تاريخ
2020/05/01

كيف تعامل المسلمون تاريخيًا مع الأوبئة في شهر رمضان؟

- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع «الأئمة الإثني عشر»

يحلّ شهر رمضان المبارك على المسلمين في هذا العام، في أثناء جائحة عالميّة منذُ كانون الأول/ ديسمبر 2019.

ويُطرح سؤال عن تعامل المسلمين سابقًا في أثناء شهر رمضان مع الأوبئة،  وهنا تقرير رصده «موقع الأئمة الاثني عشر» عن تاريخ الأوبئة في العصور الاسلامية، خلال شهر رمضان المبارك.

قال باحثون ومؤرخون إنه "مر على المسلمين جائحتان في شهر رمضان، أولاهما طاعون مسلم بن قتيبة في العصر الأموي بمدينة البصرة في العراق عام 131هـ، وثانيهما ما سمي الوباء العظيم، الذي وقع ببلاد الشام عام سنة 749 هـ، وانتقل إلى مصر.

وباء رمضان بالعصر الأموي

رصد الباحث أحمد العدوي في كتابهِ "الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية" وقوع نحو 20 طاعوناً ووباءً في العصر الأموي. وأشار إلى أن الطاعون الوحيد الذي ألم بالمسلمين في رمضان كان بالعصر الأموي عام 131ه/ 748م؛ موضحا أنه بدأ بمدينة البصرة في العراق، وأنه ظهر في شهر رجب، واستمر في شعبان ورمضان، وانتهى في شوال.

وقال إنه "كان يحصي كل يوم في سكة المربد بالبصرة ألف جنازة، وإن أشهر من ماتوا بهذا الطاعون أبو بكر أيوب بن أبي تميمة كيسان، الذي قيل عنه إنه سيد أهل البصرة"، على حد وصف الباحث.

وناقش أحمد العدوي ما تسبب به الطاعون من كوارث ديموغرافية كان لها انعكاساتٍ سياسيّة لاحقة، ولفت إلى أن عزوف خلفاء بني أميّة عن الإقامة في دمشق نظرًا لتوالي فورات الطاعون على المدينة، واتقاءً للوباء أيضًا.

"رمضان والوباء العظيم"

من جانبه، أشار رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة الأسبق، سعد عبدالرحمن، إلى ما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية"، عن موت الشاعر صلاح الدين الصفدي صاحب كتاب "التذكرة" في طاعون سنة 749ه/ 1391م، الذي اجتاح الشام وفلسطين ومصر، ووصل أوروبا، وسمي "الوباء العظيم".

وأضاف عبدالرحمن، عبر صفحته بـ"فيسبوك"، أن الصفدي مات في الطاعون الذي ضرب مصر إبان شهر رمضان عام 764ه/ 1362م، وقد أودى هذا الطاعون بحياة الآلاف من أهلها، خاصة طائفة اليهود.

قدم المؤرخ الصلابي سردًا لأشهر ما وقع من الأوبئة والطواعين بفترات التاريخ الإسلامي، قائلًا إن "طاعون عمواس بزمن (...) الثاني بالشام (18ه/ 693م)، وطاعون الجارف بزمن عبد الله بن الزبير بالبصرة (69ه/ 688م)، وطاعون الفتيات بالعراق والشام (87ه/ 705م)، وطاعون مسلم بن قتيبة بالبصرة لمدة ثلاثة أشهر، الذي اشتد في رمضان، وكان يحصى ألف جنازة يوميا (131ه/ 748م)".

وأوضح أن المسلمين طوروا طرق مواجهتهم للطاعون والأوبئة، وفي العهد المملوكي بنى بعض السلاطين والميسورين "البيمارستانات" والحوانيت أو مغاسل الموتى بالشام، وأغلقت حوانيت الخمر، وترك الناس الفواحش والمنكرات.

أين يذهب الناس في زمن الوباء؟

أكدت محاضرة التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، سمية فتحي، أنه "علينا طرح السؤال 'هل مرّ على المسلمين الأوبئة في شهر رمضان تاريخيًا؟' ويحتاج ذلك إلى بحث تاريخي عميق، ليس في المصادر التاريخية فحسب، بل في كتب الفقه وغيرها".

العصر المملوكي

وأضافت فتحي أنه "جاء في كتاب (السلوك) للمقريزي، عن طاعون سنة (749ه/1348م و787ه/ 1385م)، أن الناس هرعت للجوامع للصلاة والقنوت والتضرع إلى الله برفع البلاء، (...) والدعاء بعدها لرفع الطاعون".

وتابعت أنه "في طاعون سنة (833هـ)، جمع السلطان 40 شريفًا من الأشراف، وأجلسهم بالجامع الأزهر، فقرؤوا القرآن، ودعوا الله تعالى، ودعا الناس معهم وقد امتلأ الجامع بهم"، موضحةً أنه "كان الناس يخرجون للصحراء يصلون بها وراء أئمتهم، و يستصرخون الله رفع البلاء".

في هذا الصدد قال أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الدكتور سعد الحلواني، إن "النوازل والجوائح طالت الأرض جميعها عشرات المرات، وأطاحت في بعضها بالكثير من أهل الأرض، ومنها العالم الإسلامي".

وحول وقوعها في شهر رمضان، لفت إلى أن "بعضا منها بالفعل وقعت في رمضان، إلا أنها ورغم ذلك لم تغلق المساجد بقرارات الحاكم، بل إن الناس كانوا من أنفسهم يبتعدون عن المساجد، وتوجهوا إلى الجبال والصحراء حتى ينتهي الوباء".

وأوضح أنه "لم يثبت منع الصوم في ظل أي جائحة وقعت خلال شهر رمضان"، مضيفا أنه "حتى الحج والعمرة لم يثبت منعهما بسبب جوائح أو نوازل إلا في العام التالي لسرقة القرامطة للحجر الأسود من الكعبة المشرفة".


المصدر: وكالات

موقع الأئمة الاثني عشر

2020/04/25

هل ذكرت النصوص الشرعية ما هي مسؤوليات «الحاكم السياسي»؟

1. إنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن مسؤوليته تجاه الأُمّة الإسلامية الّتي يأخذ بزمام حكمها، فيقول: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته».

فالأمير الذي على الناس، راع عليهم، وهو مسؤول عنهم.

والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرجل، راعية على بيت زوجها وولدها، وهي مسؤولة عنهم.

«ألا فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».[1]

2. ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام علي (عليه السلام) الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي الأعلى تجاه الشعب وما على الشعب تجاه الحاكم، إذ يقول في وضوح كامل: «وأعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق; حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي، فريضةً فرض اللّه سبحانه، لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم، وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقُّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدّين، وتركت محاجُّ السُّنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذلُّ الأبرار، وتعزُّ الأشرار، وتعظّم تبعات اللّه عند العباد».[2]

ثمّ إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة، إذ يقول: «أمّا بعد، فقد جعل اللّه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم».

ثم يشير الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين، رؤوساء ومرؤوسين، وزراء ومستوزرين، وبذلك ينسف فكرة: أنا القانون، أو أنا فوق القانون، فيقول (عليه السلام): «... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له».

وعلى هذا فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الأُمّة العاديّين، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول: «النّاس أمام الحقّ سواء».

3. كما يمكن أن نعرف طبيعة الحكومة الإسلامية من خطبة الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) بعد نزوله بأرض كربلاء، فقال: «اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك».[3]

إنّ من أهمّ الوثائق التي ترسم لنا بوضوح معالم الحكومة الإسلامية الوثيقة التي كتبها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود يثرب بعد ما نزل المدينة المنوّرة، وقد رواه: ابن هشام في سيرته [4]، وأبو عبيد في كتاب «الأموال»[5]، وابن كثير في البداية والنهاية. [6]وهي وثيقة تاريخية مفصّلة، فمن أراد فليرجع إلى محالّه.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب، وهو كالأب الحنون لعامّة المواطنين حتّى اليهود والنصارى إذا عملوا بشرائط الذمّة، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم، ولا يقاتلونهم، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم، وإنّما يمنع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدهم، ترى كلّ ذلك في الآيتين التاليتين:

يقول سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّين ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين* إِنّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذينَ قاتلُوكُمْ فِي الدِّين وأَخرجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهرُوا عَلى إِخرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون).[7]

ويقول: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخذُوا بِطانَة مِنْ دُونكُمْ لا يأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضاءُ مِنْ أَفواهِهِمْ وما تُخفِى صُدُورُهُمْ أَكبرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون).[8]

ولعلّ النظرة الواحدة إلى تاريخ الحكومات الإسلامية يكشف لنا عفوهم وسماحتهم لكثير من الذمّيين من النصارى واليهود، وقد كانت الأقلّيات بين المسلمين يرجّحون الحياة تحت ظلّ الإسلام على العيش مع الدول الكافرة، نذكر هاهنا وثيقة تاريخية ذكرها البلاذري في هذا المجال. قال: "لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص وكانوا مسيحيّين: لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة  أي قسماً بالتوراة لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل  المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه من الظلم والحرمان، وإلاّ فانّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين، فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلّسين[9] فلعبوا وأدّوا الخراج»[10]

إنّ الحاكم الإسلامي، من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه، وفي آلامه وآماله لا أن يعيش في بروج عاجيّة، متنعماً في أحضان اللذة رافلاً في أنواع الشهوات، غير عارف بأحوال من يسوسهم.

يقول الإمام وهو يرسم ملامح الحاكم الإسلامي:

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها».[11]

الهوامش:


[1] كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلاّم بن القاسم المتوفى225هـ، ص 10.

[2] نهج البلاغة: الخطبة216، طبعة عبده.

[3] بحار الأنوار:100/80ـ 81، الحديث 37.

[4] سيرة ابن هشام:1/ 501.

[5] الأموال، ص 517، ط مصر .

[6] البداية والنهاية:2/ 224.

[7] الممتحنة:8 ـ 9.

[8] آل عمران: 118.

[9] التقليس: استقبال الولاة عند قدومهم بضرب الدّف والغناء وأصناف اللهو، راجع المنجد في اللغة.

[10] البلاذري( م279هـ)، فتوح البلدان، ص 143.

[11] نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.

2020/04/08

ما الذي قدمته المرجعية للعراقيين؟
حثّ الإسلام أفراد المسلمين عموماً على الاهتمام بشؤون المسلمين، حتى ورد أن من أصبح لايهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم[١]، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً[٢].

فإذا كان الاهتمام بأُمور المسلمين مطلوباً من افرادهم عموماً، فكيف بعلماء الدين ومراجع المسلمين الذين هم الأعرف بأحكام الإسلام وتعاليمه الشريفة، والأحرى بالجري عليها والأخذ بها. ولا سيما بعد إطلاعهم على مشاكل الأُمَّة بسبب احتكاكهم بالناس، وتعرفهم عليهم، وانشدادهم لهم بحكم مركزهم.

ويشهد على ما ذكرنا أمران معروفان من حال مراجعنا العظام وسيرتهم..

الأول: أن المرجع كثيراً ما يتخلى عن دروسه التقليدية وكثير من التزاماته الخاصة ـ في بعض عباداته والتزاماته ـ نتيجة انشغاله بشؤون المرجعية ومشاكل الناس ومتاعب الأُمَّة، لأنها بنظره أهمّ من تلك الالتزامات التي أفنى عمره فيها اهتماماً بها، وألفها في حياته طويلاً وأحبها.

الثاني: أن المرجع كثيراً مّا يتعرض للمحن والمضايقات من أعداء الأُمَّة والحاقدين عليها، ولولا اهتمامه بأُمور الأُمَّة، ومشاركته لها في آلامها وآمالها، وسعيه لخيرها، ودفاعه عنها، ومطالبته بحقوقها، لما تعرض لذلك.

بل كثيراً ما يكون هو في واجهة المحنة، وعليه ينصب الحقد والنقمة.

وكم وقف علماؤنا الأعلام ومراجعنا العظام من العتاة والظالمين موقف الخصم المدافع عن حقوق المؤمنين المظلومين، والساعي لدفع الظلامات عنهم، واهتموا بمعالجة مشاكلهم ومواساتهم في محنهم وإصلاح أمورهم، وسد حاجاتهم العامة والخاصة..

1 ـ فالمرجع الشهير كاشف الغطاء الكبير (قدس سره) [٣] قد تشفَّع عند السلطان فتح علي شاه في إطلاق سراح الأسرى العثمانيين[٤] من أجل تخفيف حدّة التوتر بين الدولتين، وتجنيب الشعبين المسلمين مآسي ذلك.

2 ـ كما أنه (قدس سره) قد صان النجف الأشرف ودفع عنه غارات الوهابيين التي كانت تقصده وتكاد تفتك به كما فتكت بكربلاء، فأعدّ العُدّة للدفاع بحمل أهل العلم والنجفيين على التدريب على حمل السلاح والدفاع عن البلد، وكان هو (قدس سره) وأولاده وأهل العلم يباشرون ذلك مع الناس[٥]، في وقائع مفصلة استفاضت في تفصيلها أحاديث المؤرخين، وتواترت عند الناس.

3 ـ وكان مفزعاً للمستضعفين وكهفاً لهم في الفتنة المعروفة بين فرقتي الشمرت والزكرت في النجف الأشرف[٦].

كما تحمل عن النجفيين بعض الضرائب الفادحة التي وضعها العثمانيون[٧].. إلى غير ذلك من أعماله الجليلة.

4 ـ وولده الشيخ موسى (قدس سره) [٨] ـ الذي خلفه في المرجعية ـ هو الذي منع الوالي العثماني داود باشا من فرض التجنيد الإجباري على النجفيين[٩]، وقد فرض شخصيته عليه، فكان يعظمه كثيراً[١٠].

5 ـ كما أنه أصلح بين الدولتين الإيرانية والعثمانية[1١]، وجنب الشعبين المسلمين محنة الخلاف بينهما ومآسيه.

6 ـ وسعى في حفظ خزانة العتبة المقدسة في النجف الأشرف، فسجلها ونقلها إلى الكاظمية احتياطاً عليها من غارات الوهابيين[1٢].

7 ـ وأخوه الشيخ حسن[1٣] قد دفع عن النجف الأشرف عادية الوالي العثماني نجيب باشا، حيث إنه بعد أن فتك بكربلاء توجه بجيشه للنجف، للفتك بها وتدميرها، فخرج إليه الشيخ حسن (قدس سره) وسيطر على مشاعره حتى ثناه عن عزمه، فدخل النجف سلماً في قصة طويلة[1٤].

8 ـ ودافع عن الشيعة في موقف له محمود مع علماء بغداد في عهد الوالي المذكور.

9 ـ وكان له موقف مشرف في إخماد فتنة الشمرت والزكرت التي أضرت بالنجف والنجفيين[1٥].

10 ـ والشيخ الجليل صاحب الجواهر (قدس سره) [1٦] قد عرف عنه أنه نهض للنجفيين عند هجوم الطاعون عليهم سنة (1247 هـ) ، وسارع لغوثهم ومواساتهم.

وكذلك كان موقف العَلَم المقدس السيد محمد باقر القزويني (قدس سره) [1٧] حيث وقف في ذلك الطاعون موقفاً مشرفاً لتنظيم أُمور الناس وسد حاجاتهم فيه، وكان آخر من توفى بالطاعون المذكور[1٨].

11 ـ كما أنه قد جدّ واجتهد في مشروع إيصال ماء الشرب للنجف الأشرف حتى أشرف على إنهائه، إلا أن الأجل لم يمهله لإكماله، فبقي معطلاً مدة طويلة، ثم أكمله السيد الجليل السيد أسد الله الرشتي (قدس سره) [١٩].

12 ـ ولما اشتد الغلاء سارع السيد الشيرازي الكبير (قدس سره) لتخفيف وطأته عن أهالي النجف الأشرف، فعين لكل محلة من محلات النجف ولكل فئة من سكانها جماعة يوزعون الحبوب على المحتاجين، واستمر على ذلك حتى حلّ موسم الحصاد الجديد، وارتفعت الشدة عن الناس[2٠].

13 ـ وكان (قدس سره) يعطي فيفضل، وينيل فيجزل، وكان يجمع للفقراء وأهل القرى والبوادي ما يحتاجون إليه من ألبسة وأطعمة في السنة مرتين[2١].

14 ـ ولما ذهب إلى سامراء نصب جسراً من القوارب على نهر دجلة أمامها بلغت كلفته ـ فيما قيل ـ ألف ليرة عثمانية، لتسهيل العبور على الناس والزوار، وله منشآت خدمية مهمة في سامراء[2٢].

15 ـ ولما رأى المرحوم الشيخ محمد الشربيان  ي (قدس سره) [2٣] ما يتعرض له الحجاج على الطريق البري من النجف الأشرف على جبل «حايل» من مخاطر ومهالك، ونصب وعطب، جهد في منع الطريق، وحرّم سلوكه حفاظاً على أرواح المؤمنين، مما اضطر الحكومة الإيرانية إلى منع حجاجها منه.

ووافقه بقية العلماء لما استبان لهم صحة وجهة نظره بالتجربة، فانقطع الطريق تماماً في بعض السنين[2٤].

16 ـ وقد أنشأ المرحوم المقدس المرجع الديني الشيخ محمد طه (طاب ثراه) خاناً كبيراً في الهندية ينزله الزائرون للإمام الحسين (عليه السلام) في طريقهم الى كربلاء ، من أجل تخفيف معاناتهم.

17 ـ ثم تتابعت الأحداث التي بذل فيها العلماء أنفسهم للدفاع عن الإسلام والمسلمين، وتدبير أمورهم، من أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى أواسط القرن الرابع عشر[2٥].

18 ـ ولما اصطدم الأتراك بالنجفيين في أواخر أيامهم في العراق ووجهوا مدافعهم نحوهم فأصابت بعض القذائف الصحن الشريف وألحقت بعض الأضرار به، أبرق المرحوم المرجع الكبير السيد محمد كاظم اليزدي (قدس سره) للأستانة محتجاً على ما حصل من التعدي على الصحن الشريف وعلى الناس[2٦].

19 - وأنشأ السيد اليزدي المذكور (قدس سره) خاناً كبيراً في النجف الأشرف في محلة العمارة للزائرين ينزله من لايتيسر له المأوى منهم، وبقي هذا الخان الى أيامنا حتى تعطّل، فراجع بعض أولاده سيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) فجعله مدرسة دينية بعد أن غير فيه وحوّر ، وأنفق سيدنا الجدّ (قدس سره) نفقات باهضة من أجل ذلك لكنه هُدّم في الأعوام القريبة في ضمن ما هدم من محلة العمارة.

20 ـ وعرض المرجع الشهير السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) في أواسط القرن المذكور على الوصي حين اجتمع به ـ فيما بلغنا ـ أن يضع جسراً على نهر دجلة مقابل سامراء لتسهيل الأمر على الزائرين، حيث استهلك الجسر الذي صنعه السيد الشيرازي (قدس سره) قبل نصف قرن، وكان العبور منحصراً بالطريق النهري آنذاك لكنه لم يتمّ له ما أراد.

21 - كما أنه حاول التخفيف عن معاناة الناس كافة، في النجف الأشرف لما ظهرت بوادر أزمة الحنطة بسبب الحرب العالمية الثانية، حيث يقول المتحدث : «فأخذ على عاتقه جلب الأطعمة الى النجف وأمر بزيادة الأفران ومضاعفة الترفيه حتّى صارت الحرب من وسائل النعمة والاغداق على كثير من الفقراء»[٢٧].

22 ـ وقد طالب المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدس سره) وجماعة من أهل العلم بحقوق الشيعة في العراق في العهد الملكي، واستقطب جمعاً كثيراً في ذلك، إلا أن الناس الذين نهضوا معه خذلوه، ولم يستطع أن يحقق شيئاً; بل عانوا الكثير من الدولة في أعقاب ذلك.

23 ـ وقد كان سيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) في عهد مرجعيته الطويل الذي عشناه ملجأ للمؤمنين في العراق وخارجه، وكان دأبه القيام بحلّ مشاكلهم، والمطالبة بحقوقهم، ودفع الظلامات عنهم، والاهتمام بشؤونهم، وبتثقيفهم دينياً، وجمع كلمتهم، وإصلاح ذات بينهم.. إلى غير ذلك مما لا يزال الناس يذكرونه به ويشكرونه له، في مختلف البلاد الإسلامية.

وجاء مَن بعده ليؤدوا ما عليهم في هذا الجانب ضمن قدراتهم المحدودة وظروفهم الصعبة، والأوضاع المعقدة التي مضوا فيها بصبر وحكمة، وليس لهم إلا الله تعالى، وعليه جزاؤهم.

هذا غيض من فيض مما قامت به المرجعيات في العراق في العصور القريبة. ولا يتيسر لنا استعراض ما قامت به في العصور الأسبق، ولا ما قامت به المرجعيات في الأقطار الأخرى، ولا سيما إيران حيث تكون المرجعيات فيها أوسع قدرة وأعم نشاطاً. لعدم تيسر مصادر الكثير منه لنا، ولئلا يطول المقام بنا.

24 ـ على أن من المعروف من سيرة المرجعيات في العهود الطويلة وإلى اليوم بذل قسط من الحقوق الشرعية التي تصلهم لإقامة المشاريع العامة النافعة، كالمساجد والحسينيات، وأماكن ايواء المسافرين وغيرها، كما تقوم ببذل قسط آخر منها للمعوزين والفقراء، وتتفقدهم وتحسن إليهم.

وهذا أمر لا يمكن تجاهله وإنكاره، وقد تقدم بعضه. وإن اختلف سعة وضيقاً باختلاف المراجع، تبعاً لاختلاف قدراتهم، ووجهات نظرهم. ولكثير منهم في ذلك مواقف مثالية. ولا مجال لإطالة الكلام فيه وفي ذكر الأمثلة له بعد وضوحه وشيوعه وكثرته، بنحو يتعذر استقصاؤه أو الإحاطة بأكثره، فضلاً عن استيفائه كله.


الهوامش: 

 [١] راجع الوسائل: 11 باب 18 من أبواب فعل المعروف .

[٢] صحيح البخاري: 1 / 123 .

[٣] الشيخ جعفر الشيخ خضر كاشف الغطاء (1154 ـ 1227 هـ) تولى الزعامة الدينية في عصره ، ولد ونبغ وتوفي في النجف الأشرف وكان معروفاً بالعلم والورع، دافع عن النجف دفاعاً مستميتاً ضد الغزاة وكانت داره مشجباً للاسلحة وثكنة للجنود والمتطوعين .

من آثاره «شرح قواعد العلامة الحلي» ، «غاية المأمول في علم الاصول» ، «أحكام الاموات».

لمزيد من التفاصيل اُنظر: روضات الجنات: 2 /200 .

ماضي النجف وحاضرها: 3 / 131. وأعيان الشيعة: 15 / 306 وغيرها .

[٤] معارف الرجال: 1 / 151 .

[٥] معارف الرجال: 1/ 151 . وماضي النجف وحاضرها: 3 / 137 .

[٦] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 138 .

[٧] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 138 .

[٨] الشيخ موسى الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1180 ـ 1243 هـ) من مراجع التقليد فى النجف الاشرف ولد ونبغ وتوفي فيها،يعرف في العراق وايران بالمصلح بين الدولتين المسلمتين ايران وتركيا.

من مؤلفاته: «احكام الصلاة» و «بغية الطالب» و «كتاب اللقطة والغصب والقضاء».

لمزيد من التفاصيل اُنظر أعيان الشيعة: 49/ 42. ريحانة الادب: 5 / 26. الكنى والالقاب: 3 / 103 وغيرها .

[٩] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 201 .

[١٠] معارف الرجال: 3 / 27. وماضى النجف وحاضرها: 3 / 201.

[١١] معارف الرجال: 3 / 26. وماضي النجف وحاضرها: 3 / 201 .

[١٢] معارف الرجال: 3 / 28 .

[١٣] الشيخ حسن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1180 ـ 1243 هـ) من مراجع التقليد في عصره . جند وعبأ وسلَّح النجفيين للذود عن حياض مدينتهم المقدسة ضد المعتدين .

من مؤلفاته: «أنوار الفقاهة» ، «شرح أصول كاشف الغطاء» ، «تكملة بغية الطالب».

لمزيد من التفاصيل اُنظر: الاعلام: 2/ 201. أعيان الشيعة: 21 / 133. معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: 3 /1040 وغيرها .

[١٤] معارف الرجال: 1 / 213. وماضي النجف وحاضرها: 3 / 148 .

[١٥] ماضي النجف وحاضرها: 3 / 148 .

[١٦] اُنظر: ص 127 هامش 2 .

[١٧] السيد محمد باقر السيد أحمد القزويني المتوفى عام 1246 هـ من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف الاشرف ، نظَّم أمور الناس في حارات النجف أيام اجتياح وباء الطاعون للمدينة . وهيأ ما يحتاجون اليه من اسعافات وعلاج وأقام أماكن عزل للمصابين وتولى تكفين وتجهيز ودفن حوالي أربعين ألفاً ممن ماتوا به وتولى كفالة أطفالهم وعيالهم . وحين أتم كل ذلك على أحسن وجه قدّر الله له أن يكون آخر من توفي بالطاعون.

له «جامع الرسائل في الفقه» ، «حواشي على كشف الامام» و«الوسيط في الطهارة» .

لمزيد من التفاصيل اُنظر: أعيان الشيعة: 13 / 132. الكنى والالقاب: 3/ 62. معارف الرجال: 1 / 123 وغيرها.

[١٨] معارف الرجال: 1 / 124 .

[١٩] معارف الرجال: 2 / 228. وماضي النجف وحاضرها: 1 / 197 .

[٢٠] لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث: 3 / 88 .

[٢١] معارف الرجال: 2 / 235 .

[٢٢] لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث: 3 / 9 .

[٢٣] الشيخ محمد ابن المولى مفضل علي الشربياني(1245 ـ 1322 هـ) من مراجع التقليد في النجف الأشرف عرف برعايته الخاصة للأرامل والأيتام والزوار والفضلاء، شيَّد مدرسة للطلاب وتوفى بلا دار ولا عقار وعليه دين جسيم .

من مؤلفاته: «حاشية فرائد الاصول» ، «حاشية المكاسب» وكتاب في أصول الفقه .

لمزيد من التفاصيل اُنظر: أحسن الوديعة: 1/ 176. أعيان الشيعة: 46/ 188. ماضي النجف وحاضرها: 3 / 554 وغيرها .

[٢٤] معارف الرجال: 2 / 373 .

[٢٥] لمزيد من التفاصيل اُنظر ص 47.

[٢٦] موسوعة العتبات المقدسة قسم النجف الاشرف: 1 / 251 .

[٢٧] مجلة الدليل العدد: 3 ، 4 وهو العدد الخاص بمناسبة وفاته (قدس سره) :135.

