة فوصفهم مادحاً بأنهم يكرمون الأضياف عند قبر أبيهم فقال:

لله دَرُّ عصابةٍ نادمتهُم   ***   يوماُ بجُلَّقَ في الزمانِ الأولِ

أولاد جفنةَ عند قبر أبيهِمُ   ***   قبر ابن مارية الكريم المُفضلِ

يَسقون من ورَدَ البريصَ عليهم   ***   بَردَى يصفّق بالرَّحيقِ السلسلِ

يُغشون حتى ما تهِرّ كلابُهم   ***   لا يسألون عن السوادِ المقبلِ

وظلت هذه الفكرة مفخراً عند العرب حتى العهد الأموي فهذا قيس بن الملوح يعقر على قبر أبيه ناقته ويرثيه عند القبر قائلاً:

عقرتُ على قبرِ الملوَّحِ ناقتي   ***   بذي الرَّمثِ لا أن جفاه أقاربُه

فقلتُ لها كوني عقيراً فإنني   ***   غداةَ غدٍ ماشٍ وبالأمسِ راكبُه

فلا يُبعدنْكَ الله يا بن مزاحمٍ   ***   فكلُّ امرئٍ للموتِ لا بدَّ شاربُه

فقد كنت صلاعَ النجادِ ومعطي الـــــجيادِ وسيفاً لا تفلُّ مضاربُه

ويرثي زياد الأعجم المغيرة بن المهلّب بقصيدة يدعو فيها إلى العقر عند قبره وإن ينضح قبره بدماء العقائر لأنه كان أخا دَمِ وذبائحٍ فيقول:

قل للقوافلِ والغزيِّ إذا غَزَوا   ***   والباكرين وللمجدِّ الرائحِ

إن المروءة والسماحة ضُمّنا   ***   قبراً بمروَ على الطريقِ واضحِ

فإذا مررتَ بقبرهِ فأعقر به   ***   كُومَ الهجانِ وكلّ طِرفٍ سابحِ

وانضح جوانبَ قبرهِ بدمائها   ***   فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ

ومن الطرائف أن يزيد بن المهلَّب قال لزياد: يا أبا أمامة، أفعقرت أنت عنده ؟، قال: كنت على بنت الحمار.

فيبدو أن العقر كان مجرد موروث قد اضمحل أو قلّ بمجيء الإسلام فما بقي إلا شيء يسير منه على أرض الواقع، وإنما بقيت الفكرة في ذهن وخيال الشعراء يستفيدون منها في المراثي والمفاخرات حتى اخذ الشاعر أحمد بن محمد الخثعمي وهو من الشعراء العباسيين معنى أبيات زياد الأعجم وتصرّف في معانيها ما شاء أن يحسن له التصرف، فقال:

أيها الناعيانِ من تنعيان   ***   وعلى من أراكما تبكيانِ

أندبا الماجدَ الكريمَ أبا اسحـــاق ربُّ المعروف والاحسانِ

واذهبا بي أن لم يكن لكما عقرٌ إلى جنب قبره فاعقراني

وانضحا من دمي عليه فقد كان دمي من نداه لو تعلمانِ

ومن مظاهر الإنشداد إلى القبور وتكريم صاحب القبر أن الرئيس المقدم والسري من الناس ومن له بيت من العز والشرف كان يعيذ من يستعيذ بقبر أبيه ويعفو عن ذنبه الذي يتجاوز الظلم والإسراف أحياناً، احتراماً وتقديراً وتكريماً لصاحب القبر وقد كان هذا شائعاً معروفاً في الجاهلية والإسلام. ولقد عاذ كثير من الخائفين بقبور آباء الملوك والحكام كما لاذ المؤمنون بالأئمة الطاهرين : وتحرّموا بحرمتهم فرفع عنهم السوء، ومن أروع ما قيل في هذا الباب ما قيل في قبر الإمام الحسين 8 حيث لاذ بعضهم بقبره الشريف وأنشأ يقول:

حسينٌ إذا ما ضاق رحبٌ من الدنى   ***   وحلّ بنا للفادحاتِ نزولُ

بقبركَ لُذنا والقبور كثيرةٌ   ***   ولكن من يحمي الذمارَ قليلُ

2019/03/31

الإمام الهادي (ع) يتعرض لابتلاء عظيم في «مجلس خمر» للخليفة المستبد

وهو في مجلس شرابه الليلي وقد غرق في بحر خمره، ينطق السلطان المطاع: احضروه، يدخل الجنود متسللين الى داره فينتزوعوه من محراب تهجده ثم يوقفوه امام الخليفة، تصور.. من محراب التهجد والانقطاع الى الله الى مجلس الخمر امام الخليفة القاهر المستبد -موقف صادم وابتلاء عظيم-.

يقدم له الخليفة كاس الخمر ويطلب منه ان يشرب-يشتد البلاء- أيقبل؟! والعياذ بالله او يرفض وماذا بعد رفض طلب الخليفة في تلك الحال؟! ما قيمة الدم والعرض عند الخليفة في تلك الحال؟!، لكنه -روحي له الفدا- رفض، قال: والله ما خامرت لحمي ودمي..

قالها والحال يحتمل كل احتمال.. لكنه ما تردد وقال.

رد الخليفة: انشدني شعرا اذن.. يبدو ان الخليفة كان مستغرقا في لذته والوقت وقت لعبه ومجونه.

فقال: إني قليل الرواية للشعر.

أصر الخليفة، لابد من ان تنشد شعرا..

اي شعر يمكن ان ينشد في ذلك المجلس، اي قصيدة تناسب ذلك المقام؟!

ينشد بابي هو وامي:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم                 غلب الرجال فلم تنفعهم القلل.

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم                 وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم                    أين الأساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة                   من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم                تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا               وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

حتى إذا انتهى من انشاد الشعر، انقلب الموقف، أصبح الخليفة القاهر ضعيفا ذليلا، وأصبح ذلك المتهجد قويا عزيزا، ندم الخليفة وبكى برق له بارق من فطرة تأبى ان تموت وليته التزم طريق فطرته بعدها ولكن هيهات.

اولياء الله هكذا هم دائما، قوتهم ليست في اموالهم وسلطانهم وطغيانهم، قوتهم في عزم اراداتهم وصلابة قلوبهم، وبتلك القوة لا بغيرها امتدت اثارهم وتهافتت القلوب عليهم كتهافت الفراشات على النور...

ذلك المتهجد كان الامام العاشر من اهل البيت، الذي اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. الامام علي بن محمد الهادي المدفون في سامراء في العراق. حجة الله على خلقه حيا وميتا، واليوم تمر ذكرى شهادته مسموما عن عمر يناهز الاربعين عاما في سنة 254 هجرية.

2019/03/11

2019/02/09

لماذا لم يدافع الإمام علي عن فاطمة (ع)؟!!

هذا السؤال يتطلب بسط الحديث بعد تتبع الأخبار وملاحظة المصادر، ليكون الحديث تاماً بالأدلة، لكنني سأكتفي ها هنا بارتجال تعليقات أربعة:

[اشترك]

التعليق الأول: هو أن ترك الدفاع كأي ترك لا يعلم وجهه إلا من التارك نفسه، وما يذكر مجرد احتمالات مالم يرد بيان من نفس التارك، ولك أن تقرب هذه الفكرة بالمثال التالي:

لو ترك زيد الذهاب الى مقر العمل هذا اليوم فهل يتمكن أصدقاؤه وزملاؤه من معرفة سبب عدم ذهابه للعمل هل المرض أو قرار ترك العمل أو المزاحمة بأمر أهم بدون أن يخبرهم زيد نفسه؟ بالطبع لا.

التعليق الثاني: ترك الدفاع عن الزهراء (عليها السلام) نظير ترك الله الدفاع عن أنبيائه ورسله وأوليائه الذين قتلوا وقطعوا وعذب كثير منهم، فهو لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وإنما نحتمل أنها حكمة كذا أو كذا، كحكمة الابتلاء والامتحان أو المزاحمة بأهم يراد الحفاظ عليه.

ألم يترك الله قابيل يقتل هابيل، بل ترك آلاف الناس يقتلون آلاف الناس مع أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا؟ ألم يترك الله طاغون اليهود يقضي على نبي الله يحيى (عليه السلام) وقدم راسه هدية لبغي من بغايا إسرائيل؟

أين الله عن كل ذلك وعن ابليس الذي يتسبب في وقوعها، هل هو غافل عم يفعل الظالمون، هل يعجزه منع ذلك؟ هل هو خائف - تعالى الله عن ذلك - ويقعده الجبن عن ترتب هذه المفاسد؟

بماذا تجيبون عن هذه التساؤلات نجيب في مسالة الزهراء (عليها السلام)، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة الله وهو يقوم ويقعد بأمره تعالى.

التعليق الثالث: ترك الدفاع ليس دائماً موافقاً للجبن والانهزامية!

إن ترك الدفاع قد يكون هو الموافق للشجاعة والحكمة، ولكي يتضح ذلك أذكر مثالاً:

لو فرضنا شخصاً في زمن صدام وتعرض بعثي لزوجته في الشارع بحركة مذلة لا تصدر إلا من الأراذل، وعلم أنه إما أن يسكت وينتهي الأمر بهذا المقدار، وإما أن يظهر البسالة والغيرة ويدافع فيترتب على ذلك قتله واغتصاب زوجته، وأمه وبنته وتصفية الأنفس المحترمة، فأي موقف هو الموافق للشجاعة والحكمة، هل هو العض على الجرح والصبر والسكوت أم إظهار الاعتراض ودفع البعثي والانتقام منه؟

لو فعل هذا الرجل ما يريده الجاهل الذي يتحرك بغريزته السبعية لا بعقله، لكان محط لوم جميع العقلاء.

إن الامير (عليه السلام) هو الذي بنا هذا الدين مع ابن عمه بتضحياته وجهاده وجراحاته حتى قال النبي صلى (الله عليه واله): (ما قام الدين إلا بسيف علي)، وهذا الدين الذي بذل فيه الأمير جميع التضحيات كان يعيش فترة حرجة جدا، لعدة عوامل:

١- كان الدين حديث عهد لم تنعقد عليه قلوب المسلمين بالتسليم التام، فالمسلمون في ذلك اليوم هم الذين فروا من الزحف وتركوا رسول الله (صلى الله عليه واله) واسلموه للقتل في اكثر من موطن لا يدافع عنه إلا بعض أفراد، وهم الذين تثاقلوا عن تنفيذ أوامره في أكثر من مشهد بما في ذلك التقصير في قضية ما بعد الصلح و حج التمتع، بل هم الذين وصفوه بانه يهجر ومنعوه من كتابة ما لا تضل الأمة بعده.

٢- انقسام المسلمين فيما بينهم فقد كشفت احداث السقيفة عن اتهام أعظم فريقين المهاجرين والأنصار لعضهما البعض بحب التسلط على حساب الفرق الآخر.