2019/10/11

حروب الإسلام: لا تغدروا.. لا تغلوا.. لا تمثلوا

كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ذا شخصية امتزجت فيها صفات النبي والرئيس والقائد والإنسان والمعلم. فلا نكاد نميز منه صفة من غيرها في أي جانب كان من سيرته المقدسة. فلم يكن في الدعوة نبياً وفي الدولة رئيساً وفي الحرب قائداً وفي علاقته بالآخرين إنساناً, ومعلماً في دوره كمثل أعلى. بل كان بكل صفاته معاً في المواقف كلها. لهذا كانت معاركه التي خاضها صورة منفردة لم ولن يعرف التاريخ البشري صورة مماثلة لها في الالتزام الأخلاقي والإنسانية. وقد وضع (صلى الله عليه وآله) للحرب في وصاياه  شريعة سمحاء لا تقل روعة وإنسانية عن شريعته في السلم.   

     لقد كانت للحرب عند النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلسفة تستمد مقوماتها من روح الرسالة الخاتمة التي تضمن للإنسان النظام الأصلح من خلال الانشداد إلى الله سبحانه وتعالى, فالمحارب الذي يعتمده الإسلام كواحد من جنده, عليه أن يجعل الله الغاية الأهم في جهاده ويكون قتاله في سبيله. عن ‏‏ابن عباس ‏قال: "‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ‏إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ ((اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّه لَا ‏تَغْدِرُوا ‏وَلَا‏ ‏تَغُلُّوا‏ ‏وَلَا‏ ‏تُمَثِّلُوا ‏وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ)). كما أوصى (صلى الله عليه وآله) عبد الرحمن بن عوف وقد أرسله إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل فقال له: ((اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم.))[1] وفي أثناء سير الرسول محمدٍ وصحبه إلى بدر، التحق أحد المشركين راغباً بالقتال مع قومه، فردّه الرسول وقال: ارجع فلن أستعين بمشرك. وكرّر الرجل المحاولة فرفض الرسولُ حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين"[2]

     الله يمثل الخير والنور والعدل والحق, فإذا جعل الإنسان جهاده في سبيل الله كان جهاده في سبيل الخير والنور والعدل والحق. وإذا صلح فيه إيمانه وصَدق في الجهاد في سبيل الله, طمع في ما عند الله وهو الخير فزهد في كل مغنم زائل, والتزم بكل ما يرضي الله من صفات أخلاقية, وجعل هدفه من القتال نشر الدعوة الإسلامية الكفيلة بتحقيق الصلاح, فيقاتل لا لشيء إلا لأنه استنفد مع عدوه كل وسيلة لإصلاحه ولأن عدوه بات عائقاً حقيقياً لعملية الإصلاح التي تمثل القضية الأساس لدى المحارب المسلم. ولهذا نجد الإمام علياً بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي اعتمد ـ نتيجة التضييق الذي مارسه الأمويون حياله ـ أسلوب الدعاء في بث تعاليمه وإرشاداته التي هي المضامين الحقيقية للإسلام يقول في دعائه المعروف بدعاء الثغور ((أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لاَ يُبْصِرُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَآئِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَلَوِّحْ مِنْهَا لأِبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَـةِ، وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتَّى لاَ يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالأدْبَارِ، وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَار.

وَأَيُّمَا غَاز غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ أَوْ مُجَاهِد جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الاعْلَى وَحِزْبُكَ الأقوَى وَحَظُّكَ الأوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الأمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الأصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الاهْلِ وَالْوَلَدِ وَأَثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ وَتَوَلَّه بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلاَمَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ فِيْكَ وَلَكَ.

أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيْهِ فِيْ غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَة مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَاد، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَاد، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَآئِهِ حُرْمَةً. فَأَجْرِ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْن وَمِثْلاً بِمِثْل وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ، وَسُرُورَ مَا أَتَى به، إلَى أَنْ  يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إلَى مَا أَجْرَيْتَ لَـهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ. أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم أَهَمَّهُ أَمْرُ الإِسْلاَمِ وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ ألشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً أَوْ هَمَّ بِجهَـاد  فَقَعَدَ بِـهِ ضَعْفٌ أَوْ أَبطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إرَادَتِهِ مَانِعٌ، فَاكْتُبِ اسْمَـهُ فِي الْعَابِدِينَ وَأوْجبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)).


[1] السيرة النبوية بن هشام ج2ص631

[2] أكرم ضياء العمري السيرة النبوية الصحيحة ج2 ص355

2019/09/21

«الغدير» في التراث الإسلامي
أسانيد حديث الغدير التي وصلتنا تنتهي الى نحو المائة وعشرين (120) صحابيا ولاشك ان في سائر الصحابة من سمع الحديث ورواه لكن لم يصلنا، وبعضهم الآخر سمعه لكن كتمه كما يظهر من (أخبار المناشدة)، كتموه حسدا أو بغضا او خوفا، ففي الغدير وقف أمام النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" نحو المائة وعشرين ألفا (120000) من الناس وقد سمع الحديث جلّهم، ففي سنن النسائي (ت303هـ) قال أبو الطفيل لزيد بن أرقم بعد إن روى الثاني حديث الغدير: هل "سمعته من رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"

قال زيد: "ما كان في الدوحات أحدٌ إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه" وفي التاريخ الكبير للبخاري (ت256هـ) عندما طلب احدهم من ابي سعيد الخدري (ت74هـ) ان يروي له منقبة للامام علي "عليه السلام" حدثه بحديث الغدير وقال: "إذا حدثتك فسل المهاجرين والأنصار وقريشا" اي ان هؤلاء كلهم او جلُّهم قد سمعوا هذا الحديث .

لذا من غير المستغرب ان يصلنا الحديث بأسانيد تنتهي الى (120) صحابيا وهو رقم لم يتكرر مثله او ما يدانيه في اي حديث آخر إطلاقا ..

أما تدوين وتوثيق حديث الغدير فيرجع الى القرن الأول من الهجرة، فعندما كان الخلفاء الثلاثة وبعض الامويين يمنعون تدوين أحاديث النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ويحرقون كل ما وقع بأيديهم من الصحف الموثقة لسنّة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" حتى أحرقوا صحف عدد من الصحابة، وعندما كان تدوين الحديث لا سيما مناقب اهل البيت "عليهم السلام" جريمة يُعاقب عليها القانون، كان أهل البيت "عليهم السلام" يحثون أصحابهم على الاهتمام بالتدوين والكتابة بل جسدوا ذلك عمليا فكتب الامام علي "عليه السلام" بنفسه كتاب (الجامعة) وكتبت فاطمة "عليها السلام" (المصحف)، وكتب اخرى توارثها اهل البيت "عليهم السلام" جيلا بعد جيل..

فلم يكن بدُ أمام أصحاب الأئمة من الكتابة رغم ما قد يعرضهم ذلك له من مخاطر ومساءلة أمام السلطة سواء ايام خلافة الثلاثة او ايام الأمويين وقد وصَلَنَا عدد من تلك الكتب ككتاب سُليم بن قيس (من أصحاب الامام علي ع) وكتب اخرى بينما أتلف بعضها في خضم الفتن الكثيرة التي تعرض لها علماء الامامية وكم من مرة قامت السلطة او غوغائيون من سائر المذاهب بإحراق مكتباتهم، وكيف كان فإن هذا الاتصال بالقرن الأول هو ما يميز روايات الإمامية عن سواهم من المذاهب حيث بدأت حركة التدوين عند الآخرين بعد قرن كامل من منع كتابة الحديث وحرق واتلاف المكتوب منه، ولهذا السبب ذاته يرى السيد السيستاني حفظه الله ان روايات سائر المذاهب لا تقاس بروايات الامامية في القوة والمتانة فأنى لك قياس أخبار اتصل توثيقها بمنبعها الأصل بأخرى بدأ تدوينها بعد قرن من الزمن!

ونظرا لأهمية حديث الغدير وكثرة من سمعه ورواه عن النبي ص أفرد العلماء من القرون الأولى كتبا تخصصت في ذكر طرق واسانيد وشروح هذا الحديث، واذا اردنا استقصاء المصادر والمراجع التي وثقت الغدير لكان الرقم مهولا بدءا من كتاب سليم بن قيس الهلالي في القرن الاول والى يومك هذا ..

 

أما الكتب المتخصصة بطرق حديث الغدير وشرحه فقد أحصى منها المحقق البارع السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله في كتابه "الغدير في التراث الإسلامي" ما يقرب من 180 كتابا يتألف بعضها من عشرات المجلدات، وقد توزعت على مختلف الأجيال بدءا من القرن الهجري الثاني وحتى القرن الخامس عشر وكانت حصة القرن الثاني كتابا واحدا من تأليف الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) صاحب المقولة الشهيرة في الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين ع "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على انه إمام الكل"..

وفي القرن الثالث صنّفَ الطاطري كتابا في حديث الغدير بعنوان (كتاب الولاية) وفي هذا القرن أيضا صنَّف ابو جعفر البغدادي كتابا في حديث الغدير.

أما في القرنين الرابع والخامس فحيث راج العلم ونشطت الحركة العلمية في مجمل البلاد الاسلامية كان نصيب حديث الغدير (25) خمسة وعشرين كتابا يتألف بعضها من عدة مجلدات منها:

كتاب (الولاية) لمحمد بن جرير الطبري (ت310هـ) المفسر والمؤرخ السني المعروف، وهو كتاب ضخم يقع في مجلدين تتبع فيه طرق واسانيد حديث الغدير، والطبري هذا وان كان روى حديث الغدير في تفسيره المعروف وروى فيه ايضا بيعة ابن الخطاب للإمام علي ع في الغدير لكنه اغفل هذا الحديث في تاريخه ومن ثم صنف هذا الكتاب في الرد على بعض منافسيه (ابن ابي داوود) الذي قال بضعف حديث الغدير فصنف الطبري هذا الكتاب نكاية بخصمه واظهارا لعلمه ! ..

ومنها ايضا كتاب خصائص الغدير للشيخ الكليني (ت329هـ) ومنها كتاب الولاية ومن روى غدير خم لابن عقدة الكوفي (ت333هـ) وهو زيدي المذهب لكنه ثقة عند السنة والشيعة.

وهكذا يتابع السيد الطباطبائي في كتابه المذكور ما صنفه العلماء في الغدير حتى اواخر القرن الخامس عشر فيحصي ما يقرب من 180 كتابا، وأجدد التذكير مرة اخرى بانه في صدد تتبع الكتب المتخصصة في الغدير فقط وليس مصادر ومراجع الحديث التي ذكرت الغدير ضمنا والا لكان الرقم مهولا جدا فقد نال هذا الحديث من الاهتمام والتوثيق ما لم ينله اي حديث آخر إطلاقا.

2019/08/20

نزاع سياسي أم خلاف فقهي: لماذا يتمسّك الشيعة بالإمامة؟!
على الرغم ممّا يجمع المسلمين من اتفاق حول کليّات الدين، کالأصول، والعقائد، والأخلاق، والأحكام (سواء ما کان منها متعلّقاً بالمناسك العباديّة أو ما يختصّ بالأحكام المدنيّة، والحقوقيّة، والقوانين القضائيّة، والجزائيّة، والسياسيّة، وما إلى ذلك من الشؤون الإسلاميّة)، إلاّ أنّهم يختلفون في جانب ثانويّ من العقائد وبعض تفاصيل الأحكام والقوانين، الأمر الذي جعلهم أتباع فِرَق ومذاهب شتّى.

[اشترك] 

اِنّ من الممكن تلخيص هذه الخلافات في محورين أساسيّين؛ الأوّل: محور العقائد المرتبط بعلم الكلام، والثاني: محور الأحكام (بمدلوله العام) الذي يستند إلى علم الفقه. النموذج البارز للخلاف حسب المحور الأوّل هو الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسائل الکلاميّة. أما النموذج في نطاق المحور الثاني فهو الخلاف في المسائل الفقهيّة بين المذاهب السنيّة الأربعة.

اِنّ أحد أشهر الخلافات بين المذاهب الإسلاميّة هو ذلك القائم بين الشيعة والسنّة في قضيّة الإمامة، حيث يعتقد الشيعة (الإماميّة) اَنّ عليّ بن أبي ‌طالب (عليه السلام) هو الإمام بعد رحيل النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله) والخليفة من بعده، في حين لا يعتبر أهل السنّة عليّاً سوى أنّه الخليفة الرابع من بعد الرسول (صلى الله عليه و آله). في واقع الأمر إنّ الميزة الرئيسيّة التي تميّز مذهب الإماميّة هي الاعتقاد بإمامة الأئمّة الاثني عشر مع حيازتهم لثلاث خصال: العصمة، والعلم الموهوب من الله، والتنصيب من قبل الله تعالى.

هنا يطرح سؤال وهو: هل إنّ أصل هذا الخلاف مرتبط بحقل العقائد والکلام، واِنّ الخلافات الفقهيّة ذات الصلة به لا تعدو أن تکون سوى مسألة فرعيّة ليس إلاّ؟ أم إنّه خلاف فقهيّ صِرف1؟ أم هو نزاع سياسيّ أشبه ما يکون بذلك الذي ينشب بين حزبين سياسيّين على انتخاب مرشّح الرئاسة لکلّ منهما؟

الحقيقة هي أنّ هذه المسألة ـ على الأقلّ من وجهة نظر التشيّع ـ هي مسألة عقائديّة کلاميّة، واِنّ ابعادها الفقهيّة والسياسيّة لها جنبة فرعيّة لا غير. بعبارة أخرى: اِنّ للنظام العقائديّ عند الشيعة حلقات مرتّبة ومتناسقة والإمامة تشکل واحدة من تلك الحلقات، وبحذفها تفقد هذه السلسلة انسجامها وکمالها. من أجل أن يزداد هذا المطلب وضوحاً يتعيّن علينا أن نلقي نظرة إجماليّة على النظام العقائديّ للشيعة، لتتّضح لنا مكانة الإمامة من هذا النظام المتسلسل ويتبيّن السبب من وراء اهتمام الشيعة بهذه القضيّة والدليل على ضرورتها.

إنّ الحلقة الاُولى في النظام العقائديّ للإسلام هي الاعتقاد بوجود الإله الواحد، ومن ثمّ الاعتقاد بصفاته الذاتيّة والفعليّة. اِنّه، ووفق الرؤية الإسلاميّة، فإنّ الله تعالى، کما اِنّه الخالق لکلّ ظاهرة في الوجود، فهو الربّ والمدبّر والمدير لها کذلك، ولا موجود على الإطلاق هو خارج عن مملکة خالقيّته وربوبيّته. والله سبحانه وتعالى لم يخلق أيّ شيءٍ باطلاً أو عبثاً، بل اِنّ الکلّ قد خُلق وفق نظام حکيم، وکلّ الموجودات، التي تنتظم في سلاسل طوليّة وعرضيّة، وبسعة تمتدّ منذ الأزل وحتّى الأبد، تشکّل معاً نظاماً واحداً متناسقاً تتمّ إدارته ـ بمقتضى الحکمة الإلهيّة ـ بواسطة قوانين العليّة.

ومن بين مخلوقات الباري تعالى، التي لا تُحصى ولا تُعد، هو الإنسان الذي يمتاز بصفات من قبيل الشعور، والتعقُّل، والإرادة، والإختيار، الأمر الذي يجعل أمامه مسيرين: أحدهما يتّجه نحو السعادة، والآخر يقوده نحو الشقاء الأبديّ. لهذا السبب فالإنسان مشمول بربوبيّة خاصّة ـ زائدة على تلك الربوبيّة التي تشمل کل ظواهر الوجود غير المختارة ـ ألا وهي الربوبيّة التشريعيّة. أي اِنّ مقتضى الربوبيّة الإلهيّة الجامعة، بالنسبة للإنسان، هو أن توفّر له الأسباب والمقدّمات للسير الاختياريّ والتي من بينها تعريفه بالهدف وتشخيص معالم الطريق الذي سيطويه للوصول إليه، کي يتيسّر له الاختيار عن تعقّل ووعي. على هذا الأساس فإنّ مقتضى الحکمة الإلهيّة هو ترميم النقص الحاصل في ادراکاته الحسيّة والعقليّة عن طريق علوم الوحي.

يتّضح مما تقدّم مدى أهميّة مجموعة الوحي والنبوّة في هذا المضمار. لأنّ الله تبارك وتعالى لو أنّه أوکل الإنسان إلى نفسه ولم يرسل له الأنبياء ليدلّوه على الصراط المستقيم للوصول الى السعادة الأبديّة، لكان کالمضيف الذي يدعو ضيفه للقيام بضيافته ثمّ لا يدلّه على دار الضيافة!

اِنّ تعاليم الأنبياء کانت تشکو ـ تحت تأثير عوامل شتّى ـ التغيير والتحريف، العمديّ منه وغير العمديّ، بمرور الوقت إلى الحدّ الذي كانت تفقد معه خاصيّتها في الهداية، الأمر الذي کان يستدعي بعثة نبيّ آخر لکي يحيي التعاليم الماضية ويأتي ـ إذا لزم الأمر ـ بتعاليم أخرى تضاف إلى سابقاتها، أو تحلّ محلّها.

لعلّ سؤالاً يطرح هنا، وهو: هل اِنّ هذا المنوال سيستمرّ اِلى أبد الآبدين؟ أم اِنّ من الممكن اَن تأتي شريعة متكاملة تبقى مصونة من آفة التحريف فتنتفي الحاجة بذلك إلى بعثة نبيّ آخر؟ اِنّ الإجابة التي يطرحها الإسلام على هذا السؤال هي الخيار الثاني. فكلّ المسلمين متفقون على أنّ الإسلام هو آخر شريعة سماويّة، وأنّ نبيّ الإسلام هو خاتم الأنبياء، واَنّ القرآن الكريم، الذي هو المصدر الأساسي لهذه الشريعة، قد وصل اِلى أيدينا سالماً، خالياً من التحريف وسيبقى کذلك.

غير أنّ القرآن الکريم لم يُبيّن کلّ ما تحتاجه البشريّة من تعاليم بشكل تفصيلي، وأوکل هذه المهمّة الى النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله)، فقد جاء في القرآن ما نصّه: ﴿ ... وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ... ﴾ 2. ويُستدلّ من ذلك على اَنّ المصدر الثاني لمعرفة الإسلام هو «السنّة». اِلاّ اَنّ هذا المصدر ليس مصوناً (من التحريف) کما کان القرآن مصوناً منه. فنفس النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله) قد تنبّأ ـ والشواهد التاريخيّة القطعيّة متوفّرة ـ على انّ أفراداً سينسبون، کذباً، اِلى النبيّ ما لم يقُله وسينقلون عن لسانه أقوالاً عاريةً عن الصحّة.

هنا يأتي سؤال آخر مفاده: ما هو المشروع الذي رسمته الربوبيّة الإلهيّة في سبيل تأمين هذه الحاجة الملحّة بعد رحلة الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله)؟ في هذه النقطة بالذات يُلاحظ اَنّ هناك حلقة مفقودة في سلسلة التشکيلة الفكريّة والعقائديّة لأهل السنّة على خلاف التشكيلة العقائدية للشيعة حيث تسطع ـ في هذا المجال ـ حلقة غاية في الوضوح ألا وهي «الإمامة». بمعنى: اِنّ تبيين أحكام الإسلام وقوانينه وتفسير عموميّات القرآن الكريم ومتشابهاته بعد النبيّ الأکرم (صلى الله عليه و آله) قد أوکل الى أفراد يتمتّعون بعلم أفاضه الله عليهم، ومَلَکةٍ منحهم ايّاها وهي العصمة، وکذا جميع المقامات والمزايا التي کانت للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه و آله) ـ باستثناء النبوّة والرسالة ـ کمقام الولاية والحكومة. بتعبير آخر: اِنّ ربوبيّة الله التکوينيّة قد اقتضت وجود مثل هذه الشخصيّات في هذه الأمّة، واِنّ ربوبيّته التشريعيّة قد اقتضت فرض طاعة هؤلاء على الناس.

إذن حلقة الإمامة هي في الحقيقة استمرار لمجموعة الرسالة، واِنّ عترة الرسول الأکرم (صلى الله عليه و آله) هم الذين واصلوا الطريق وقاموا بمهمّة الرسول (صلى الله عليه و آله) من بعده، حيث أنّهم ـ ومن دون تمتّعهم بمقام النبوّة ـ حفظوا ميراث هذا الرجل العظيم وبيّنوه للأجيال القادمة، وهم قد نُصّبوا ـ ضمناً ـ من قبل الله جلّ وعلا، لإدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، والتصدّي لمقام الحكومة والولاية على الاُمّة، على الرغم من اَنّ هذا الأمر لم يدخل حيّز التنفيذ اِلاّ لفترة وجيزة، کما اِنّه لم يكن قد تيسّر اِلاّ لبعض الأنبياء فقط وفي برهة محدودة من الزمن.

استناداً اِلى ما تقدّم أصبح من الجليّ أنّ مسألة الإمامة أصلاً هي مسألة کلاميّة ولابد اَن تُبحث من باب أنّها قضيّة عقائديّة، لا اَن تُناقش على اَنّها مجرّد فرع من فروع الفقه أو بعنوان أنّها قضيّة سياسيّة أو تاريخيّة.


1. راجع: شرح المقاصد، ج 2، ص 271 . 2. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 44، الصفحة: 272.
2019/08/15

«خير للمرأة ألّا ترى رجلاً».. هل يتقاطع هذا الحديث مع واقعنا؟!

كيف نجمع بين ما يؤسس له منطوق حديث: خير للمرأة ألا ترى رجلاً.. وبين الواقع الاجتماعي للمرأة و الواقع التاريخي للزهراء (ع)؟، هذا هو السؤال المركزي للمقال.

الحديث وإشكالية المعارضة:

في العادة، يحضر نص الحديث في الأوساط الشعبية والفكرية مترافقاً مع مشكلتين أو واحدة منها، وقاسمهما المشترك هو التعارض مع مضمون الحديث:

أـ إمّا المعارضة مع فعل الزهراء (ع) فقد خرجت مع بعض النسوة من بني هاشم لمسجد النبي تحاجج أبي بكر في شأن فدك وألقتْ خطبتها في جماعة من المهاجرين والأنصار، مضافاً إلى اللقاء الذي حصل بينها وبين الشيخين حين جاءا يسترضياها بعد حادثة الهجوم على الدار...إلخ.

ب ـ أو المعارضة مع واقع المرأة المسلمة اليوم؛ فكيف لها أن تأخذ بمضمونه وتعمل به، والمطلوب منها: التعلّم لدينها أو دنياها، وأحياناً: إعالة أبنائها ورعايتهم، أو رعاية نفسها وعلاجها.. إلخ.

لفظ الحديث وصيغه:

الحديث يروى على صيغتين:

 الأولى: «خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها»

عن علي بن أبي طالب أنّ النبي سألَنا ذات يوم: أي شيءٍ خير للمرأة؟ فلم يكن عندنا لذلك جواب، فلما رجعت إلى فاطمة قلتُ: يا بنت محمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنا عن مسألة فلم ندر كيف يجيبه. فقالت: وعن أي شيء سألكم؟ فقلت: قال: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ قالت: فما تدرون ما الجواب؟ قلت لها: لا، فقالت: ليس خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها،  فلما كان العشي جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إنك سألتنا عن مسألة فلم نجبك فيها، ليس للمرأة شيء خير من أن لا ترى رجلا ولا يراها. قال: ومن قال ذلك؟ قلت: فاطمة. قال: صدقت، إنها بضعة مني.

الثانية: «أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر دارها»

إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دخل على الزهراء، وبه كآبة شديدة فقالت فاطمة يا علي ما هذه الكآبة؟ فقال علي: سألنا رسول الله ص عن المرأة ما هي قلنا عورة، فقال:  فمتى تكون أدنى من ربها فلم ندر فقالت فاطمة لعلي ع ارجع إليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها فانطلق فأخبر رسول الله بما قالت فاطمة فقال رسول الله إن فاطمة بضعة مني.

والصياغتان متقاربتان جداً، كما هو واضح من سياق وظرف صدورهما،  وتختلف الاضافات في ذيل الحديث ففي بعضها: فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض، وبعضها الآخر: صدقت، إنّها بضعة مني...وهكذا، كما أن الصياغة الأولى قد تنقل مختصرة بأن سأل النبي الزهراء مباشرة: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ فأجابت: ألّا ترى رجلاً...إلخ.

مصدر الحديث واسناده

وأول ما ينبغي البحث والسؤال عنه هو: المصادر الإسلامية التي روته، سلسلة رواته، ليتسنى بعد ذلك الحديث عن مضمونه وترتيب الآثار عليه والتثقيف لفحواه وما يؤصّله، فما هي مصادره الأولى؟ وهل له إسناد، وإذا كان له اسناد فهل رواته ثقاة؟!.

وعمدة المصادر الشيعية ـ فيما أعلمُ ـ  التي روته ونقلته، أربعة مصادر أوليّة، ومعظم المصادر الأخرى المتأخرة تنقل عنها، وهي كالتالي:

كتاب دعائم الإسلام(ج 2 ص: 215، ح793)، للفقيه الاسماعيلي: النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي(ت 363 هـ)، وثانياً: كتاب: مناقب آل أبي طالب (ج: 3 ص: 341) لابن شهرآشوب المازندراني(ت 588هـ)، ويشترك هذان المصدران في رواية الحديث بصيغته الأولى عن أمير المؤمنين مرسلاً، من غير إسناد.

وأمّا الصيغة الثانية للحديث فنقلتْ في كتاب: (النوادر، ص14)، للسيد ضياء الدين، فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسيني، المعروف  بالراوندي ( من أعلام القرن السادس، توفي بحدود سنة: 570هـ)، وهو وإن رواها مرسلة عن الصادق 8 من غير إسناد، بيد أنّ معظم روايات النوادر مأخوذة من الجعفريات، وقد جاء الحديث بصيغته الثانية مسنداً غير مرسل(ص95، من النسخة المتداولة).

وكتاب: (الجعفريات) أو (الأشعثيات) عنوانان لكتاب واحد، فإذا نسب لراويه :محمّد بن محمّد بن الأشعث سُمي(الأشعثيات) وإذا نسب للمروي عنه: الإمام جعفر الصّادق 8 سمي(الجعفريات)، لمحمد بن محمد بن الأشعث، والحديث بصيغته الثانية وإن جاء فيه مسنداً كما أسلفنا، لكن للتحقيق مجال واسع جداً: في اعتبار أصل كتاب الأشعثيات ومطابقة النسخة المتداولة مع الأصلية، وفي الطريق إليه، وغيرها من جهات تختلف فيها الأنظار والتحقيقات والمباني. (ينظر: أصول علم الرجال،ج2، ص15،للداوري).

وقد رأى بعضٌ أنّ  للحديث شواهد تقوّي معناه وتؤدي مضمونه، من بينها وأقواها ما ورد مكرراً في مناسبات وموارد شتى تجمعها عبارة:  إن لم يكن يراني فأنا أراه، أو: إن لم يركما فإنكما تريانه، وقد رويت عن الزهراء تارة، وعن النبي مع عائشة وحفصة أخرى، ومع أم سلمة وميمونة ثالثة، وقصة صدورها في جميع الحلات الثلاث واحدة، وهي أنّ رجلاً أعمى (تحدده بعض المرويات بابن أم مكتوم) استأذن  لدخول بيت النبي، فبادرتْ الزهراء للاحتجاب، فسألها النبي عن سبب الاحتجاب والحال أنّ المقُبل أعمى، فقالتْ تلك العبارة، وفي حالة غير الزهراء كان النبي هو الآمر بالاحتجاب، وهنّ السائلات.