٣- وجود المنافقين في مجتمع المدينة وحولها، وكانوا بنحو من القوة والكثرة اقتضى أن لا يكتفي القران في مقام الحديث عن تواجدهم وخطرهم بآية او آيتين، بل تعرض لهم بسورة كاملة كاملة وفي آيات متفرقة في عدة سور.

٤- وجود الطلقاء والعتقاء الذي لم ينفكوا عن قتال رسول الله (صلى الله عليه واله) والكيد بالإسلام والمسلمين ظاهراً إلا بعد كسر شوكتهم وغلبة الإسلام، ومن الطبيعي ان يتحين هؤلاء الفرضة للوثبة على الإسلام وأهله وإعادة مكانتهم ومصالحهم التي ذهبت بقوة الاسلام أدراج الرياح.

٥- وجود دولتين كافرتين قويتين لهما نفوذ ومصالح في جزيرة العرب، وبين المسلمين وبين إحداهما جبهة مفتوحة، فحرب مؤتة بعد لم تبرأ جراحاتها من أجساد المقاتلين، وهذا جيش أسامة قد أعده رسول الله (صلى الله عليه واله) وفيه انتدب كبار الصحابة، وهو على وشك أن يزحف نحو أطراف دولة الروم.

في ظل هذه الظروف اقبل القوم بالحطب والنار ينادي مناديهم: (أخرج يا علي وإلا احرقنا الدار ومن فيها) حتى كبسوا دار فاطمة (عليها السلام) ودخلوها عنوة الأمر الذي لم ينكره حتى ابن تيمة.

إن هذه الكلمة تبين مقدار الثمن الذي كان القوم مستعدين أن يدفعوه في سبيل تحقيق أهدافهم، فإذا كانوا جاهزين لحرق بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) وبضعته، وطفليها ريحانتي أبيها وأباهما نفس الرسول واخاه والولي بنص الغدير من أجل تحقيق غايتهم وأهدافهم، فهل هنالك شيء أكثر شناعة يمكن أن ينتهون عنه فيتنازلون عن مقاصدهم فيما إذا توقف تحقيقها على انتهاكه!

إن الامير (عليه السلام) كان - أو ربما كان - بين أن يشهر السيف ويدافع عن زوجته وحقه الشرعي، فيترتب على ذلك تمزق الواقع الإسلامي وخروج المسلمين من الإسلام وتوثب أعدائه عليه، وتصفية الطليعة المؤمنة، وبالتالي ذهاب تضحياته وجهوده وجود النبي من قبله لأكثر من عقدين من الزمان سداً بسبب حرب داخلية تعصف بالدين الإلهي، وبين أن يصبر ويسالم ما سلمت أمور المسلمين، فيعمل مع الطليعة الرسالية والخلاصة المنتقاة من أجل حفظ الإسلام ومذهب الحق في سفينة الإمامة التي تصارعها أمواج وأعاصير السلطات من ذلك اليوم وإلى يوم الناس هذا.

وقد اختار الامام (عليه السلام) بشجاعة وحكمة الخيار العقلائي والإلهي، فهذا الموقف الحكيم هو وصية النبي (صلى الله عليه واله) كما في بعض الاخبار.

التعليق الرابع: التشكيك في إمامة علي (ع)

 هذا التساؤل تارة يطرح للتشكيك في ظلامة الزهراء (عليها السلام) و أخرى يطرح للتشكيك في إمامة امير المؤمنين (عليه السلام) بالقول بأن الإمام (عليه السلام) لو كان إماماً حقاً لما سكت عن حقه لأنه شجاع، وكل ذلك اتضح جوابه مما تقدم.

ثم إنه لا يتوقف دفع هذه الشبهات على ثبوت ما تقدم كواقع تاريخي، بل يكفي أن يكون محتملاً وعلى أساسه يمكن الجمع بين أدلة ظلامة الزهراء (عليها السلام) أو أدلة إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فما دام احتمال الجمع بين شجاعة الامام (عليه السلام) وبين سكوته قائماً فهذه الشبهة باطلة ولا تقف أمام ما دل على ظلامة الصديقة و إمامة الإمام علي (عليهما السلام).

2019/01/20

زينب بنت علي (ع) ملهمة ثوّار لا ربيبة دلال

وهاج في القلب عبير الذكرى ليحمل عبقاً زينبياً بقلب "هاجر" الذي هاجر لرحال الاطيبين محمد وآله الأطهرين.

وتمتمت بين عالم الامنيات والواقع: "أتُراني سأكون يوماً بذلك الضريح الطاهر المبارك الزينبي لسيدة الخدر وشرف الفخر (زينب أبنةُ علي)؟؟".

وجاء أوان تحقق الامنيات والاحلام، كيف لا وهي بعين أبواب الارض والسماء عليهم صلوات الله أجمعين وابتهلت لله بصبر ودعاء يشّق عباب السماء بالزيارة.

وعاشت هاجر قصة التهيؤ بكل تفاصيلها.. وينابيعها الطاهرة العذبة.

وكانت مما آلت به على نفسها أن تتزود أكثر وأكثر معرفة ووعيا ومنهجا لعقيلة الهاشمين عليها السلام إن كتب الله لها الزيارة (بأسبوع معرفي متكامل).

ها هي إذاً تعيش بين أجنحة تحقق الحُلم والسفر الى قبرها المبارك الطاهر، ومن الحري بها الآن أن تبرّ بقسمها وعهدها الذي عاهدت به.