الدلالة وحل المعارضة

إن لم تثبت صحة الحديث لا بالإسناد ولا بالقرائن انتفت المعارضة بشقيها، أمّا إن صحّ، فطريق الحل يكمن في دلالة ألفاظه، وتحليل مفرداته، ومجمل القول: إنّ في حديث: (خير للمرأة ألا ترى رجلاً..) مفردتين تستحقان الوقوف والتأمل: الخيرية – الرؤية.

أمّا الخيرية فتعني الإرشاد لحكم أخلاقي،  لا تعني بالضرورة تأسيس حكم شرعي يفيد الطلب والحث ـ وجوباً أو استحباباً ـ، فالحديث لتأسيس قاعدة أخلاقية وأصل إرشادي، يعمل ويُطلب تفعليه في الحالة الطبيعية التي تخلو من موجبات أو محرّمات رؤية الرجال والخروج من البيت، ويفيد أنّ  كفّة الترجيح والأفضلية في تلك الحالة هي لعدم الخروج، ولا يقصد من الحديث حرمة الخروج جزماً، بحيث تُؤثم المرأة لو خالفته، ولو كان هذا هو المقصود، فكيف نفسّر ثبوت الأحكام الشرعية التي تقتضي خروجها ورؤيتها الرجال أو رؤية الرجال لها، ولا أوضح من: وجوب الحج، وصلاة الجمعة، وصلة الأرحام.. على أنّ هذه الخيرية مرنة غير صلبة، فسواء فسّرت بالإرشاد والأولوية كما أسلفنا أو فسّرت بإنشاء حكم شرعي طلبي يقضي باستحباب مكوث المرأة في بيتها، فهي خيرية محكومة بقواعد التزاحم وتقديم الأولويات، شأنها شأن خيرية كل شيء، فصيام غير الواجب للمرأة خير لها، والخيرية هنا تعبّر عن حكم مستحبٍ، بيد أنّها محكومة بعدم مزاحمة حق الزوج، وإلا انقلبتْ، وبهذا يعرف أنّ عدم خروج المرأة المسلّمة في زماننا قد يكون مصداقاً للخير الكثير والفضل الوفير بل قد يمثّل تكليفاً شرعياً، وهكذا الحال بالنسبة للزهراء (ع)، وهي الأعرف بتكليفها وتشخيصه، والزبدة: تلك الخيرية والأفضلية القاضية بعدم الظهور أمام الرجال تجري على طبق الأصل الذي يؤسسه الحديث، ما لم  يزاحم بالأقوى ملاكاً ومصلحة، كما وقع لمريم: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم: 26]، ويجرنا هذا للوقوف على ثاني المفردتين (الرؤية)، فالذي يبدو منها أنّ معناها، ليس مجرّد النظر و المشاهدة البصرية، وإنّما الرؤية المصاحبة للمحادثة واللقاء من ثمّ قد تكون تعبير كنائي عن الاختلاط والمحادثة وتبادل الكلمات، وإلا لو كانت الرؤية لا تعبّر إلا عن المشاهدة البصرية وحسب، كيف ساغ الانتقال في الآية المباركة منها (ترين) إلى الأمر بالقول (فقولي)، وليس ذلك بعزيز على الأسلوب الوحياني والقرآني الراقي والمؤدب، فهو الذي كنّى عن الجماع باللمس، وهو الناهي عن الخضوع والترقيق في صوت المرأة بما يوجب الفتنة: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32]، فذيل الآية يفيد أن موضوع النهي هو الخضوع في القول، وليس القول، و لو كان يريد النهي عن ذلك لقال: فلا تقلن، بدلاً من: لا تخضعن بالقول، والمعارضة بفعل الزهراء غير واردة أصلاً، وعلاوة على ما تقدم، فإنّ النصوص التاريخية لا تصرّح بأكثر من خطبتها وحديثها، على العكس، يفيد بعضها، أنّها لمّا خطبتْ في المهاجرين والأنصار قد نيطت دونها ملاءة، و(لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها" وهلمّ جراً.

2019/07/25

نقل الفتوى في زمن النبي والأئمة (ع).. هل اختلف «الاجتهاد» في وقتنا الحالي؟

إن الفقاهة والاجتهاد في العصور الماضية لا يختلفان عن الفقاهة والاجتهاد في عصرنا الحالي، ويخطئ من يقول إنهما في الماضي كانا فقط مجرد نقل الفتيا والحكم الشرعي من مصدرها المتمثل بالمعصومين عليهم السلام، وأما هذا الاجتهاد الموجود في زماننا فلم يكن له أثر ولا عين.

ومن هنا قالوا:  لا دلالة للآية المباركة ﴿فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ على حجية إنذار الفقيه بالمعنى المصطلح لتدل على حجية فتواه، وإنما تدل على حجية النقل والرواية فقط  فيكون إنذار الفقيه ـ المذكور في الآية الكريمة السابقة - هو مجرد نقله للحكم الشرعي عند سماعه من النبي صلى الله عليه وآله ولا ينطبق على المجتهدين في زماننا!!

لكن الآية الكريمة قد أخذت عنوان الفقاهة في موضوع وجوب التحذر، وبعبارة أوضح: إنها بينت وجوب الإنذار على صنف خاص من الناس وهم الفقهاء، والراوي لا يجب أن يكون فقيهاً. فلا يشترط أن يكون الراوي منتبهاً وفاهماً الى المراد من الرواية بل يشترط أن يكون الناقل للرواية ثقة حافظاً فقط.

وحتى لو كان الراوي ملتفتاً وفاهماً للمراد من الرواية فأنه حينئذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه، لضـرورة أن العلم بحكم أو بحكمين لا يكفي في صدق عنوان الفقاهة عليه.

ومن جهة أخرى فلأنه كما قلنا إن الاجتهاد والفقاهة في الماضي غير مختلف عنهما في هذا الزمان بل هما أمر واحد حيث أن المعنى المراد منهما هو:

 معرفة الأحكام بالدليل، ولا اختلاف في ذلك بين العصور، نعم يتفاوت الاجتهاد في تلك العصور مع الاجتهاد في مثل زماننا هذا في السهولة والصعوبة حيث أن التفقه في الصدر الأوّل إنما كان بسماع الحديث، ولم تكن معرفتهم للأحكام متوقفة على تعلم اللغة، لكونهم من أهل اللسان، ولو كانوا من غيرهم ولم يكونوا عارفين باللغة كانوا يسألونها عن الإمام عليه السلام فلم يكن اجتهادهم متوقفاً على مقدمات، أما اللغة فلما عرفت، وأمّا حجية الظهور واعتبار الخبر الواحد وهما الركنان الركينان في الاجتهاد فلأجل أنهما كانا عندهم من المسلّمات. وهذا بخلاف الأعصر المتأخرة لتوقف الاجتهاد فيها على مقدمات كثيرة، إلاّ أن مجرد ذلك لا يوجب التغيير في معنى الاجتهاد، فإن المهم مما يتوقف عليه التفقه في العصور المتأخرة إنما هو مسألة تعارض الروايات، وقد كان يتحقق في تلك العصور أيضاً، لذا كان الأصحاب يسألون الأئمة عليهم السلام عمّا إذا ورد عنهم خبران متعارضان. إذن التفقه والاجتهاد بمعنى إعمال النظر متساويان في الأعصار السابقة واللّاحقة وقد كانا متحققين في الصدر الأول أيضاً. ومن هنا ورد في مقبولة عمر بن‏ حنظلة: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا...» ([1]) وفي بعض الأخبار ورد الأمر بالإفتاء صريحاً.

فدعوى أن الفقاهة والاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه لا عين ولا أثر له في الأعصار السالفة مما لا وجه له. ومعه لا موجب لاختصاص الآية المباركة بالحكاية والإخبار، لشمولها الإفتاء أيضاً كما عرفت. فدلالة الآية على حجية الفتوى وجواز التقليد مما لا مناقشة فيه.


(([1] الكافي للشيخ الكليني قدس سره 1: 67، و7: 412؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 3: 5؛ وكتاب التهذيب للشيخ الطوسي 6: 301؛ وكتاب الاحتجاج للطبرسي: 194.

2019/07/16

شواهد: تقليد الفقهاء كان موجوداً في زمن الأئمة (ع)

الرجوع للعلماء وسؤالهم عن الأحكام الشرعية العملية مما جرت عليه سيرة الشيعة وجميع المسلمين من الصدر الأول، وعرف في كل عصر جماعة ممن يتصدى للفتوى.

وقد تضمَّنت النصوص تصدِّي بعض علماء الشيعة لذلك، مثل أبان بن تغلب، الذي قال الشيخ الطوسي في حقه  ـ بعد أن مدحه وعظَّمه ـ: «وقال له أبو جعفر الباقر (عليه السلام): اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أُحب أن يُرى في شيعتي، مثلك، فجلس»[1].

ومثل معاذ بن مسلم النحوي فقد روى في حديثه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعولون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك.

قال: فقال ليّ: اصنع كذا، فإني كذا أصنع»[2].

لكن الفقه الشيعي لم يكن متميزاً بنفسه وبفقهائه في الصدر الأول بسبب الفتن والمآسي التي مرَّت على الشيعة، والتي كانت السبب في تركيزهم على الجانب السياسي، واهتمامهم بتسنم أهل البيت (صلوات الله عليهم) السلطة واستلامهم دفة الحكم من دون أن تتضح لهم معالم الخلاف بين أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم في الفقه، وربما كانوا يستفتون العامَّة ويأخذون الأحكام منهم غفلةً عن مخالفتهم لأهل البيت (عليهم السلام) فيها.

وبعد فاجعة الطف حيث قضي على أمل استلام أهل البيت (عليهم السلام) السلطة في الزمن القريب المنظور، وحيث تجلت ظلامة أهل البيت وظهر حقهم، واتضحت معالم الضلال والباطل في الجانب الآخر، اتجه الشيعة لأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) من أجل أخذ دينهم منهم في عقائدهم وفقههم وباينوا غيرهم وأعرضوا عنهم.

ورأى الأئمة (صلوات الله عليهم) الأرضية الصالحة والظرف المناسب لتركيز مفاهيمهم في شيعتهم وبث تعاليمهم لهم في العقائد والفقه ومعايير الحب والبغض والتولي والتبري، وجهدوا في قيام كيان علمي لهم يحمل تلك التعاليم ويبثها فيهم، ليستغنوا به عن غيرهم.

ويبدو اهتمام الإمام الباقر (عليه السلام) بهذا الجانب من وصيته للإمام الصادق (عليه السلام)، ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر، فلا يسأل أحداً»[3].

وقام (صلوات الله عليه) بما وعد، وبدأ الشيعة يقصدون علماءهم ويرجعون إليهم، وتصدَّى جماعة منهم للفتيا، كما أرشد الأئمة (عليهم السلام) إلى جماعة منهم.

ففي صحيح شعيب العقرقوفي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي. يعني أبا بصير»[4].

وفي صحيح عبد الله بن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه. فقال: ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»[5].

وفي حديث علي بن المسيب: «قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا. قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عن ما احتجت إليه»[6].

وفي معتبر عبد العزيز بن المهتدي: «سألت الرضا (عليه السلام): إني لا ألقاك في كل وقت، فعن من آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن»[7].

كما ورد الإرجاع إلى جماعة آخرين، مثل الحارث بن المغيرة، وزرارة بن أعين، والمفضل بن عمر، والعمري وابنه، في أحاديث كثيرة لا يسعنا استقصاؤها[3][8].

الإمام المهدي (عج) يرجع الشيعة للعلماء

كما ورد الارجاع للعلماء عامة من دون تعيين لشخص خاص في نصوص كثيرة منها: التوقيع الشريف المشهور الصادر من الإمام المنتظر صاحب الزمان (عجل الله فرجه) في أواسط عصر الغيبة الصغرى أو أوائلها:

«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»[9]. ومنها ما يأتي عن الإمام الهادي (عليه السلام).

وتكامل للشيعة فقههم واستغنوا عن غيرهم. ففي معتبر محمد بن حكيم: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم من الناس، حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه [إلا] يحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ الله علينا بكم...»[10].

وفي كتاب الإمام الهادي (عليه السلام) لأحمد بن حاتم وأخيه: «فاصمدا في دينكما على كل مُسِنٍّ في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى»[11].

بل ربما كان غيرهم يرجع إليهم في معضلات المسائل، لعلمهم بأنهم قد أخذوا أحكامهم من عين صافية لا تنضب. ففي موثق محمد بن مسلم: «إني لنائم ذات ليلة على السطح، إذ طرق الباب طارق... فأشرفت فإذا امرأة، فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلق، فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرك في بطنها، يذهب ويجيء، فما أصنع؟ فقلت: يا أَمة الله سُئل محمّد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال: يشق بطن الميت، ويستخرج الولد، يا أمة الله أفعلي مثل ذلك. أنا ـ يا أمة الله ـ رجل في ستر، من وجّهك إلي؟ قال: قالت لي: رحمك الله، جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال: ما عندي في هذا شيء، ولكن عليك بمحمد بن مسلم الثقفي، فإنه يَخبر، فما أفتاك به من شيء فعودي إلى فأعلمينيه. فقلت لها: امض ِ بسلام. فلما كان الغد خرجت إلى المسجد وأبو حنيفة يسأل عنها أصحابه، فتنحنحت. فقال: اللهم غفراً. دعنا نعيش»[12].

وعن السياري قال: «روي عن ابن أبي ليلى أنه قدم إليه رجل خصماً له، فقال: إن هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً، وزعمت أنه لم يكن لها قط، قال: فقال له ابن أبي ليلى: إن الناس يحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به، فما الذي كرهت؟ قال: أيها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به. قال: اصبر حتى أخرج إليك، فإني أجد أذى في بطني، ثم دخل وخرج من باب آخر، فأتى محمد بن مسلم الثقفي، فقال له: أي شيء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟ فقال محمد بن مسلم: أما هذا نصاً فلا أعرفه، ولكن حدثني أبو جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)

أنه قال: كلما كان في أصل الخلقة، فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى: حسبك. ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب»[13].

الأئمة (ع) يحثون شيعتهم على كتابة العلم

وقد أكد الأئمة (عليهم السلام) على كتابة العلم والحديث من أجل أن يحفظ العلم وينتفع الناس به، خصوصاً في عصر الغيبة، حيث لا مفزع للناس إلاّ كتب الحديث، ففي معتبر أبي بصير: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام): اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»[14].

وفي موثق عبيد بن زرارة: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها»[15].

وفي حديث المفضل بن عمر: «قال أبو عبدالله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم»[16].

وبدأ فقهاء الشيعة يؤلِّفون الكتب في الأحكام الشرعية لعمل الناس التي هي أشبه بالرسائل العملية، يحضرنا منها كتاب (يوم وليلة) ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الرضا (عليه السلام)، الذي ورد عنهم (عليهم السلام) في نصوص كثيرة الثناء عليه، وإقرار العمل به[17].

وكذا كتاب يوم وليلة المعروف بكتاب (التأديب) لتلميذه أحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانبة، ورسالة علي بن بابويه القمي والد الصدوق المتوفى في عصر الغيبة الصغرى.

وكتاب (المتمسك بحبل آل الرسول) لابن أبي عقيل العماني المعاصر له، وكتاب (المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي) لابن الجنيد المقارب لهما.

وما كتاب (من لا يحضره الفقيه) ـ الذي ألّفه الصدوق في أوائل الغيبة الكبرى ـ إلاّ رسالة عملية يرجع إليها من لا يتيسَّر له سؤال الفقيه، وهي تتضمن فتاوى الصدوق.

ثم تتابعت الرسائل للعلماء طبقة بعد طبقة، كـ(المقنعة) للشيخ المفيد، و(جمل العلم والعمل) للسيد المرتضى، و(النهاية في مجرد الفقه والفتوى) للشيخ الطوسي، (قدس الله أسرارهم الزكية)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.

 


[1] الفهرست: 17.

[2] وسائل الشيعة: 18 / 108.

[3] الكافي : 1 / 306.

[4] اختيار معرفة الرجال: 1 / 400.

[5] وسائل الشيعة: 18 / 105.

[6] وسائل الشيعة: 18 / 106.

[7] وسائل الشيعة: 18 / 107.

[8] اُنظر رجال الكشي: 357، 483، 595. ورجال الشيخ الطوسي: 509. ووسائل الشيعة: 18 / 103ـ111.

[9] وسائل الشيعة: 18 / 101.

[10] وسائل الشيعة: 18 / 61.

[11] وسائل الشيعة : 18 / 110.

[12] رجال الكشي: 146.

[13] وسائل الشيعة: 12 / 410.

[14] وسائل الشيعة : 18 / 56.

[15] وسائل الشيعة: 18 / 56.

[16] وسائل الشيعة: 18 / 56.

[17] وسائل الشيعة: 18 / 71 ـ 72.

2019/06/18

حكومة النبي (ص): ما هي أبرز ملامح تأسيس الدولة؟

إنّ وجود الدولة في الحياة البشرية ليس أمراً تقتضيه الحياة المعاصرة التي اشتدت فيها الحاجة إلى الحكومة، بل هي حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون.

فإذاً الدولة حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يُعدّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها: إمّا متوحشاً ساقطاً، أو موجوداً يفوق الموجود الإنساني.

انّ استعراض ما قام به الباحثون والمفكّرون من تبيين ضرورة الحكومة في المجتمع الإنساني، وانّه لولاها لانهارت الحياة وانفصمت عقد الاجتماع وعادت الفوضى إلى المجتمع الإنساني، ممّا لا تسعه هذه الرسالة ولنتركها لمحلها. ولكن المهم لنا هو تبيين سيرة الرسول في تأسيس الحكومة الإسلامية بعدما استّتب له الأمر، وهو يعرب عن أنّ الحكومة تعد بنى تحتيّة لإجراء عامّة الأحكام الإسلامية، وانّه لولاها لتعطلت الأحكام، وتوقّف إجراء الحدود والتعزيرات، وبالتالي سادت الفوضى على الحياة، فلذلك نقتصر في المقام على بيان سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزوله المدينة المنورة فنقول:

من تتبع سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)   يقف على أنّه قام بتأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، فقد مارس ما هو شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأُخرى، وتنظيم الشؤون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظم ذو طابع قانوني، وصفة رسمية، وصيغة سياسية، واتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأُمور وهو  المسجد، وتعيين مسؤوليات إدارية، وتوجيه رسائل إلى الملوك والأُمراء في الجزيرة العربية وخارجها، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)  أوّل مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده، واتسعت وتطورت وتبلورت، واتخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات وإن كانت الأُسس متكاملة في زمن المؤسس الأوّل (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن ملامح تأسيس حكومته قيامه بأُمور تعد من صميم العمل السياسي والنشاط الإداري الحكومي، نذكر من باب المثال لا الحصر:

1. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأُخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقية وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلامية.

2. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم)   جهز الجيوش وبعث السرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة، وقاتل المشركين وغزاهم، وقاتل الروم، وقام بمناورات عسكرية لإرهاب الخصوم، وقد ذكر المؤرخون أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنية 85 حرباً بين غزوة وسريّة.

3. بعد ان استَّتب له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكة وطرد اليهود لتآمرهم ضد الإسلام والمسلمين من المدينة وما حولها وقلع جذورهم، توجه باهتمام خاص إلى خارج الجزيرة، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة، فراح يراسل الملوك والأُمراء ويدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظل دولته والقبول بحكومته الإلهية.

4. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء وكان عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية، وهذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلّها سدى.

5. انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نصب القضاة وعيّن الولاة، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة، فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام، وتعليم القرآن الكريم، وجباية الضرائب الإسلامية كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزين، وما شابه ذلك من المصالح العامة، وفصل الخصومات بين الناس، وحلّ مشاكلهم) والقضاء على الظلم والطغيان، وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسؤوليات الإدارية والاجتماعية.

6. انّ من قرأ سورة الأنفال والتوبة ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلامية وبرامجها ووظائفها. فهي تشير إلى مقومات الحكومة الإسلامية المالية، وأُسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها، وتعاليم في الوحدة الإسلامية التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلامية، وكذا غيرها من السور والآيات القرآنية فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أوّل مؤسس للحكومة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكة.

إنّ من سبر الأحكام الإسلامية من العبادات إلى المعاملات إلى الإيقاعات والسياسات،  يقف على أنّها بطبعها تقتضي إقامة حكومة عادلة واعية لإجراء كلّ ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانّه لولاها لأصبحت تلك القوانين حبراً على ورق من دون أن تظهر في المجتمع آثارها، فانّ الإسلام ليس مجرّد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فردية يقوم بها كلّ فرد في بيئته ومعبده، بل هو نظام سياسي ومالي وحقوقي واجتماعي واقتصادي واسع وشامل، وما ورد في هذه المجالات من قوانين أو أحكام،  تدلّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترضَ وجودَ حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها، لأنّه ليس من المعقول سنّ  مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذية تتعهد بإجرائها وتتولّى تطبيقها مع العلم بأنّ  سنّ  القوانين  وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات، وإلى هذا الدليل  يشير السيد المرتضى بقوله:

إنّه سبحانه وتعالى  يأمرنا بالاستجابة للّه وللرسول إذا دعا لما فيه حياتنا، يقول سبحانه: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا استَجيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذا دعاكُمْ لِما يُحييكُمْ).[1]

وفسّرت الآية  بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كان الأمر والنهي كما تُوحي هذه الآيات مبدأ للحياة وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ويقيم فيهم الحدود، ويجاهد فيهم العدو، ويقسم الغنائم، ويفرض الفرائض ويحذِّرهم عمّا فيه مضارهم، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا، وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد، ولف سد التدبير، أو كان ذلك سبباً لهلاك العباد.[2]


[1] الأنفال: 24. 

[2] المحكم والمتشابه، للسيد المرتضى: 50. 

2019/06/10

متى بدأ «الاجتهاد» لدى الشيعة؟

بينّا في مقال تحت عنوان "ما هو التقليد ومنذ متى بدأ؟" ان الأئمة (عليهم السلام) أرجعوا شيعتهم الى بعض الفقهاء في زمانهم (عليهم السلام)، والذي يعد تطبيق حقيقي لمسألة التقليد، وبعد ان اتضح المسار التاريخي للتقليد، وابتداءه من زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ثم امتداده لزمن باقي الأئمة (عليهم السلام)، والذي يمثل سيرة مُقَرّة ومُمْضاة منهم (عليهم السلام)، لابد من ذكر ولو أجمالي لتاريخ الاجتهاد، فقد كانت اللبنة الأولى للاجتهاد تتمثل باعتماد الفقيه بصورة رئيسية على روايات الأئمة (عليهم السلام) والتفريع عليها، وفق فهمه لمداليلها على هدي ما يحمل من ثقافة لغوية عربية وأخرى شرعية اسلامية، متمثلة بتلكم القواعد والضوابط التي أفادها الفقهاء مما ألقاه عليهم الأئمة (عليهم السلام)، فعن الصادق (عليه السلام): "إنما علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا"([1])، وعن الرضا (عليه السلام): "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع"([2]).

وهذه الأصول هي أمثال:

-" من كان على يقين فأصابه شك فليمضِ على يقينه فإن اليقين لا يدفع بالشك"([3]).

-  "الناس مسلطون على أموالهم"([4]).

- "كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك"([5]).

- "المسلمون عند شروطهم"([6]).

- "لا ضرر ولا ضرار"([7]).

فكانت تفريعات هؤلاء الفقهاء على الأصول التي كانوا يتلقونها من الأئمة الخطوات الأولى في طريق الاجتهاد الأمامي([8]).

مدرستي "الرأي" و "الحديث"

وفي بداية الغيبة الكبرى نشأت مدرستان في الوسط الفقهي الإمامين تشبهان الى حدٍ ما المدرستين السنيتين في الفقه (مدرسة الرأي) و(مدرسة الحديث)، وهاتان المدرستان الأماميتان، هما:

أولاً: مدرسة الصدوقين:

علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت329).

وابنه: محمد بن علي الصدوق (ت381).

 كانت هذه المدرسة تعتمد الحديث الشريف المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهاد فيه، لاستخلاص الحكم الشرعي منه، بأقل كلفة من التفكير، وفي حدود الفهم اللغوي العرفي، وبعيداً عن استخدام المبادئ العقلية المعروفة (بأصول الفقه).

وتمثل هذا واضحاً في كتابين من كتب الصدوقين، هما:

  1. رسالة الشرائع لعلي بن بابويه (الصدوق الأول):

وهي مجموعة لمتون أحاديث صنفها وفق التبويب الفقهي، أي انها من نوع ما يعرف الآن بالفقه المأثور.

  1. كتاب من لا يحضره الفقيه، لمحمد بن علي الصدوق (الصدوق الثاني):

وهو مجموع أحاديث اجتهد في اختيارها بمعيار ما يوافق فتواه، من منطلق فهمها فهماً لغوياً عرفياً لم يستخدم فيه القواعد والضوابط العقلية التي تعرف بأصول الفقه.

وكان مقر هذه المدرسة مدينة قم التي عرفت في ذلك الوقت بكثرة الرواة وأهل الحديث فيها، كثرة ملحوظة.

ثانياً: مدرسة القديمين:

الحسن بن ابي عقيل العماني المعاصر للصدوق الأول على بن بابويه.

وتلميذه: احمد بن الجنيد الإسكافي البغدادي (ت381هـ) المعاصر للصدوق الثاني محمد بن بابويه.

كانت هذه المدرسة تعتمد الاجتهاد في فهم النص الشرعي لاستنباط الحكم الشرعي منه وفق القواعد والضوابط العقلية المعروفة بأصول الفقه.

وعرف هذا عنهما مما نقله الفقهاء من كتاب (المتمسك بحبل آل الرسول) لابن ابي عقيل وكتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) لابن الجنيد، ومما قاله علماؤنا في حقهما، فقد قال السيد بحر العلوم في ابن ابي عقيل أنه: أول من هذب الفقه، واستعمل النظر، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى. وقال في ابن الجنيد: وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة والرئاسة وعظم محله قد حكي عنه القول بالقياس([9]).

وكان مقر هذه المدرسة مدينة بغداد التي عرفت آنذاك بأنها ملتقى الفكر العقلاني.

ثم التقت هاتان المدرستان عند الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المتوفي سنة 413هـ) حيث كان أبرز تلامذة الشيخ الصدوق وأبرز تلامذة الشيخ ابن الجنيد.

وبسبب ما كان يتمتع به الشيخ المفيد من شخصية علمية عالية، ومنزلة قيادية مرموقة، واهتمام كبير بأمر التشيع، وعناية فائقة بحركة الفكر التشريعي الإسلامي، في إطار مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والعمل باحتياط واعٍ، على تهيئة الجو العلمي النظيف الذي يوفر له اصالته وجديته، ويفتح الطريق أمامه لعطاء مثمر مفيد.

وبسبب ما رآه من بوادر لانشقاق الصف الشيعي العلمي الى هذين الاتجاهين بما يحمل أولهما من جمود يعوق مسيرة التطور الفكري التشريعي، وما يحمل ثانيهما من انطلاق تجاوز حدود الدائرة المذهبية.