وبدأت بكتب كانت بين يديها وجمعت كتباً أخرى من مكتبات الأقارب، واشترت مجموعة كتيبات تحكي عن تلك الخفرة العظيمة سيدة الاعلام وبوابة التقوى وجبل الصبر وحاملة الرسالة المحمدية العلوية الحسينية، وذلك أقل ما تقدمه هاجر لتلك السيدة العظيمة بل لنفسها أولاً لأنها سترتقي وتتطهر بماء النهج الزينبي الاكمل والأقوم.

البداية مع "ملهمة الثوار"

كانت البداية مع كلمات قرأتها من كتابها الاول هامت في بحورها شوقا وعشقاً وهي تبحر بفضاء الكلمة إذ تقرأ:

إن كان للرجال مفخرة وهو علي بن ابي طالب رجل الحق والصدق ومعدن الفكر والعدل، فإن زينب عليها السلام مفخرة للنساء قاطبة، فمن الامام علي نستمد الثبات ومن زينب نتقدّ بالنهج القويم.

زينب هي ملهمة الثوار، زينب هي السيف القاطع والمشعل الذي يقود المسيرة، فالمرأة اليوم ستنال الحظوة إذا ما كانت كالفصيل لفخر المخدرات، فالعقيلة الحوراء لم تكن أم المصائب فقط، رغم المعاناة التي تحملتها والمآسي التي تكبدتها بل أم لكل الفضائل والمناقب ويبقى لربيعها الفواح فصول متنوعة إذ يطالعنا قول المعصوم لها عليه السلام: "أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة"

 فهي تاج من ذي الإنجيل المحمدي، وبطولتها في الدفاع عن قيادة السماء مسرح يكشف عن شدة بسالتها فتارة تدافع قاتل الحسين، وأخرى تحمي بقية آل محمد من سيف الجلاد: "فإن كنت قد عزمت على قتله فاقتلني قبله".

كلمات تدوي في عنق الزمان لتعلمنا معنى المدافعة والإيثار لصالح القيم.

وسرحت هاجر مع وقع هذه الكلمات لتخوض عباب الفكر، تُراها أيُ أمراة تلك التي حفرت أسمها بأحرف من ذهب في سجلات التاريخ، وبكل قوة وصلابة رغم فداحة الخطب وعظيم المصاب؟!

ومازالت هاجر تسرح بهذه الصور، حتى غلبها النوم ظاهراً وطارت روحها لعالم الفخر الملكوتي الزينبي الزهرائي باطنا بأحلام الوصل والسير على المنهج القويم.

ومن هنا قررت الرجوع للبيئة العظيمة التي تربت بها الحوراء عليها السلام مع كتبها التي باتت تعشقها ولا تُحب أن تفارقها بكل لحظاتها لينابيعها الزينبية المتدفقة والممتدة لتلك العظيمة زينب عليها السلام.

وهكذا بدأت لتقرأ: "لم تكن ربيبة الدلال"

لزينب الطهر كرامة يعرفها من قصدها، ولهذه الكرامة منبع؛ فالقرآن مربيها والكرار مغذيها، لم تكن ربيبة الدلال فهي وارثة الزهراء لم تخرم مشية أمها البتول، حجة على كل البشر، ألم تكن عفيفة رغم العدى؟! وحشمة طول المدى؟! فلماذا بدلنا الحوراء بحمالة الحطب؟! أعشقنا آكلة الاكباد فاستهوتنا فتنتها؟! أم أن زينة الشيطان أغرتنا فلبسناها كما يهوى ونسينا قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)، لقد ضاعت العفة في زمن قاتلت زينب من أجلها، وولى الحياء فكانت القدوة بنات طارق.

لهذا كان لزاماً على كل مؤمنة أن تضرب أروع الأمثال في الاحتشام والاستقامة على الطريق.

الحجاب رفيق.. ما رأينا لزينب شخصاً ولا سمعنا لها صوتاً

وبقيت هاجر تسرح بمخيلتها فيعالم العفة ذلك لتُكمل السطور:

ومن أهم نماذج العفيفات التي قدمها الإسلام بعد السيدة الزهراء عليها السلام ابنتها عقيلة الطالبيين زينب بنت علي بن أبي طالب وقد بلغت من الحرص على الحجاب والستر حدّ أن تجعل في أول ما وبَّخت يزيد الطاغية عليه رغم كثرة وعظم جرائمه هتك ستور النساء وتعريضهن لأنظار القوم في مسير السبي.

ولا عجب فإن الحجاب والعفاف رافق حياة هذه العظيمة حيث يروى أن يحيى المازني قال: "كنت في جوار أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة المنورة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله تخرج ليلاً والحسن عليها السلام عن يمينها والحسين عليها السلام عن شمالها وأمير المؤمنين عليها السلام أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين عليها السلام فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن عليها السلام مرة عن ذلك فقال عليها السلام: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب عليها السلام "

ورغم ما كانت تقرأ -هاجر- وثقتها بعظيم موقع ومنجزات هذه السيدة العظيمة المهابة الاّ انها بقيت منتظرة الاسباب والامور التي تكاتفت لتصوغ هذه الدرة الاروع أبنة علي عليه السلام لتكون مناراً لكل النساء وعلماً لكل صبر ووفاء.

إعداد إلهي..

واستمرت لتقرأ:

إن التربية الملتزمة الواعية توصل المرأة إلى منزلة القيادة والقدوة والكمال، للنساء بل للرجال أيضا، كما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بعض النساء المميزات في حركة التاريخ، ومن هؤلاء النساء السيدة زينب عليها السلام التي جسّدت مختلف أدوار المرأة.

ويبدو جليّا لنا من خلال تتبع حياة هذه المرأة العظيمة أنها كانت معدة إعدادا إلهيا خاصاً للقيام بهذا الدور العظيم الذي حفظ الإسلام من التحريف، فقد ذكر المؤرخون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين علم بمولد زينب عليها السلام وجم وبكى وضمها إلى صدره وهو يوسعها تقبيلاً، حتى أثار ذلك عجب أمها سيدة نساء العالمين فقالت: "ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عينا"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة أعلمي أن هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصب عليها الرزايا والمصائب". 

وفي بعض الروايات: "إن الحسين عليه السلام إذا زارته زينب يقوم إجلالا لها، وكان يجلسها في مكانه".

وهنا تعبت (هاجر) بدنيّاً لقراءتها المستمرة لكن روحها مازالت عطشى وبشوق وتوق غامر لتتبع أسرار تلك الحُرة الابية اللبوة العلوية فنامت وكتابها الحبيب على صدرها لتصحو على غد زينبي مورق.

بدأت هاجر من جديد بإشراقة شمس الصباح المزدانة بالحب والامل لتكمل كل أعمالها المنزلية بقوة وحماسة ما عهدتها من قبل وكأن سيدة الخدر نفثت في جلبابها سحرا وملأت قلبها نورا وهاجاً خفاءً وسراً لتدخل وتتزود من كتبها.. ها قد عادت بعد أن أنهت عملها المنزلي لتقرأ:

قبسٌ من صفاتها الطيبة العظيمة

-عبادة زينب عليها السلام: كانت تقضي عامة لياليها بالتهجّد وتلاوة القرآن، وفي رواية: أن الحسين عليه السلام لما ودّع أخته زينب وداعه الأخير قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل.

- شجاعتها: قال ابن مرجانة سائلاً عنها: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه، فأجابته إحدى السيّدات: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم.

فأجابته عليه السلام بشجاعة أبيها محتقرة له قائلة: "الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة".

- تسليمها: وكذلك عندما خاطبها مستهزئاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته قائلة: "ما رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلاً، هؤُلاَءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يا بْنَ مَرْجَانَةَ..".

د- ثباتها ومواجهتها للظالمين:

قال بشير بن خزيم ألأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي يومئذ، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: " فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ...َأتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا..."

وهنا طافت بروح هاجر أشباح الغدر ووقع صليل سيوف القتل بواقعة ما شهد لها التاريخ من مثيل واهجت بها العبرات والزفرات من أسياد الارض والسموات الذين منعوا ماء الفرات واختلطت بالعين دمعة وبالقلب زفرة وحسرة لتلعن الظالمين معاهدة أنها ستزور زينب عليها السلام وستبقى مستوحية لتلك الروحانية العالية بكل وقت وزمان بل ستنشر ذلك العبق الطاهر مع كل حديث ومقال وكذلك ستستمر بالقراءة والاطلاع اكثر واكثر عن اهل البيت عليهم السلام واستقصاء سيرتهم العظيمة فخراً بان لنا قادة وسادة وأبواب لله كمحمد واله الأطهار الاخيار.

2019/01/12

ما لا تعرفه عن أبواب مرقد الإمام الحسين (ع)!

أهم الأبواب القديمة لحرم الإمام الحسين عليه السلام هي:

1 ـ باب القبلة: ويقع في جهة القبلة للروضة في منتصف الضلع الجنوبي. ويبلغ عمق مدخله 18 متراً وعرضه 5.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 6 أمتار وعرضها 4 أمتار. وقد رفع هذا الباب في السنوات الأخيرة ونصب محله باب جديد. ويعتبر هذا الباب أقدم الأبواب الأخرى في الروضة الحسينية، وتعلوه ساعة كبيرة تجلس على برج ارتفاعه من أعلى الساعة إلى مستوى أرضية الصحن 25 متراً.

2 ـ باب الزينبية: ويقع من الجهة الغربية من باب القبلة. وقد سمي بهذا الاسم لأنه يؤدي بالخارج من الصحن إلى (تل الزينبية) ويبلغ عمق مدخله 10 أمتار، وعرضه يتفاوت بين 2.50 و 3.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

3 ـ باب السدرة: ويقع في زاوية الصحن من الجهة الشمالية الغربية. وقد سُمي بهذا الاسم تيمناً بشجرة السدرة التي كان يستدل بها الزائرون على موضع قبر الحسين، ويبلغ عمق مدخله 13 متراً وعرضه 3 أمتار، وتتقدمه بوابة يبلغ ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار، وقد نقل إليه باب القبلة القديم ونصب في مدخله.

4 ـ باب الصحن الصغير (باب الشهداء): وكان يطلق عليه أيضاً باب الصافي. ويقع في الجهة الشرقية من الصحن المؤدي إلى مرقد العباس وهو من الأبواب القديمة. ويبلغ عمق مدخله 16 متراً وعرضه 3.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

5 ـ باب قاضي الحاجات: ويُعرف أيضاً بباب المراد. ويقع في الجهة الشرقية للصحن مقابل سوق العرب وهو من الأبواب القديمة أيضاً. ويبلغ عمق مدخله 16 متراً وعرضه 3.50 متر، تتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

 أما الأبواب الحديثة فهي:

باب رأس الحسين: وعرف بهذا الاسم لأنه يقابل موضع رأس الحسين (ع)، ويقع بين باب الزينبية والباب السلطاني في الجهة الغربية من الصحن. وقد نفذ هذا الباب من الإيوان الناصري أو الحميدي، ويبلغ ارتفاع مبنى المدخل حوالي 15 متراً وتعلوه ساعة كبيرة تعتبر تحفة معمارية رائعة. أما عمق المدخل فيبلغ 10 أمتار وعرضه يتفاوت بين 4.50 متر في بدايته و6 أمتار في نهايته، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