لهذا وذاك رأى ان يسلك طريق البين بين، فلا جمود ولا انطلاق، ولكن أمر بين الأمرين، يحفظ للتشريع أصالته، ويعطيه المجال للتطور داخل إطار تلكم الأصالة.

فجمع أمره وحشد كل ما يملك من طاقات فكرية وقيادية للقيام بالمهمة.

وتجسد عمله بالتالي:

  1. ألف رسالته الفتوائية المعروفة بـ (المقنعة) في أصول الدين وفروعه، ولم يلتزم في كتابتها وعرضها متون الأحاديث.

وأقام فتواه  فيها على ما ذكره من مصادر للتشريع في كتابه (أصول الفقه)، وهي: الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، فيكون بهذا قد رفض القياس، ولم يجمد على حرفية التعبير بمتون الأحاديث([10]).

وضع الشيخ المفيد العقل موضعه حيث اعتبره الدليل على حجية القرآن وحجية ظهورات الألفاظ.

كما وضع اللغة في موضعها حيث اعتبرها الطريق لمعرفة معاني الكلام أو قل: مرادات المتكلمين.

واعتبر الأخبار الطريق لاستقاء الأصول (القواعد) من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة (عليهم السلام)([11]).

ورسالته في أصول الفقه تضمنت ـ على صغر حجمها ـ منهجه في الاجتهاد كاملاً وواضحاً.

وقد تعاهد كبار تلامذته علماً وزعامة مدرسته بالعناية والرعاية فكملت جميع متطلباتها على يديها، وهما الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وزملاؤهم وطلابهم.

إلا أن الشريف المرتضى ربّع مصادر التشريع، فعدها وسلسلها في أحد أجوبته، بالكتاب والسنة والأجماع والعقل.

وألف كتابه (الذريعة الى أصول الشريعة) وفي الوقت نفسه ألف الشيخ الطوسي كتابه (العدة في أصول الفقه) منهجاً للبحث الفقهي = الاجتهاد.

ومشى الوضع الاجتهادي على هذا حتى أخريات القرن العاشر الهجري وبدايات القرن الحادي عشر حيث ألف الميرزا محمد أمين الاستربادي كتابه الموسوم بـ (الفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد) وحدد فيه مصادر الحكم الشرعي ومنهج البحث عن الحكم الشرعي.

ومن حينه انقسمت المدرسة التي أرسى أسسها الشيخ المفيد الى مدرستين:

  1. المدرسة الأصولية:

وهي التي التزمت خط مدرسة الشيخ المفيد فاعتمدت أصول الفقه العقلي المستقاة أصوله من مبادئ العقل ومعطياته.

  1. المدرسة الأخبارية:

وهي التي اعتمدت أصول الفقه النقلي المستقاة أصوله من أقوال أهل البيت (8) والمأثور عنهم.

ومشت في موقفها من رصيفتها المدرسة الأصولية تقترب حيناً، وحيناً تبتعد، حتى ضاقت الفروق بينها وانحصرت في التالي:

  1. مصادر التشريع: فهي اربعة عند الاصوليين: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، واثنان عند الاخباريين: الكتاب والسنة.
  2. الشبهة الحكمية التحريمية: حيث يرجع فيها الأخباريون الى قاعدة الاحتياط، ويرجع فيها الأصوليون الى قاعدة البراءة([12]).

 


([1])  الوسائل، الباب 6 من ابواب صفات القاضي، ح 52.

([2])  الوسائل: ج27، ص63.

([3])  الوسائل: ج20، ص274.

([4])  مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج 4، ص: 356.

([5])  الوسائل: ج17: ص89.

([6])  الوسائل: ج18، ص16.

([7])  الوسائل: ج18، ص32.

([8])  دروس في فقه الأمامية: ص197.

([9])  انظر: كتاب تاريخ التشريع الاسلامي: عبد الهادي الفضلي - عهد ابتداء الغيبة الكبرى.

([10])  أنظر: تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الهادي الفضلي – عهد ابتداء الغيبة الكبرى.

([11])  م. ن.

([12])  نقلاً عن كتاب التقليد والاجتهاد، للعلامة المرحوم عبد الهادي الفضلي.

2019/05/20

دور «الفقهاء» في زمن الغيبة

يتأكد دور العلماء في زمن غيبة الإمام صاحب الزمان (ع)، ففي الرواية عن الإمام الهادي (ع): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (ع) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دين الله»([1]).

وورد أنّ الإمام محمد التقي (ع) قال: «إنّ من تكفل بأيتام آل محمد (ص)، المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين بردْ وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربّهم، ودليل أئمتهم، ليفضلون عند الله على العباد بأفضل المواقع، بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرض والكرسي والحجب، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»([2]).

وفي (أصول الكافي) عن معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد الله (ع) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلَ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيَهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»([3]).

ومن ذلك ما حدث به السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي (ره)، بسنده عن ابي محمد الحسن بن علي العسكري (ع)، قال حدثني أبي عن آبائه (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: «أشد من يتم اليتيم الذي انقطع من أمه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألاّ فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى» ([4]).

وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال: قال الحسين بن علي(ع): «من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عز وجل: أيها العبد الكريم المواسي لأخيه أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم» ([5]).

وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (ع) قال: «قال الحسين ابن علي فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها» ([6]).

وعنه (ع) بالإسناد المتقدم قال: «قال موسى بن جعفر (ع): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فلذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة» ([7]).

وعنه (ع) قال: «قال محمد بن علي الجواد (ع): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العباد بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء» ([8]).

وعنه (ع) قال: قال علي بن محمد (ع): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم(ع) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل»([9]).


([1]) ميزان الحكمة جزء 3، صفحة 2087.

([2])  تفسير الإمام العسكري (ع): 116.

(([3]  تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) ص 116.

([4]) الاحتجاج: 1 / 6 .

(([5] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع): 341 ح 218، الاحتجاج 1: 16، بحار الأنوار 2: 4 ح 5، و 8: 180 ح 137، أشار إلى بعض الحديث.

([6]) بحار الانوار: ج2/ ص3.

([7]) الاحتجاج : 1 / 8 .

([8]) الاحتجاج : 1 / 9 .

(([9] نفس المصدر.

2019/05/12

ماذا تعرف عن «غزوة بني قريظة»؟

غزوة بني قريظة من الفعاليات العسكرية التي حفظها لنا التاريخ فيما حفظ من السيرة النبوية الشريفة، وتتلخص احداثها في أن يهود بني قريظة، الذين ارتبطوا مع النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، بعهود ومواثيق في مقدمة ما تلزمهما به عدم اعتداء طرف على طرف آخر، وان لا يكون في حرب عليه، خانوا العهد في معركة الاحزاب حين جاء سيدَهم كعب بن أسد حيي بن اخطب سيد بني قينقاع، الذين سبق وأن أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله عن المدينة لما قاموا به من اعتداء على المسلمين، وأقنعه بالانضمام الى المشركين والغدر بالمسلمين ونكث العهود معهم. قال حيي بن اخطب: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر، وببحر طامٍ. جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنختهم بالمدينة. وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها. وقد عاهدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. فتأبّى كعب، وقال: جئتني بذل الدهر، بجهام هراق ماؤه، وبرعد وببرق ليس فيه شيء. فلم يزل يفتله في الذروة وفي الغارب، حتى أعطاه عهداً من الله وميثاقاً أن يكون معه، على أنه إن رجعت تلك الجموع خائبة ولم يقتلوا محمداً أن يرجع معه إلى حصنه، يصيبه ما أصابه. ونقض كعب ما بينه وبين رسول الله، وبرئ مما كان عليه له ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد (السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص231 و 232)، وقد أضرت هذه الخيانة بالنبي صلى الله عليه وآله ومن معه من المسلمين بضرر شديد، حيث ان يهود بني قريضة قد فتحوا جبهة داخلية تسببت بنشر الخوف، وقد جاء في وصف ذلك الخوف على لسان ام سلمة حيث قالت قد شهدت مع رسول الله مَشاهِد فيها قتال وخوف لم يكن من ذلك شيء أتعب لرسول الله ولا أخوف عندنا من حرب الخندق وذلك أنّ المسلمين كانوا مثل الحرجة (الشجرة ذات الأغصان الكثيرة) وأن قريظة لا نأمنها على الذراري والمدينة تُحرَس حتى الصباح، يُسمع تكبير المسلمين فيها حتى يُصبِحوا خوفاً.

كما ان بني قريضة قد قامت بمراسلة المشركين المحاصرين للمدينة تطلب منهم أن يمدوها بألف من قريش والف من غطفان ليُغِيروا بهم على المسلمين (الواقدي، ج1، ص 467 – 468)، كما انها في احدى الليالي ارسلت نفرا من شجعانها بما يشبه الغارة فتصدى لهم بعض المسلمين في البقيع واجبروهم على الفرار.

 وما إن انهزم الأحزاب حتى جاء المسلمين النداء من النبي صلى الله عليه وآله: "لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة". وكان هذا النداء من الله (عز وجل) فما إن عاد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ووضع السلاح واغتسل وقد عصب رأسه الغبار حتى جاءه جبرائيل عليه السلام فقال له: وضعت السلاح فو الله ما وضعته ؟! فقال رسول الله فأين ؟ قال: ها هنا، وأومأ إلى بني قريظة.

فاستعد المسلمون لقتال بني قريظة ومعاقبتهم على خيانتهم العظيمة وغدرهم بهم فبعث النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام قائداً على سرية وتبعه النبي فحاصرهم خمسة وعشرين يوماً، وكان حيي بن أخطب معهم في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان، وكان يحرضهم على قتال النبي ولما أيقن بنو قريظة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يتركهم حتى يقاتلهم، عرض عليهم كعب بن أسد اتّباع النبي فقال لهم:

يا معشر اليهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض أن نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فقالوا: لا نفارق حكم التوراة ولا نستبدل به غيره.

ولما طال الحصار عليهم، واشتد البلاء قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فهو حليفنا ولن يخذلنا وكان سبب نزولهم هذا خوفهم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فعندما شاهدوا أمير المؤمنين وقد ركز الراية عند الحصن قالوا لقد جاء قاتل عمرو بن عبد ود فأصابهم الرعب وكان النبي قد أرسل قبل علي عدداً من الصحابة لكنهم انهزموا أمام اليهود.

وما إن وصل أمير المؤمنين إلى الحصن حتى صاح: لأذوقنّ ما ذاق عمي حمزة أو لأفتحن حصونهم، فلمّا رأوه وهو كالليث الضاري وقد عرفوه من هو، تملكهم الخوف والرعب منه وأيقنوا بالهلاك، وقالوا: يا محمد رضينا بحكم سعد.

فأرسل من يحضر سعدا فجيء به وهو جريح فقال له النبي : إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم. فقال النبي : حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبع سموات. فقتل رجالهم وكان عددهم بين الأربعمائة والستمائة ولم ينج منهم إلا من أسلم فحقن إسلامه دمه، وسُبيت نساؤهم وذرياتهم.

ومع هذه الاحداث التاريخية للواقعة تستوقفنا نقطة هامة وهي الحكم الذي قضى بقتل رجال بني قريظة واعتبار ذلك، من قبل المتخندقين ضد الاسلام، دليلا نابضا على دموية الاسلام ووحشيته، فنقول لهؤلاء المتخندقين في معرض الرد:

1-      إن يهود بني قريظة وقينقاع وبني النظير قد وقعوا مع النبي معاهدات جاء فيها أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا سلاح ولا بكراع في السر والعلن، لا بليل ولا نهار، الله بذلك عليهم شهيد. فإن فعلوا فرسول الله في حل من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم. (بحار الانوار ج19 ص 110ـ 111).

2-      لقد كان جيش الأحزاب عازماً على إبادة المسلمين واستئصال شأفتهم. ولو كان قدّر لهم ذلك لكان لبني قريظة المشاركة الفعالة في هذه المجزرة بحق المسلمين

3-      إن تجربة النبي مع بني القينقاع أثبتت، بشكل قاطع، أن عملية التهجير لا تؤدي إلا لتحشيد القوى ضد المسلمين.

4-      لقد برهن اليهود من خلال عدد لا يحصى من المواقف أنهم أهل غدر وخيانة ولاعهد لهم، وأنهم لن يتوقفوا عن الكيد للإسلام ومحاربته. لهذا فإن الرسول الأكرم الذي طالما عفى وصفح، سيكون تسامحه مع يهود بني قريظة بمثابة تهاون وتقصير في مهامه كقائد تقع على عاتقه مسؤولية حماية المسلمين. إن أي تسامح مع رجال بني قريظة وأي صفح عنهم هو بمثابة إعطائهم فرصة جديدة ليلتحقوا فيها بالجهات المعادية للمجتمع الإسلامي ومحاربته. وماقام به بنو قينقاع ـ الذين عفا عنهم ـ من إشعال لمعركة الأحزاب دليل أكيد على ذلك.

5-      الحاكم عليهم بالقتل هو سعد بن معاذ وبطلب من بني قريظة في أن يكون هو الحاكم، ولما جيء بسعد وقد كان لايقدر على المسير لجرح اصابه في معركة الاحزاب، وصار بين المسلمين واليهود قيل له ‏:‏ يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك‏ فقال: وحكمي نافذ عليهم ‏؟،‏ فقال اليهود ‏:‏ نعم ،‏ قال ‏:‏ وعلى المسلمين‏ ؟ ،‏ قالوا‏:‏ نعم ، قال‏ :‏ وعلى من هاهنا‏ ؟ ،‏ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله إجلالاً له وتعظيمًا‏ ، قال‏:‏ ‏نعم، وعلي ‏،‏ فأوضح‏ :‏ فإني أحكم فيهم أن يُقتل الرجال ، وتسبي الذرية ، وتُقسم الأموال ، فقال رسول الله : ‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات،‏ وعليه فإن النبي الاكرم ص غير مسؤول عن الحكم فلو حكم سعد بالعفو عنهم لأقره النبي ص لما ألزم به نفسه من رضا بحكم سعد وقضاءه.

6-      حكم سعد بن معاذ بما تنص به شريعة اليهود أنفسهم، أي أن اليهود لو تعرضوا الى خيانة خائن غدر بميثاق معهم، لرجعوا الى شريعتهم التي يؤمنون بانها شرعة الله العادلة وحكموا على الخائنين

فقد ورد في الكتاب المقدس ما نصه:

حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ،

فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ.

وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا.

وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ.

وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.

هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. (الكتاب المقدس سفر التثنية الإصحاح 20 الفقرات من 10 ــ 16).

بل انه قد جاء في التوراة ـ في مواضع اخرى ـ ما يزيد على هذا الحكم بقتل جميع السكان دون استثناء للنساء والأطفال وكذلك إحراق كلّ ما في المدينة لتكون تلّا إلى الأبد (الكتاب المقدس، سفر التثنيه، الإصحاح 13، فقرات 12 – 16.

أضف الى كل هذا، ما أورده الباحثون من تشكيكات ومباحث تطعن بكون رواية الحكم على بني قريظة بقتل رجالهم، أمرا حقيقيا. يقول السيد جعفر شهيدي في كتابه (تاريخ تحليلي اسلام، ص 88-90)، ما يشير الى اضطراب الرواية في كتاب المغازي، كما أنها مختلفة عمّا جاء على لسان ابن إسحاق والطبري والزهري (51 - 124 ه)، حيث أن الأخير لم يصرّح إلا بقتل حيي بن أخطب؛ فالرواية قد تكون مدسوسة من قبل أناس من الخزرج بعد مُضيّ سنين من وقوع الغزوة، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك كان هو الحطّ من منزلة الأوس لدى النبي مقابل الخزرج وإثارة الحمية التي ظهرت علاماتها بوفاة النبي في سقيفة بني ساعدة بينهم واتخذها معاوية و بنو امية مثاراً للتلاعب بتاريخ الإسلام إلى سنة أربعين للهجرة وتشويه صورته، حتى ذكروا أنه قام ص بقتل حلفاء الأوس دون حلفاء الخزرج من بني قينقاع وبني النضير، وأنّ زعيم قبيلة الأوس لم يُراعِ جانب حلفائه في غزوة بني قريظة، بل حكم بقتل جميع الرجال.

2019/04/15

2019/04/03

العقر عند القبور واللواذ بها عند العرب

كان للخيال الخصب والعاطفة الجياشة عند العرب في الجاهلية أثراً كبيراً في خلق وإفراز سنن وعادات كثيرة أقرّ الإسلام ما هو صالح منها ورفض ما هو غير صالح. فمن تلك العادات والسنن التي تأثرت وأُثِر قسط كبير منها عن الأديان السالفة والحضارات الماضية، مسألة احترام الموتى، والارتباط بالقبور وتخليد مآثرهم.

إذ كانوا يعقرون عليها جِمالهم وينشدون عندها الأشعار ويعوجون عليها، إحساساً منهم بوجود المدفون معهم روحاً ومآثره وإنه يرتبط أو أنهم يرتبطون معه بنحو من أنحاء الارتباط، قال ابن كثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. (البداية النهاية، ج: 2 ص: 366) وزاد الزمخشري على هذا القول: وقيل ليطعمها السباع، فيدعى مضيافاً حياً أو ميتاً. (الفائق في غريب، الحديث ج: 2، ص: 178 ــ 179)، وقال مثل ذلك ابن منظور (لسان العرب، ج: 4، ص: 593).

فالعقر على القبر عند العرب يعبّر عن معنى الكرم والجود والعطاء، وفيه محاولة إدامة إطعام الميت للفقراء والأضياف والنازلين وهذا ما جعلهم يعدّون ذلك من المفاخر الحميدة والمآثر الفريدة.

وكان لاعتقادهم الخالص هذا أثراً في نسج القصص والأساطير حول كرامات الميت من ذلك ما رواه ابن قتيبة الدينوري: وقد ذكرت طيء إن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مرّ بقبر حاتم فنزل به وبات يناديه: يا أبا عدي أقرِ أضيافك. فلما كان في السحر وثب أبو الخيبري يصيح: وارحلتاه فقال له أصحابه: ما شأنك ؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا قد والله قراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا فبينما هم كذلك في مسيرهم طلع عليهم عَدِي بن حاتم ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره فقال: إن حاتماً جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه وأنه قراك وأصحابك راحلتك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها علي حتى حفظتها وهي:

أبا الخيبريِّ وانت أمرؤٌ   ***   حسودُ العشيرة لوّامُها

فماذا أردت الى رمّةٍ   ***   بداويةٍ صخبٍ هامُها

أتبغي أذاها وأعسارها   ***   وحولك عوفٌ وأنعامُها

وأمرني بدفع جمل مكانها إليك فخذه، فأخذه ! (الشعر والشعراء، ص147 ـــ 148).

وقد نقل هذه القصة أيضاً الزبير بن بكار (الموفقيّات ص 408 ــ 410)، وأبو الفرج الأصفهاني (الأغاني، ج: 17، ص: 374 ــ 375) والبغدادي في خزانة الأدب (خزانة الأدب، ج: 1، ص: 494 ــ 495) وإلى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن حاتم:

أبوك أبو سفّانة الخير لم يزلْ   ***   لدنْ شبَّ حتى مات في الخير راغبا

به تضربُ الامثالُ في الشعر ميّتاً   ***   وكان له إذ ذاك حيّاً مصاحبا

قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به   ***   ولم يقرِ قبرٌ قبله الدهرَ راكبا

وسواء أكانت قصة حاتم من مختلقات طيء وورثة حاتم أم من الجن كما يقول الزبير بن بكّأر فإن مما لا ريب فيه هو أن العرب كانت تعقر عند القبور وترى لصاحب القبر حرمة وكرامة وتعدّ العقر والقرى عند قبر الكريم فخراً ما بعده فخر، فقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري عمرو بن الحارث الغساني والغساسنة فوصفهم مادحاً بأنهم يكرمون الأضياف عند قبر أبيهم فقال:

لله دَرُّ عصابةٍ نادمتهُم   ***   يوماُ بجُلَّقَ في الزمانِ الأولِ

أولاد جفنةَ عند قبر أبيهِمُ   ***   قبر ابن مارية الكريم المُفضلِ

يَسقون من ورَدَ البريصَ عليهم   ***   بَردَى يصفّق بالرَّحيقِ السلسلِ

يُغشون حتى ما تهِرّ كلابُهم   ***   لا يسألون عن السوادِ المقبلِ

وظلت هذه الفكرة مفخراً عند العرب حتى العهد الأموي فهذا قيس بن الملوح يعقر على قبر أبيه ناقته ويرثيه عند القبر قائلاً:

عقرتُ على قبرِ الملوَّحِ ناقتي   ***   بذي الرَّمثِ لا أن جفاه أقاربُه

فقلتُ لها كوني عقيراً فإنني   ***   غداةَ غدٍ ماشٍ وبالأمسِ راكبُه

فلا يُبعدنْكَ الله يا بن مزاحمٍ   ***   فكلُّ امرئٍ للموتِ لا بدَّ شاربُه

فقد كنت صلاعَ النجادِ ومعطي الـــــجيادِ وسيفاً لا تفلُّ مضاربُه

ويرثي زياد الأعجم المغيرة بن المهلّب بقصيدة يدعو فيها إلى العقر عند قبره وإن ينضح قبره بدماء العقائر لأنه كان أخا دَمِ وذبائحٍ فيقول:

قل للقوافلِ والغزيِّ إذا غَزَوا   ***   والباكرين وللمجدِّ الرائحِ

إن المروءة والسماحة ضُمّنا   ***   قبراً بمروَ على الطريقِ واضحِ

فإذا مررتَ بقبرهِ فأعقر به   ***   كُومَ الهجانِ وكلّ طِرفٍ سابحِ

وانضح جوانبَ قبرهِ بدمائها   ***   فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ

ومن الطرائف أن يزيد بن المهلَّب قال لزياد: يا أبا أمامة، أفعقرت أنت عنده ؟، قال: كنت على بنت الحمار.

فيبدو أن العقر كان مجرد موروث قد اضمحل أو قلّ بمجيء الإسلام فما بقي إلا شيء يسير منه على أرض الواقع، وإنما بقيت الفكرة في ذهن وخيال الشعراء يستفيدون منها في المراثي والمفاخرات حتى اخذ الشاعر أحمد بن محمد الخثعمي وهو من الشعراء العباسيين معنى أبيات زياد الأعجم وتصرّف في معانيها ما شاء أن يحسن له التصرف، فقال:

أيها الناعيانِ من تنعيان   ***   وعلى من أراكما تبكيانِ

أندبا الماجدَ الكريمَ أبا اسحـــاق ربُّ المعروف والاحسانِ

واذهبا بي أن لم يكن لكما عقرٌ إلى جنب قبره فاعقراني

وانضحا من دمي عليه فقد كان دمي من نداه لو تعلمانِ

ومن مظاهر الإنشداد إلى القبور وتكريم صاحب القبر أن الرئيس المقدم والسري من الناس ومن له بيت من العز والشرف كان يعيذ من يستعيذ بقبر أبيه ويعفو عن ذنبه الذي يتجاوز الظلم والإسراف أحياناً، احتراماً وتقديراً وتكريماً لصاحب القبر وقد كان هذا شائعاً معروفاً في الجاهلية والإسلام. ولقد عاذ كثير من الخائفين بقبور آباء الملوك والحكام كما لاذ المؤمنون بالأئمة الطاهرين : وتحرّموا بحرمتهم فرفع عنهم السوء، ومن أروع ما قيل في هذا الباب ما قيل في قبر الإمام الحسين 8 حيث لاذ بعضهم بقبره الشريف وأنشأ يقول:

حسينٌ إذا ما ضاق رحبٌ من الدنى   ***   وحلّ بنا للفادحاتِ نزولُ

بقبركَ لُذنا والقبور كثيرةٌ   ***   ولكن من يحمي الذمارَ قليلُ

2019/03/31

الإمام الهادي (ع) يتعرض لابتلاء عظيم في «مجلس خمر» للخليفة المستبد

وهو في مجلس شرابه الليلي وقد غرق في بحر خمره، ينطق السلطان المطاع: احضروه، يدخل الجنود متسللين الى داره فينتزوعوه من محراب تهجده ثم يوقفوه امام الخليفة، تصور.. من محراب التهجد والانقطاع الى الله الى مجلس الخمر امام الخليفة القاهر المستبد -موقف صادم وابتلاء عظيم-.

يقدم له الخليفة كاس الخمر ويطلب منه ان يشرب-يشتد البلاء- أيقبل؟! والعياذ بالله او يرفض وماذا بعد رفض طلب الخليفة في تلك الحال؟! ما قيمة الدم والعرض عند الخليفة في تلك الحال؟!، لكنه -روحي له الفدا- رفض، قال: والله ما خامرت لحمي ودمي..

قالها والحال يحتمل كل احتمال.. لكنه ما تردد وقال.

رد الخليفة: انشدني شعرا اذن.. يبدو ان الخليفة كان مستغرقا في لذته والوقت وقت لعبه ومجونه.

فقال: إني قليل الرواية للشعر.

أصر الخليفة، لابد من ان تنشد شعرا..

اي شعر يمكن ان ينشد في ذلك المجلس، اي قصيدة تناسب ذلك المقام؟!

ينشد بابي هو وامي:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم                 غلب الرجال فلم تنفعهم القلل.

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم                 وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم                    أين الأساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة                   من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم                تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا               وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

حتى إذا انتهى من انشاد الشعر، انقلب الموقف، أصبح الخليفة القاهر ضعيفا ذليلا، وأصبح ذلك المتهجد قويا عزيزا، ندم الخليفة وبكى برق له بارق من فطرة تأبى ان تموت وليته التزم طريق فطرته بعدها ولكن هيهات.

اولياء الله هكذا هم دائما، قوتهم ليست في اموالهم وسلطانهم وطغيانهم، قوتهم في عزم اراداتهم وصلابة قلوبهم، وبتلك القوة لا بغيرها امتدت اثارهم وتهافتت القلوب عليهم كتهافت الفراشات على النور...

ذلك المتهجد كان الامام العاشر من اهل البيت، الذي اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. الامام علي بن محمد الهادي المدفون في سامراء في العراق. حجة الله على خلقه حيا وميتا، واليوم تمر ذكرى شهادته مسموما عن عمر يناهز الاربعين عاما في سنة 254 هجرية.

2019/03/11

2019/02/09

لماذا لم يدافع الإمام علي عن فاطمة (ع)؟!!

هذا السؤال يتطلب بسط الحديث بعد تتبع الأخبار وملاحظة المصادر، ليكون الحديث تاماً بالأدلة، لكنني سأكتفي ها هنا بارتجال تعليقات أربعة:

[اشترك]

التعليق الأول: هو أن ترك الدفاع كأي ترك لا يعلم وجهه إلا من التارك نفسه، وما يذكر مجرد احتمالات مالم يرد بيان من نفس التارك، ولك أن تقرب هذه الفكرة بالمثال التالي:

لو ترك زيد الذهاب الى مقر العمل هذا اليوم فهل يتمكن أصدقاؤه وزملاؤه من معرفة سبب عدم ذهابه للعمل هل المرض أو قرار ترك العمل أو المزاحمة بأمر أهم بدون أن يخبرهم زيد نفسه؟ بالطبع لا.