باب الكرامة: ويقع في الزاوية الشمالية الشرقية من الصحن مقابل سوق الحسين الشهير الذي أزيل قسم منه سنة 1980م، والقسم الآخر سنة 1991م. والمدخل معقود ومزين بالقاشاني الجميل ويبلغ عمقه 12 متراً وينحرف قليلاً في نهايته وعرضه 3.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

باب الرجاء: ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من الصحن، مقابل خان الباشا القديم الذي شيدت على أنقاضه الحسينية الطهرانية التي سميت بعد ذلك بالحيدرية والتي أزيلت عمارتها عام 1991م من قبل الحكومة العراقية. ويبلغ عمق مدخله 16 متراً وينحرف قليلاً عند نهايته أما عرضه فيبلغ 3.50 متر، تتقدمه بوابة ارتفاعها 5 أمتار وعرضها 3.50 متر.

باب الصالحين: يعتبر هذا المدخل من المداخل الجديدة التي فتحت سنة 1960م في الجهة الشمالية من الصحن، ويقع في إيوان الوزير، ويبلغ عمقه 10 أمتار وعرضه 7 أمتار، تتقدمه بوابة يبلغ ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.


*عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية ـ الدكتور المهندس المعماري رؤوف محمد علي الأنصاري

2018/11/22

كيف تعامل النبي (ص) مع الشباب؟

رَبى النبي (ص) جيلاً مؤمناً وملتزماً بمفاهيم وقيم الإسلام، وكان الغالب في هذا الجيل شريحةِ الشباب. فعادة ما يتفاعل الشباب مع كل جديد، وهم أكثر الناس تأثراً، وأسرعهم استجابة، وأشدهم تفاعلاً، بخلاف جيل الشيوخ الذين ـ في الغالب ـ ما يقفون حجر عثرة أمام أي تغيير أو إصلاح، وأشد الناس تمسكاً بالقديم، ورفضاً للحديث والجديد.

وكان للشباب دور رئيس في الالتفاف حول الرسول محمد (ص)، ودعم ما جاء به النبي (ص)، والدعوة إليه، والدفاع عنه. كما كان للنبي (ص)، اهتمام خاص برعاية الشباب وتربيتهم وإعدادهم لتحمل المسؤوليات الكبيرة.

وما نريد التركيز عليه هو: كيف تعامل النبي (ص)، مع الشباب؟ وما هي القواعد التي ربى عليها النبي (ص)، شباب الجيل الأول؟

يمكننا أن نلخص الإجابة على هذه التساؤلات ضمن النقاط التالية:

1ـ التربية المتوازنة:

إن النبي (ص)، رَبىَّ الشباب على التربية المتوازنة القائمة على الموازنة بين العاطفة والعقل، الروح والجسد، العلم والعمل. وهذا التوازن الدقيق هو المنهج السليم في التربية، بَيْدَ أن طغيان جانب على حساب الجانب الآخر، سيؤدي إلى خللٍ في بناء الذات، وانحراف عن منهج الإسلام.

وقد كان النبي (ص)، يقف ضد كل توجه غير صحيح، أو تفكير خاطئ، أو ممارسة سلبية؛ من ذلك ما روي أن النبي (ص)، جلس للناس ووصف يوم القيامة، ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ولا يقربوا النساء ولا الطيب، ويلبسوا المسوح (1)، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويخصوا المذاكير، فبلغ ذلك النبي (ص)، فأتى منزل عثمان فلم يجده، فقال لامرأته: "أ حق ما بلغني؟ " فكرهت أن يكذب رسول الله (ص)، وأن تبتدئ على زوجها فقالت: يا رسول الله، إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك، فانصرف رسول الله (ص)، وأتى عثمان منزله فأخبرته زوجته بذلك، فأتى هو وأصحابه إلى النبي (ص)، فقال: "ألم أنبأ أنكم اتفقتم؟ " فقالوا: ما أ ردنا إلا الخير. فقال (ص): "إني لم أؤمر بذلك، ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وافطروا، وقوموا وناموا، فإني أصوم وأفطر، و أقوم وأنام، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثم جمع الناس وخطبهم، وقال: "ما بال قوم حرموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا! وأما أنا فلست آمركم أن تكونوا قسسة ورهبانا، إنه ليس في ديني ترك النساء واللحم، واتخاذ الصوامع، إن سياحة أمتي في الصوم، ورهبانيتها الجهاد، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد، شددوا على أ نفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات (2) والصوامع" (3)

من خلال هذه الرواية نستنتج أن النبي (ص)، قد رفض بقوة التوجه الخاطئ نحو الرهبانية، وترك الطيبات، وأوضح بكل جلاء أنه ليس في الإسلام رهبانية، بمعنى الانعزال عن الدنيا، وترك الزواج، وعدم استخدام الطيب..... إلخ. وإنما الإسلام يدعو إلى التوازن بين متطلبات الجسم ولوازم الروح، والإنسان كما يحتاج لإشباع غرائزه وشهواته المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح، يحتاج كذلك لإشباع ميوله ورغباته المعنوية؛ وأي طغيان لجانب على حساب الآخر سيؤدي إلى خلل في الشخصية، وانحراف عن منهج الإسلام.

وهكذا ربَّى النبي (ص)، أصحابه على التوازن بين متطلبات الجسم، ومستلزمات الروح.