التعليق الثاني: ترك الدفاع عن الزهراء (عليها السلام) نظير ترك الله الدفاع عن أنبيائه ورسله وأوليائه الذين قتلوا وقطعوا وعذب كثير منهم، فهو لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وإنما نحتمل أنها حكمة كذا أو كذا، كحكمة الابتلاء والامتحان أو المزاحمة بأهم يراد الحفاظ عليه.

ألم يترك الله قابيل يقتل هابيل، بل ترك آلاف الناس يقتلون آلاف الناس مع أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا؟ ألم يترك الله طاغون اليهود يقضي على نبي الله يحيى (عليه السلام) وقدم راسه هدية لبغي من بغايا إسرائيل؟

أين الله عن كل ذلك وعن ابليس الذي يتسبب في وقوعها، هل هو غافل عم يفعل الظالمون، هل يعجزه منع ذلك؟ هل هو خائف - تعالى الله عن ذلك - ويقعده الجبن عن ترتب هذه المفاسد؟

بماذا تجيبون عن هذه التساؤلات نجيب في مسالة الزهراء (عليها السلام)، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة الله وهو يقوم ويقعد بأمره تعالى.

التعليق الثالث: ترك الدفاع ليس دائماً موافقاً للجبن والانهزامية!

إن ترك الدفاع قد يكون هو الموافق للشجاعة والحكمة، ولكي يتضح ذلك أذكر مثالاً:

لو فرضنا شخصاً في زمن صدام وتعرض بعثي لزوجته في الشارع بحركة مذلة لا تصدر إلا من الأراذل، وعلم أنه إما أن يسكت وينتهي الأمر بهذا المقدار، وإما أن يظهر البسالة والغيرة ويدافع فيترتب على ذلك قتله واغتصاب زوجته، وأمه وبنته وتصفية الأنفس المحترمة، فأي موقف هو الموافق للشجاعة والحكمة، هل هو العض على الجرح والصبر والسكوت أم إظهار الاعتراض ودفع البعثي والانتقام منه؟

لو فعل هذا الرجل ما يريده الجاهل الذي يتحرك بغريزته السبعية لا بعقله، لكان محط لوم جميع العقلاء.

إن الامير (عليه السلام) هو الذي بنا هذا الدين مع ابن عمه بتضحياته وجهاده وجراحاته حتى قال النبي صلى (الله عليه واله): (ما قام الدين إلا بسيف علي)، وهذا الدين الذي بذل فيه الأمير جميع التضحيات كان يعيش فترة حرجة جدا، لعدة عوامل:

١- كان الدين حديث عهد لم تنعقد عليه قلوب المسلمين بالتسليم التام، فالمسلمون في ذلك اليوم هم الذين فروا من الزحف وتركوا رسول الله (صلى الله عليه واله) واسلموه للقتل في اكثر من موطن لا يدافع عنه إلا بعض أفراد، وهم الذين تثاقلوا عن تنفيذ أوامره في أكثر من مشهد بما في ذلك التقصير في قضية ما بعد الصلح و حج التمتع، بل هم الذين وصفوه بانه يهجر ومنعوه من كتابة ما لا تضل الأمة بعده.

٢- انقسام المسلمين فيما بينهم فقد كشفت احداث السقيفة عن اتهام أعظم فريقين المهاجرين والأنصار لعضهما البعض بحب التسلط على حساب الفرق الآخر.

٣- وجود المنافقين في مجتمع المدينة وحولها، وكانوا بنحو من القوة والكثرة اقتضى أن لا يكتفي القران في مقام الحديث عن تواجدهم وخطرهم بآية او آيتين، بل تعرض لهم بسورة كاملة كاملة وفي آيات متفرقة في عدة سور.

٤- وجود الطلقاء والعتقاء الذي لم ينفكوا عن قتال رسول الله (صلى الله عليه واله) والكيد بالإسلام والمسلمين ظاهراً إلا بعد كسر شوكتهم وغلبة الإسلام، ومن الطبيعي ان يتحين هؤلاء الفرضة للوثبة على الإسلام وأهله وإعادة مكانتهم ومصالحهم التي ذهبت بقوة الاسلام أدراج الرياح.

٥- وجود دولتين كافرتين قويتين لهما نفوذ ومصالح في جزيرة العرب، وبين المسلمين وبين إحداهما جبهة مفتوحة، فحرب مؤتة بعد لم تبرأ جراحاتها من أجساد المقاتلين، وهذا جيش أسامة قد أعده رسول الله (صلى الله عليه واله) وفيه انتدب كبار الصحابة، وهو على وشك أن يزحف نحو أطراف دولة الروم.

في ظل هذه الظروف اقبل القوم بالحطب والنار ينادي مناديهم: (أخرج يا علي وإلا احرقنا الدار ومن فيها) حتى كبسوا دار فاطمة (عليها السلام) ودخلوها عنوة الأمر الذي لم ينكره حتى ابن تيمة.

إن هذه الكلمة تبين مقدار الثمن الذي كان القوم مستعدين أن يدفعوه في سبيل تحقيق أهدافهم، فإذا كانوا جاهزين لحرق بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) وبضعته، وطفليها ريحانتي أبيها وأباهما نفس الرسول واخاه والولي بنص الغدير من أجل تحقيق غايتهم وأهدافهم، فهل هنالك شيء أكثر شناعة يمكن أن ينتهون عنه فيتنازلون عن مقاصدهم فيما إذا توقف تحقيقها على انتهاكه!

إن الامير (عليه السلام) كان - أو ربما كان - بين أن يشهر السيف ويدافع عن زوجته وحقه الشرعي، فيترتب على ذلك تمزق الواقع الإسلامي وخروج المسلمين من الإسلام وتوثب أعدائه عليه، وتصفية الطليعة المؤمنة، وبالتالي ذهاب تضحياته وجهوده وجود النبي من قبله لأكثر من عقدين من الزمان سداً بسبب حرب داخلية تعصف بالدين الإلهي، وبين أن يصبر ويسالم ما سلمت أمور المسلمين، فيعمل مع الطليعة الرسالية والخلاصة المنتقاة من أجل حفظ الإسلام ومذهب الحق في سفينة الإمامة التي تصارعها أمواج وأعاصير السلطات من ذلك اليوم وإلى يوم الناس هذا.

وقد اختار الامام (عليه السلام) بشجاعة وحكمة الخيار العقلائي والإلهي، فهذا الموقف الحكيم هو وصية النبي (صلى الله عليه واله) كما في بعض الاخبار.

التعليق الرابع: التشكيك في إمامة علي (ع)

 هذا التساؤل تارة يطرح للتشكيك في ظلامة الزهراء (عليها السلام) و أخرى يطرح للتشكيك في إمامة امير المؤمنين (عليه السلام) بالقول بأن الإمام (عليه السلام) لو كان إماماً حقاً لما سكت عن حقه لأنه شجاع، وكل ذلك اتضح جوابه مما تقدم.

ثم إنه لا يتوقف دفع هذه الشبهات على ثبوت ما تقدم كواقع تاريخي، بل يكفي أن يكون محتملاً وعلى أساسه يمكن الجمع بين أدلة ظلامة الزهراء (عليها السلام) أو أدلة إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فما دام احتمال الجمع بين شجاعة الامام (عليه السلام) وبين سكوته قائماً فهذه الشبهة باطلة ولا تقف أمام ما دل على ظلامة الصديقة و إمامة الإمام علي (عليهما السلام).

2019/01/20

زينب بنت علي (ع) ملهمة ثوّار لا ربيبة دلال

وهاج في القلب عبير الذكرى ليحمل عبقاً زينبياً بقلب "هاجر" الذي هاجر لرحال الاطيبين محمد وآله الأطهرين.

وتمتمت بين عالم الامنيات والواقع: "أتُراني سأكون يوماً بذلك الضريح الطاهر المبارك الزينبي لسيدة الخدر وشرف الفخر (زينب أبنةُ علي)؟؟".

وجاء أوان تحقق الامنيات والاحلام، كيف لا وهي بعين أبواب الارض والسماء عليهم صلوات الله أجمعين وابتهلت لله بصبر ودعاء يشّق عباب السماء بالزيارة.

وعاشت هاجر قصة التهيؤ بكل تفاصيلها.. وينابيعها الطاهرة العذبة.

وكانت مما آلت به على نفسها أن تتزود أكثر وأكثر معرفة ووعيا ومنهجا لعقيلة الهاشمين عليها السلام إن كتب الله لها الزيارة (بأسبوع معرفي متكامل).

ها هي إذاً تعيش بين أجنحة تحقق الحُلم والسفر الى قبرها المبارك الطاهر، ومن الحري بها الآن أن تبرّ بقسمها وعهدها الذي عاهدت به.

وبدأت بكتب كانت بين يديها وجمعت كتباً أخرى من مكتبات الأقارب، واشترت مجموعة كتيبات تحكي عن تلك الخفرة العظيمة سيدة الاعلام وبوابة التقوى وجبل الصبر وحاملة الرسالة المحمدية العلوية الحسينية، وذلك أقل ما تقدمه هاجر لتلك السيدة العظيمة بل لنفسها أولاً لأنها سترتقي وتتطهر بماء النهج الزينبي الاكمل والأقوم.

البداية مع "ملهمة الثوار"

كانت البداية مع كلمات قرأتها من كتابها الاول هامت في بحورها شوقا وعشقاً وهي تبحر بفضاء الكلمة إذ تقرأ:

إن كان للرجال مفخرة وهو علي بن ابي طالب رجل الحق والصدق ومعدن الفكر والعدل، فإن زينب عليها السلام مفخرة للنساء قاطبة، فمن الامام علي نستمد الثبات ومن زينب نتقدّ بالنهج القويم.

زينب هي ملهمة الثوار، زينب هي السيف القاطع والمشعل الذي يقود المسيرة، فالمرأة اليوم ستنال الحظوة إذا ما كانت كالفصيل لفخر المخدرات، فالعقيلة الحوراء لم تكن أم المصائب فقط، رغم المعاناة التي تحملتها والمآسي التي تكبدتها بل أم لكل الفضائل والمناقب ويبقى لربيعها الفواح فصول متنوعة إذ يطالعنا قول المعصوم لها عليه السلام: "أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة"

 فهي تاج من ذي الإنجيل المحمدي، وبطولتها في الدفاع عن قيادة السماء مسرح يكشف عن شدة بسالتها فتارة تدافع قاتل الحسين، وأخرى تحمي بقية آل محمد من سيف الجلاد: "فإن كنت قد عزمت على قتله فاقتلني قبله".

كلمات تدوي في عنق الزمان لتعلمنا معنى المدافعة والإيثار لصالح القيم.

وسرحت هاجر مع وقع هذه الكلمات لتخوض عباب الفكر، تُراها أيُ أمراة تلك التي حفرت أسمها بأحرف من ذهب في سجلات التاريخ، وبكل قوة وصلابة رغم فداحة الخطب وعظيم المصاب؟!

ومازالت هاجر تسرح بهذه الصور، حتى غلبها النوم ظاهراً وطارت روحها لعالم الفخر الملكوتي الزينبي الزهرائي باطنا بأحلام الوصل والسير على المنهج القويم.

ومن هنا قررت الرجوع للبيئة العظيمة التي تربت بها الحوراء عليها السلام مع كتبها التي باتت تعشقها ولا تُحب أن تفارقها بكل لحظاتها لينابيعها الزينبية المتدفقة والممتدة لتلك العظيمة زينب عليها السلام.

وهكذا بدأت لتقرأ: "لم تكن ربيبة الدلال"

لزينب الطهر كرامة يعرفها من قصدها، ولهذه الكرامة منبع؛ فالقرآن مربيها والكرار مغذيها، لم تكن ربيبة الدلال فهي وارثة الزهراء لم تخرم مشية أمها البتول، حجة على كل البشر، ألم تكن عفيفة رغم العدى؟! وحشمة طول المدى؟! فلماذا بدلنا الحوراء بحمالة الحطب؟! أعشقنا آكلة الاكباد فاستهوتنا فتنتها؟! أم أن زينة الشيطان أغرتنا فلبسناها كما يهوى ونسينا قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)، لقد ضاعت العفة في زمن قاتلت زينب من أجلها، وولى الحياء فكانت القدوة بنات طارق.

لهذا كان لزاماً على كل مؤمنة أن تضرب أروع الأمثال في الاحتشام والاستقامة على الطريق.

الحجاب رفيق.. ما رأينا لزينب شخصاً ولا سمعنا لها صوتاً

وبقيت هاجر تسرح بمخيلتها فيعالم العفة ذلك لتُكمل السطور:

ومن أهم نماذج العفيفات التي قدمها الإسلام بعد السيدة الزهراء عليها السلام ابنتها عقيلة الطالبيين زينب بنت علي بن أبي طالب وقد بلغت من الحرص على الحجاب والستر حدّ أن تجعل في أول ما وبَّخت يزيد الطاغية عليه رغم كثرة وعظم جرائمه هتك ستور النساء وتعريضهن لأنظار القوم في مسير السبي.

ولا عجب فإن الحجاب والعفاف رافق حياة هذه العظيمة حيث يروى أن يحيى المازني قال: "كنت في جوار أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة المنورة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله تخرج ليلاً والحسن عليها السلام عن يمينها والحسين عليها السلام عن شمالها وأمير المؤمنين عليها السلام أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين عليها السلام فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن عليها السلام مرة عن ذلك فقال عليها السلام: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب عليها السلام "

ورغم ما كانت تقرأ -هاجر- وثقتها بعظيم موقع ومنجزات هذه السيدة العظيمة المهابة الاّ انها بقيت منتظرة الاسباب والامور التي تكاتفت لتصوغ هذه الدرة الاروع أبنة علي عليه السلام لتكون مناراً لكل النساء وعلماً لكل صبر ووفاء.

إعداد إلهي..

واستمرت لتقرأ:

إن التربية الملتزمة الواعية توصل المرأة إلى منزلة القيادة والقدوة والكمال، للنساء بل للرجال أيضا، كما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بعض النساء المميزات في حركة التاريخ، ومن هؤلاء النساء السيدة زينب عليها السلام التي جسّدت مختلف أدوار المرأة.

ويبدو جليّا لنا من خلال تتبع حياة هذه المرأة العظيمة أنها كانت معدة إعدادا إلهيا خاصاً للقيام بهذا الدور العظيم الذي حفظ الإسلام من التحريف، فقد ذكر المؤرخون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين علم بمولد زينب عليها السلام وجم وبكى وضمها إلى صدره وهو يوسعها تقبيلاً، حتى أثار ذلك عجب أمها سيدة نساء العالمين فقالت: "ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عينا"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة أعلمي أن هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصب عليها الرزايا والمصائب". 

وفي بعض الروايات: "إن الحسين عليه السلام إذا زارته زينب يقوم إجلالا لها، وكان يجلسها في مكانه".

وهنا تعبت (هاجر) بدنيّاً لقراءتها المستمرة لكن روحها مازالت عطشى وبشوق وتوق غامر لتتبع أسرار تلك الحُرة الابية اللبوة العلوية فنامت وكتابها الحبيب على صدرها لتصحو على غد زينبي مورق.

بدأت هاجر من جديد بإشراقة شمس الصباح المزدانة بالحب والامل لتكمل كل أعمالها المنزلية بقوة وحماسة ما عهدتها من قبل وكأن سيدة الخدر نفثت في جلبابها سحرا وملأت قلبها نورا وهاجاً خفاءً وسراً لتدخل وتتزود من كتبها.. ها قد عادت بعد أن أنهت عملها المنزلي لتقرأ:

قبسٌ من صفاتها الطيبة العظيمة

-عبادة زينب عليها السلام: كانت تقضي عامة لياليها بالتهجّد وتلاوة القرآن، وفي رواية: أن الحسين عليه السلام لما ودّع أخته زينب وداعه الأخير قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل.

- شجاعتها: قال ابن مرجانة سائلاً عنها: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه، فأجابته إحدى السيّدات: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم.

فأجابته عليه السلام بشجاعة أبيها محتقرة له قائلة: "الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة".

- تسليمها: وكذلك عندما خاطبها مستهزئاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته قائلة: "ما رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلاً، هؤُلاَءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يا بْنَ مَرْجَانَةَ..".

د- ثباتها ومواجهتها للظالمين:

قال بشير بن خزيم ألأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي يومئذ، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: " فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ...َأتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا..."

وهنا طافت بروح هاجر أشباح الغدر ووقع صليل سيوف القتل بواقعة ما شهد لها التاريخ من مثيل واهجت بها العبرات والزفرات من أسياد الارض والسموات الذين منعوا ماء الفرات واختلطت بالعين دمعة وبالقلب زفرة وحسرة لتلعن الظالمين معاهدة أنها ستزور زينب عليها السلام وستبقى مستوحية لتلك الروحانية العالية بكل وقت وزمان بل ستنشر ذلك العبق الطاهر مع كل حديث ومقال وكذلك ستستمر بالقراءة والاطلاع اكثر واكثر عن اهل البيت عليهم السلام واستقصاء سيرتهم العظيمة فخراً بان لنا قادة وسادة وأبواب لله كمحمد واله الأطهار الاخيار.

2019/01/12

ما لا تعرفه عن أبواب مرقد الإمام الحسين (ع)!

أهم الأبواب القديمة لحرم الإمام الحسين عليه السلام هي:

1 ـ باب القبلة: ويقع في جهة القبلة للروضة في منتصف الضلع الجنوبي. ويبلغ عمق مدخله 18 متراً وعرضه 5.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 6 أمتار وعرضها 4 أمتار. وقد رفع هذا الباب في السنوات الأخيرة ونصب محله باب جديد. ويعتبر هذا الباب أقدم الأبواب الأخرى في الروضة الحسينية، وتعلوه ساعة كبيرة تجلس على برج ارتفاعه من أعلى الساعة إلى مستوى أرضية الصحن 25 متراً.

2 ـ باب الزينبية: ويقع من الجهة الغربية من باب القبلة. وقد سمي بهذا الاسم لأنه يؤدي بالخارج من الصحن إلى (تل الزينبية) ويبلغ عمق مدخله 10 أمتار، وعرضه يتفاوت بين 2.50 و 3.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

3 ـ باب السدرة: ويقع في زاوية الصحن من الجهة الشمالية الغربية. وقد سُمي بهذا الاسم تيمناً بشجرة السدرة التي كان يستدل بها الزائرون على موضع قبر الحسين، ويبلغ عمق مدخله 13 متراً وعرضه 3 أمتار، وتتقدمه بوابة يبلغ ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار، وقد نقل إليه باب القبلة القديم ونصب في مدخله.

4 ـ باب الصحن الصغير (باب الشهداء): وكان يطلق عليه أيضاً باب الصافي. ويقع في الجهة الشرقية من الصحن المؤدي إلى مرقد العباس وهو من الأبواب القديمة. ويبلغ عمق مدخله 16 متراً وعرضه 3.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

5 ـ باب قاضي الحاجات: ويُعرف أيضاً بباب المراد. ويقع في الجهة الشرقية للصحن مقابل سوق العرب وهو من الأبواب القديمة أيضاً. ويبلغ عمق مدخله 16 متراً وعرضه 3.50 متر، تتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

 أما الأبواب الحديثة فهي:

باب رأس الحسين: وعرف بهذا الاسم لأنه يقابل موضع رأس الحسين (ع)، ويقع بين باب الزينبية والباب السلطاني في الجهة الغربية من الصحن. وقد نفذ هذا الباب من الإيوان الناصري أو الحميدي، ويبلغ ارتفاع مبنى المدخل حوالي 15 متراً وتعلوه ساعة كبيرة تعتبر تحفة معمارية رائعة. أما عمق المدخل فيبلغ 10 أمتار وعرضه يتفاوت بين 4.50 متر في بدايته و6 أمتار في نهايته، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

باب الكرامة: ويقع في الزاوية الشمالية الشرقية من الصحن مقابل سوق الحسين الشهير الذي أزيل قسم منه سنة 1980م، والقسم الآخر سنة 1991م. والمدخل معقود ومزين بالقاشاني الجميل ويبلغ عمقه 12 متراً وينحرف قليلاً في نهايته وعرضه 3.50 متر، وتتقدمه بوابة ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.

باب الرجاء: ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من الصحن، مقابل خان الباشا القديم الذي شيدت على أنقاضه الحسينية الطهرانية التي سميت بعد ذلك بالحيدرية والتي أزيلت عمارتها عام 1991م من قبل الحكومة العراقية. ويبلغ عمق مدخله 16 متراً وينحرف قليلاً عند نهايته أما عرضه فيبلغ 3.50 متر، تتقدمه بوابة ارتفاعها 5 أمتار وعرضها 3.50 متر.

باب الصالحين: يعتبر هذا المدخل من المداخل الجديدة التي فتحت سنة 1960م في الجهة الشمالية من الصحن، ويقع في إيوان الوزير، ويبلغ عمقه 10 أمتار وعرضه 7 أمتار، تتقدمه بوابة يبلغ ارتفاعها 4 أمتار وعرضها 3 أمتار.


*عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية ـ الدكتور المهندس المعماري رؤوف محمد علي الأنصاري

2018/11/22

كيف تعامل النبي (ص) مع الشباب؟

رَبى النبي (ص) جيلاً مؤمناً وملتزماً بمفاهيم وقيم الإسلام، وكان الغالب في هذا الجيل شريحةِ الشباب. فعادة ما يتفاعل الشباب مع كل جديد، وهم أكثر الناس تأثراً، وأسرعهم استجابة، وأشدهم تفاعلاً، بخلاف جيل الشيوخ الذين ـ في الغالب ـ ما يقفون حجر عثرة أمام أي تغيير أو إصلاح، وأشد الناس تمسكاً بالقديم، ورفضاً للحديث والجديد.

وكان للشباب دور رئيس في الالتفاف حول الرسول محمد (ص)، ودعم ما جاء به النبي (ص)، والدعوة إليه، والدفاع عنه. كما كان للنبي (ص)، اهتمام خاص برعاية الشباب وتربيتهم وإعدادهم لتحمل المسؤوليات الكبيرة.

وما نريد التركيز عليه هو: كيف تعامل النبي (ص)، مع الشباب؟ وما هي القواعد التي ربى عليها النبي (ص)، شباب الجيل الأول؟

يمكننا أن نلخص الإجابة على هذه التساؤلات ضمن النقاط التالية:

1ـ التربية المتوازنة:

إن النبي (ص)، رَبىَّ الشباب على التربية المتوازنة القائمة على الموازنة بين العاطفة والعقل، الروح والجسد، العلم والعمل. وهذا التوازن الدقيق هو المنهج السليم في التربية، بَيْدَ أن طغيان جانب على حساب الجانب الآخر، سيؤدي إلى خللٍ في بناء الذات، وانحراف عن منهج الإسلام.

وقد كان النبي (ص)، يقف ضد كل توجه غير صحيح، أو تفكير خاطئ، أو ممارسة سلبية؛ من ذلك ما روي أن النبي (ص)، جلس للناس ووصف يوم القيامة، ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ولا يقربوا النساء ولا الطيب، ويلبسوا المسوح (1)، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويخصوا المذاكير، فبلغ ذلك النبي (ص)، فأتى منزل عثمان فلم يجده، فقال لامرأته: "أ حق ما بلغني؟ " فكرهت أن يكذب رسول الله (ص)، وأن تبتدئ على زوجها فقالت: يا رسول الله، إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك، فانصرف رسول الله (ص)، وأتى عثمان منزله فأخبرته زوجته بذلك، فأتى هو وأصحابه إلى النبي (ص)، فقال: "ألم أنبأ أنكم اتفقتم؟ " فقالوا: ما أ ردنا إلا الخير. فقال (ص): "إني لم أؤمر بذلك، ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وافطروا، وقوموا وناموا، فإني أصوم وأفطر، و أقوم وأنام، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثم جمع الناس وخطبهم، وقال: "ما بال قوم حرموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا! وأما أنا فلست آمركم أن تكونوا قسسة ورهبانا، إنه ليس في ديني ترك النساء واللحم، واتخاذ الصوامع، إن سياحة أمتي في الصوم، ورهبانيتها الجهاد، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد، شددوا على أ نفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات (2) والصوامع" (3)

من خلال هذه الرواية نستنتج أن النبي (ص)، قد رفض بقوة التوجه الخاطئ نحو الرهبانية، وترك الطيبات، وأوضح بكل جلاء أنه ليس في الإسلام رهبانية، بمعنى الانعزال عن الدنيا، وترك الزواج، وعدم استخدام الطيب..... إلخ. وإنما الإسلام يدعو إلى التوازن بين متطلبات الجسم ولوازم الروح، والإنسان كما يحتاج لإشباع غرائزه وشهواته المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح، يحتاج كذلك لإشباع ميوله ورغباته المعنوية؛ وأي طغيان لجانب على حساب الآخر سيؤدي إلى خلل في الشخصية، وانحراف عن منهج الإسلام.

وهكذا ربَّى النبي (ص)، أصحابه على التوازن بين متطلبات الجسم، ومستلزمات الروح.

وفي هذا العصر حيث طغت المادية فيه على كل شئ، وأصبح شعار الفلسفة المادية الحديثة هو التركيز على كل ما هو مادي، وتجاهل كل ما هو معنوي وروحي.... يحتاج كل شاب أن ينتبه إلى ذاته وأن يسعى لتحصيل الكمالات الروحية، وهذا يتطلب مجاهدة النفس، والتدرب على ممارسة الرياضة الروحية، وترويض الذات على سلوك طريق الحق والخير والصلاح.

وليكن شعارنا قول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(4).

2ـ الرفق بالشباب:

تعامل الرسول (ص)، برفق مع الشباب، وهذا مما زاد في إعجاب الشباب بالنبي (ص)، والتفافهم حوله، وقد مدح القرآن الكريم تعامل النبي (ص)، مع الناس باللين والرفق، يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(5)

وقد كان النبي (ص)،  يحث على الرفق، فقد روي عنه (ص)،  قوله: "إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه "(6) وعنه (ص)،  أيضاً: "إياكم والتعمق في الدين، فإن الله قد جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون، فإن الله يحب ما دام من عمل صالح، وإن كان يسيراً "(7).

والمطلع على سيرة النبي (ص)، يجد الكثير من الأمثلة التي تدل على رفقه (ص)، بالشباب، نذكر من ذلك ما يلي: 

1-عن أنس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده (8).

2 - عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا حدث الحديث أو سئل عن الامر كرره ثلاثا ليفهم ويفهم عنه (9)

3 ـ روى عن زيد بن ثابت قال: كنا إذا جلسنا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا اُحدثكم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (10).

4- عن أبي الحميساء قال: تابعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث فواعدته مكانا فنسيته يومي والغد فأتيته اليوم الثالث، فقال (عليه السلام): يا فتى لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيام (11).

5- عن جرير بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت، فأبصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ ثوبه فلفه ورمى به إليه وقال: اجلس على هذا، فأخذه جرير فوضعه على وجهه وقبله (12).

6- عن سلمان الفارسي قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متكئ على وسادة فألقاها إلي، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراما له إلا غفر الله له (13).

من هذه النماذج من سيرة النبي (ص)،  يتضح لنا رفق رسول الله (ص)،  بالشباب، وتعامله معهم بكل لطف وليونة، وهذا من أسباب نجاح الدعوة، واستقطاب الشباب لرسالة الإسلام. وهذا ما يجب أن يتصف به الدعاة والقادة والعلماء إذا ما أرادوا استقطاب الشباب، والتأثير فيهم، وكسبهم نحو التدين، ومنهج الإسلام.

3ـ الثناء على الشباب:

للثناء تأثير كبير على النفوس، وبالخصوص نفوس الشباب،  ولذلك كان النبي (ص)، كثيراً ما يثني على الشباب المؤمن؛ فقد روي عن النبي(ص)،  قوله: "ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً "(14) وعنه (ص)، أيضاً أنه قال: "إن أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقاً "(15) وقال (ص)،  أيضاً: "فضل الشاب العابد الذي تعبد في صباه على الشيخ الذي تعبد بعدما كبرت سنه كفضل المرسلين على سائر الناس "(16)

وقد كان لثناء الرسول (ص)، على الشباب دور مهم ومؤثر في كسب المزيد منهم، والتفافهم حول قيادة النبي (ص)، وهذا ما جعل للشباب دور فاعل في تقدم الدعوة، ونشر رسالة الإسلام إلى مختلف المناطق. فالشباب هم عماد أي تقدم، وسر نهضة الأمم، وقوة أي مجتمع؛ لأنهم في مرحلة القوة، والقدرة على العطاء والإنتاج، والاستعداد للتضحية والفداء، وحب المغامرة، وتوكيد الشخصية.

وهذا ما يجب أن يقوم به أي قائد أو مصلح أو زعيم يسعى نحو التغيير والإصلاح، إذ يجب كسب الشباب، والعمل على إقناعهم لخدمة الإسلام، والمساهمة في تقدم المجتمع والأمة.

4ـ خلق الثقة في نفوس الشباب:

إن من أهم القواعد في بناء الشخصية وصنع النجاح هو الثقة بالنفس، والقارئ لسيرة النبي (ص)، يلاحظ أنه (ص)، قد عمل على صنع ثقة الشباب بأنفسهم، فقد قام (ص)، بإعطاء الشباب الكثير من المسؤوليات الكبيرة والمهمة، مما أدى لزيادة الثقة بأنفسهم، وتنمية إرادتهم.

والأمثلة على تولية الرسول (ص)، للشباب مسؤوليات كبيرة ومهمة، عديدة نذكر منها:

1ـ إن أول مبلغ بعثه النبي (ص)، لنشر الإسلام في المدينة المنورة كان مصعب بن عمير، وكان عندئذٍ في ريعان شبابه. وقد استطاع مصعب بالرغم من حداثة سنه أن يقنع الكثير من الناس في المدينة المنورة ـ وكانت المدينة يومها من أهم مدن الجزيرة العربية ـ بالإسلام. وقد عمل مصعب بكل جد وإخلاص من أجل التأثير في الناس، وإقناعهم برسالة الإسلام السمحة.

2ـ بعد فتح مكة بفترة زمنية قليلة، اضطر الرسول (ص)، للخروج منها بجيشه، والتوجه نحو جبهة القتال، وكان لابد من تعيين قائد لمكة لإدارة شؤونها، وقد اختار النبي (ص)، من بين جميع المسلمين شاباً لم يتجاوز الواحد والعشرين عاماً، وهو (عتاب بن أسيد) كقائد لمكة المكرمة في ظل غياب النبي (ص)، وأمر النبي (ص)،  (عتاب بن أسيد) أن يصلي بالناس وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة.

3ـ في أواخر حياة النبي (ص)، عبأ (ص)، المسلمين لقتال الروم، وضم جيشه كبار الضباط وأمراء الجيش ورجال المهاجرين والأنصار وشيوخ العرب والشخصيات البارزة آنذاك.

لاشك في أن قائد هذا الجيش العظيم لابد وأن يكون ذا شأن ومنزلة يختاره الرسول (ص)، لهذا الأمر الخطير من بين نخبة العسكر، فمن يا ترى حمل هذا اللواء؟

لقد استدعى الرسول (ص)، أسامة بن زيد، وعقد له لواء القيادة وخوّله إمارة الجيش. واستعمله النبي (ص)، وهو ابن ثماني عشر سنة.

وبات على الجميع أن يمد يد الطاعة والولاء لهذا القائد الشاب الذي عينه الرسول (ص)، بالرغم من وجود كبار القوم في هذا الجيش المتجه لقتال الإمبراطورية الرومية.

ولا يخفى أن الشرط الأساس لاختيار الشباب هو كفاءتهم وصلاحيتهم، ويتضح هذا الشرط جلياً في خطبه (ص)، وأحاديثه.  فالشباب الذين كان يقع عليهم اختيار النبي (ص)، لتقليدهم المناصب الحساسة في الدولة كانوا يتمتعون بالكفاءة واللياقة المطلوبة من حيث العقل والفكر والذكاء والإيمان والعلم والأخلاق والتدبير وبقية الجوانب (17).

ومن هذه النماذج التاريخية يتبين لنا كيف أن النبي (ص)، قد أجاد توظيف طاقات الشباب الخلاقة، واستطاع أن يزرع في نفوسهم الثقة بالنفس، والإرادة القوية، والعزيمة الفولاذية.. مما جعلهم يقومون بأدوار كبيرة، ويتحملون مسؤوليات خطيرة؛ كان لها الفضل الأكبر في نشر راية الإسلام خفاقة في بقاع الدنيا.

الخلاصة

من خلال تعامل النبي (ص)، الحكيم مع الشباب استطاع أن يربي جيلاً مؤمناً وملتزماً بتعاليم وقيم الإسلام، وكان لهذه الطليعة المؤمنة ـ فيما بعد ـ دور مهم ومؤثر في التبليغ للإسلام، ونشر مفاهيمه وقيمه ومثله.

وهكذا، يجب على كل قائد ومصلح وزعيم أن يعمل على كسب الشباب، وتوظيف طاقاتهم الخلاقة فيما يخدم المجتمع والأمة، واستثمار مواهبهم الإبداعية في التطوير والتقدم؛ كما عمل الرسول محمد (ص)، مع الشباب، فرسول الله (ص)، هو القدوة والأسوة، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (18)

ومن الضروري العمل بجد وإخلاص من أجل استقطاب الشباب نحو التدين، وإنماء القيم الأخلاقية لديهم، وتقوية البنية الثقافية عندهم؛ وتزداد المسؤولية عندما نعلم بما يواجهه شباب اليوم من حملات موجهة ومخططة من قبل وسائل الإعلام الفاسد، وشبكات الفساد والإفساد، ومافيا المسكرات والمخدرات.. وكلها تهدف إلى إفساد الشباب المسلم، وإبعاده عن دينه وقيمه وأخلاقه، ونشر التحلل الأخلاقي، والميوعة السلوكية لدى جيل الشباب.

إن على كل قادر من العلماء والمصلحين والمفكرين وغيرهم العمل بكل ما يمكن من أجل الاهتمام بقضايا الشباب، والمساهمة في حل مشكلاتهم، والعمل على استقطابهم نحو التدين، واستثمار مواهبهم وقدراتهم في عملية البناء الحضاري للأمة.


الهوامش:

1ـ المسح بكسر الميم وسكون السين: الثوب من الشعر. والجمع: مسوح.

2ـ الديارات: جمع دير، وهو خان النصارى.

3ـ مستدرك الوسائل، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي، دار الهداية، بيروت ـ لبنان ـ الطبعة الخامسة 1412هـ ـ1991 م، ج16، ص54، رقم 19126

4ـ سورة البقرة: الآية 201

5ــسورة آل عمران: الآيه159.

6ـ ميزان الحكمة، محمد الري شهري، دار الحديث الثقافية، بيروت ـ لبنان، طبع عام 1419هـ،ج3، ص1102، رقم 7354.

7ـ، ميزان الحكمة ج3، ص1104، رقم 7387.

8ـ مكارم الأخلاق، أبو نصير الحسن بن الفضل الطبرسي، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، الطبعة السادسة1392ـ 1972م،ص19

9ـ مكارم الأخلاق،ص20.

10ـ مكارم الأخلاق،ص21.

11ـ مكارم الأخلاق،ص21.

12ـ مكارم الأخلاق،ص21.

13ـ مكارم الأخلاق،ص21.

14ـ ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج4، ص1401، رقم 9095.

15ـ ميزان الحكمة،ج4، ص1401، رقم 9096.

16ـ ميزان الحكمة،ج4، ص1401، رقم9093.

17ـ الشاب بين العقل والعاطفة (بتصرف)، الشيخ محمد تقي فلسفي، مؤسسة البعثة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1412هـ ـ1992م، ج1، ص20.

18ـ سورة الأحزاب: الآية 21. 

2018/11/07

هل كان المختار الثقفي كذاباً؟!

ورد في المختار رحمه الله، عن الفريقين سنّة وشيعة، أخبار مادحة وأخرى ذامّة، على ما سيتّضح في الفصول اللاحقة، فهي متنافية متعارضة، تحتاج لمعالجة، بل المعالجة متعيّنة.

ونشير إلى أنّ أقوى ذمّ ورد في المختار أنّه ادعى النبوّة، وأنّ الوحي ينزل عليه، وأنّه هو الكذاب المعني بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «في ثقيف كذّابٌ ومبير» على ما سيأتي تفصيله في موضع آخر.

بيد أنّ هذه مجموع هذه القرائن تكذّب هذه الفرية تماماً؛ هاك لترى.

القرينة الأولى: الاتفاق على مدح المختار قبل قيامه بالثأر

قال ابن نما الحلي (645هـ) من أصحابنا: كان مولده في عام الهجرة، وحضر مع أبيه وقعة قُسِّ النّاطِف ([1]) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان يتفلّت للقتال فيمنعه سعد بن مسعود عمّه؛ فنشأ مقداماً شجاعاً لا يتّقي شيئاً، وتعاطى معالي الأمور.

 وكان ذا عقل وافر، وجواب حاظر، وخلال مأثورة، ونفس بالسخاء موفورة، وفطنة تدرك الأشياء بفراستها، وهمة تعلو على الفراقد بنفاستها، وحدس مصيب، وكف في الحروب مجيب، وقد مارس التجارب فحنكته، ولامس الخطوب فهذبته ([2]).

قال ابن عبد البر القرطبي (463هـ) من أهل السنّة في الاستيعاب: المختار معدود في أهل الفضل والدين، إلى أنْ طلب الإمارة، وادّعى أنّه رسول محمد بن الحنفية في طلب دم الحسين ([3]).

وقال الذهبي (748هـ) في السير: نشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة، والدهاء، وقلّة الدين([4]).

وقال أيضاً لما ملك المختار الكوفة: وأخذ المختار في العدل، وحسن السيرة ([5]).

وقال ابن حجر (852هـ) في الإصابة: المختار بن أبي عبيد الثقفي، غلب على الكوفة في أول خلافة بن الزبير، فأظهر محبة أهل البيت، ودعا النّاس إلى طلب قتلة الحسين، فتبعهم فقتل كثيراً ممّن باشر ذلك أو أعان عليه، فأحبّه النّاس، ثمّ إنّه زين له الشيطان أن ادعى النبوة، وزعم أنّ جبريل يأتيه...([6]).

قلت: ما ذكره ابن حجر أنّ المختار طلب الثأر وحاز على محبّة النّاس دراية، وأمّا أنّه ادعى النبوّة، فرواية ساقطة فيما سيتّضح في الفصل الرابع.

وقال ابن حجر في لسان الميزان: والده أبو عبيد، كان من خيار الصحابة، استشهد يوم الجسر في خلافة عمر بن الخطاب، وإليه نسبت الوقعة فيها جسر أبي عبيد، وكان المختار ولد بالهجرة، وبسبب ذلك ذكره ابن عبد البر في الصحابة؛ لأنّه له رؤية في ما يغلب على الظن ([7]).

وقال الذهبي (748هـ) في العبر: سنة أربع عشرة، وفيها كانت وقعة جسر أبي عبيد، واستشهد يومئذ طائفة منهم: أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو الذي نسب إليه الجسر، وهو والد المختار الكذّاب، وكان من سادة الصحابة ([8]).

قلت: يكاد لا يختلف أهل السنّة، ناهيك عن الشيعة أنار الله برهانهم أنّ المختار –قبل قيامه بالثأر للحسين- كان من أهل العقل والرأي والفصاحة والشجاعة والجهاد والدين؛ فلقد سلّ سيفه ليجاهد الكفار وهو بعمر ثلاثة عشرة سنة في وقعة جسر أبي عبيد، كذا ذكرت جلّ مصادرهم، وإنّما طعن فيه أهل السنّة بعد أنْ طلب الثأر وقارع الظالمين، زبيريين ومروانيين.

الزبدة: مدح المختار دراية، وذمّه -فيما سيثبت كتابنا المتواضع هذا- رواية، والدراية مقدّمة على الرواية، سيما إذا كانت الرواية ضعيفة الإسناد أو الدلالة أو كليهما.

وسيتّضح جليّاً أنّ الأخبار في ذمّ المختار؛ سيما ما ذكره أهل السنّة، إمّا ضعيفة الإسناد، وإمّا ضعيفة الدلالة، وإمّا كليهما.

القرينة الثانية: ابن عبّاس يمتدح المختار بعد موته

أخرج ابن سعد (230هـ) في كتاب الطبقات قال: أخبرنا المعلّى بن أسد، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار قال: حدثنا خالد، قال: حدثني أبو العريان المجاشعي، قال: بعثنا المختار في ألفي فارس إلى محمد بن الحنفيةـ قال فكنّا عنده.

قال (أبو العريان): فكان ابن عباس (68هـ) يذكر المختار(67هـ) فيقول: «أدركَ ثأرنا، وقضى ديوننا، وأنفق علينا»([9]).

قلت: إسناده صحيح دون أدنى كلام، فرجاله ثقات على شرط الشيخين، سوى بركة العريان، وهو ثقة بإجماع.

والنّص ظاهرٌ جدّاً أنّه صدر عن حبر الأمّة ابن عبّاس (68هـ) بعد مقتل المختار (67هـ) ومحالٌ عادةً أن يمتدح حبر الأمّة كذّاباً أشراً مدعيّاً للنبوّة؛ وإلاّ ساغ أن يمتدح مسيلمة الكذّاب أيضاً، وبطلانه ظاهر.

وفي هذا دلالة ما، أنّ فريّة ادّعاء المختار النبوّة أكذوبة حدثت بعد وفاة ابن عبّاس رضي الله عنه، فاحفظ.

وقال البلاذري وابن الأثير جازمين: وقال عبد الله بن الزبير لابن عباس: ألم يبلغك قتل الكذاب؟!

قال ابن عبّاس: ومن الكذاب؟!

قال ابن الزبير: ابن أبي عبيد.

فقال ابن عبّاس: قد بلغني قتل المختار.

قال ابن الزبير: كأنّك تكره تسميته كذاباً وتتوجّع له؟!

فقال ابن عبّاس: «ذلك رجل قتل قتلتنا، وطلب بدمائنا، وشفى غليل صدورنا، وليس جزاؤه منّا الشتم والشماتة» ([10]).

قلت: واضح أنّ دعوى كون المختار كذاباً، كما يظهر من نصّ البلاذري، فرية زبيريّة أوّل من ألصقها بالمختار آل الزبير ثمّ بني أميّة؛ كونه موالياً لأهل البيت عليهم السلام، وقد تواتر في التاريخ أنّ عبد الله بن الزبير كان من خصومهم، بل أعدائهم، لا يحبّهم ولا يطيقهم، حتى أنّه ترك الصلاة على محمد وآل محمد من العبادات حسداً لهم..، ذكرنا هذا موثقاً في بعض كتبنا الكبيرة ([11]).

الحاصل: محال عادةً أن يمتدح ابن عبّاس وهو حبر الأمّة، كذّاباً كافراً مدعيّاً للنبوّة؛ فتعيّنَ كونها فرية وأكذوبة وافتراء.

القرينة الثالثة: المختار من الصحابة

قال الحافظ ابن حجر: وكان المختار ولد بالهجرة، وبسبب ذلك ذكره ابن عبد البر في الصحابة([12]).

قلت: ذكره ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب؛ لقوّة احتمال أنّه ممّن رأى النبيّ 9، لكنّه مع ذلك نفى صحبته قائلاً: ولد المختار عام الهجرة، وليست له صحبة ولا رواية، وأخباره غير مرضية ([13]). اهـ.

قلت: وهذا كيلٌ بمكيالين؛ يدلّ على قوّة الصحبة والرؤية.

الدليل أنّ المختار من الصحابة

قال ابن حجر العسقلاني (852هـ) في اللسان: ذكره ابن عبد البر في الصحابة؛ لأنّه له رؤية في ما يغلب على الظن([14]).

قلت: وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع العلماء، غزا الطائف سنة ثمان للهجرة، وفيها قوم ثقيف، فدخل جميع أهلها الإسلام، عدا هذا فجميعهم في السنة العاشرة للهجرة قد شهد حجّة الوداع مع النبيّ محمد 9 دون استثناء، وقد كان عمر المختار وقتذاك عشر سنين؛ لعدم الخلاف أنّ مولده عام الهجرة.

قال أي ابن حجر في الإصابة موضّحاً ذلك: قد تقدّم غير مرة، أنّه لم يبق بمكّة، ولا الطائف، أحدٌ من قريش، وثقيف، إلاّ شهد حجّة الوداع، فمن ثمّ يكون المختار من هذا القسم([15])، إلاّ أنّ أخباره رديئة([16]).

وقال ابن حجر أيضاً: وقد تقدم التنبيه على أنّ من كان شهد الحروب في أيام أبي بكر وما قاربها، من قريش وثقيف، يكون معدوداً في الصحابة؛ لأنّهم شهدوا حجة الوداع([17]).

وقال أيضاً: تقرّرَ أنّ من عرف من أهل مكة والطائف، أنّه كان في العهد النبوي إلى خلافة أبي بكر فما بعدها، فإنّه يعد في الصحابة، لأنّهم شهدوا حجّة الوداع مع النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم([18]).

قلت: مجموع ذلك يفيد أنّ له رؤية وصحبة.

وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فيما اتّضح؛ فالمختار، على مباني أهل السنّة، من الصحابة، وكلّهم عدول إذا ماتوا على الإسلام.

وسيأتي أنّ أخبار أهل السنّة في ذمّ المختار، ليس فيها إلاّ ما يدلّ على إسلامه، وأمّا فرية أنّه ادّعى النبوّة وأنّ الوحي جبرائيل ينزل عليه وغير ذلك من الترهات، فهي تخرّصات وافتراءات ومجازفات، مجانبة لكلّ قواعد التحقيق، ومنافية لعامّة قوانين النظر.

والحقّ، وهو ما يستّضح جلياً، فإنّ جماعة من قدماء أهل النصب، من أعداء أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، تعمّدوا تسقيط شأن المختار فيما رامه من الحقّ، وتشويه صورته الشريفة في طلب الثأر؛ إرضاءً للشيطان وأعوانه من طغاة الزمان.

بيان كلام ابن عبد البرّ (463هـ)

وربما تقول بتنافي قول الحافظ ابن حجر: ذكره ابن عبد البر في كتاب الصحابة؛ لأنّه له رؤية في ما يغلب على الظن. مع قول ابن عبد البرّ في كتابه الصحابة: ليست له صحبة ولا رواية.

قلت: كتاب الصحابة، هو: الاستيعاب في معرفة الأصحاب. أدرج فيه كلّ من رأى النبيّ عليه السلام ومات على الإسلام، ولو احتمالاً.

وجوابه: لا تناف؛ للشك في كون المختار ; مات على الإسلام؛ إذ لو ثبت ادّعاء المختار النبوّة بنحو الجزم، فهو كمسيلمة الكذّاب، كافرٌ ليس بمسلم؛ فلا يكون من الصحابة.

فافهم هذا؛ إذ لا جزم في كون المختار ; قد ادّعى النبوّة وأنّ الوحي ينزل عليه، وإلاّ لما أدرجه ابن عبد البرّ في الصحابة؛ فكون ابن عبد البر قد أدرجه ضمن الصحابة في كتابه، فهذا يعني أنّه محتمل الصحبة والإسلام، وإن كان الراجح عنده أنّ المختار كان كذّاباً قد ادّعى النبوّة، لكن هذا لا بنحو الجزم واليقين، بل احتمالٌ وظنّ؛ وإلاّ لما ادرجه ضمن الصحابة، فتدبّر !!.

القرينة الرابعة: صاحب راية المختار صحابيٌّ ثقةٌ جليلٌ

قال الذهبي: وكان أبو الطفيل عامر بن واثلة 2(100هـ)، ثقة فيما ينقله، صادقاً، عالماً، شاعراً، فارساً، عمّرَ دهراً طويلاً، وشهد مع عليّ حروبه([19]).

قال ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدنيوري (276هـ) في المعارف: أبو الطّفيل: صاحب راية المختار (67هـ)، وكان آخر من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم موتاً (100هـ) ([20]).

 وقال الإمام أبو إسحاق، إبراهيم بن عليّ الشيرازي(476هـ): أبو الطفيل، عامر بن واثلة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان آخر من رآه موتاً، مات بعد سنة مائة، وكان صاحب راية المختار ([21]).

وقال ابن حجر (852هـ): أساء أبو محمد بن حزم الأندلسي، فضعف أحاديث أبي الطفيل؛ وقال: كان صاحب راية المختار الكذاب، وأبو الطفيل صحابي لا شك فيه، ولا يؤثر فيه قول أحد، ولا سيما بالعصبية والهوى([22]).

مشهور أهل القبلة الأعظم، سنّة وشيعة، على هذا، بل هو إجماع على التحقيق؛ إذ لا عبرة بمن شذّ إن وجد.

قلت: فهل يعقل أنّ المختار كان كذاباً؛ يدعّي النبوّة، وأنّ الوحي ينزل عليه، ويكون صاحب رايته في طلب ثأر الحسين بن علي صلوات الله عليه، هذا الصحابي الثقة العدل الجليل؟!!

اللهمّ كلاّ، وهذا يكشف أنّها افتراءات محضة، ألصقها أشرس خصوم أهل البيت عليهم السلام من آل الزبير وبني أميّة بالمختار رحمه الله؛ لتشويه صورته؛ كونه موالياً لأهل البيت طالباً بثأرهم.

بين صحبة المختار وأبي الطفيل!!

ننبّه للفائدة، أنّ أهل النقد والتاريخ والسيرة، أجمعوا على أنّ أبا الطفيل رضوان الله عليه كان صحابياً، مع أنّه لم يدرك من حياة النبي إلاّ ثمان سنين.

وأمّا المختار رضي الله تعالى عنه، فأدرك عشر سنين من حياة النبي صلوات الله عليه وآله، وهذا ينتج أنّ المختار أكبر من أبا الطفيل بسنتين، وهو، بضميمة ما تقدّم، قرينة على قوّة صحبة المختار رضي الله عنه.

قلت: مات أبو الطفيل سنة (100هـ) وقيل: (102هـ) وقيل: (107هـ) وقيل: (110هـ).

القرينة الخامسة: ابن عمر يقبل أموال المختار دون ذم

قال ابن سعد (230هـ) في طبقاته: أخبرنا الفضل بن دكين قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن نافع قال: كان المختار (بن أبي عبيد) يبعث بالمال إلى ابن عمر فيقبله ويقول: لا أسأل أحداً شيئاً، ولا أردّ ما رزقني الله.

وأخرجه ابن سعد أيضاً قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أويس المدني، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد به مثله([23]).

قلت: إسناد كلّ منهما صحيح على شرط مسلم، رجالهما ثقات على شرط الشيخين، سوى إمامنا جعفر بن محمد الصادق أرواح العالمين له الفداء، احتج به مسلم، ولم يحتج به البخاري قبّح الله صنيعه.

والحديث صريحٌ أنّ الصحابي المشهور عبد الله بن عمر بت الخطاب، كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد.

لكن نتساءل بشدّة، هل كان سيقبلها لو كان المختار مرتدّاً كذّاباً كافراً، مدّعياً للنبوّة فيما زعموا وافتروا ؟!! هاك لترى.

أخرج ابن سعد (230هـ) في الطبقات قال: قال: أخبرنا عارم بن الفضل قال: حدثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع أنّ معاوية بعث إلى ابن عمر بمائة ألف، فلما أراد أن يبايع ليزيد بن معاوية قال: أرى ذاك أراد..؛ إنّ ديني عندي إذاً لرخيص([24]).

وأخرجه الفسوي (277هـ) في المعرفة قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد به مثله ([25]).

قلت: إسناد كلّ منهما صحيحٌ على شرط الشيخين.

فإذا كان قبول ابن عمر أموال معاوية يعني أنّ الدين رخيص، فهديّة المختار لا تنافي الدين إطلاقاً، وإلاّ لذمّها ابن عمر كما ذمّ معاوية وأمواله؛ فمع أنّ الصحابي ابن عمر قبل هديّة معاوية خير قبول، إلاّ أنّه -آخرالمطاف- ذمّها كونها باطلاً، لكنّه لم يفعل هذا مع المختار وأمواله.

والحقّ فإنّ هذه القرينة، لا تصلح إلاّ لشيءٍ واحد، وهو دفع فرية أنّ المختار -وحاشاه- قد ادعى النبوّة وأنّ الوحي ينزل عليه، وإلاّ لاستحال عادةً أن يقبل ابن عمر أموال كافرٍ، مدعٍ للنبوّة والوحي، من دون أدنى ذمّ، فع هذا جيّداً واحفظه.

القرينة السادسة: ابن أبي ليلى يمتنع عن سبّ المختار

أخرج الإمام ابن أبي شيبة (235هـ) في مصنّفه المعروف قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضربه الحجاج وأوقفه على باب المسجد , قال: فجعلوا يقولون: العن الكذابين , فجعل عبد الرحمن يقول: «لعن الله الكذابين» ثمّ يسكت ثم يقول: «عليُّ بن أبي طالب، وعبدُ الله بن الزبير، والمختارُ بن أبي عبيد» , فعرفت حين سكت ثمَّ ابتدأهم فرفعهم أنّه ليس يريدهم ([26]).

وأخرجه ابن سعد (230هـ) قال: قال: أخبرنا أبو معاوية الضرير، قال: حدثنا الأعمش به مثله ([27]).

قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والضرير، وهو محمد بن خازم الأعمى قد صرّح بالسماع، وهو ثقة احتجّ به الشيخان.

قال الإمام الفسوي (277هـ) في كتابه المعرفة: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، قد أقامه الحجاج بن يوسف الثقفي، وضربه وهو يقول: سبَّ الكذّابين!!.

فيقول: عبد الرحمن: لعن الله الكذابين. ثمّ يسكت، ثم يقول: عليُّ بن أبي طالب، عبدُ الله بن الزبير، المختارُ بن أبي عبيد.

قلت: الحديث صحيح، وهذا الإسناد حسن على شرط البخاري.

وقد توبع ابن عيّاش بما أخرج الفسوي قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا حفص بن غياث وأبو بكر بن عياش، عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضربه الحجاج، وكان يحضره شيخاً، وهو متكىء على ابنه، وهم يقولون له: العن الكذابين؟!.