وفي هذا العصر حيث طغت المادية فيه على كل شئ، وأصبح شعار الفلسفة المادية الحديثة هو التركيز على كل ما هو مادي، وتجاهل كل ما هو معنوي وروحي.... يحتاج كل شاب أن ينتبه إلى ذاته وأن يسعى لتحصيل الكمالات الروحية، وهذا يتطلب مجاهدة النفس، والتدرب على ممارسة الرياضة الروحية، وترويض الذات على سلوك طريق الحق والخير والصلاح.

وليكن شعارنا قول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(4).

2ـ الرفق بالشباب:

تعامل الرسول (ص)، برفق مع الشباب، وهذا مما زاد في إعجاب الشباب بالنبي (ص)، والتفافهم حوله، وقد مدح القرآن الكريم تعامل النبي (ص)، مع الناس باللين والرفق، يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(5)

وقد كان النبي (ص)،  يحث على الرفق، فقد روي عنه (ص)،  قوله: "إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه "(6) وعنه (ص)،  أيضاً: "إياكم والتعمق في الدين، فإن الله قد جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون، فإن الله يحب ما دام من عمل صالح، وإن كان يسيراً "(7).

والمطلع على سيرة النبي (ص)، يجد الكثير من الأمثلة التي تدل على رفقه (ص)، بالشباب، نذكر من ذلك ما يلي: 

1-عن أنس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده (8).

2 - عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا حدث الحديث أو سئل عن الامر كرره ثلاثا ليفهم ويفهم عنه (9)

3 ـ روى عن زيد بن ثابت قال: كنا إذا جلسنا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا اُحدثكم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (10).

4- عن أبي الحميساء قال: تابعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث فواعدته مكانا فنسيته يومي والغد فأتيته اليوم الثالث، فقال (عليه السلام): يا فتى لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيام (11).

5- عن جرير بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت، فأبصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ ثوبه فلفه ورمى به إليه وقال: اجلس على هذا، فأخذه جرير فوضعه على وجهه وقبله (12).

6- عن سلمان الفارسي قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متكئ على وسادة فألقاها إلي، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراما له إلا غفر الله له (13).

من هذه النماذج من سيرة النبي (ص)،  يتضح لنا رفق رسول الله (ص)،  بالشباب، وتعامله معهم بكل لطف وليونة، وهذا من أسباب نجاح الدعوة، واستقطاب الشباب لرسالة الإسلام. وهذا ما يجب أن يتصف به الدعاة والقادة والعلماء إذا ما أرادوا استقطاب الشباب، والتأثير فيهم، وكسبهم نحو التدين، ومنهج الإسلام.

3ـ الثناء على الشباب:

للثناء تأثير كبير على النفوس، وبالخصوص نفوس الشباب،  ولذلك كان النبي (ص)، كثيراً ما يثني على الشباب المؤمن؛ فقد روي عن النبي(ص)،  قوله: "ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً "(14) وعنه (ص)، أيضاً أنه قال: "إن أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقاً "(15) وقال (ص)،  أيضاً: "فضل الشاب العابد الذي تعبد في صباه على الشيخ الذي تعبد بعدما كبرت سنه كفضل المرسلين على سائر الناس "(16)

وقد كان لثناء الرسول (ص)، على الشباب دور مهم ومؤثر في كسب المزيد منهم، والتفافهم حول قيادة النبي (ص)، وهذا ما جعل للشباب دور فاعل في تقدم الدعوة، ونشر رسالة الإسلام إلى مختلف المناطق. فالشباب هم عماد أي تقدم، وسر نهضة الأمم، وقوة أي مجتمع؛ لأنهم في مرحلة القوة، والقدرة على العطاء والإنتاج، والاستعداد للتضحية والفداء، وحب المغامرة، وتوكيد الشخصية.

وهذا ما يجب أن يقوم به أي قائد أو مصلح أو زعيم يسعى نحو التغيير والإصلاح، إذ يجب كسب الشباب، والعمل على إقناعهم لخدمة الإسلام، والمساهمة في تقدم المجتمع والأمة.

4ـ خلق الثقة في نفوس الشباب:

إن من أهم القواعد في بناء الشخصية وصنع النجاح هو الثقة بالنفس، والقارئ لسيرة النبي (ص)، يلاحظ أنه (ص)، قد عمل على صنع ثقة الشباب بأنفسهم، فقد قام (ص)، بإعطاء الشباب الكثير من المسؤوليات الكبيرة والمهمة، مما أدى لزيادة الثقة بأنفسهم، وتنمية إرادتهم.

والأمثلة على تولية الرسول (ص)، للشباب مسؤوليات كبيرة ومهمة، عديدة نذكر منها:

1ـ إن أول مبلغ بعثه النبي (ص)، لنشر الإسلام في المدينة المنورة كان مصعب بن عمير، وكان عندئذٍ في ريعان شبابه. وقد استطاع مصعب بالرغم من حداثة سنه أن يقنع الكثير من الناس في المدينة المنورة ـ وكانت المدينة يومها من أهم مدن الجزيرة العربية ـ بالإسلام. وقد عمل مصعب بكل جد وإخلاص من أجل التأثير في الناس، وإقناعهم برسالة الإسلام السمحة.

2ـ بعد فتح مكة بفترة زمنية قليلة، اضطر الرسول (ص)، للخروج منها بجيشه، والتوجه نحو جبهة القتال، وكان لابد من تعيين قائد لمكة لإدارة شؤونها، وقد اختار النبي (ص)، من بين جميع المسلمين شاباً لم يتجاوز الواحد والعشرين عاماً، وهو (عتاب بن أسيد) كقائد لمكة المكرمة في ظل غياب النبي (ص)، وأمر النبي (ص)،  (عتاب بن أسيد) أن يصلي بالناس وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة.