فيقول: لعن الله الكذابين، ثمّ يقول: الله الله عز وجل، عليُّ بن أبي طالب، عبدُ الله ابن الزبير، المختارُ بن أبي عبيد.

قال الأعمش: وأهل الشام حوله كأنّهم حمير لا يدرون ما يقول، وهو يخرجهم من اللعن ([28]).

قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

دلالة الحديث!!

أقل ما في هذا الحديث، نفي مزعمة أنّ المختار كان يدّعى النبوّة وأنّ الوحي ينزل عليه، وإلاّ لما ساغ لعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني رضي الله عنه، وهو علماء التابعين الأجلاء، التورية؛ كونها كذباً، وهو محرّم إجماعاً.

فتوريته رضوان الله عليه كاشفةٌ أنّ هذه الدعاوى، لا تعدو الكذب والافتراء، وأنّها معلّبة في مصانع السلطة الأمويّة المروانيّة الظالمة.

فعبد الرحمن بن أبي ليلى فيما قلنا، من أجلاء التابعين وعلماء المسلمين، أجمع على جلالته قاطبة أهل الإسلام سنّة وشيعة؛ فيكفي أنّه رأى مائة وعشرين صحابياً، أحدهم مولى الموحدين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، بل هو من أصحابه المشهورين، شهد معه حروبه رضوان الله عليه.

فيكفي في جلالته، وأنّه على الهدى، أنّه دعي إلى سبّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فتعاطى التورية الشرعيّة؛ فلم يقل: لعن الله الكذابين، المختارَ. ..، على المفعوليّة والنصب، بل قال: المختارُ، على الرفع والاستئناف والابتداء.

الحاصل: فرية أنّ المختار كذّاب، ممّا اختلقها بنو أميّة، عهد الحجاج، علاوة على آل الزبير قبل ذلك، ومدارنا النصوص الصحيحة، فاحفظ.

القرينة السابعة: لم يتفرّد المختار بطلب الثأر

ورد في المصادر المعتبرة، ولا خلاف في ذلك أنّ بعض الصحابة الأجّلاء، كانوا على دين المختار في طلب الثأر..، هاك ما تسنى لعجالتنا إحصاؤهم:

سليمان بن صرد الخزاعي

قال ابن حجر العسقلاني (852هـ) في التهذيب: سليمان بن صرد، بن الجون بن أبي الجون، بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن حرام الخزاعي، أبو مطرف الكوفي، له صحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبي بن كعب وعلي بن أبي طالب والحسن بن علي وجبير بن مطعم([29]).

وقال ابن حبان البستي (354هـ) في كتابه المشاهير: سليمان بن صرد الخزاعي أبو مطرف، له صحبة، وكان مع الحسين بن عليّ، فلما قتل الحسين انفرد من عسكره تسعة آلاف نفس، فيهم سليمان بن صرد، فلما خرج المختار، لحق سليمان به، فقتل مع المختار بن أبي عبيد، بعين الوردة في رمضان سنة سبع وستين ([30]).اهـ.

قلت: لم يُقتل المختار بعين الوردة فيما سيتّضح، ولعلّ مقصود ابن حبّان بالمعيّة أنّ الجميع على الجملة، كان جيشاً واحداً طالباً لثأر الحسين تحت راية المختار؛ لكن قبض على المختار رحمه الله في هذا الوقت وأودع في السجن، وسيأتي موجز البيان.

وتقع عين الوردة: غربي الكوفة، شمال شرق دمشق، وفي حدود علمي القاصر، هي اليوم ضمن الحدود التركيّة.

وقال الإمام الحنفي محمود بن أحمد العيني (855هـ) في العمدة: سليمان بن صرد بضم الصاد المهملة وفتح الراء وبالدال المهملة الخزاعي الكوفي الصحابي، وكان اسمه يسار وضد اليمين في الجاهلية، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سليمان، سكن الكوفة وقتل بموضع يقال له: عين الوردة، وقيل: في الحرب مع مقدمة عبيد الله بن زياد وحمل رأسه إلى مروان بن الحكم وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة([31]).

وقال المباركفوري في المرعاة: )سليمان بن صرد) بضم المهملة وفتح الراء ابن الجون الخزاعي أبومطرف الكوفي صحابي.

قال ابن عبد البر: كان خيراً فاضلاً وكان اسمه في الجاهلية يسار، فسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم سليمان، سكن الكوفة، وكان له سن عالية، وشرف وقدر وكلمة في قومه، وشهد مع علي صفين، وهو الذي قتل حوشب ذا ظليم الأُلهاني بصفين مبارزة، وكان فيمن كتب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري في آخرين إذ لم يقاتل معه ثم قالوا: مالنا من توبة مما فعلنا إلاّ أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فخرجوا فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد وسمّوه أمير التوابين، ثمّ ساروا فالتقوا بمقدمة عبيد الله بن زياد في أربعة آلاف، بموضع يقال له عين الوردة، فقتل سليمان والمسيب في ربيع الآخر سنة (65هـ) وقيل رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقلته، وحمل رأسه ورأس المسيب إلى مروان بن الحكم، وكان سليمان يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنة ([32]).

مخنف بن سليم

مخنف بن سليم بن الحارث بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن دينار بن ثعلبة بن الدؤل بن سعد بن غامد الأزدي الغامدي. ..، قال ابن سعد أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ونزل الكوفة بعد ذلك، ومن ولده أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الذي يروي الأخبار.

وقال أبو نعيم استعمله عليّ بن أبي طالب على أصبهان، وسكن الكوفة.

قلت (=ابن حجر): وكان ممّن خرج مع سليمان بن صرد في وقعة عين الوردة، وقتل بها، وكانت معه راية الأزد يوم صفين ([33]).

يتبع...

  • مقتطف من كتاب المختار الثقفي في ميزان الجرح والتعديل عند الفريقين، صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة

الهوامش:

 ([1]) منطقة وقعت فيها حرب بين المسلمين والفرس قرب الحيرة، وتسمى أيضاً: وقعة جسر أبي عبيد.

([2]) ذوب النظّار(ت: فارس حسون كريم): 60. مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

([3]) الاستيعاب (ت: علي البجاوي) 4: 1465. رقم: 2528. دار الجيل بيروت.

([4]) سير أعلام النبلاء 3: 539. رقم: 144. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([5]) سير أعلام النبلاء 3 :538. رقم: 144. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([6]) فتح الباري (ت: محب الدين الخطيب) 6: 617. دار المعرفة، بيروت.

([7]) لسان الميزان 6: 6، رقم: 17. دائرة المعارف النظامية، الهند.

([8]) العبر في أخبار من غبر(ت: أبو هاجر زغلول): 14. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([9]) طبقات ابن سعد (ت: محمد عطا) 5: 78. العلميّة، بيروت.

([10]) أنساب الأشراف (ت: سهيل زكار) 3: 287. دار الفكر، بيروت.

الكامل في التاريخ (ت: عمر تدمري) 3: 340. دار الكتاب العربي، بيروت.

([11]) انظر هذا في كتابنا عليّ 7في سنّة الرسول 9. دار الأثر، بيروت.

([12]) لسان الميزان 6: 6، رقم: 17. دائرة المعارف النظامية، الهند.

([13]) الاستيعاب (ت: علي البجاوي) 4: 1465. رقم: 2528. دار الجيل بيروت.

([14]) لسان الميزان 6: 6، رقم: 17. دائرة المعارف النظامية، الهند.

([15]) لابن حجر منهج ابتكره هو في الصحابة، فقسّمهم على أربعة أقسام: الأوّل: من ثبتت صحبته بالرواية. الثاني: فيمن ولد عهد النبيّ 9. الثالث: المخضرمين. الرابع، وهو مرمى ابن حجر ومنشوده وإبداعه: ما حام حولهم الخطأ والهم؛ كخطأ ابن عبد البرّ في نفي صحبة المختار.

فقول ابن حجر: المختار من هذا القسم، أي: الرابع؛ للعلّة أعلاه.

([16]) الإصابة 6: 292، رقم: 8567. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([17]) الإصابة 6: 128، رقم: 8103. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([18]) الإصابة 6: 130، رقم: 8110. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([19]) سير أعلام النبلاء 3 :538. رقم: 144. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([20]) المعارف: 624. الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة.

([21]) طبقات الفقهاء (ت: إحسان عبّاس). دار الرائد العربي، بيروت.

([22]) فتح الباري 1: 412. دار المعرفة، بيروت.

([23]) طبقات ابن سعد(ت: محمد عبد القادر عطا) 4: 112. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([24]) طبقات ابن سعد(ت: محمد عبد القادر عطا) 4: 138. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([25]) المعرفة والتاريخ1: 492.

([26]) مصنف ابن أبي شيبة(ت: كمال الحوت) 6: 195، رقم: 30617. مكتبة الرشد، الرياض.

([27]) طبقات ابن سعد(ت: محمد عبد القادر عطا) 6: 168. العلميّة، بيروت.

([28]) المعرفة والتاريخ (ت: أكرم ضياء العمري) 2: 617. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([29]) تهذيب التهذيب 4: 200، رقم: 340. دائرة المعارف النظاميّة، الهند.

([30]) مشاهير علماء الأمصار (ت: مرزوق إبراهيم): 81، رقم: 305. دار الوفاء، المنصورة.

([31]) عمدة القاري 22: 125. دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([32]) الاستيعاب(ت: علي البجاوي) 2: 650. لرقم :1056. دار الجيل، بيروت.

([33]) تهذيب التهذيب 10: 78، رقم: 136. دائرة المعارف النظاميّة، الهند.

2018/09/22

2018/08/12

2018/07/09

بالفيديو: ما لا تعرفه عن مدينة «النجف الأشرف» و «الحوزة العلمية»

وهي واحدة من أهم مدن العراق وتقع إلى الجنوب الغربي للعاصمة بغداد، وتضم مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما تضم أهم المراكز للتعليم الديني لوجود الحوزة العلمية في المدينة.
في المدينة أيضا الكثير من علماء الدين الشيعة وأغلب المراجع الكبار في الفقه الإسلامي حيث تحولت إلى أهم المراكز الدينية للمسلمين الشيعة، أذ تستقطب الألاف من طلاب العلوم الإسلامية.
المصدر: ويكيبيديا

الفيديو من انتاج فريق أبعاد الإعلامي

2018/06/20

ما وراء تعدد زوجات النبي (ص): لم يكن شهوانياً وتزوج بنساء أكبر منه

بدايةً لا بد أن نسلم بحقيقة مهمة من خلالها ستنفتح أمامنا نوافذ يمكننا الولوج من خلالها الى فهم إشكال تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذه الحقيقة هي أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يختلف من حيث التكاليف عن غيره ممن يدين بدين الإسلام، وخذ على ذلك شواهد، نذكر منها:

1 ـ أنه مأمور بقيام الليل والصلاة في جوفه، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا).

فرغم أن قيام الليل والصلاة فيه مستحب في حد ذاته، إلا أن هذا الاستحباب بالنسبة لعموم المكلفين باستثناء النبي الأعظم (صلى الله عليه واله) فقد أوجبه الله تعالى بحقه، كما دلت على ذلك الآية الكريمة.

2 ـ منع من أن يغمز أصحابه بعينه، حيث ذكر بعض المحدثين أنه لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟، قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".

وإذا اتضح ما تقدم، فإننا نقول: ما دامت حقيقة اختلاف التكاليف ثابتة بين النبي (صلى الله عليه واله) وسائر الناس ـ كما دلت عليه الشواهد المتقدمة ـ يمكننا أن نجري ذلك على مسألة تعدد زوجاته.

ومع إن أغلب المستشكلين في خصوص هذا الموضوع ربما لا يتوافقون ونبرة الدليل المتقدم بل يعزون الأمر الى مسألة واحدة، وهي أن الغرض من تعدد زوجاته "النهم الجنسي"، أي لمجرد شحن الغريزة لا أكثر، ومن هنا كان لزاماً أن نساير هذا الإشكال والرد عليه بنفس النمط الذي استوحاه صاحبه فنقول: إن مسألة تعدد الزوجات لا تخلو من عدة أمور، أبرزها:

1 ـ أن يكون هدف هذه الزيجات تكثير النسل، بمعنى آخر أن العنصر العربي دائماً ما يميل إلى حياة البداوة وهذه البيئة تميل الى الخشونة فكان أفراد ذلك المجتمع يميلون الى تكثير النسل لإقامة المجتمع القبلي القائم على قاعدة أنصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً، ومن المؤكد أن التفكير بهذه الطريقة كان يضع في حساباته أن الخطوة الأولى لإنجاحها لابد تكثير الزيجات لأن المرأة هي القناة الطبيعية التي تمد الحياة بنسخ جديدة من أفراد الجنس البشري.

2 ـ أن يكون الدافع من وراء تعدد الزيجات هو الجانب الغريزي الشهوي، فالمتعارف أن أفراد البشر (الذكر والأنثى) يكون بينهم ميول غريزية بحيث يسعى كل منهم الى إشباع تلك الغريزة، وقد تطغى تلك الطبيعة الغريزية بحيث لا يكتفي بعض الأفراد (الذكور) بفرد أنثوي، بحسب عوامل الجذب التي يمتلكها ذلك الفرد التي منها الشباب والجمال والذكاء الخ..

فيكون هذا السبب عامل مساعد على أن يقترن الذكور بأكثر من امرأة، فهل هذه العوامل هي التي دعت النبي الأعظم (صلى الله عليه واله) الى يقترن بأكثر من امرأة؟

أقول: أما العامل الأول فبعيد لأسباب متعددة:

1 ـ كانت سيرته (صلى الله عليه واله) قائمة على حقيقة أنه زعيم عالمي وليس زعيماً قبلياً، مما يعني أن تطلعاته كانت تهدف الى انتشال المجتمعات الأرضية من الانحطاط الى الرقي والتكامل وهذه المهمة ليست باليسيرة التي تضطلع بها الأبناء والقبيلة.

2 ـ ثم إن الواقع أثبت أنه ليس بصدد تكثير نسله، حيث قال لإحدى زوجاته وهو يعدد لها مناقب السيدة خديجة (سلام الله عليها) (آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ).

ومن الشواهد أيضاً أنه (صلى الله عليه واله) قال: كل بني ام ينتمون إلى عصبتهم إلا ولد فاطمة، فاني أنا أبوهم وعصبتهم .

وقال أيضاً: إن اللَّه جعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن اللَّه جعل ذريتي في صلب علي.

وهذه الأدلة المتظافرة لا تجعل مجالاً للشك في أن الهدف من زيجاته كان تكثير النسل، إذ أنه قد حدد أن امتداده الطبيعي خلافاً لسائر الأعراف والتقاليد المتبعة التي تحتم أن يكون من الأولاد الذكور، بخلافه هو (صلى الله عليه واله) الذي اعتبر أن ابنته الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) هي القناة التي تشكل امتداده الطبيعي، كما طالعنا الروايات المتقدمة.

[ذات صلة]

أما النقطة الثانية من الاحتمالات ـ وهي كون التعدد بدافع الغريزة ـ فهذا الاحتمال مدفوع بالوقائع التي دلت عليها سيرته المباركة، فمن المعلوم أن من يكون همه الشهوة والجنس فإنه ينتقي أفضل النساء وأجملهن وأصغرهن سناً، بينما يدلنا الواقع على أن غالبية زوجاته كان منهن كبيرات في السن وأرامل، بل كان بعضهن حين تزوجها لها من العمر 50 سنة، فهل من همه الشهوة يقدم على هكذا نوع من النساء؟.

 والملفت للنظر أنه كان باستطاعته اختيار أجمل النساء وأكثرهن شباباً ونظارةً وكان هذا الأمر بمتناوله (صلى الله عليه واله)، لكنه كان يختار هذا الصنف من النساء لأصحابه بل للضعاف منهم، كما في حادثة تزويج جويبر من الدلفاء بنت المنذر فقد ورد في أوصافها أنها كانت من أجمل نساء العرب وكان أبوها زعيماً من زعماء الأنصار، فقد أرسل اليه النبي (صلى الله عليه واله) يأمره أن يزوج إبنته لجويبر، وزوج إبنة عمه ضباعة بنت الزبير من المقداد بن الأسود، وزوج إبنة عمته زينب بنت جحش الشابة من إبنه بالتبني زيد بن حارثة.

فيتحصل مما تقدم أن هدف كثرة زيجات النبي (صلى الله عليه واله) بما أنه قد دفع عنه محذور الهوس الجنسي، فلم يبقَ أمامنا الى الإقرار بأن الغاية والهدف كان غرضياً عقلائياً مهما اختلف في تفسيره.

2018/03/07

ما لا تعرفه عن "تربة كربلاء"

 

لقد أولى الدين الحنيف بعض الأراضي جملة من الخصائص والمميزات، حيث إعتبرها مثالاً للقدسية والطهارة، فعلى سبيل المثال جعل مكة المكرمة مكان بيته العتيق وجعلها محل قاصديه ومهوى أفئدتهم، ولها أحكامها الشرعية الخاصة، وكذلك هو حال المدينة المنورة حيث جعلها مدفن رسوله (صلى الله عليه واله) ودار هجرته ومحل نزول الذكر الحكيم والدعوة إليه تعالى، وقس ذلك على بقعة الكوفة ووادي الغري ومالهما من مميزات فضلت بها على سائر البقاع، ولكن يبدو الأمر مختلفاً مع البقعة المباركة لأرض كربلاء، حيث دلت النصوص أن لهذه البقعة جملة من الخصوصيات غير موجودة في غيرها، وسنذكر ذلك تباعاً:

1 ـ دلت النصوص عند الفريقين أن تراب هذه البقعة قد تحول الى دم عبيط بسبب مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) على أرضها، ففي الأمالي للشيخ الطوسي ص314 قال:

"عن عبد الله بن عباس، قال: بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخا عظيما عاليا من بيت أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، فخرجت يتوجه بن قائدي إلى منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلما انتهيت إليها قلت: يا أم المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين ؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبد المطلب اسعدنني وابكين معي، فقد والله قتل سيدكن وسيد شباب أهل الجنة، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين. فقيل: يا أم المؤمنين، ومن أين علمت ذلك ؟ قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام الساعة شعثا مذعورا، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم، قالت: فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء، فقال: إذا صارت هذه التربة دما فقد قتل ابنك، وأعطانيها النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: اجعلني هذه التربة في زجاجة - أو قال: في قارورة - ولتكن عندك، فإذا صارت دما عبيطا فقد قتل الحسين، فرأيت القارورة الان وقد صارت دما عبيطا تفور. قال: وأخذت أم سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتما ومناحة على الحسين (عليه السلام)، فجاءت الركبان بخبره، وأنه قتل في ذلك اليوم".

2ـ مجموعة كبيرة من سكان هذه الأرض المباركة يدخلون الجنة من غير حساب، قال الهيثمي (في مجمع الزوائد 9: 191)

عن أبي هرثمة قال: كنت مع علي رضي الله عنه بنهر كربلاء، فمر بشجرة تحتها بعر غزلان، فأخذ منه قبضة فشمها، ثم قال: يحشر من هذا الظهر سبعون ألفا، يدخلون الجنة بغير حساب. رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

3 ـ إستحباب السجود على أرضها، ورد في مصباح المتهجد 734 للشيخ الطوسي:

روى معاوية بن عمار قال: كان لأبي عبد الله (الصادق)عليه السلام خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله عليه السلام فكان إذا حضرته الصلاة صبه على سجادته وسجد عليه، ثم قال عليه السلام: السجود على تربة أبي عبد الله عليه السلام يخرق الحجب السبع.

ومعنى أنها تخرق الحجب السبع، هي عبارة أخرى عن قبول صلاة من يصلي عليها ورفع تلك الصلاة الى السماء، كما صرح بذلك العلامة المجلسي في بحار الانوار، حيث قال: (خرق الحجب كناية عن قبول الصلاة ورفعها إلى السماء ) راجع بحار الانوار: ج82 :15

4 ـ أكل شيء من طينها، من المعلوم أن أكل الطين يعتبر من المحرمات في الشريعة، ولكن لطين تربة كربلاء استثناء من هذه القاعدة، حيث دلت جملة من النصوص ـ التي أدعي تواترها ـ جواز أكل مقدار صغير من ذلك الطين بغرض الإستشفاء.

سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن الطين ؟ فقال: (أكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير إلا طين الحائر [ قبر الحسين ]، فإن فيه شفاء من كل داء، وأمنا من كل خوف).

ولكن هناك شروط لتناول هذه الطينة المباركة:

أ- لا بد أن يكون حجم الطين المراد أكله حجم الحمصة المتوسطة الحجم

ب- أن يكون التناول بنية الإستشفاء وإلا فالأكل حرام، روى حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: (من أكل من طين قبر الحسين (عليه السلام) غير مستشف به، فكأنما أكل من لحومنا).

 

ج- أن يكون المستشفي عارفاً بقدر سيد الشهداء (عليه السلام) ومنزلته وإلا فلا تؤدي التربة غرضها، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وقد بلغني أن بعض من يأخذ من التربة شيئاً يستخف به حتى ان بعضهم ليطرحها في مخلاة الإبل والبغل والحمار أو في وعاء الطعام وما يمسح به الأيدي من الطعام والخرج والجوالق فكيف يستشفي به من هذه حاله عنده؟). 

2018/01/23

موقف الإمام علي في صلح الحديبية.. هل مُحيّ اسم النبي (ص) من بنود الصلح؟

من جملة المواقف التي يثيرها بعض المبغضين لأمير المؤمنين (عليه السلام) هو ما جرى في حادثة صلح الحديبية حيث يدعي هؤلاء أن الإمام (عليه السلام) قد خالف أمر النبي الواضح عند موافقته على طلب سهيل بن عمرو محو اسمه من الرسالة كشرط من شروط بنود العقد الذي أبرم بين الطرفين، فطلب النبي (صلى الله عليه واله) من الإمام علي (عليه السلام) أن يمحو عبارة محمد رسول الله ويكتب بدلها محمد بن عبد الله فرفض الإمام علي (عليه السلام) محو اسم النبي من الرسالة، وللرد على هذه الشبهة نذكر التالي:

1ـ هناك اختلاف في بعض النصوص في أن صاحب الموقف الرافض هل كان الإمام علي (عليه السلام) أو غيره؟ فقد دلت بعضها أن هناك بعض المسلمين هم من رفضوا فكرة محو اسم النبي (صلى الله عليه واله) وكثر لغطهم حول هذا الموضوع.

2ـ إن الإمام لم يكن يوماً ما شاكاً في النبي (صلى الله عليه واله) بل الشواهد كلها تدل على أنه كان على يقين بكل الخطوات التي يتخذها النبي (صلى الله عليه واله) ولم يسجل عليه أي اعتراض، لكن لما استعظم هذا الأمر توقف عنده ولم يقدم عليه، قال السيد المرتضى في رسائله ص443: "وقد بان بتوقفه الامر واتضح، وهو عليه السلام ما كان قط شاكا في أن الرسول لا يوجب قبيحا ولا يأمر بمفسدة، وانما لما تعلق ما ظهر من صورة الامر بفعل تنفر منه النفوس وتحيد عنه الطباع، جوز عليه السلام ألا يكون ذلك القول أمرا فتلاه بتوقفه، وذلك منه عليه السلام غاية الحكمة ونهاية الاحتياط للدين".

3 ـ إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبر النبي (صلى الله عليه واله) إن يده لا تطاوعه على هذا الفعل، لا أنه كان رافضاً لهذا الفعل، ولذا طلب من النبي أن يضع يده على يده جاء في الإرشاد للشيخ المفيد: "فقال له النبي صلى الله عليه وآله: امحها يا على فقال: يا رسول الله ان يدى لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة، قال له: فضع يدى عليها ففعل فمحاها رسول الله بيده، وقال لأمير المؤمنين عليه السلام: ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض، ثم تمم".

4ـ  دلل بعض الأعلام أن ما فعله الإمام (عليه السلام) هو غاية التأدب في حضرة النبي (صلى الله عليه واله) وأن الرفض لا كما يبدو لأول وهلة أنه دال على العناد والعصيان بل هو أقصى غايات التأدب والتواضع، وخذ شاهداً على ذلك :

قال إبن بطال البكري القرطبي في شرح صحيح البخاري (وإباءة علي من محو «رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» أدب منه وإيمان وليس بعصيان فيما أمره به، والعصيان ها هنا أبر من الطاعة له وأجمل في التأدب والإكرام).

5ـ إن الأمر الذي فهمه أمير المؤمنين (عليه السلام) من كلام النبي (صلى الله عليه واله) ليس إلزامياً (مولوياً) بل هو أمر إرشادي بمعنى آخر إن هذا الفعل إذ لم يقم بفعله فإنه ليس آثماً، نظير ما لو قال لشخص ما إذا أردت أن تأكل فتوضأ.

قال النووي في شرح صحيح مسلم:

(وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - مِنْ بَاب الْأَدَب الْمُسْتَحَبّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَم مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيم مَحْو عَلِيّ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِر وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوه بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكه، وَلَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَة).

ملاحظة أخيرة بعد أن ثبت أن ما قام به أمير المؤمنين (عليه السلام) على كل الأوجه المحتملة لا يلزم من أيٍ منها قدح أو ذم بل العكس الصحيح، لكن لم نر في الجانب المقابل من أدان بعض التصرفات التي قام بها على سبيل المثال عمر، حيث أنه كان من أشد المعارضين على كثير من تصرفات النبي (صلى الله عليه واله) وكان يجاهر بها بذلك على رؤوس الأشهاد.

فقد روى البخاري عما وقع من عمر في صلح الحديبية: أتيت النبي (ص) فقلت: ألست نبيّ الله؟ قال: بلى، فقلت: ألسنا على الحق، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى فقلت: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا ونرجع، ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: يا بن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أولست كنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك انّك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فانّك آتيه ومطوف به، فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبيّ الله…؟ (صحيح البخاري: 3/ 190)

وفي السيرة الحلبية: ان رسول الله (ص) قال لعمر لما عارضه في شأن الصلح (يا عمر انّي رضيت وتأبى).

فلماذا باء علي تجر وباء غيره لا تجر؟

2018/01/08

العمل السياسي الإسلامي: سياسة الأخلاق أم أخلاق السياسة؟!

السياسة في الإسلام يجب أن تكون حركة أخلاقية تسعى لبناء مجتمع تقوم روابطه على قيم الحق والفضيلة، وتعمل على رفض كل المظالم بما فيها الاضطهاد السياسي والاستئثار بالسلطة، وتسعى لتحقيق العدل والمساوة وإقامة الحقوق وتحقيق الرفاه والتنمية، والدفع بالأمم والمجتمعات الى الأمام، لتحقيق تكامل الإنسان وبناء حضارة الإسلام، وتتوسل السياسة في الإسلام لتحقيق ذلك بالصدق والإخلاص وكل قيم الفضيلة والأخلاق. وهذا الواقع الطموح أو الحقيقة المفترضة هي التي تنسجم مع الفهم الذي ينظر للإسلام بوصفه رسالة للحياة وليس فقط لتدبير شؤن الإنسان بعد الموت وعالم الآخرة. 

اما الوصف الموضوعي لواقع العمل السياسي بشكل عام يسير في الإتجاه المعاكس لهذا الطموح، فقد قامت كل التصورات السياسية على تكريس المصالح الآنية والدنيوية بعد أن أصبح الأفق الذي يتحرك فيه الإنسان لا يتجاوز حدود المادة، وأهمل في المقابل الجانب المعنوي والروحي الذي يُفهم في إطاره الإسلام كرسالة قيمية واخلاقية، كما أهمل بنفس المقدار الإنسان كذات قابلة للتكامل والسمو على صغائر المادة.

تلوث سياسي!

والحركات الإسلامية التي انخرطت في العمل السياسي في هذا الجو غير الصافي تلوثت به وأصبحت جزء من المشكلة الأخلاقية الكبرى التي تسود عالم اليوم، ولا نتجاوز الإنصاف اذا قلنا ان الإشكالية الكبرى التي تواجه الإنسانية اليوم هو هذا الانخراط السياسي للإسلاميين، وما أوجدوه من أزمة على مستوى الأمن الدولي، ولا يمكننا تبسيط الأسباب التي صنعت هذا التطرف الإسلامي بربط المسؤولية منفردة بهذه الجماعات الإرهابية كما يصنع كثير من المحللين، وانما المحيط والجو السياسي العالمي هو الذي خلق المناخ والبيئة المناسبة لنمو مثل هذه الحركات، فكل ظاهرة سياسية أو اجتماعية لا يمكن فهمها بعيداً عن المحيط التي وجدت فيه، والإرهاب كظاهرة هو مولود مشوه وغير شرعي لعملية سِفاح حضاري، فصراع الحضارات بل هيمنة بعض الحضارات وسياسة القطب الواحد ومصادرة حقوق الضعفاء ينتج حتماً وحشاً جريحاً لا يمكن ضبطه والتحكم في تصرفاته.

سياسة الأخلاق لا أخلاق السياسة

فما ينقص عالم اليوم هو حضور الأخلاق في عالم السياسة، وما يجب أن تسعى إليه الحركات الإسلامية -إن كانت جادة- هو سياسة الأخلاق لا أخلاق السياسة. وهذا ما لم تنجح فيه حتى الحركات المعتدلة عندما سعت الى السلطة مستعينة بأخلاقيات السياسة، فزادت الواقع تعقيداً كما شوهت حقيقة الإسلام، فعندما تكون في المعارضة ترفع شعار الحرية والتعددية وتطالب بالاستقلال وعدم الارتهان للقوى الدولية، كما تتحدث باسم المحرومين والفقراء، ولكنها تسير عكس كل ذلك إذا سنحت لها الظروف للوصول للسلطة في مكان ما، ولا نحتاج الى جمع شواهد من بعض التجارب المعاصرة فالكل شاهد على ما أحدثته الحركة الإسلامية بعد وصولها للسلطة سواء كان في أفغانستان أو في السودان، التي عملت على تدمير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والفكرية، ففي السودان بعد أن كانت تسير الحياة السياسية على نسق ديمقراطي تتنافس فيه الأحزاب السياسية في أجواء تتجه للتكامل والنضج في العمل السياسي الحر، جاءت الحركة الإسلامية للسلطة بانقلاب عسكري صادر هذه التجربة وما زالت مقاليد السلطة بيده، ناهيك عن الممارسات اللاأخلاقية في بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية مضافاً لتجاوز أبسط القيم الأخلاقية في التعامل مع المعارضة السياسية، والمتابع للتجارب الإسلامية لا يطالبنا بذكر شواهد تدلل على الأزمة الأخلاقية التي تعيشها هذه الحركات سواءً على مستوى العمل الحركي أو ممارسة الحكم والسلطة، وما تنقله وسائل الأعلام لممارسات داعش من قتل  وتفجير وغدر وخيانة كافي للحكم على انقلاب هذه الحركات على قيم الإسلام وتعاليمه السامية.

الاتجاه الدولي يتعارض مع قيمية الإسلام

إشكالية الرؤية السياسية الإسلامية في عالم اليوم هي هيمنة نموذج الدولة الحديثة على طبيعة التفكير السياسي عند الإنسان المعاصر، فقد وجد الإنسان المسلم نفسه في ورطة الحداثة التي لا يجد مفراً للخروج منها، ومسايرة الحركات الإسلامية لنموذج الدولة الحديثة قد يؤدي الى تخليها عن نظامها القيمي الذي تفرضه طبيعة الانتماء الى الإسلام، فقيام دولة إسلامية تحافظ على خصوصيتها القيمية في ظل مناخ دولي ضاغط في اتجاه واحد يتعارض مع النموذج الأخلاقي للإسلام، مما يجعل إقامة نظام إسلامي مهمة شبه مستحيلة. 

والخطاب الإسلامي اليوم بالفعل مبتلى بعقدة الحداثة، الأمر الذي يجعله بين خيارين: يمثل الخيار الأول البعد البراغماتي الذي يعمل على تبرير الخيارات ومداهنة الواقع ليتمكن من مسايرة الاتجاه العام. والخيار الآخر يمثل الأصولية المتحجرة الرافضة لكل منتجات الحداثة، وبين الخيارين تضيع الفرص لإنتاج رؤية أكثر واقعية تساهم في تكوين وعي سياسي يمكن أن نحتفظ فيه بأخلاقيات الإسلام في الوقت الذي يتاح فيه الاستفادة من مكتسبات الحداثة، وهذا الخيار يمثل طموحاً حالماً لا يمكن الوصول اليه في ظل التعقيد الذي يشهده الواقع وفي ظل خطاب إسلامي ينقصه الكثير لتجاوز التصور التاريخي للإسلام. 

وفي أحسن الحالات أصبح الإسلام مصدراً لقوانين الأحوال الشخصية في الدول الحديثة، حيث كتب في معظم دساتير الدول الإسلامية عبارة كون الإسلام مصدراً من مصادر التشريعات، في عبارات خادعة تعمل على إفراغ الإسلام عن محتواه الطبيعي المتفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي وحصره في بعض القوانين التي لا تؤثر على التوجه السياسي للدولة، بل قد وظفت الدولة بهذا العمل الإسلام لصالح مشروعها السياسي عندما تستخدم الإسلام كترضية للشارع الإسلامي بعد أن عملت على إعادة انتاج هذه التشريعات بالشكل الذي ينسجم مع الواقع الذي تفرضه سياسات الدولة. 

والحركات الإسلامية التي واجهت الدول القائمة اليوم مع اعتراف تلك الدول بالإسلام كمصدر لم تقدم تصور مقنع للعمل السياسي الإسلامي خارج حدود هذه التشريعات والقوانين الشخصية، وبعد وصول بعضها للسلطة نجد إنها حولت مفهوم الدولة الى مجرد حدود من قطع وبتر ورجم وجلد، في صور قشرية تتصادم بالطبع واليقين مع أبجديات الدولة الحديثة، فتجربة طالبان، وشريعة جعفر نميري في السودان، وبعض المناطق التي وقعت تحت حكم التيارات الإسلامية مؤخراً في سوريا والعراق، كشفت عن حجم التنافر الكبير بين محاولات إقامة دولة إسلامية وبين مفهوم الدولة الحديثة.

وهذا التعارض الذي صورناه بين الدولة الحديثة والدولة الإسلامية، لم يكن محل قبول الكثيرين فرفضت بعض قيادات العمل الإسلامي هذا التعارض بين المشروعين، وحاولت أن تقدم تصوراً يتحقق فيه هذا الانسجام،  وهو الخيار الذي يبدو أكثر تعقلاً وموضوعية، مع انه قد يفضي في خاتمة المطاف الى التنازل عن مشروع سياسي خاص بالإسلام، والانتصار لمشروع الدولة الحديثة مع بعض الرتوش التي تحاول إرضاء الطموح الإسلامي، فقد كتب دكتور عبد المنعم أبو الفتوح القيادي الإخواني السابق والمرشح المستقل للرئاسة في مصر مقالاً قال فيه: "وعندما نتأمل النصوص الإسلامية نجد إنها تخلو من أي شكل محدد للدولة، ونجدها تؤكد على القيم والمبادئ العليا التي يجب أن تستند اليها الدولة، تاركة شكل الدولة وطريقة إدارتها للمتغيرات الزمانية والمكانية. فالدولة باعتبارها ضرورة من ضرورات الاجتماع السياسي يجب أن تقوم للحفاظ على النظام وتنظيم شؤون الناس، أما شكلُها وطريقتها فهي متروكة للناس يطورون ويغيرون ويضيفون ويحذفون فيها بما تقتضيه مصالحهم التي تتغير من حين لآخر". 

 والدولة المدنية كتعبير عصري عن الدولة الحديثة بما يتلائم مع المتغيرات الجديدة لا يتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لان الإسلام هو المرجعية العليا للأوطان الإسلامية أو هكذا يجب أن يكون الحال. فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية فلا يوجد ما يمنع من تطويرها والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة كمنتج إنساني عام يجب الإفادة منه لصالح تقدمنا وتطورنا. 

 وعلى الجانب الآخر فإننا يجب أن نُقر جميعاً بأن مفهوم الدولة الدينية "كمصطلح" لم يرد في الإسلام! بمعنى ان قيم ومبادئ الإسلام الأساسية لا تؤسس لحكم "ثيوقراطي"، ولو كان الإسلام يرى ان في ذلك صالح الناس لنصّ على ذلك صراحة، وهو الدين الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في تنظيم شؤون الناس إلاّ ونصّ عليها، من الزواج والطلاق.. إلى السلم والحرب. 

 ان ما دعا اليه الإسلام بهذا الشأن هو التزام الدولة كمؤسسة تنظيمية بمرجعية الإسلام، ومنع سنّ أي قانون مخالف لثوابته القطعية فقط..". ( ).

وإن كان هذا النص يحمل فكراً متقدماً لتجاوز الإشكال السابق إلاّ انه يُعد تنازلاً عن الشعار التقليدي للإخوان المسلمين، كما يُعد كفراً في نظر الحركات الراديكالىة التي ما زالت تقاتل من أجل هذا المشروع وهو (إقامة دولة إسلامية)، فإذا كان في نظره مصطلح الدولة الإسلامية لا وجود له في القرآن، فلماذا من الإساس يرفع شعار هذه الدولة؟ وإذا كانت الدولة وجدت لتحقيق مصالح الناس، فكيف نتفهم وجود سياسة إسلامية رسمت سلفاً لتحقق مصالح الناس في كل زمان؟ فما يجوز نسبته للإسلام هو ما صرح به الله ورسوله وطالما لم يصرحوا بشكل او بنظام الدولة فكيف ننسب اجتهادات الإسلاميين للإسلام؟ فليس هناك فرق بين القول (دولة إسلامية أو دولة الله ودولة رسول الله). فطالما لا يوجد بيننا من يمكنه الحديث نيابة عن الله لا يوجد كذلك من يمكنه الحديث عن دولة إسلامية، وبالتالي الإطار الذي يجب أن يفهم فيه العمل السياسي الإسلامي هو العمل الجماهيري الحزبي الذي يتنافس مع الأحزاب الأخرى بحسب برنامجه السياسي فكما ان بعض الأحزاب قد تتشكل ضمن رؤية اشتراكية مثلاً، كذلك الحال في الأحزاب الإسلامية التي اشتركت وتوحدت في بعض الرؤى التي تمثل اجتهاداتهم في الإسلام، وهي المساحة التي نحترم فيها هذا الخيار الجماعي وليس لكونه يمثل الإسلام أو مراد الخالق، وكل ذلك من أجل الاحتراز من مصادرة هذه الحركات الإسلامية حقوق الناس باسم الإسلام ونيابة على الله.

 فبالمقدار الذي فشلت فيه الحركات الإسلامية سياسياً فشلت أيضاً اخلاقياً، ولم تتمكن من تقديم صورة أخلاقية ناصعة سواء في العمل الحركي أو في إدارة الدولة، برغم ان حركة الإخوان المسلمين تحتفظ بأدبيات ضخمة في تربية الأفراد من تزكية وتعليم وترابط أخوي، إلاّ ان آثار هذا العمل لم تنعكس على مستوى الفعل الاجتماعي والسياسي ولم يظهروا بسلوك يميزهم كثيراً عن بقية المسلمين، فلا إخوان مصر كانوا نماذج متميزة ولا إخوان سوريا وتونس والسودان واليمن والأردن وبقية الدول العربية، وشعوب كل دولة من هذه الدول تحتفظ بملفات ضخمة لكثير من ممارسات الإخوان الغير أخلاقية سواء كانت في دور المعارضة أو السلطة، الأمر الذي يقودنا لتفهم نفور الكثير من شعوب المنطقة من العمل السياسي الإسلامي، ولكي تكسب الحركة الإسلامية ثقة الشارع الإسلامي لابد من العمل على تأسيس سياسة متشبعة بأخلاق الإسلام وقيمه النبيلة، ولا نقصد الأخلاق العامة التي هي تكليف يجب أن يتحلى بها كل مسلم من صدق وأمانة على المستوى الشخصي ..، وانما نقصد الأخلاق التي يحتاجها العمل الاجتماعي والسياسي من عدالة وإنصاف وحرية ومساوة والدفاع عن سيادة الأمة وكرامتها والتضحية من أجل مصالحها. وهذا مالم تنجح فيه حتى الحركة الإسلامية الشيعية في العراق.

-----------------

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2017/12/31

الحرب في الإسلام: من وصايا النبي (ص) ومنهج الإمام السجاد (ع)

كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ذا شخصية امتزجت فيها صفات النبي والرئيس والقائد والإنسان والمعلم. فلا نكاد نميز منه صفة من غيرها في أي جانب كان من سيرته المقدسة. فلم يكن في الدعوة نبياً وفي الدولة رئيساً وفي الحرب قائداً وفي علاقته بالآخرين إنساناً، ومعلماً في دوره كمثل أعلى. بل كان بكل صفاته معاً في المواقف كلها. لهذا كانت معاركه التي خاضها صورة منفردة لم ولن يعرف التاريخ البشري صورة مماثلة لها في الالتزام الأخلاقي والإنسانية. وقد وضع (صلى الله عليه وآله) للحرب في وصاياه شريعة سمحاء لا تقل روعة وإنسانية عن شريعته في السلم.    

لقد كانت للحرب عند النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلسفة تستمد مقوماتها من روح الرسالة الخاتمة التي تضمن للإنسان النظام الأصلح من خلال الانشداد إلى الله سبحانه وتعالى، فالمحارب الذي يعتمده الإسلام كواحد من جنده، عليه أن يجعل الله الغاية الأهم في جهاده ويكون قتاله في سبيله. عن ‏‏ابن عباس ‏قال: "‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ‏إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ ((اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّه لَا ‏تَغْدِرُوا ‏وَلَا‏ ‏تَغُلُّوا‏ ‏وَلَا‏ ‏تُمَثِّلُوا ‏وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ)). كما أوصى (صلى الله عليه وآله) عبد الرحمن بن عوف وقد أرسله إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل فقال له: ((اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فهذا عَهْدُ اللهِ وسيرة نبيّه فيكم.))  وفي أثناء سير الرسول محمدٍ وصحبه إلى بدر، التحق أحد المشركين راغباً بالقتال مع قومه، فردّه الرسول وقال: ارجع فلن أستعين بمشرك. وكرّر الرجل المحاولة فرفض الرسولُ حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين"  

الله يمثل الخير والنور والعدل والحق، فإذا جعل الإنسان جهاده في سبيل الله كان جهاده في سبيل الخير والنور والعدل والحق. وإذا صلح فيه إيمانه وصَدق في الجهاد في سبيل الله، طمع فيما عند الله وهو الخير فزهد في كل مغنم زائل، والتزم بكل ما يرضي الله من صفات أخلاقية، وجعل هدفه من القتال نشر الدعوة الإسلامية الكفيلة بتحقيق الصلاح، فيقاتل لا لشيء إلا لأنه استنفد مع عدوه كل وسيلة لإصلاحه ولأن عدوه بات عائقاً حقيقياً لعملية الإصلاح التي تمثل القضية الأساس لدى المحارب المسلم. ولهذا نجد الإمام علياً بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي اعتمد ـ نتيجة التضييق الذي مارسه الأمويون حياله ـ أسلوب الدعاء في بث تعاليمه وإرشاداته التي هي المضامين الحقيقية للإسلام يقول في دعائه المعروف بدعاء الثغور "أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لاَ يُبْصِرُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَآئِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَلَوِّحْ مِنْهَا لأِبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَـةِ، وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتَّى لاَ يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالأدْبَارِ، وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَار.

وَأَيُّمَا غَاز غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ أَوْ مُجَاهِد جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الاعْلَى وَحِزْبُكَ الأقوَى وَحَظُّكَ الأوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الأمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الأصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الاهْلِ وَالْوَلَدِ وَأَثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ وَتَوَلَّه بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلاَمَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ فِيْكَ وَلَكَ. 

أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم خَلَفَ غَازِياً أَوْ مُرَابِطاً فِي دَارِهِ أَوْ تَعَهَّدَ خَالِفِيْهِ فِيْ غَيْبَتِهِ، أَوْ أَعَانَهُ بِطَائِفَة مِنْ مَالِهِ، أَوْ أَمَدَّهُ بِعِتَاد، أَوْ شَحَذَهُ عَلَى جِهَاد، أَوْ أَتْبَعَهُ فِي وَجْهِهِ دَعْوَةً، أَوْ رَعَى لَهُ مِنْ وَرَآئِهِ حُرْمَةً. فَأَجْرِ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْناً بِوَزْن وَمِثْلاً بِمِثْل وَعَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضاً حَاضِراً يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ مَا قَدَّمَ، وَسُرُورَ مَا أَتَى به، إلَى أَنْ  يَنْتَهِيَ بِهِ الْوَقْتُ إلَى مَا أَجْرَيْتَ لَـهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَأَعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرَامَتِكَ. أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا مُسْلِم أَهَمَّهُ أَمْرُ الإِسْلاَمِ وَأَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ ألشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً أَوْ هَمَّ بِجهَـاد  فَقَعَدَ بِـهِ ضَعْفٌ أَوْ أَبطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إرَادَتِهِ مَانِعٌ، فَاكْتُبِ اسْمَـهُ فِي الْعَابِدِينَ وَأوْجبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ وَاجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ".

 

2017/12/23

الحركات الإسلامية السنية وحلم الخلافة
الفكر السياسي السني لا يمكن فصله عن واقع التجربة التاريخية، الأمر الذي يفسر لنا هوس هذه الحركات بمشروع الخلافة، بوصفه التصور السياسي الوحيد الذي يمكن أن تدعو اليه.

وهذا التصور الذي يحن الى الماضي ما هو إلاّ نتاجاً طبيعياً للإسلام الذي توارثته الأجيال، فقد عاشت الأمة في ظل الخلافة الإسلامية تسعمائة سنة وتحت إدارة قبيلة واحدة وهي قريش، وفي هذه الفترة اكتسبت الأمة وعيها الديني وتشكلت فيها مفاهيمها الإسلامية، ولم يكن من المسموح أبداً لهذه الأمة أن تفكر خارج حدود السلطة الحاكمة، فكانت البيعة للخليفة فرض، والسمع والطاعة له واجب، ومن خرج على ذلك قتل بسيف الإسلام، كما حدث لأهل المدينة من مجازر واستباحة للحرمات، وكما هدمت الكعبة على رؤوس المسلمين، وكما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء، وقتل الكثير من كبار الصحابة صبراً أمثال حجر بن عدي وسعيد بن جبير وآخرين، فلم ينعم المسلمون طوال هذه الفترة الطويلة بإسلامهم دون أن يكون على رأسهم خليفة يسوسهم وحاكم يتسلط عليهم، فتشبعت بذلك وربيت عليه ودرجت فيه حتى أصبح الحالمون بحكم الإسلام اليوم لا يرون سوى تلك الصورة التي حشيت بها كتب التراث وتفنن العلماء والفقهاء في نسج التبريرات الثقافية والفكرية لها، فبات من الصعب على المسلم أن يقارب الخلافة في التاريخ مقاربة سياسية بعيدة عن الدين والعقيدة، برغم ان ما حصل بالفعل هو عمل سياسي بامتياز، فلم تكن سقيفة بني ساعدة- وهي الخطوة الأولى في مشروع الخلافة- ولا آخر حكام بني العباس، يمثل فعلاً دينياً له علاقة بجوهر الإسلام وتعاليمه، انما هي السياسة التي مورست بكل أشكالها وأدبياتها. 

"النزاع على الخلافة أو السلطة هو الذي أحدث شرخاً لا يمكن تفسيره إلاّ بخروج في النزاع على السلطة وجعلها عملية ديمقراطية. ونبذ احتكار السلطة كما حدث في سقيفة بني ساعده، حينما أصر أبو بكر وعمر على حصر السلطة في قريش وأقصاء الأنصار الذين طالبوا أن يكون منهم الوزراء ومن قريش الأمراء. ومن هذا يؤرخ الكثير سبب الكوارث التي حلت في الدولة الإسلامية ، فهي نزعت وإلى الأبد أي شكل من المشاركة في السلطة. وحول هذا الحدث أختلف المفكرون والكتاب قديماً وحديثاً فالبعض عده امتداد لفهم الإسلام لشكل الحكم الذي يجب أن يسود في الدول الإسلامية. أي يجب أن يكون امتداد لحكم الخلافة، والذي يعتبر الخلافة جزء الحكم الإسلامي أو الديني. والسؤال طرحه بعض المفكرين العرب منذ فترة ليست بعيدة وهو هل كان عصر الخلفاء فترة حكم ديني يعبر عن روح الدين الإسلامي، أم انه حكم سياسي صرف يعبر عن المصالح الدنيوية لفئات وأشخاص في تلك الفترة؟" ([1]).

وبرغم بداهة الإجابة على هذا السؤال إلاّ اننا نجد أن الوعي الذي توارثته الأمة لا يسمح بمجرد التشكيك في مشروعية الخلافة الذي بداه كبار الصحابة وسار عليه التابعون، ومن هنا نجد قيادات العمل الإسلامي ترتكز عليه في مشروعها السياسي المعاصر.

الإخوان المسلمين والخلافة

كتب حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان (الإخوان المسلمون والخلافة): "ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك ان الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلى إنجازها.

والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن منهاجها، ثم ألغيت بتاتًا إلى الآن.

والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون ان ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وان الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات، لابد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، وان المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين، ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة لظاهرتان طيبتان، وخطوتان واسعتان في هذا السبيل، ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الاجتماع على (الإمام) الذى هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض" ([2]).

بهذه الكلمات يشير حسن البنا الى الهدف النهائي لمشروع الإخوان، وهو إنشاء حكومة واحدة للعالم الإسلامي، فهو لا يهدف بهذا الكلام تأسيس نظام إسلامي لحكم مصر، وانما يعمل على نظام يضم جميع دول المنطقة ليناط الحكم فيها لشخص واحد وهو الخليفة الذي يسمى أمير المؤمنين وخليفة المسلمين والحاكم بأمر الله، ولا يمكن إيجاد تفسير لهذا الكلام سوى هيمنة الرؤية التاريخية لطريقة التفكير السياسي لحسن البنّا.

ويقول أبو الأعلى المودودي في باكستان - وهو الأب الروحي للجماعات الإسلامية في الهند وباكستان - في كتابه «نظرية الإسلام»: "ان الدولة الإسلامية تقوم على أساس حاكمية الله الواحد، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب ولا حتى النوع البشري كله، وانما تكون لحاكم يقوم بوظيفته خليفة الله، فليس لأحد أن يأمر وينهي من غير أن يكون له سلطة من الله" ([3]).

والعجيب ان هذه السلطة الإلهية التي يشير اليها تتجسد في الحاكم الذي تدين له كل هذه الدول حتى لو كان بالقهر والغلبة، كما دانت لمعاوية وابنه يزيد وكل حكام بني أمية وبني العباس، وهذا هو التفسير المنطقي لما قاله طالما لم يبين كيف يكون للحاكم سلطة من الله ولم ينصبه الله بشكل مباشر لهذا المنصب؟.

ويقول رشيد علي رضا في كتابه «الخلافة أو الإمامة العظمى»: "الخلافة الإسلامية هي الحكومة المثلى التي بدونها لا يمكن أن يتحسن حال البشرية.. فهي خير دولة ليس بالنسبة للمسلمين فحسب ولكن بالنسبة لسائر البشر" ([4]). وهذا الادعاء العريض لا نجد ما يؤكده من واقع الخلافة التاريخية سوى النظرة القدسية لما أنجزه سلف الأمة.

وعلى نفس الطريقة يسير عمر عبد الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية الذي أفتى باغتيال أنور السادات، ومهاجمة مديرية أمن أسيوط التي سقط فيها 118 قتيلاً من ضباط ورجال الشرطة، يقول في كتابه (حتمية المواجهة): "الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالدين" ([5]).

ففكرة الخلافة في نظر الإسلاميين السنة هو الحلم الذي يتوقوا اليه، وهي المجد الذي يبكون على فواته، فهذا سليم العوا يتحسر على الخلافة العثمانية التي انتهت على يد أتاتورك، فيقول: "منذ انهارت الخلافة العثمانية تفرقت قوة المسلمين، وتمكن عدوهم من السيطرة على مقدرات بلادهم جميعاً" .

وقد وجدت هذه الدعوى طريقها للواقع الخارجي- وإن كانت في صور محدودة- إلاّ إنها تكشف عن السعي الجدي للوصول الى نموذج إسلامي معاصر يجسد دولة الخلافة، فادعى بعضهم منزلة الخليفة ودعاء الناس لمبايعته من أمثال شكري مصطفى زعيم جماعة التكفير والهجرة، وهي الجماعة المسؤولة عن اغتيال وزير الأوقاف حسن الذهبي عام 1977، حيث نصب نفسه «أميراً» وسمى جماعته (جماعة الحق في آخر الزمان)، وكان يسمي نفسه (طه المصطفى شكري أمير آخر الزمان). وكذلك الملا عمر في أفغانستان بعد أن بايعته حركة طالبان على إمارة المؤمنين، كما بايعه أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، وأخيراً ظهر مشروع الخلافة على السطح بشكل واضح وجلي في تنظيم (الدولة الإسلامية) التي تسمى اعلامياً (داعش) فقد أعلنوا دولتهم بعد أن استولوا على بعض أراضي العراق وسوريا، ونصب أبو بكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين، وأمروا الجميع بضرورة مبايعته، ولذا نجد عشرات الشباب من جميع أنحاء العالم تقاطروا لنصرة هذا المشروع، حتى أصبح ظاهرة تقلق العالم بأجمعه.

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة

----------------

([1])  بقلم: هاني الحطاب - 21-05-2014 (صوت العراق): http://www.sotaliraq.com/mobile-item.php?id=159966#ixzz4HxRtxn2R ([2])  ويكيبيديا الاخوان المسلمين http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title ([3])  نظرية الإسلام: ص 71. ([4])  الخلافة أو الإمامة العظمى: ص 116 – 128. ([5])  حتمية المواجهة: ص 63.
2017/12/11