3ـ في أواخر حياة النبي (ص)، عبأ (ص)، المسلمين لقتال الروم، وضم جيشه كبار الضباط وأمراء الجيش ورجال المهاجرين والأنصار وشيوخ العرب والشخصيات البارزة آنذاك.

لاشك في أن قائد هذا الجيش العظيم لابد وأن يكون ذا شأن ومنزلة يختاره الرسول (ص)، لهذا الأمر الخطير من بين نخبة العسكر، فمن يا ترى حمل هذا اللواء؟

لقد استدعى الرسول (ص)، أسامة بن زيد، وعقد له لواء القيادة وخوّله إمارة الجيش. واستعمله النبي (ص)، وهو ابن ثماني عشر سنة.

وبات على الجميع أن يمد يد الطاعة والولاء لهذا القائد الشاب الذي عينه الرسول (ص)، بالرغم من وجود كبار القوم في هذا الجيش المتجه لقتال الإمبراطورية الرومية.

ولا يخفى أن الشرط الأساس لاختيار الشباب هو كفاءتهم وصلاحيتهم، ويتضح هذا الشرط جلياً في خطبه (ص)، وأحاديثه.  فالشباب الذين كان يقع عليهم اختيار النبي (ص)، لتقليدهم المناصب الحساسة في الدولة كانوا يتمتعون بالكفاءة واللياقة المطلوبة من حيث العقل والفكر والذكاء والإيمان والعلم والأخلاق والتدبير وبقية الجوانب (17).

ومن هذه النماذج التاريخية يتبين لنا كيف أن النبي (ص)، قد أجاد توظيف طاقات الشباب الخلاقة، واستطاع أن يزرع في نفوسهم الثقة بالنفس، والإرادة القوية، والعزيمة الفولاذية.. مما جعلهم يقومون بأدوار كبيرة، ويتحملون مسؤوليات خطيرة؛ كان لها الفضل الأكبر في نشر راية الإسلام خفاقة في بقاع الدنيا.

الخلاصة

من خلال تعامل النبي (ص)، الحكيم مع الشباب استطاع أن يربي جيلاً مؤمناً وملتزماً بتعاليم وقيم الإسلام، وكان لهذه الطليعة المؤمنة ـ فيما بعد ـ دور مهم ومؤثر في التبليغ للإسلام، ونشر مفاهيمه وقيمه ومثله.

وهكذا، يجب على كل قائد ومصلح وزعيم أن يعمل على كسب الشباب، وتوظيف طاقاتهم الخلاقة فيما يخدم المجتمع والأمة، واستثمار مواهبهم الإبداعية في التطوير والتقدم؛ كما عمل الرسول محمد (ص)، مع الشباب، فرسول الله (ص)، هو القدوة والأسوة، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (18)

ومن الضروري العمل بجد وإخلاص من أجل استقطاب الشباب نحو التدين، وإنماء القيم الأخلاقية لديهم، وتقوية البنية الثقافية عندهم؛ وتزداد المسؤولية عندما نعلم بما يواجهه شباب اليوم من حملات موجهة ومخططة من قبل وسائل الإعلام الفاسد، وشبكات الفساد والإفساد، ومافيا المسكرات والمخدرات.. وكلها تهدف إلى إفساد الشباب المسلم، وإبعاده عن دينه وقيمه وأخلاقه، ونشر التحلل الأخلاقي، والميوعة السلوكية لدى جيل الشباب.

إن على كل قادر من العلماء والمصلحين والمفكرين وغيرهم العمل بكل ما يمكن من أجل الاهتمام بقضايا الشباب، والمساهمة في حل مشكلاتهم، والعمل على استقطابهم نحو التدين، واستثمار مواهبهم وقدراتهم في عملية البناء الحضاري للأمة.


الهوامش:

1ـ المسح بكسر الميم وسكون السين: الثوب من الشعر. والجمع: مسوح.

2ـ الديارات: جمع دير، وهو خان النصارى.

3ـ مستدرك الوسائل، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي، دار الهداية، بيروت ـ لبنان ـ الطبعة الخامسة 1412هـ ـ1991 م، ج16، ص54، رقم 19126

4ـ سورة البقرة: الآية 201

5ــسورة آل عمران: الآيه159.

6ـ ميزان الحكمة، محمد الري شهري، دار الحديث الثقافية، بيروت ـ لبنان، طبع عام 1419هـ،ج3، ص1102، رقم 7354.

7ـ، ميزان الحكمة ج3، ص1104، رقم 7387.

8ـ مكارم الأخلاق، أبو نصير الحسن بن الفضل الطبرسي، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، الطبعة السادسة1392ـ 1972م،ص19

9ـ مكارم الأخلاق،ص20.

10ـ مكارم الأخلاق،ص21.

11ـ مكارم الأخلاق،ص21.

12ـ مكارم الأخلاق،ص21.

13ـ مكارم الأخلاق،ص21.

14ـ ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج4، ص1401، رقم 9095.

15ـ ميزان الحكمة،ج4، ص1401، رقم 9096.

16ـ ميزان الحكمة،ج4، ص1401، رقم9093.

17ـ الشاب بين العقل والعاطفة (بتصرف)، الشيخ محمد تقي فلسفي، مؤسسة البعثة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1412هـ ـ1992م، ج1، ص20.

18ـ سورة الأحزاب: الآية 21. 

2018/11/07